الفصل السادس

تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية

عبَّرت اليوتوبيات الاجتماعية طوال تاريخها عن أمل البشرية في حياةٍ أفضل، ورسمت صورًا لمجتمعاتٍ خياليةٍ مثالية. وقد كان من الطبيعي أن تتوجه كل اليوتوبيات على اختلافها إلى السعادة الاجتماعية غير المحدودة، والوصول إلى المجتمع العادل الذي يتحقق فيه الإخاء والمساواة بين البشر كافة، ويختفي فيه الفقر والعوز والحاجة. ورأى معظم اليوتوبيين أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون في جزرٍ بعيدةٍ نائية وربما تكون خارج التاريخ، مما يؤكد أن مجتمعاتهم القائمة بالفعل لا تصلح أن تكون مجتمعاتٍ نموذجية أو يوتوبية. ومن ثم بحثوا عن أماكنَ جديدة لم تطأها قدم إنسان من قبلُ، أو ربما تكون غير موجودة على خريطة الواقع بل من صنع خيالاتهم. وحقيقة الأمر أن مثل هذه اليوتوبيات — التي تبدو للوهلة الأولى غير تاريخية وخارج المكان والزمان — لم تبتعد عن واقع مجتمعاتها بخطواتٍ كبيرة، بل من الممكن وضع لوحةٍ زمنية لها تلقي الضوء على علاقتها الوثيقة بعصرها، وتُبين أنها نشأت من تناقضاته كما استشرفت العصر التالي له الذي ستحل فيه هذه التناقضات. هكذا كانت يوتوبيا توماس مور متطابقة في أقسامها غير الشيوعية مع الشكل البرلماني للسياسة الداخلية الإنجليزية، كما أن يوتوبيا كامبانيلا تتطابق مع النظام المؤيد للاستبداد الذي ساد أوروبا في ذلك الحين. مثل هذه الملاحظات تكشف عن أن الحلم الذي يميز كل يوتوبيا يتضمن اتجاه العصر ويتجاوزه إلى عصرٍ آخر. أضف إلى هذا أن الإمكانات التي تعبر عنها هذه اليوتوبيات هي إمكاناتٌ تاريخية، وحتى الجديد الذي تستشرفه هو أيضًا تاريخي. فالجديد في جمهورية أفلاطون يختلف عن الجديد في يوتوبيا مور الليبرالية وهكذا … والشيء الثابت الوحيد هو العنصر اليوتوبي الذي يميز كل يوتوبيا على حدة، وإذا كان هذا العنصر الثابت يتغير تاريخيًّا واجتماعيًّا، فإنه ليس ساكنًا كإمكانات ليبنتز الخالدة، بل ينطوي على إمكانات تتحرك في التاريخ وتتطور تطورًا اجتماعيًّا، وحتى إذا كانت هذه الإمكانات لا تظهر بشكلٍ عيني، إلا أنها تظل تجليات للأمل وللأماني الإنسانية. ويظل الأمل هو الهدف من عرض هذه اليوتوبيات في مراحلها المختلفة من قديمة ووسيطة وحديثة.

أولًا: يوتوبيات العصور القديمة والوسيطة

بدأت الأشكال الأولى لليوتوبيات الاجتماعية منذ عهدٍ سحيق في القدم، منذ أقام الإنسان في جماعات وعشائرَ صغيرة وعرف الاستقرار. وعبرت اليوتوبيات الأولى عن الذكريات الشعبية السارة والحزينة التي سجلتها حكايات الشعوب والحضارات المختلفة، وانعكست عليها الصورة المضادة لحياةٍ اجتماعية تسودها الحروب والصراعات وتزايد عدد السكان في العصر الحديدي الذي وُضعت فيه نظم التحكم الدينية والعقلية مع تأسيس المدن القديمة.١ وقد قدمت الحضارة اليونانية مجموعة من الأفكار والتصورات لنظمٍ مثالية كان أهم ما يميزها هو النظرة إلى الوراء بشوق وحنين لعصرٍ ذهبي مضى ولن يعود. ونجد إرهاصات هذا التفكير عند الحكماء السبعة الذين نشدوا سعادة الإنسان في التوسط والاعتدال والفضيلة لا في الغطرسة والتملك، كما نجده عند أصحاب مذهب اللذة الذين وجدوا أن السعادة قاسمٌ مشترك بين البشر جميعًا، وأن اللذة والمتعة هي التي تميز الإنسان وترفعه عن مستوى الحيوان. وكان أرسطيبوس على رأس القائلين بمذهب اللذة، فذهب إلى القول بأن الاستمتاع هو الحالة البشرية الطبيعية. ونلمس هذا العنصر اليوتوبي أيضًا عند أرسطو فانيس في مسرحية «الطيور» حيث توجد الصور المفعمة بالأماني والحنين للعصر الذهبي التي صورها المؤلف في شكلٍ كوميدي:
سوف لا يموت الإنسان من الحاجة بعد الآن،
لأن كل شيء ملك لكل فرد؛
الخبز والكعك، واللحم المملح
والنبيذ والحبوب والعدس.٢

كذلك صور الشاعر هيزيودوس — ولد حوالي ٧٠٠م — العصر الذهبي فيما تبقى من أشعاره عن الحنين الشديد لحالة الطبيعة الأولى التي يسودها الحب والمساواة والخير بين الناس جميعًا.

أما عن جمهورية أفلاطون التي كُتبت بين عامَي ٣٧٠ و٣٦٠ قبل الميلاد كما سنرى بالتفصيل فيما بعدُ؛ فهي تعد أول عمل يوتوبي يقدم نظامًا اجتماعيًّا مثاليًّا بكل تفاصيل بنائه ومؤسساته. ومع أنه ليس أول نظام تخيله الإغريق — فقد سبقته إرهاصاتٌ كثيرة — إلا أنه ظهر في وقت تفكك المدينة اليونانية واشتباك مدن الإغريق في صراعاتٍ دامية كان من أعنفها وأطولها الحرب بين أثينا وإسبرطة. لذلك حاول أفلاطون أن يقدم نموذجًا معقولًا لنظامٍ اجتماعيٍّ صالح ودائم يؤكد للمواطنين الصالحين أن السعي للحياة الفاضلة والعادلة يثاب عليه في الدنيا والآخرة على السواء: «وبهذا يتحقق لنا السعادة لا على هذه الأرض وحدها، بل أيضًا في تلك الرحلة التي تدوم ألف سنة.»٣ وقد أراد أفلاطون تأسيس مدينةٍ فاضلة على نمط إسبرطة التي كانت هي نموذجه التاريخي ببنائها الصارم وطبقاتها الاجتماعية المغلقة.
كانت إسبرطة تناظر أثينا في شهرتها بالفكر اليوتوبي، وكما أسس أفلاطون مدينته المثالية في أثينا، كتب المؤرخ اليوناني بلوتارك (من حوالي ٤٥–١٢٠م) في القرن الأول بعد الميلاد حياة ليكورجوس المشرِّع الإسبرطي الذي رفعه أهل مدينته إلى مصاف الآلهة فيما بعدُ. فعندما أراد إدارة شئون إسبرطة سافر إلى كريت وآسيا ومصر ليكتسب معرفة وخبرةً سياسية على أساسٍ علمي. وساعده مواطنوه الساخطون على حكم الملوك فساندوا تشريعاته. ولم يكن ليكورجوس يهدف إلى تغييرٍ جزئي أو تعديل للقوانين؛ إذ رأى ضرورة تفجير ثورةٍ شاملة والبدء في تشكيلٍ حكوميٍّ جديد، ولهذا كوَّن بالفعل مجموعة من ثلاثين مواطنًا مدجَّجين بالسلاح لحفظ النظام في الأسواق العامة وإثارة الرعب في نفوس معارضيه. كما شكل مجلسًا للشيوخ من ثلاثين عضوًا وله سلطةٌ متساوية مع سلطة الملوك. ومن بين أكثر الرجال خلقًا وفضلًا تتم الترقية للمناصب العليا بالانتخاب المباشر من الشعب، كما يقوم مجلس الشيوخ بالتوسط لحفظ توازن السلطة المتأرجحة بين الاستبداد تارة والحكم الجمهوري تارةً أخرى.٤
ركز ليكورجوس انتباهه على المشاكل الاجتماعية عندما اصطدم بعدم المساواة بين الغني والفقير، فقرر إعادة توزيع الأرض. لكن الحقيقة أن مشكلة عدم المساواة في توزيع الثروة لم تؤرقه لأسبابٍ إنسانية بل لأسبابٍ سياسيةٍ بحته، وذلك لاعتقاده أن الملكية تؤثر تأثيرًا سيئًا على الرجل الغني، وأن إعادة توزيعها تحفظ للدولة توازنها. ولنفس السبب لم يقم بإلغاء الملكية أو نظام الطبقات أو العبيد، وإنما اكتفى بإيجاد برجوازيةٍ صغيرة أو طبقةٍ رأسماليةٍ وسطى تستطيع — في رأيه — أن تخلق جسدًا متجانسًا للدولة.٥

(١) جمهورية أفلاطون

أُعجب أفلاطون بنظام التربية والتدريب العسكري الصارم في إسبرطة فاتخذه نموذجًا لمدينته الفاضلة التي تنشد السعادة القصوى للعصر الذهبي. وجاءت جمهوريته بمثابة نظامٍ إسبرطيٍّ كامل في ثوبٍ يوتوبي، بحيث لا تختلف عن هذا النظام إلا بفكرة الحاكم الفيلسوف أو الفيلسوف الحاكم، أي أنها قائمة على بناءٍ عقلي يحتفظ بنزعةٍ أرستقراطيةٍ إسبرطية.

أقام أفلاطون مدينته الفاضلة على أساس نظريةٍ مشهورة في العدالة صدر بها الكتاب الأول من الجمهورية. وتقوم هذه النظرية على أن لكل فرد وظيفةً محددة يصلح لها وفقًا لطبيعته ولا يصلح لغيرها، ولهذا يقدم على لسان المتحاورين تعريفاتٍ عديدة للعدالة يجملها في النهاية بقوله على لسان سقراط: «إن وظيفة الشيء هي ما يؤديه هذا الشيء وحده، على أفضل نحوٍ ممكن.»٦ ثم يعود في الكتاب الرابع ليقول: «إن العدالة تتحقق في الدولة إذا ما قامت كل طبقة من الطبقات التي تكونها بما يتعين عليها أداؤه.»٧ وبذلك تكون نظريته في العدالة قد اعتمدت على فكرة تقسيم المجتمع إلى طبقات، بحيث يصبح العدل هو التزام كل طبقة بما أوكلت إليها الطبيعة من أعمال بغير تدخل في شئون الطبقات الأخرى.

وللمدينة ثلاث وظائف هي الإدارة والدفاع والإنتاج، وهذه الوظائف تقابل قوى النفس الثلاث: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. فالوظيفة الأولى للمدينة، وهي الإدارة، يتولاها الحكماء أو الفلاسفة المُشرِّعون الذين يمثلون الطبقة الأولى في مجتمع المدينة، ويقابلها القوة العاقلة في النفس التي هي بمثابة الرأس من الجسد، فمكان هذه الملكة الإنسانية هو العقل، وفضيلتها الحكمة. والوظيفة الثانية وهي الدفاع يتولاها حراس وجنودٌ محاربون أشداء، وهم في المرتبة الثانية من الترتيب الطبقي للمجتمع ويقابلها القوة الغضبية في النفس التي هي بمثابة الصدر أو القلب في الجسد وفضيلتها الشجاعة. أما عن الإنتاج — أي الوظيفة الثالثة — فهو من نصيب الزراع والصناع والتجار، وهم الطبقة الدنيا من سلم الهرم الاجتماعي ويقابلها في النفس القوة الشهوية ومكانها البطن والأطراف من الجسد وفضيلتها الطاعة والامتثال، وأما عن عبيد المدينة فهم يقومون بالأعمال الدنيا في المجتمع وليس لهم حق المواطنة.

بذلك قسم أفلاطون طبقات المجتمع تقسيمًا ثلاثيًّا، وعزل العامة من الناس عن الشئون السياسية في جمهوريته. ولتأكيد هذه الطبقية أشاع في أهل المدنية أكذوبته الشهيرة عن خلط الإله لمعدن بعضهم بالذهب ليؤهلهم للحكم، وخلط بعضهم الآخر بالفضة لتولي الحراسة. والباقي أي العامة بالبرونز: «إن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب. ثم مزج تركيب الحراس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس. ولما كنتم جميعًا قد نبتم من بذرةٍ واحدة، فإن أبناءكم على الرغم من أنهم يشبهون آباءهم عادة، قد يأتون أحيانًا من الفضة لأبوين من ذهب، أو من الذهب لأبوين من الفضة، وكذلك الحال في المعادن الأخرى. لهذا عهد الله إلى الحكام أولًا وقبل كل شيء برعاية الأطفال، وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد، فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة وأن يعاملوا طبيعتهم بما تستحقه، ويدخلوهم في زمرة الصناع أو العمال، أما إذا أنجب هؤلاء الأخيرون أبناء يمتزج بهم الذهب أو الفضة، فعليهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويرفعوهم إلى مرتبة الحراس أو المحاربين؛ إذ إن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس.»٨ هكذا أقام أفلاطون نظامًا للحكم في مدينته قائمًا على عدم المساواة بين أفراد جمهوريته التي يرأسها الحاكم الفيلسوف ويحميها طبقةٌ من الحراس الأقوياء، أما الزراع والصناع فهم الطبقة المنتجة في المدينة، وهي أيضًا الطبقة المحتقرة لأنها تمتهن المهن اليدوية التي دأبت الحضارة اليونانية على احتقارها. وقد وضع أفلاطون نظامًا خاصًّا لتربية طبقة الحكام والحراس على نمط التربية العسكرية في إسبرطة. ويبدأ هذا النظام من الطفولة باختيار الأذكياء والموهوبين من الأطفال لتتعهدهم المدينة بالتربية البدنية ليشبُّوا على درجةٍ عالية من القوة الجسمية، ومراقبة ما يصل آذانهم من قصص وحكايات «فأول ما يتعين علينا عمله هو أن نراقب مبتكري القصص الخيالية، فإن كانت صالحةً قبلناها، وإن كانت فاسدةً رفضناها. وعلينا بعد ذلك أن نكلف الأمهات والمرضعات بألا يروين للأطفال إلا ما سمحنا به.»٩ وكذلك استبعد أفلاطون كل فنون التراجيديا والشعر: «أعني تلك التي رواها هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعًا بين الناس.»١٠ وقد استبعد فن الشعر بسبب ما يرويه عن صراع الآلهة والأبطال من روايات تفسد في رأيه — أي أفلاطون — ضمائر حراس المستقبل: «كذلك ينبغي ألا نقول أبدًا إن الآلهة تشن الحرب على الآلهة، وأنها تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات بعضها للبعض، فتلك قصصٌ كاذبة يجب ألا تقال لحراس المستقبل إذا ما كنا نريدهم أن ينظروا إلى مقاتلة بعضهم بعضًا على أنها عار ينبغي تجنُّبه. وعلينا أن نحذر من رواية معارك العمالقة والحروب العديدة التي شنَّها الآلهة والأبطال على أصدقائهم وأقربائهم، أو أن نخلد تلك المعارك في صورنا ونقوشنا، وإنما ينبغي أن ننبئهم، إذا أمكن أن نجعلهم يصدقوننا، بأن الصراع والقتال شر وأنه لم يحدث حتى الآن أي صراع بين المواطنين. وهذا ما يتعين على المسنين من الرجال والنساء أن يبدءوا بتلقينه لأطفالهم.»١١

وهكذا يشبُّ الأطفال وقد قويت أبدانهم وتغذت نفوسهم وأرهف حسهم بالفنون الجميلة وأصبحوا في سن الثامنة عشرة مؤهَّلين لتلقي العلوم العقلية كالحساب والهندسة والفلك، وهي العلوم التي تقوم على البرهان لتؤهلهم لدراسة العلوم الفلسفية. وتُنتزَع من نفوس الحراس كل شهوات الحياة المادية وشواغلها فيحظر عليهم اقتناء الذهب أو الفضة، ويوفر لهم الشعب طعامهم وشرابهم، كما يُحظَر عليهم تكوين أسرة، فتعقد المدينة للحراس زواجًا رسميًّا كل عام بغرض التناسل، وعندما يبلغ الحراس سن الثلاثين يتم اختيار من لهم كفاءةٌ فلسفية ليعكفوا على دراسة الفلسفة ومناهجها العلمية، ويتدرجوا في المناصب الإدارية حتى إذا بلغوا سن الخمسين انصرفوا لتأمل عالم المعقولات الخالصة: الحق والخير والجمال، ويكون لهؤلاء الفلاسفة الحكم المطلق، فإذا كان الحاكم فردًا واحدًا كانت الملكية أو حكم الفرد، وإذا كانت جماعة كان نظام الحكم الأرستقراطي، وليس لأحد من البشر الحق في معارضة هذا الحكم المطلق؛ إذ لا يتوجب عليهم سوى الطاعة والامتثال.

إن نظام الحكم في الدولة المثالية عند أفلاطون بمثابة ربط لعلم السياسة بعلم الأخلاق، فأخلاق الطبقة الحاكمة ومدى التزامها بالحكمة والفضيلة من الأمور التي يتوقف عليها صلاح الدولة أو فسادها، وهذا البناء العقلي للمدينة المثالية يبدأ في الانهيار من لحظة اختيار الحكام للوقت غير الملائم للزواج، الأمر الذي يترتب عليه إنتاج جيلٍ أقلَّ صلاحية، ولو نظرنا إلى أشكال الحكم التي وصفها أفلاطون وكيف تدرجت لعرفنا كيف فعل الفساد فعله وتسبب في انهيار دولته المثالية. إن أول أشكال الحكم هو: الحكومة الأرستقراطية التي يتولاها فرد وتكون حكومةً ملكية (موناركية)، أو يتولاها جماعة فتكون حكومةً أرستقراطية، وهي التي تفسد عندما تُنجب الدولة أولادًا غير أكفاء نتيجة الخطأ في اختيار الوقت الملائم للتناسل؛ فينتج جيل يستعيض عن الفضيلة والشرف العسكري بالمال والثروة … إلى أن تأتي الحكومة الأوليجاركية التي هي «ذلك النوع القائم على الثروة، والذي يحكم فيه الأغنياء دون أن يشاركهم الفقراء في السلطة على الإطلاق.»١٢ ويدب الفساد في هذه الحكومة نتيجة لانقسام المجتمع كله إلى أغنياء وفقراء: «إنه لا مفر لهذه الدولة من أن تفقد وحدتها، وتغدو دولتَين لا واحدة: دولة للأغنياء، ودولة للفقراء، وهما دولتان تعيشان على نفس الأرض وتتآمر كلٌّ منهما على الأخرى بلا انقطاع.»١٣
ويثور الأقوياء من الفقراء على الأغنياء رافعين شعار الحرية والمساواة بين الجميع، ويتم انتخاب الحكام بالاقتراع، وقد يبدو أن هذه هي أفضل أنواع الحكومات حيث تكون السيادة للأغلبية الفقيرة التي شعارها الحرية والمساواة المطلقة فهي — على الأقل بمفهومها في العصر الحاضر — الأمل المنشود لكل الشعوب. ولكن الديمقراطية في نظر أفلاطون تختلط بالفوضى التي يصبح فيها مفهوم الحرية هو إباحة كل الشهوات: «لأن هذه الحكومة، بفضل الحرية التي تسودها، تشتمل على كل أنواع الدساتير، ويبدو أنه ما على المرء إذا كان ينشد نظامًا من نظم الحكم إلا أن يتوجه إلى دولةٍ ديمقراطية ليختار منها النظام الذي يروقه؛ فهي سوق للدساتير يتسنى للمرء فيه أن ينتقي الأنموذج الذي يفضله.»١٤ ويترتب على الحرية المرادفة للفوضى أن تنقلب الأمور عندما يبرز أحد دعاة الديمقراطية فيحول الحرية إلى نوع من العبودية، أي عندما يتولى الحكم منفردًا ويتحول إلى طاغية. وهنا تظهر آخر أنواع الحكومات وهي حكومة الطغاة: «فالتطرف في الحرية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التطرف في العبودية سواء في الفرد أو الدولة (…) وهكذا تنشأ الحكومة الاستبدادية بطريقةٍ طبيعية من الحكومة الديمقراطية، أي أن الحرية المتطرفة تُولِّد أكمل وأفظع أنواع الطغيان.»١٥ وعندما يبرز أحد الديمقراطيين ويستأثر بالسلطة وتأييد الشعب معًا، يسعى لإخضاع الجميع لسلطانه «وإذا ما شك في أن لبعض الناس من حرية التفكير ما يجعلهم يأبون الخضوع لسيطرته، فإنه يجد في الحرب ذريعة للقضاء عليهم، بأن يضعهم تحت رحمة الأعداء، لهذه الأسباب كلها كان الطاغية دائمًا مضطرًّا إلى إشعال نيران الحرب.»١٦ وهكذا تنهار الدولة المثلى التي يختفي منها العدل، وتغيب الفضيلة، وتختنق الحكمة.
تلك هي الملامح الرئيسية لدولة أفلاطون المثالية، لأول وأشهر دولةٍ يوتوبية في تاريخ الفلسفة. ولكن جمهورية أفلاطون — شأنها شأن معظم اليوتوبيات قبل القرن الثامن عشر — كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية وعن الطبيعة البشرية؛ إذ فاقت كل النظم اليوتوبية في سكونيتها وعدم تاريخيتها وبعدها عن اليوتوبيا الإنسانية،١٧ وإن بقيت مع ذلك نموذجًا لكل اليوتوبيات التي جاءت بعدها. إن أفلاطون الذي أقام جمهوريته على نظرية العدالة، قام بإلغاء الحقوق الطبيعية لأفراد المجتمع، هذا من جانب، ومن جانب آخر قصر العدالة على أهل اليونان دون سائر البشر، فحين تنشب الحروب بين أهل اليونان لا ينبغي أن يقتل بعضهم البعض ولا أن تدمر مدنهم، بل ينحصر التدمير والحرق في مدن الأعداء من غير اليونان، أضف إلى هذا أن عدالة أفلاطون لا تبيح أن يسترقَّ أهل اليونان بعضهم البعض، بل يقصر الرق على الشعوب الأخرى: «فيما يتعلق بالعبودية، أترى من العدل أن تنزل مدينةٌ يونانية إلى مرتبة العبيد؟ أليس علينا أن ننهاهم عن ذلك، على قدر استطاعتنا، حتى بالنسبة إلى بقية الدول، وأن نُعوِّدهم احترام الجنس اليوناني؟ (…) وعلى ذلك فلن يكون لنا نحن عبيدٌ إغريق، وسننصح بقية اليونانيين بأن يحذوا حذونا.»١٨
وبالعودة إلى بلوخ يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: كيف ينظر فيلسوف الأمل إلى مسرى الحلم اليوتوبي في جمهورية أفلاطون؟ وما هو الجديد والممكن الكامن داخلها؟ في رأيه أن الحلم المفعم بالأماني في هذه اليوتوبيا هو النظام الإسبرطي العسكري، كما هو أيضًا الحلم باستعادة العصور الخيالية للعصر الذهبي. لذلك تُعدُّ في رأيه من أكثر اليوتوبيات رجعية، لأن النظرة إلى الوراء هي التي تميزها. ومن الطبيعي ألا تتطلع للجديد ولا تتضمن ممكنًا إيجابيًّا؛ إذ بقيت أقرب إلى تقرير واقعٍ اجتماعيٍّ قائم بالفعل ولم تعبر عن أي قدر من الاحتجاج أو الثورة عليه. أما ما جاء به من مَشاعِيَّة فهي مقصورة على الطبقات العليا من المجتمع دون غيرها في ظل دولةٍ كلية أو مملكةٍ عقليةٍ مستقرة.١٩ وربما يعود ذلك إلى أن يوتوبيا أفلاطون مغروسة في واقع عصرها، فهي مشروع لإنقاذ المدينة اليونانية التي آلت انقساماتها في عصره إلى مأزقٍ شديد، بحيث أصبحت الوحدة هي الغاية اليوتوبية التي سيطرت عليه في الجمهورية. ولم يجد أفلاطون هذه الوحدة الغائية إلا في العقل، ففيه وحده تنحلُّ التناقضات وتُمحى الفروق والنزاعات. لذلك أصبح ما هو اجتماعي وواقعي في فلسفة أفلاطون تابعًا لما هو عقلي، وعندما خالف الناس تقاليد العقل حلَّت حركة الفساد محل السكون الخارجي والسكينة الداخلية، كما حل الانفصام محل الوحدة،٢٠ وهكذا اختفى الحلم من جمهورية أفلاطون كما تلاشى الجديد، وعاشت في دائرة الماضي الذهبي، وكأن مخترع الجدل قد أوقف حركته وتناقضه وتقدمه ليسكنه محطةً تاريخية بعينها.

(٢) الرواقية والدولة العالمية

حصر أفلاطون جمهوريته المثالية داخل أسوار دولة المدينة اليونانية، وظلت اليوتوبيا ردحًا طويلًا من الزمن لا تتعدى مدينة أفلاطون، أو جزيرة آمبيلوس،٢١ إلى أن جاءت الرواقية التي تعدت قيود الزمان والمكان ووسعت دائرة المدينة في سبيل دولةٍ عالمية. وكان للرواقية ثلاث مدارس: المدرسة اليونانية القديمة التي أسسها زينون الأكتيومي (٣٣٦–٢٦٤ق.م.) ثم خلفه كريسيبوس (٢٨٢–٢٠٤ق.م.) والمدرسة الهلينيستية ويمثلها بوزيدونوس (١٣٥–٥١ق.م.)، ثم المدرسة الرومانية وكان من أعظم شخصياتها سنيكا (٤–٦٥م)وأبيكتيتوس (٥٠–١٣٨م)، وهي المدرسة التي عاصرت معظم أباطرة الرومان وكان لها أثرٌ عظيم على أيديولوجية الإمبراطورية الرومانية بحيث أصبحت المدرسة الرواقية ظاهرةً تاريخية امتدت ما يقرب من ثلاثة عصور.
كان لفتوحات الإسكندر الأكبر والتوسع الهائل للإمبراطورية الرومانية أثره الكبير على اتساع الأفق اليوتوبي للدولة العالمية التي نادى بها الرواقيون، وهي دولة تخطت حدود كل الدول وتوسعت في فكرة النظام الاجتماعي المثالي ليشمل البشرية كلها، فلم يعد الفرد مجرد مواطن داخل أسوار المدينة. وإذا كان أفلاطون قد بدأ من الإنسان الكلي، فقد بدأت الرواقية من الموجودات البشرية المتفردة الحرة لتشكيل مجتمعٍ إنسانيٍّ كبير. لقد قامت اليوتوبيا الرواقية في الأساس على مذهبٍ أخلاقي هو على النقيض من المذهب الأخلاقي لكلٍّ من أفلاطون وأرسطو، «فإن هذين الفيلسوفَين أخضعا الفرد للدولة، وأنكرا بذلك حق الإنسان في الحرية الشخصية ولم يعرفا من روابط الصداقة والعطف إلا ما يكون بين المواطنين من أهل المدينة الواحدة، ولم يُعمِّما صفة الإنسانية تعميمًا تتخطى به حدود المكان والزمان. فجاءت الرواقية للقيام بمهمةٍ أخرى، وحاولوا القضاء على تلك العصبية وخطوا في هذه السبيل خطواتٍ جديدة، فأحلوا «الإنسان» محل «المواطن».»٢٢ ليصبح مواطن-العالم World-Citizen، أي ليس مواطنًا في مدينة أو دولةٍ ما بل وطنه العالم، في دولةٍ عالمية هدفها وحدة الجنس البشري، فكانت أول يوتوبيا ترفع شعار العالمية.
يقوم المجتمع اليوتوبي الرواقي على أساس عقلي، فالطبيعة قد منحت البشر جميعًا — بشكل متساوٍ — ملكة العقل. وبالعقل وحده يستطيع الإنسان الحكيم أن يأتي بالأفعال الخيرة، بأن يتوافق مع الطبيعة ويدرك أن إراداته جزء من الإرادة الكلية، وأن عقله جزء من العقل الكلي. لذلك يخضع خضوعًا مطلقًا للقدر بنفسٍ راضية، وبقناعة أيضًا بأن هذا دوره المكتوب له، وما عليه إلا أن يؤديه طواعية. لهذا لم يكن لدى الرواقية سبب للثورة على الواقع ولا رغبة في تغييره، بل على العكس من ذلك، تقبله كما هو بسلبيةٍ مطلقة. ولم يجد أبكتاتوس — وهو من الشخصيات الرواقية المتأخرة، الذي كان عبدًا — لم يجد في العبودية سببًا للثورة على الواقع، كما لم يجدها متناقضة مع فكرة الأخوة الرواقية التي تجمع كل البشر في وحدةٍ عالمية. ولم تنظر الأخلاق الرواقية للكوارث على أنها شر، بل رأت أنها انفعالاتٌ خاطئة. إن اليوتوبيا الرواقية هي اليوتوبيا التي اتجهت إلى ما هو كامل بالفعل، أي إلى الطبيعة الموجودة والعالم المكتمل مما جعلها غير قادرة على رؤية متناقضات الواقع، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى أغفلت الظروف الخارجية بل واحتقرتها ودعت إلى التخلص منها بالرجوع إلى الطبيعة. أي أنها كانت دعوة لإقامة دولةٍ عالمية لا يتم التعامل فيها بالمال ولا بالقانون ولا بالدستور، كما أنه ليس هناك حاجة لقيام أية مؤسسات ولا محاكم، ولا ضرورة لوجود جنود، لأنه مجتمع اختفت منه الحروب واستغنى عن أية تنظيماتٍ موضوعة، كما استغنى عن التعاملات الاقتصادية ولم تعد به حاجة إلا إلى مجتمع يسوده الانسجام مع غرائز الطبيعة، مجتمع تختفي فيه الفروق الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبين اليونان والبرابرة، والأحرار والعبيد، أي تختفي منه كل الفروق في الدولة الطبيعية الجديدة.٢٣
لم يرد الرواقيون لهذه الإمبراطورية الواسعة أن تكون قوةً سياسية ذات كيانٍ مادي، بل أرادوها جامعة روحية تقوم قبل كل شيء على وحدة المعرفة والإرادة. والحق أن فكرة «الجامعة» هذه لم يكن لها أول أمرها علاقة بالسياسة مطلقًا؛ إذ المدن الإنسانية الواقعية تقتضي بين البشر فروقًا وضروبًا من التفاضل وعدم المساواة، في حين أن «المدينة الفاضلة» أو «المدينة الإلهية» — في نظر أصحاب الرواق — إنما هي مجتمع تحل فيه الوحدة العقلية محل الوحدة السياسية.٢٤ وعلى الرغم من ذلك فقد كان للمفهوم اليوتوبي الرواقي تأثيرٌ ملهم سواء في الإمبراطورية الرومانية قديمًا تحت لواء الرواقيين المتأخرين، أو في عصورٍ لاحقة كما في النزعة العالمية اليهودية، أو في المسيحية المبكرة.٢٥ نخلص من ذلك إلى أن العنصر اليوتوبي في المجتمع الرواقي لا يكمن في مؤسساتٍ سياسية أو اقتصادية أو مشاعية، وإنما يكمن في دولة-العالم، وهي دولة هدفها اليوتوبي هو إصلاح العالم وليس تغييره. لقد كان هدف اليوتوبيا الرواقية هو الانسجام الكامل مع الإله. ومع الطبيعة، فالهدف الأخلاقي عندهم هو أن يحيا الإنسان في توافق مع الطبيعة الكونية التي هو جزء منها. إن الإرادة الإنسانية جزء لا يتجزأ من الإرادة الكلية، ولذلك يصبح المجال الإنساني جزءًا من المجال الكوني ويتشكل من خلاله.

(٣) يوتوبيا الكتاب المقدس

كان للرواقية تأثيرٌ كبير على المجتمعات اليهودية والمسيحية المبكرة. فقد قدم الكتاب المقدس ما يمكن أن يُعدَّ نموذجًا أصيلًا للعالمية المسالمة أو الهادئة التي تشكل مركز اليوتوبيا الرواقية. فكيف يمكن تتبع هذا الخط اليوتوبي في الكتاب المقدس؟ إنه يقدم صورة لمجتمعاتٍ بشرية نصف شيوعية، ليس بها تقسيم عمل ولا ملكيةٌ خاصة. فعندما خرج الشعب اليهودي من مصر عبر الصحراء لم يكن يعرف الملكية الخاصة، وكانت هذه «فترة عرس» لشعب إسرائيل كما سماها النبي أرميا بسبب ما اتسمت به هذه الحقبة الزمنية من براءةٍ اقتصادية. وبعد الاستقرار في الأرض الموعودة بدأت مرحلة الحياة المدنية، فاحترف اليهود الفنون والتجارة وبدءوا الزراعة، وتطور المجتمع وبدأت التمايزات الطبقية، وباع الدائنون المدينين كعبيد. وقد عبر سفرا الملوك الأول والملوك الثاني عن المجاعة في تلك المجتمعات، كما عبرا في الوقت نفسه عما فيها من ثروة ورخاء: «وكان الجوع شديدًا في السامرة.»٢٦ وفي الجانب الآخر ذكر عن سليمان: «وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة.»٢٧
هكذا انقسم المجتمع إلى طبقتَين، وكان هذا الانقسام على المستوى الديني والاجتماعي على السواء. فمن الناحية الدينية أصبح يهوا — إله الصحراء — هو رب الفقراء من أبناء الناصرة ومنهم صموئيل وإيليا ويوحنا المعمدان، كما أصبح العجل الذهبي — إله كنعان — هو إله أهل الثروة. ومن الناحية الاجتماعية ساد استغلال الأغنياء للفقراء، فنأى النصرانيون (فقراء أهل الناصرة) بأنفسهم عن ثروة كنعان، وظلوا على إخلاصهم لرب الصحراء القديم الذي لا يعرف الملكية الخاصة، وأعلنوا عداءهم لثروة الكنعانيين وإلههم. فالعنصر اليوتوبي في الكتاب المقدس يبدأ مما يمكن تسميته بنزعةٍ بدائية نصف شيوعية في أرض التيه ثم عداء أهل الناصرة — ومن بعدهم أنبياء إسرائيل القدامى — للثروة والطغيان. وها هو ذا يهوا المنتقم والمدافع عن الشعب ضد من يكدسون الأموال ويستحوذون على ملكية الأرض يقول: «وأعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاه. وأجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز والإنسان أعز من ذهب أوفير.»٢٨ وتميز زمن السعادة في الكتاب المقدس بتوزيع الثروة التي أصبحت من أجل الكل: «أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا وهلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا.»٢٩ وهكذا تتشكل من نصوص إشعياء الأسس اليوتوبية أو مركز اليوتوبيا في الكتاب المقدس: «من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين شعوب كثيرين ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمة سيفًا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد. بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب.»٣٠
وجاء الرومان للأرض الموعودة، ولم تأتِ الوفرة مع المحتلين بل حل الفقر والبؤس، فوقف يوحنا المعمدان مخاطبًا عامة الشعب، واعدًا إياهم بنهاية شقائهم: «والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار.»٣١ ثم شاعت أنباءٌ سارة في تلك الأيام، أنباء عن ثورةٍ اجتماعية وقومية وشيكة الحدوث: «الذي سوف يأتي بعدي» قال يوحنا، «الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ.»٣٢ ثم كان مجيء المسيح الذي أراد وضع نهاية لمعاناة المعذبين على الأرض «نيري هين وحملي خفيف.» فهو إنسان عُهد إليه بتغيير كل شيء على الأرض وفي هذا العالم وليس في عالمٍ آخر. ولم يبشر المسيح — كما يزعم القديس بولس — بمملكةٍ داخلية أو بعالمٍ آخر، وإنما أراد مملكة في العالم الأرضي، كما لم يقل المسيح للفريسيين.٣٣ «ها ملكوت الله داخلكم.» كما جاء في إنجيل لوقا (١٧: ٢١) ولكن حقيقة العبارة هي «ملكوت الله بينكم.»٣٤
ولم يقل المسيح أبدًا «مملكتي ليست من هذا العالم.»٣٥ فقد حرف القديس يوحنا هذه العبارة لاستعمالها في البلاط الروماني. والمسيح نفسه لم يحاول أن يقول للوالي الروماني مثل هذه العبارة التي لا تتفق — في رأي بلوخ — مع شجاعة مؤسس الديانة المسيحية، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى كان هناك تعارضٌ شديد في عصر المسيح بين معاني كلمات مثل «هذا العالم» و«العالم الآخر». فلا بد أن يُفهم الفرق بين المعنيَين فهمًا زمنيًّا — وقد أتى هذا المعنى من العقيدة النجمية في الشرق القديم — ولذلك يمكننا فهم كلمة «هذا العالم» على أنها مرادفة للعالم الموجود الآن في الزمن الحاضر، وأما كلمة «العالم الآخر» فهي مرادفة للعالم الذي سوف يأتي في زمن المستقبل «وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له في هذا العالم ولا في الآتي.»٣٦ والمقصود من هذه الكلمات ليس تقسيمًا جغرافيًّا يميز هذا العالم عن العالم الآخر، بل تقسيمٌ زمني يعني وجود هذين العالمَين في نفس الزمن الأرضي الذي ينقسم إلى الزمن الحاضر والزمن الآتي، ومن ثَمَّ يكون العالم الآخر هو الأرض اليوتوبية التي تأتي معها بسماءٍ يوتوبيةٍ جديدة: «لأني ها أنا ذا خالق سمواتٍ جديدة وأرضٍ جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال.»٣٧
لم يقصد المسيح إذن — في زعم بلوخ — عالمًا آخر يأتي بعد الموت، بل قصد عالمًا سيأتي في مملكة الحب الأرضية، بعد أن ينهار هذا العالم الفاسد. كانت مملكة هذا العالم بالنسبة له هي مملكة الشيطان: «أنتم من أب هو إبليس.»٣٨ لذلك نجده — وهو الذي دعا إلى الحب والسلام ونبذ القوة المسلحة — يلقي سيفه في وجه الواقع الظالم: «ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.»٣٩ أما عن رفضه للقوة المسلحة في موعظة الجبل — حيث كان لمملكة السماء وضع له دلالته — فإن كل عبارة يقول فيها طوبى في هذه الموعظة لا بد أن تُفهم في نطاق أوسع، فالمسيح مفكر ذو رؤيةٍ كوارثية، وكان يتوقع الكارثة الكونية في كل لحظة: «الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض.»٤٠ ولن يساق المرابون بالسوط خارج المعبد فحسب، بل ستسقط الدولة كلها بفعل الكارثة الكونية كما يصورها إنجيل مرقص في الإصحاح الثالث عشر، وبدون هذه اليوتوبيا لا يمكن أن تُفهم موعظة الجبل. إن هذا الزمن الحاضر والظالم سيتحطم سريعًا، ولكن ليس بفعل الثورة بل بالكارثة الكونية. لذلك لم يهادن المسيح الزمن الحاضر ولم يتحالف مع الواقع الروماني الذي يرفضه. ورفضه للقوة في موعظة الجبل لم يكن إلا لإيمانه بالثورة الشاملة التي ستأتي بها الكارثة الكونية، فإذا سويت القلعة بالأرض، فإن الأمور الاقتصادية أو أي شيءٍ آخر سيكون غير ذي شأن، غير أنه — أي المسيح — لم ينسَ زمن المستقبل وقوله «مملكتي ليست من هذا العالم.» إنما يعني أنها ليست من هذا العالم الروماني الظالم، بل في عالمٍ آخر أفضل منه على هذه الأرض.٤١

لا شك أن الجماعات الدينية الأولى — اليهودية والمسيحية — قد شاركت في الملكية، وطلبت الخلاص عن طريق الإيمان والفضل الإلهي. ولا شك أيضًا أن المسيحية الأولى ظهرت كيوتوبيا اجتماعية تتميز بشيوعية الحب وعالميته لكل من يحمل وجهًا إنسانيًّا. إلا أن الكتاب المقدس لم يقدم يوتوبيا اجتماعية بالمعنى المفهوم الآن، لا بالمعنى الخيالي ولا بالمعنى الواقعي المقصود قيامه بجهد الإنسان وتخطيطه، على الرغم من احتوائه على رؤًى يمكن تفسيرها تفسيرًا يوتوبيًّا، إلا أنها ظلت معنيه بالموت والخروج والخلاص من هذا العالم.

(٤) مدينة الله للقديس أوغسطين

تأثرت اليوتوبيا المسيحية بالفلسفة الرواقية، وإن كانت هذه الأخيرة قد قدمت العالم المألوف باعتباره عالمًا كاملًا، ولذلك لم تستطع أن تطور تنظيماتٍ جديدة ولا أن تضع تصورًا لعالمٍ جديد، فجاءت المسيحية لتبشر بأرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة. وبعد المسيح ظهر دافع للخروج من هذا العالم. والتفت الأمنية اليوتوبية حول المسيح نفسه فتحولت إلى العالم الآخر، وظهرت المملكة التي ليست من هذا العالم عند أوغسطين، فأشاد بقيام مملكة الرب المختلفة عن العالم التعس الفاسد وبشره الخطائين.

وتتركز يوتوبيا أوغسطين في آرائه الاجتماعية التي تناولها في كتابه «مدينة الله» الذي كتبه ما بين عامي ٤٣١ و٤٢٧م، وقد وضع في مقابلها «المدينة الأرضية» وأرجع سائر المجتمعات البشرية إلى هاتين المدينتَين. وعلى الرغم من حالة الحرب الدائمة بينهما منذ البداية، إلا أنهما تتشابكان وتختلطان ولن يفصل بينهما إلا المسيح في يوم الحساب الأخير. ويقسم أوغسطين التاريخ إلى فترات تمت فيها تحولاتٌ حاسمة وذات مضمونٍ تاريخي يبدأ من لحظة سقوط الإنسان في الخطيئة الأولى وحتى يوم الحساب. وتبدأ مرحلة الطفولة التاريخية من آدم إلى نوح، ثم مرحلة الصبا من نوح إلى إبراهيم، يليها مرحلة الشباب التي تمتد من إبراهيم إلى داود، وأخيرًا مرحلة الرجولة التي تبدأ من داود حتى الأسر البابلي، وتمتد المرحلتان الأخيرتان حتى ميلاد المسيح لتتواصل إلى يوم الحساب الأخير. وتختلط المدينة السماوية والمدنية الأرضية منذ بداية التاريخ، ففي المرحلة الأولى منه دُمِّرت المدينة الأرضية في الطوفان، وحفظ الله مدينته السماوية في نوح وأولاده. وبقيت مدينة الله في الأمة العبرانية، وتمثل الشعوب الأخرى المدينة الأرضية. وكأن أوغسطين — بهذا التصور — يقدم فلسفة لتاريخ الكتاب المقدس.٤٢
تطورت آراء أوغسطين حول المجتمع الإنساني تطورًا يواكب تطور تفكيره الديني، لقد أكد دور الخطيئة في الحياة الإنسانية وفي كل المنظمات الأرضية مما جعل التاريخ البشري تاريخًا للخلاص، وألحَّ على حاجة الإنسان للخلاص عن طريق المسيح واحتياجه للنعمة الإلهية. والواقع أنه نظر إلى مصير الإنسان وتحقيقه لهذا المصير من خلال النموذج الروحي لتاريخ الخلاص، أي من خلال نظرةٍ أفقية وتاريخية في سياق الخطة الإلهية لنجاة الإنسان، لا من خلال نظرةٍ رأسية تقوم على علاقته بالعالم المعقول.٤٣ ولهذا فإن أول حدث في تاريخ الخلاص كما صوَّره الإنجيل هو سقوط الإنسانية بخطيئة آدم، بحيث تجسدت مقولات مثل الخلاص والخطيئة، فيما سماه أوغسطين «مدينة السماء» و«مدينة الأرض». فالمدينتان على الترتيب هما المدينة التي كتب لها المجد الأبدي والأخرى هي التي كتب عليها الشقاء الأبدي، أو بتعبير أوغسطين نفسه المدينة التي تعيش وفقًا لإرادة الله، والمدينة التي تعيش وفقًا لإرادة الإنسان، المدينة الغيرية والمدينة الأنانية، المدينة التي يكون الحب فيها خالصًا نقيًّا والمدينة التي يكون الحب فيها فاسدًا … وهكذا. والواقع أن المدينتين لن يكون لهما أي واقعٍ متميز بهذا المعنى أو ذاك حتى تنفصلا انفصالًا نهائيًّا في يوم الحساب الأخير؛ ذلك لأن المعنيَين قد ظلَّا متداخلين في كل المجتمعات البشرية المعروفة تداخلًا شديدًا.٤٤ وكل ما يجمعهما هو توجه كل منهما نحو المسيح بطريقةٍ مختلفة. ففي الأولى — أي مدينة الله — يتم ذلك بالتدخل المباشر من العناية الإلهية، وفي الثانية يتم بطريقٍ غير مباشر ولكن بتدبير من العناية الإلهية أيضًا. وبهذا يكون التعارض التاريخي بين المدينتَين محددًا منذ البداية، أي منذ خطيئة آدم. ولا يمكن القول إن هناك إرادةً يوتوبية في مدينة أوغسطين أو بمعنًى آخر لا يمكن القول إن يوتوبياه من تلك اليوتوبيات التي تغير الإرادات. فمدينة الله تجعل الإنسان — بفعل العناية الإلهية — يسير للأمام، وتلك هي القوة اليوتوبية الفعالة عند أوغسطين، ولكنها مقدَّرة على القلة المختارة وحدها. وسيظهر مجتمع القديسين هذا على الأرض في نهاية التاريخ الحاضر، أي بعد انتهاء الدولة الدنيوية أو مدينة الشيطان.٤٥
وإذا كان أول حدث في سياق التاريخ هو السقوط في الخطيئة، فكيف ينظر أوغسطين إلى المجتمع البشري المنظم من قبل الدولة؟ الحياة الاجتماعية هي — في رأيه — حياةٌ طبيعية، وهي أمرٌ فطري بالنسبة للبشر، فبغير مجتمع لن يكون في وسعهم تحقيق إمكاناتهم البشرية، فضلًا عن أن الحياة مع الرفاق من البشر أمرٌ ضروري لا غنى عنه، ويصدق هذا على المرحلة السابقة لسقوط الإنسان كما يصدق على المرحلة التابعة له؛ فقد كان الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا بالفطرة في حالة البراءة الأولى وقبل أن تفسد الخطيئة فطرته، بل إن حياة الصالحين في السماء هي حياةٌ اجتماعية. أما عن المجتمع المنظم من الناحية السياسية، بما ينطوي عليه ذلك من سلطة وحكومة وقهر، فليس شيئًا طبيعيًّا بالنسبة للإنسان وإنما هو أمرٌ نافع وضروري لتنظيم حياته بعد السقوط وشفائه من بعض الشرور التي أصابته على أثر السقوط. فتنظيمات الحكم وخضوع المحكومين للحاكمين وقوة الإلزام التي تفرضها السلطة السياسية على رعاياها، كلها أمثلة على إخضاع الإنسان للإنسان، ولم تكن هذه — في رأي أوغسطين — موجودة في حالة البراءة الأولى؛ إذ كان الإنسان يعيش في حالة من التكامل الطبيعي الذي لم يشعر معه بالعبودية ولا الخضوع ولا التبعية، ولا يمكن أن يكون لهذه الأمور معنًى إلا إذا اعتبرناها عقابًا إلهيًّا على الخطيئة التي ترتب عليها ضياع التكامل.٤٦

وقبل الاستطراد في نقد أوغسطين للدولة يجب التنويه بأن الدولة عنده مرادفة للإمبراطورية الرومانية، والتنويه أيضًا بالتحول الذي طرأ على فكرته عن الدولة. فالمعروف أن الإمبراطورية الرومانية دخلت — بعد اعتناق أباطرة الرومان للمسيحية — في تاريخ الخلاص الديني، ونظر المسيحيون إليها باعتبارها خالدة، وأنها أداة الخطة الإلهية في التاريخ لتحقيق الخلاص، لكن سرعان ما انهار هذا بعد غزو البرابرة لروما فتم تجريدها من صفة الدوام، ولم تعد إمكانية الخلاص مرتبطة بالإمبراطورية الرومانية كوسيلة لتحقيق النعمة الإلهية، لقد أصبحت مجرد حلقة في سلسلة الإمبراطوريات والمجتمعات التاريخية، كما أن الكنيسة أيضًا — على الرغم من إصدارها لصكوك الغفران — ليست إلا خطوة على الطريق أو حلقة من الحلقات للوصول إلى مدينة الله، لأن الكثيرين من رجال الكنيسة ليسوا من القلة المختارة. إن مدينة الله شبيهة بمدينة أفلاطون المثالية ولكنها تفوقها كمالًا ونظامًا لأنها لم تؤسس بأيدي البشر بل هي من قِبل الله، ولذلك لا تخضع للصدفة أو القدر، ولا توجد في العالم الموجود ولا وراءه بل بعده.

ويقدم أوغسطين في مدينة الله نقدًا واقعيًّا للدولة على أساس يوتوبيا غير واقعية عندما يسأل: «ماذا تكون الدولة الأرضية إذا اختفى منها العدل وصارت وكرًا للصوص؟»٤٧ والعدل عند أوغسطين يفهم بمعناه عند القديس بولس، وهو الخضوع لإرادة الله من أجل الخلاص. ولما كان تحقيق العدالة في المدينة الأرضية مستحيلًا فإنه يرى أن واجب الدولة هو إقرار الملكية الفردية وحمايتها، لأنه إذا أعادت الدولة توزيع الثروة بالعدل بين سائر البشر تعرض النظام الاجتماعي للخلل والانهيار لأنه من غير الممكن أن يُحقَّق العدل في المدينة الأرضية.
هذه هي الصورة اليوتوبية لمدينة الله، يبرز فيها التاريخ في شكل صيرورة للخلاص تربط آدم بالمسيح على أساس من الوحدة الرواقية للجنس البشري. وهي صورة تغلب عليها النزعة التشاؤمية في نظرتها للمدينة الأرضية والحياة الدنيوية، صورة هدفها اليوتوبي جعل البشر قديسين، أي أنها يوتوبيا انعقدت فيها الآمال والأحلام على ميلادٍ روحيٍّ جديد لأغلبية البشر. ولكن ما الذي جعل هذه الأحلام والآمال لا تتجه إلى المستقبل؟ يرى بلوخ أن المستقبل عند أوغسطين منغلق على نفسه بحيث يصبح السؤال هو: هل تعد مدينة الله يوتوبيا؟ أم هي إظهار لعلوٍّ موجود بالفعل يحيط بهذا العالم؟ وهل تطور حلم اليقظة لما لم يصبح بعدُ اجتماعيًّا؟ هل غرق المتعالي في هذا العالم؟ إن العلو عند أوغسطين ليس علوًّا محضًا، ومدينة الله حاضرة في التاريخ باعتبارها موضوعًا للصراع، وهي لن تظهر بصورةٍ نهائية وكاملة إلا إذا ذهبت المدينة الأرضية إلى الشيطان. ولن يتحقق هذا إلا في نهاية التاريخ، أي أن التاريخ البشري خطوةٌ تمهيدية نحو الهدف. بل إن مدينة الله نفسها خطوةٌ تمهيدية نحو هدفٍ أبعد؛ إذ تحمل يوتوبيا أخرى داخلها، وهي مملكة المسيح النهائية. إن مدينة الله تحلق فوق العملية التاريخية في مجموعها، أنها تجسيد للأبدية «حيث لا يولد أحد لأنه لا يموت أحد، وحيث تسود السعادة الحقه، وحيث لا تشرق الشمس على الأشرار والأبرار على حدٍّ سواء، وإنما تشرق شمس العدل فوق الأبرار وحدهم.»٤٨ ويحاول بلوخ التقاط الملامح اليوتوبية عند أوغسطين مستندًا إلى هذه العبارة اليوتوبية: «نحن أنفسنا سوف نكون اليوم السابع.»٤٩ فهذه العبارة — في رأيه — تعبر عن نوع من العلو الذي يمكن أن يثير في الإنسان، بمجرد أن يتغلغل فيه، الرغبة في أن يحقق هذا العلو بنفسه ولنفسه.٥٠ والواقع أن هذا تفسير يخالف تفسير أوغسطين الذي ربط الخلاص بالكنيسة وجعله دفاعًا عنها، باعتبار أن الخلاص لا يتحقق إلا على يد الكنيسة. وإذا كانت هذه المحاولة من بلوخ تتسق مع تفكيره اليوتوبي الذي يؤكد أن فكرة الخلاص كانت فكرةً معبرة عن إرادةٍ سياسيةٍ بشرية سواء في العصور الوسطى أو في بداية العصر الحديث، إلا أنها تتنافى مع تفكير أوغسطين بصورة تُغني عن التفصيل. والحق أن مثل هذه المحاولات استخدمها بلوخ مع نصوصٍ عديدة ليطوِّعها لأفكاره الخاصة شأنه في هذا شأن العديد من الفلاسفة الذين يجتهدون في تفسير تاريخ الفلسفة بأكمله من خلال فلسفاتهم الخاصة.

(٥) مملكة الإنجيل الثالث

كان يواخيم الفيوري.٥١ (١١٣٥–١٢٠٢م) صاحب أهم يوتوبيا في القرن الثالث عشر، وقد نقل مملكة النور من العالم الآخر إلى داخل التاريخ في دولةٍ نهائية للتاريخ. وإذا كان أفلاطون قد وضع مجتمعه المثالي في عالم المُثل، ووضعه أمبيلوس في جزيرةٍ نائية، ووضعه أوغسطين في العلو، فقد جاء يواخيم الفيوري ليودعه في المستقبل التاريخي حيث قال بثلاث مراحل للتاريخ يقابلها وجود ثلاث ممالك على الأرض تقع بين الخلق ونهاية التاريخ: (أ) مملكة الآب التي تبدأ مع بداية الخلق ويمثلها العهد القديم القائم على الخوف. (ب) مملكة الابن التي تبدأ بالخلاص عن طريق المسيح ويمثلها العهد الجديد القائم على الحب وتسود العناية الإلهية أنحاء المملكة.٥٢ (ﺟ) مملكة الروح القدس التي توقَّع أن تبدأ مع بداية القرن الثالث عشر، وهي مرحلة تنوير تقوم على الديمقراطية بدون آباء ولا كنيسة، ويسودها الكمال الروحي والحب، وينشأ العهد الثالث (أو الإنجيل الثالث) من العهد الجديد ويمثل مرحلة لم تأتِ بعدُ.٥٣
في هذا العهد الثالث يكون المجتمع بلا طبقات، ويكون العصر عصر رهبان ذا نزعةٍ مشاعية، وعصر الحرية والتنوير الروحي، وتتحول القلة المختارة التي وجدت عند أوغسطين إلى جموع الفقراء الذين سيدخلون الجنة بأجسادهم الحية لا بأرواحهم فقط، وتغمر الجسد سعادة بلا ذنوب. وفي هذا العهد يتخلص المجتمع من الخوف وعبودية القانون ودولته، كما يتخلص من سلطة الكنيسة. ولم يكن مذهب يواخيم الفيوري هروبًا من الواقع للسماء أو لعالمٍ آخر، وإنما كان على العكس من ذلك مذهبًا علمانيًّا — إن جاز هذا التعبير — فالمسيحية في مملكته بلا وعودٍ خاوية ولا أسياد ولا ملكية، وحتى المسيح نفسه سيذوب في المملكة ليصبح فردًا في مجتمع من الأصدقاء.٥٤ وقد قام مذهب يواخيم الفيوري على نقد المبادئ الاجتماعية الأساسية في المسيحية التي قامت على المجتمع الطبقي والحق الطبيعي للملكية، وهو المجتمع الذي وضع ركائزه القديس بولس. وكان من الطبيعي أن تدين الكنيسة مذهبه عن الطبيعة الثلاثية داخل التثليث.

ثانيًا: يوتوبيات عصر النهضة

الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة — هذه النهضة التي يعدها بلوخ الميلاد الجديد الذي شمل كل ميادين الفكر والروح والمعرفة —٥٥ يكشف عن البعث الحقيقي للكتابات اليوتوبية التي تأثرت بتياراتٍ عديدة أحدثت فعلها في فكر النهضة. فمع نشأة المدن البرجوازية وسيطرة النزعة الطبيعية والإنسانية والعلمانية المتفائلة بالمستقبل تكونت رؤًى شبه يوتوبية عند رجال مثل نيقولا دي كوزا٥٦ (١٤٠١–١٤٦٤م) الذي افترض نظامًا نصف يوتوبي يضم كل البشر في العالم الذي تمزقه الاضطرابات السياسية والدينية. كما أن الحياة البرجوازية للمدن الإيطالية دفعت رجالًا مثل ليوناردو دافنشي للتفكير في إعادة تشكيل العالم.٥٧ وتأثرت يوتوبيات عصر النهضة أيضًا بتطور الحركة العلمية والفنية الهائلة، وبالاكتشافات الجغرافية والتعرف على جزرٍ جديدة وسواحلَ نائية، وما ترتب على ذلك من ازدياد النشاط التجاري وما صاحبه من نموٍّ اقتصادي للعديد من المدن الأوروبية، وظهور النزعات القومية وميل مجتمع النهضة إلى تأكيد النزعة الفردية للإنسان وتطور ملكاته النقدية واتساع معرفته. كل هذه العوامل لها جذورها في أول عملٍ يوتوبي بالمعنى الحديث، وهو «يوتوبيا» لتوماس مور (١٤٧٨–١٥٣٥م).

(١) يوتوبيا توماس مور

لم تكن الأحلام والخيالات والأفكار اليوتوبية سوى استجاباتٍ مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها. ولا يمكن أن نفهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لأنه كان تعبيرًا عن الرغبة في الإصلاح والتغيير، أو كان على الأقل بمثابة احتجاج على أوضاع وظروفٍ اجتماعية واقتصادية خيم عليها الظلم والفساد. ولا يمكن أن ننظر ليوتوبيا توماس مور (١٥١٦م) إلا من هذا المنظور لوضعها في إطار العصر الذي كُتبت فيه، وهو عصر ما قبل الإصلاح الديني، أي فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة. وربما كانت الأوضاع العامة لهذه الفترة من الأسباب التي ربطت توماس مور بصداقةٍ قوية مع أراسموس.٥٨ (١٤٦٦–١٥٣٦م) فكلاهما يضمر الإعجاب بالفلسفة اليونانية ويبغض المذاهب المدرسية، وكلاهما يهاجم السلطة الطاغية للكنيسة والملكية، ويؤمن بالحاجة إلى إصلاح الكنيسة، وبضرورة تغلب الإنسان على أنانيته وغروره قبل خلق مجتمعٍ مثاليٍّ أفضل.٥٩
وتتألف «يوتوبيا» من كتابَين وضعا في أوقاتٍ مختلفة، ولا يعرف على وجه الدقة أيهما كتب قبل الآخر. يتناول الكتاب الأول وصفًا للجزيرة، وإن كان موقعها لا يزال غامضًا، وهو وصفٌ تفصيلي للتقسيم الداخلي للجزيرة إلى أربعة وخمسين مدينةً متساوية في عدد السكان والمنشآت، يتحدث أهلها لغةً واحدة ولهم قوانين وعادات واحدة ويمارسون مهنة الزراعة، ويقوم النظام المثالي للجزيرة على أساس من العدالة التي لا تتحقق إلا عن طريق اشتراكية الحياة وإلغاء الملكية الخاصة، ويحتوي الكتاب الثاني على وصفٍ تفصيلي للحياة في الجزيرة، وهو ينقسم إلى عدة أقسام، يتضمن القسم الأول وصفًا لجغرافيا الجزيرة وتخطيط المدن وحياة السكان، ويتناول الثاني نظام الحكم واختيار الرؤساء ونظام العمل والحياة الاجتماعية، أما الثالث فيعالج الأساس الفلسفي للحياة في الجزيرة والأخلاقيات ونظام الزواج والقوانين العامة. يلي ذلك الجزء الرابع الذي يتناول علاقة «يوتوبيا» بجيرانها وأمور الحرب. ثم يتناول الفصل الأخير الأديان في يوتوبيا.٦٠

وتتميز الحياة في «يوتوبيا» بالتعاون والمشاركة بين أهل الجزيرة. والأسرة هي أساس الحياة المدنية، ويقوم نظام الحكم فيها على النظام النيابي الذي يعتمد على الانتخابات الحرة، ومع أن اللذة الإبيقورية هي هدف الحياة الإنسانية، فإن يوتوبيا مور تقوم على أسسٍ عقلانية وواقعية ملائمة لروح عصر النهضة، لقد تصورت مجتمعًا مثاليًّا من صنع الإنسان لا من صنع الله.

ولا حاجة للخوض في تفاصيل «يوتوبيا» التي تعتبر أشهر يوتوبيات عصر النهضة وقامت عنها وحولها العديد من الدراسات، بل كانت مصدرًا ملهمًا للعديد من اليوتوبيات التي جاءت بعدها. ولكن لا بد من التوقف عند المؤثرات العديدة التي شكلت مضمون يوتوبيا أو الحكومة المثلى لها والتي هي في المقام الأول تنظيمٌ سياسي أكثر منه تنظيمًا اجتماعيًّا.

لا شك أن جمهورية أفلاطون كانت من أهم المؤثرات في يوتوبيات عصر النهضة بوجهٍ عام، ويوتوبيا توماس مور بوجهٍ خاص، حيث استعار مور فن الحوار الأفلاطوني ومنهج التوليد السقراطي في صياغة يوتوبياه. وأخذ النزعة المشاعية من جمهورية أفلاطون وإن لم يقصرها على طبقةٍ ضئيلةٍ متميزة بل جعلها حقًّا لكل أهل الجزيرة. وعلى الرغم من المسحة الأفلاطونية التي تميز «يوتوبيا» إلا أن هناك تباينًا هامًّا بين مور وأفلاطون يتمثل في عدة أمور، منها موقف كلٍّ منهما من العمل وتكوين الأسرة، والنظرة إلى العبيد. إن الأخير — أي أفلاطون — قد احتقر العمل اليدوي وقصره على العبيد والحرفيين، وحرر الطبقات العليا في المجتمع من ممارسة العمل وجعلها تتفرغ للنظر والتأمل العقلي. بينما جعل مور العمل — وبخاصة العمل في ميدان الزراعة — هو القاسم المشترك بين كل أفراد الجزيرة رجالًا ونساءً وشيوخًا وأطفالًا: «الزراعة هي العمل الوحيد الذي يقوم به الجميع رجالًا ونساءً دون استثناء ويتعلمونها جميعًا في طفولتهم (…) وإلى جانب الزراعة يتعلم كلٌّ منهم حرفةً معينةً خاصة به.»٦١ ولا شك أن ضرورة العمل كان أحد متطلبات عصر مور، بعد أن اكتسب الاحترام والأهمية من جديد، فلم يعد محتقَرًا ولا علامة على الطبقة الاجتماعية، بل أصبح في بعض يوتوبيات عصر النهضة مصدرًا للسعادة والبهجة التي يدخلها في نفوس العاملين. ويعود اهتمام مور الواضح بالعمل — وبخاصة العمل الزراعي — إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها إنجلترا في عصره حيث زاد الفقر بين الفلاحين، وتخلَّف الريف الإنجليزي وراء المدينة. كما كان كذلك تعبيرًا عن الاحتجاج على الرأسمالية النامية وبدايات المجتمع الصناعي في عهده. والحقيقة أن يوتوبيا مور نجحت فيما أخفقت فيه العصور الوسطى التي بقي فيها الفلاح رازحًا تحت ظروف العبودية، كما عانى الفلاحون الظلم والفقر في معظم الدول الأوروبية؛ إذ لم يكن للعمل الزراعي على وجه الخصوص وضعٌ مشرف أو مساوٍ للمهن الأخرى. وبعد أن تبين لكتَّاب اليوتوبيا في القرن السادس عشر والسابع عشر أن ثبات المجتمع لا يتحقق إلا بإدماج الريف والمدينة، اختلفت نظرة عصر النهضة للعمل عن تلك التي توجد في جمهورية أفلاطون.

أما عن نقطة الاختلاف الثانية بين «يوتوبيا» مور وجمهورية أفلاطون فهي تكوين الأسرة وإقرار الزواج الذي رفضه أفلاطون وأقرَّه مور على الرغم من النزعة المشاعية في يوتوبياه المقصورة على الأملاك دون الأسرة والزواج، وربما يرجع إعجابه بمشاعية أفلاطون إلى أنه وجد فيها الحل لبعض مشكلات عصره. لقد كان هناك عددٌ كبير من النبلاء الذين يعتمدون على جهد البشر في الأرض، ولكن عندما يمرض هؤلاء الفلاحون الكادحون يطردون خارجها ويعانون الفقر والمرض، ولذلك كانت مشاعية الأرض هي الحل الأمثل لمعضلة عصره. أما نقطة الاختلاف الثالثة فهي النظرة إلى طبقة العبيد التي فُرضت عليها العبودية طوال حياتها في جمهورية أفلاطون، ولكنها اقتصرت في يوتوبيا مور على أسرى الحرب الذين يؤخذون كعبيد حتى يظهروا الولاء فيتم تحريرهم، كما أن أولادهم — على خلاف ما كان عند أفلاطون — ليسوا عبيدًا بالتبعية لآبائهم.

وعلى الرغم من التأثير الواضح للفلسفة اليونانية — وبخاصة جمهورية أفلاطون — على يوتوبيا مور، إلا أنها كانت رد فعل أيضًا للنزعة الفردية المتطرفة التي اجتاحت عصر النهضة. جاءت «يوتوبيا» لتمحو آثار الفردية، كما يلاحظ في النمط الموحد للعمارة والمنازل والملابس، كما جاءت معبرةً عن تناقضات مرحلةٍ انتقالية أو فترة تحولٍ تاريخي، وهي مرحلة النهضة التي بدا فيها أن الأمل في الإصلاحات الاقتصادية والدينية يمكن تحقيقه بالطرق السلمية. وتجلى أحد هذه التناقضات في دفاع مور عن حرية العقيدة والتسامح الديني اللذين سمح بهما في يوتوبياه من جانب، ودفاعه عن الكنيسة الكاثوليكية في مرحلة تفككها وانهيارها من جانبٍ آخر.

وتُعدُّ يوتوبيا مور أول صورةٍ حديثة للأحلام المفعمة بالأماني لشيوعية-ديمقراطية نمت مع بداية القوى الرأسمالية، كما هي تعبير عن نزعةٍ ليبراليةٍ حرة مضمونها ديمقراطيةٌ إنسانية. هذا المضمون جعل من «يوتوبيا» كتابًا جديرًا بأن يذكر في مجال الاشتراكية والشيوعية.٦٢ وتنطلق الحرية عند مور من إلغاء الملكية الخاصة التي تخلق طبقة الأسياد والعبيد، ودعوته إلى العدل والمساواة بين طبقات الشعب، كما يتضح من نهاية الكتاب الأول من يوتوبيا: «يبدو لي أنه حيثما وجدت الملكية الخاصة، وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل أن يسود المجتمعَ العدلُ أو الرخاء (…) إن الطريق الوحيد الذي لا يوجد سواه لتحقيق الرفاهية للجميع هو تحقيق المساواة في جميع الأمور … وإني لمقتنع تمام الاقتناع بأنه لن يمكن إجراء تقسيمٍ عادل ومتساوٍ للسلع، ولا أن تتحقق السعادة في الحياة الإنسانية ما لم تلغَ الملكية الخاصة تمامًا. فطالما بقيت سيظل الجزء الأكبر بكثير والأفضل بكثير من الجنس البشري مثقلًا دائمًا بعبءٍ ثقيل لا مفرَّ معه من الفقر.»٦٣
إن تحليل مور لبنية المجتمع الطبقي وتصويره لمعاناة الفقراء وصراعهم مع طبقة الأغنياء المستغلين جعلت منه سابقًا لعصره ورائدًا لكلٍّ من ماركس وإنجلز اللذين جاءا بعده بقرون، كما يكشف هذا النص من نهاية «يوتوبيا» عن حسٍّ مسبق أو تنويه عن فائض القيمة: «إن الأغنياء ينتزعون كل يوم من الفقراء جزءًا من مخصصاتهم اليومية لا عن طريق ما يمارسه الأفراد منهم من خداع، بل عن طريق القانون العام (…) عندما أفكر في هذه الأمور وأتأمل حالة الدول المزدهرة في كل مكان الآن، فإني لا أرى سوى نوع من المؤامرة التي يديرها الأغنياء، الذين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة باسم المصلحة العامة وهم يعدون ويخططون الطرق والوسائل التي يستطيعون بواسطتها أن يحتفظوا أولًا بكل ما جمعوه عن طريق ما يمارسونه من أعمالٍ شريرة، دون أن يخشوا ضياعه، وأن يتمكنوا، ثانيًا، من شراء واستغلال جهد جميع الفقراء بأرخص ما يمكن. وما تلبث هذه الوسائل أن تصبح قوانين بمجرد أن يقرر الأغنياء مراعاتها باسم الشعب، أي باسم الفقراء أيضًا.»٦٤
لقد تجنَّب مور في يوتوبياه شر استغلال الفقراء وما ينتج عنه من مظاهرَ اجتماعيةٍ سيئة: «ففي يوتوبيا قد قضى تمامًا على كل جشع للمال بالقضاء على استعمال النقود. فما أثقل الهموم التي قضى عليها بذلك، وما أكثر الجرائم التي اقتلعت من جذورها. من ذا الذي لا يعرف أن الغش، والسرقة، والسلب، والخصام، والفوضى، والشغب، والفتنة، والقتل والخيانة، والقتل بدس السم، والتي تعد عمليات الإعدام التي تنفذ يوميًّا نوعًا من الثأر من مرتكبيها أكثر منها رادعًا لهم؛ ستختفي تمامًا باختفاء النقود؟ من ذا الذي لا يعرف أن الخوف، والقلق، والهم، والعمل الشاق، والسهر ستنتهي كلها أيضًا في نفس الوقت الذي ينتهي فيه استخدام النقود؟»٦٥
ويمكن القول إن «يوتوبيا» هي بناءٌ عقليٌّ مفعم بالأماني يفترض في نفسه القدرة على الوجود بجهوده الذاتية، وهي بناء لم يستمد الأمل من عنصرٍ ألفي أو من عنصرٍ متعالٍ «ترانسندنتالي»، بل من تخطيط لم يصبح بعدُ داخل هذا العالم وعلى هذه الأرض، في دولةٍ مُثلى تنشد الحرية وتحقيق الحد الأقصى من السعادة.٦٦

(٢) مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا

ننتقل الآن من الحرية الليبرالية وتسامح الأديان في يوتوبيا توماس مور إلى الوجه الآخر لهذه الحرية، إلى النظام الصارم الذي يضع كل شيء في موضعه، إلى يوتوبيا تعتمد على فكرة إقامة حكومةٍ كاثوليكية وشيوعيةٍ عالمية تُخضِع جميع الدول تحت رئاسة البابا، فقد جاء الراهب الدومينكاني توماسو كامبانيلا (١٥٦٨–١٦٣٩م) ليعكس الاتجاهات العقلية السائدة في القرن السابع عشر، ويصوغ — في فترة سجنه الطويل التي دامت سبعة وعشرين عامًا — «مدينة الشمس» Civitas Solis عام ١٦٢٣م والتي تم عرض الجانب التقني منها في الفصل السابق ونعرض الآن الجانب الاجتماعي أو المدني.
كان توماسو كامبانيلا من أوائل المناهضين في مطلع العصر الحديث لفلسفة أرسطو وللعلم المدرسي بوجهٍ عام الذي ساد الفكر الأوروبي في العصر الوسيط. وقد أهاب بالعلم الجديد وتحمس لجاليليو، ومع ذلك فقد أخذ بالنظام «التراتبي» للكون والموجودات الذي ساد في العصور الوسطى. وبالنظر إلى الترتيب الذي يحكم فن جيوتو وكيف أن كل موضوع من موضوعات اللوحة الفنية مرسوم في المكان المحدَّد حيث يجب أن يكون، أي في المكان المناسب لمرتبته، وبالنظر إلى نظام الكوميديا الإلهية حيث لكل ميت موقعه الدقيق في الجحيم، وفي المَطْهر وفي الفردوس؛ أصبح من السهل إدراك أن هذا الترتيب وذلك النظام قد انتقلا إلى يوتوبيا كامبانيلا، حيث كان العلم الأساسي فيها هو علم التنجيم، فالشمس هي الله والكواكب تقيم معه عهدًا. إنه نظام يستوحي وضع الكواكب السيارة التي هي بمثابة قادة الحياة الاجتماعية، بل إن الدولة الشمس تقيم موظفين يحددون، حسب وضعية النجوم، ساعة ومكان المضاجعة، فالحياة الفردية لا مكان لها، والحرية ملغاة نهائيًّا،٦٧ والنظام هو البديل للحرية، وحرية الاختيار — بل والحرية بوجهٍ عام — لم تسلب من أهل المدينة بطريقةٍ آلية بل بطريقةٍ ديكتاتورية النجوم التي تحيط بالبشر من فوقهم ومن كل الجهات.
على الرغم من سيطرة التنجيم على حياة البشر في مدينة الشمس، إلا أنها يوتوبيا عكست الإعلاء من شأن العقل الذي ساد القرن السابع عشر، والأخذ بمبادئ العلم الجديد والإيمان اللامحدود بضرورة التقدم المادي لأنه من أهم الشروط التي تحقق السعادة المدنية. كانت هذه الخاصية لمدينة الشمس هي المنظور الوحيد للأمل في يوتوبيا كامبانيلا التي انتفت فيها الحرية، وخيم عليها سكون التأمل. فقد تميزت مدينة الشمس بالاختراعات العلمية التي وجهت بصرها ناحية المستقبل وتجاوزت اختراعات أهل المدينة ما وصل إليه العلم الأوروبي في ذلك الحين، ولا بد أن يكون ازدهار البرجوازية الأوروبية في القرن السابع عشر قد أثر في تطور الإنتاج من الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الصناعي وما صاحب هذا من تطورٍ علمي وتقني.٦٨
ساد الاعتقاد في عصر كامبانيلا بأن نهاية القرن — أي السابع عشر — ستجلب معها تغيراتٍ حاسمة وربما يأتي العالم إلى نهايته. وتأثر كامبانيلا بهذه الشائعات وبزغ في ذهنه حلمٌ غريب ومفعم بالقوة دفعه للإيمان بأن التغيرات القادمة ستقود إلى إصلاحٍ شامل للمجتمع. وإن هذه اللحظة ستأتي بجمهوريةٍ عالمية وستكون كالابريا Calabria موطنه ومسقط رأسه؛ نقطة انطلاق هذا التغيير. وأغلب الظن أنه تمادى في أحلامه فتخيل أن هذا التغيير سيتم تحت قيادته، وأخذ يهاجم في كتاباته الأفكار القديمة ويدعو للإصلاح على ثلاثة مستويات: مستوًى اجتماعي، عن طريق تحسين ظروف الشعب؛ ومستوًى سياسي، يجعل الإسبان قادة العالم؛ ومستوى ديني، عن طريق إصلاح الكنيسة. ولكن كامبانيلا لم يفهم الإصلاح بالمعنى المعروف عند كالفن أو لوثر — اللذين نأيا بنفسيها عن سيطرة كنيسة روما — ونادى بتوحيد العالم تحت لواء العقيدة الكاثوليكية وتطهير الكنيسة من المذاهب المدرسية، مؤكدًا أنها — أي الكنيسة — لن تستطيع استعادة قوتها إلا إذا تبنت أفكارًا فلسفيةً جديدة. وبذلك يكون قد سعى إلى تحديث الكنيسة أكثر من سعيه لإصلاحها،٦٩ وكانت أفكاره الفلسفية قد جذبت السلطات الدينية، ولكنه لم يكن ثائرًا بالمعنى الحقيقي بل مصلحًا متفردًا، سعى إلى تحديث الكنيسة أكثر من سعيه لإصلاحها جذريًّا. ففي شبابه والسنوات الأولى من سجنه ناضل في سبيل أفكاره الفلسفية الجديدة ومن أجل نظامٍ أفضل للمجتمع. وعندما ولَّت سنوات السجن واستعاد حريته هجرته روح التمرد، وحاول أن يجعل أفكاره مقبولة من السلطات، بل كان في نهاية حياته يطمح في أن يصبح كاردينالًا في الكنيسة التي اضطهدته، فكتب أشعارًا يتملق فيها ملك فرنسا اعتقادًا منه بأنه الشخص القادر على تحقيق دولته «الشمس».٧٠ إن مدينة الشمس صورة لحياةٍ اجتماعيةٍ منظمة تنظيمًا دقيقًا أو هي بالأحرى منظومةٌ متمركزة حول الشمس، فكل شيء فيها محدد من أعلى، وكل شيء في موقعه المعين له سلفًا، وعلى رأس هذه الدولة يتربع الملك الشمس الذي يطلق عليه كامبانيلا «ميتافيزيقوس» أي الإمبراطور الروحي، أو السلطة البابوية، ويساعده في الحكم ثلاثة حكام يمثلون القوة أو السلطة، والمعرفة أو الحكمة، والإرادة أو المحبة: «إن الحاكم الكبير كاهن يدعونه باسم «هو» HoH وإن كان علينا أن نسميه الميتافيزيقوس Metaphysic وهو على رأس الجميع، ويمسك بزمام الأمور الروحية والزمنية ويشرف على كل الأعمال ويضع كل القوانين باعتباره السلطة العليا، ويساعده ثلاثة أمراء يتمتعون بسلطاتٍ متساوية وهم بون وسين ومور، ومعناها في لغتنا: القوة، والحكمة، والمحبة.»٧١ وهذا تأكيد على قوة الدولة وأهميتها في مدينة الشمس التي أصبحت — على العكس مما هي عند مور — هي الهدف والغاية الأسمى للمجتمع الذي تتصاعد السلطة فيه من البيت إلى الكومونة فالمدينة فالإقليم فالإمبراطور، حتى تصل إلى المونارشية الكونية. وينتشر هذا النظام على شكل دوائرَ ذات مركزٍ عالميٍّ واحدٍ شامل، وعلى رأس هذه الكاتدرائية السياسية الصارمة تقف المملكة البابوية العالمية. إنها يوتوبيا النظام المحكم الذي لا يتساهل ولا يسمح بالمصادفة ويحدد لكل شيء شكله ومكانه. وتتميز حكومة مدينة الشمس بأنها شيوعية تختفي فيها الملكية الخاصة، فليس هناك ربح ولا استغلال بل مساواةٌ طبيعية. ووقت العمل مخفَّض إلى أربع ساعات فقط: «في مدينة الشمس يوزع العمل بين الجميع، وعلى كل فرد أن يعمل أربع ساعات يوميًّا في التعليم، والمسابقات والقراءة والكتابة والتريُّض وفي ممارسة التمارين للعقل والبدن (…) ويقول الناس في مدينة الشمس: إن الفقر يخلف اللصوص والدهاء والكذابين المشرَّدين، وإن الثروة تُخلِّف الغرور والجهل والطغاة. ولكن أفراد المجتمع الحق ينشئون من الغنى والفقر معًا، فهم أغنياء لا يريدون شيئًا، فقراء لأنهم لا يملكون شيئًا، ونتيجة ذلك أنهم ليسوا عبيدًا للظروف وإنما الظروف هي التي تخدمهم.»٧٢ وهذه هي نفسها المبادئ النظرية التي قامت عليها يوتوبيات القرن التاسع عشر مع فورييه وسان سيمون وأتباعه.
إن المقابلة بين «يوتوبيا» مور و«مدينة الشمس» لكامبانيلا هي مقابلة بين الحرية والنظام، واليوتوبيات التي قامت على أحدهما دون الآخر كان مآلها الفشل أو انتهت إلى التجريد والسكون. فالعلاقة بين الحرية والنظام يجب ألا تكون هي علاقة إما هذا أو ذاك بل يجب أن تفهم في إطارٍ جدليٍّ مادي لكي تنتهي إلى اليوتوبيا العينية. وقد استطاع ماركس أن يربط بين العنصر الفيدرالي الحر عند مور وأتباعه وبين عنصر التنظيم المركزي عند كامبانيلا وأتباعه. وبذلك أصبح النظام هو الشيء الجديد أي المركزية الديمقراطية التي هي تنظيمٌ مشترك لعملية الإنتاج، وخطةٌ جماعيةٌ موحدة لتعليم الإنسان وتهذيبه. بذلك ابتعد عن الدولة المنظمة البعيدة عن التاريخ والشعب، كما تجنب الثقافة المجردة لأن كليهما قد وجد إطاره العيني وخلاصه الحقيقي، وبذلك جعل للحرية مضمونًا واضحًا. هكذا يرى بلوخ أن ماركس قد ربط الحرية بالنظام عن طريق جدله المادي بعد أن كانا طرفَين متضادَّين في اليوتوبيات المجردة، وبهذا تحول الوجود العيني الحر إلى نظام، كما تحول هذا الوجود العيني المنظم إلى الحرية.٧٣

ثالثًا: يوتوبيات العصر الحديث

تنوَّعت الأشكال اليوتوبية في العصر الحديث تنوعًا هائلًا، واتخذت أشكالًا مختلفة تمثلت في الرؤى اليوتوبية التي ظهرت في نظريات القانون الطبيعي، وفي الأفكار الاشتراكية التي صاحبت ميلاد الحركة الاجتماعية فظهرت يوتوبياتٌ فيدرالية وأخرى مركزية. كما ظهرت في العصر الحديث يوتوبياتٌ عنصرية ولدت مع بداية الحركات القومية في أوروبا وتمثلت في الصهيونية العالمية التي قامت على أساسٍ عرقي وديني. كما تبلورت النظرية الماركسية التي نظر إليها البعض — مثل بلوخ — على أنها تمثل اليوتوبيا العينية. فإلى أي مدًى عبرت هذه الأشكال اليوتوبية — على اختلافها — عن أمل البشرية في حياةٍ أفضل؟ وإلى أي مدًى عبر هذا الأمل — إذا كان أملًا حقيقيًّا — عن الممكن الواقعي والموضوعي الكامن في الواقع المادي؟

(١) اليوتوبيا والحق الطبيعي

وجد بلوخ الانعكاس الاجتماعي «للخير» المتوقَّع في تيارَين من تيارات التراث الفكري وهما اليوتوبيات الاجتماعية التي نبعت من خيالٍ متطلع لآفاق المستقبل، وتغلغل في آفاق الممكن ليقيم فيها مملكته، مبتدئًا من الأوضاع القائمة وثائرًا عليها في كثير من الأحيان، كما وجده في القانون الطبيعي.٧٤ (وهو ابن عم اليوتوبيا كما سماه!) الذي يتقدم من الاستنباطات العقلية إلى شروط إمكان تحقيق الوجود الإنساني الكريم وغير المنقوص في المجتمع. وهنالك أدلةٌ عديدة على الارتباط بين الأوضاع القانونية الطبيعية وبين الفروض التي تطرحها اليوتوبيات الاجتماعية، فكلاهما يقف من الوضع القائم موقف الاحتجاج، ويحرص على التخلص من الواقع السيئ، وكلاهما يتحدث عن إمكان الإنسان أكثر مما يتحدث عن وجوده التاريخي، لذلك تقوم اليوتوبيات الاجتماعية كما يقوم القانون الطبيعي — بالنسبة للوعي الثوري والتاريخي — بدور الأفكار المنظَّمة التي تقاس عليها مضامين اﻟ «ليس-بعد» (أو المضامين الواعدة بالتحقق) الكامنة في الوضع الاجتماعي السائد. ومع ذلك فإن القانون الطبيعي، الذي يؤدي دورًا هامًّا منذ بداية الفلسفة عند الإغريق، يحتفظ من الناحية الأيديولوجية بطابعٍ ازدواجي، فكثيرًا ما كانت العلاقات الطبقية تبدو فيه علاقاتٍ طبيعية لمجرد أنها موغلة في القدم، غير أن القانون الطبيعي يكشف كذلك عن وجهٍ آخر عندما اتجه في عصر التنوير إلى الهجوم على الأوضاع الفاسدة بينما استغلته التوماوية الجديدة في تبرير هذه الأوضاع وتأييدها.

ما هي — إذن — علاقة القانون الطبيعي — ذي الوظيفة المزدوجة — باليوتوبيا الاجتماعية؟ الواقع أن هناك علاقة تربط الحقوق الطبيعية بالمبادئ اليوتوبية، ففي بعض العصور اتحد القانون الطبيعي مع التفكير اليوتوبي في الاحتجاج على الواقع السائد والظروف السيئة. غير أن بلوخ يميز بين اليوتوبيا والقانون الطبيعي من حيث إن اليوتوبيات تكون تقدمية بصورة لا تقبل الشك. أما القانون الطبيعي فيظل الغموض يحيط به من الناحية الأيديولوجية، بحيث كان يستخدم لتبرير نظمٍ تقليدية تناهض التطور. ولذلك يرفض بلوخ ما يمكن تسميته بالحقوق الطبيعية الفطرية، لأن مثل هذه الحقوق هي في الواقع مكتسبة أو لا بد أن تُكتسب من خلال النضال في سبيل الحرية، كما ينكر أن يكون حق الملكية من الحقوق البديهية أو الطبيعية وكأنما هو شيء يمكن استنباطه بصورةٍ عقليةٍ قبلية، ويرفض أن تشتق المعايير القانونية من مبدأٍ غائيٍّ متعالٍ على الواقع وغير نابع منه، لأن ذلك كله يتضمن القول بطبيعةٍ إنسانيةٍ معياريةٍ ثابتة، وهو أمر لا يمكن تصوره إلا في إطار تفكيرٍ غير تاريخي أو متعالٍ على التاريخ. إن العيب فيما يُسمى بالحقوق والقوانين الطبيعية يكمن في أنها لم تستمدَّ من التطور التاريخي، بل هبطت من أعلى أي من طبيعةٍ أولية أو قبليةٍ مزعومة وفُرضت على الواقع باعتبارها مُثُلًا عليا.

وإذا كانت هناك علاقات تربط بين القانون الطبيعي العقلاني التقليدي وبين اليوتوبيات الاجتماعية فهناك أيضًا فروق، وأول فارق بينهما زمني؛ إذ كان ازدهار القانون الطبيعي الكلاسيكي العقلاني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستندًا إلى الوعد البرجوازي التقدمي، وصاغ مطالب البرجوازية الثورية بشكلٍ قانونيٍّ متفتح، وتوافق مع ازدهار الاقتصاد السياسي ومدرسة الفيزيوقراطيين. بينما تقع فترة ازدهار اليوتوبيات الاجتماعية أو الاشتراكية في عصر الثورة الصناعية (وهي يوتوبيات فورييه، وسان سيمون وأوين) في القرن التاسع عشر.٧٥ والفرق الثاني منهجي، إذ ارتبط القانون الطبيعي بعصر التجريد والبناء العقلي والمنهج الاستنباطي، بينما ارتبطت اليوتوبيات الاجتماعية بعصر الأزمات الاقتصادية وبالنزعة التاريخية المضادة للبناء العقلي فرسمت صورًا مستقبلية لمجتمعٍ أفضل. وهذا يرتبط بالفرق الثالث بين نظريات القانون الطبيعي واليوتوبيات الاجتماعية وهو فرق في الأهداف أو المقاصد؛ إذ إن أصحاب القانون الطبيعي يهدفون إلى تأكيد كرامة الإنسان وحقوقه وضماناته، بينما تهدف اليوتوبيات إلى سعادته وإلغاء ما يسبب بؤسه.٧٦ ولكنهما يشتركان — على الرغم من الفروق السابقة — في أنهما نمطان للحلم بعالمٍ اجتماعيٍّ أفضل، بحيث يمكن الحديث عن يوتوبياتٍ قانونية تقوم على تجاوز الواقع، لأن جميع اليوتوبيات الاجتماعية على مدى تاريخها الطويل من أفلاطون والرواقيين وأوغسطين إلى مور وكامبانيلا وبيكون تحتوي على نظراتٍ قانونية إلى الدولة المُثلى والقانون الأمثل.
وللقانون الطبيعي كذلك تراثٌ طويل منذ العصر اليوناني، فهناك مذهب الأبيقوريين الذي يقول بأن الدولة مدينة بوجودها لعقدٍ مبرم بين أفراد، وإذا لم يحترم أحد المتعاقدَين (والمقصود هنا الدولة) بنود العقد، يكون الشعب مجابهًا بحالةٍ جديدة هي الثورة ضد من صادر حقوقه وسيادته. وأعاد ألتوسيوس (١٥٥٧–١٦٣٨م) هذا المذهب الأبيقوري ونهض مدافعًا عن حق الشعوب، فذهب إلى أن من حق الشعب نفسه — وليس فقط ممثليه — إسقاط السلطة إذا توقفت عن العمل لصالح الشعب، فالدولة ليست إلا مندوبين عن الشعب، ولذلك فإن مقاومة الأسياد غير العادلين ليست تمردًا وإنما هي حماية لحقوق الإنسان المنتهَكة.٧٧
ومن ألتوسيوس رائد التصور الحديث للأصل الطبيعي للحق إلى المبدع الحقيقي لما يسمى بالحق الطبيعي، وهو جروسيوس (١٥٨٣–١٦٤٥م) مؤلف «قانون الحرب والسلام» عام ١٦٢٥م، وفيه تظهر لأول مرة الفكرة الأساسية وهي فكرة حقٍّ كلي أو قانونٍ كلي. وقد حدد جروسيوس مذهب ألتوسيوس عن العقد الاجتماعي الذي يعد أساس حق الشعوب، وهو المذهب الذي ينطلق من فكرة نقل الحقوق الفردية إلى مجتمعٍ منظم. ويؤكد جروسيوس أن مهمة الدولة هي أن تلبي على نحوٍ منظم متطلبات الإنسان الاجتماعية. فالحق الطبيعي يعني حقوق البشر التي اؤتمنت الدولة عليها بموجب عقد ووفق إرادة المتعاقدين لإقامة مجتمعٍ منظم، ويصبح هذا العقد باطلًا إذا لم تحترم الدولة شروطه. ولكن الشيء الجوهري في القانون أو الحق الطبيعي لم يكن هو العقد الاجتماعي، بل البناء العقلي الاستنباطي القائم على قانون عدم التناقض. ولذلك كانت الرياضة هي نموذجه الأمثل، وظل التأثير الثوري للحق الطبيعي محدودًا من الناحية التاريخية، ولم يمتد إلى المستقبل الذي قامت عليه اليوتوبيات. ولهذا لا يتبقى من العقد الاجتماعي لجروسيوس — ممثل الأرستقراطية في رأي بلوخ — سوى نقطةٍ هامة وهي أنه لا ينتمي للميدان التاريخي، بل لنبضةٍ وهمية أفسحت المجال لعقدٍ غير تاريخي ووهمي.٧٨ وربما يكون ذلك بسب افتقار نظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي إلى الحس التاريخي.

(أ) نظرية العقد الاجتماعي

يبرز توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩م) على رأس المنظِّرين لفلسفة الحق أو الحق الطبيعي، والمعروف عن فلسفة هوبز أنها تقوم على مقولةٍ أساسية عنده وهي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن الطبيعة الذئبية للإنسان هي حالة الطبيعة الأولى. لذلك فالعقد عنده ليس من قبيل التحالف بين الدولة والأفراد، بل هو خضوعٌ مطلق من قبل الطرف الثاني للطرف الأول، فرضته طبيعة الإنسان الفاسدة وجعلته ضروريًّا. تلك هي نقطة انطلاق نظريته عن العقد الاجتماعي أو الحق الطبيعي. ويتميز هوبز عن ألتوسيوس وجروسيوس بواقعيته، فالغريزة الأساسية التي تحرك الأجسام البشرية هي الأنانية: «الإنسان ذئب للإنسان homo homini lupus est» والمجتمع الأول ليس مدفوعًا بالغريزة الاجتماعية، بل هو مقحَم في «حرب الجميع»، وهذه هي النار الراقدة تحت الرماد في كل المجتمعات، و«الحالة الطبيعية» التي تهدد في كل لحظة بأن تستيقظ وتسود.
لقد أسقط هوبز صراع الطبقات الذي بدأ في عصره وأهوال المجتمع الرأسمالي الإنجليزي على مرحلة ما قبل التاريخ، أي على المجتمع البدائي فأقرَّ بأنه مجتمع ذئاب. وتتشارك الذئاب كي تضع نفسها في مأمن من شر بعضها البعض، تاركة ذئبًا واحدًا فقط هو ذئب الذئاب للدفاع عن المجتمع.٧٩ بمعنًى آخر يتنازل الشعب باختياره عن إرادته للحاكم بموجب عقد، وبمجرد إبرامه يصبح للحاكم سلطة وضع القوانين وصياغة الأحكام والحقوق والواجبات، وعلى أفراد الشعب الطاعة المطلقة، فهذا الحاكم الذي يسمى المونارك أو الملك هو فوق القانون وتلك هي أيديولوجية الحكم المطلق. فالذئب الأعلى لا يقدم حسابات، وما يقوله لا يمكن أن يوضع موضع مساءلة، لأن السلطة وليس العقل هي التي تضع القانون.٨٠
يوجد عند هوبز الرجعية والتقدم، أيديولوجية البرجوازية الصاعدة وسلطة الدولة التي لا ترحم ولا جدوى من مقاومتها. ما لم يجد الذئب نفسه مجابهًا بذئاب أقوى منه.٨١ ولكن وسط هذا القهر والخضوع في دولة هوبز يوجد نوع من الديمقراطية عندما يجتمع أفراد الشعب جميعًا بقصد إنشاء دولة، كما أن السلطة المطلقة للدولة التي وصفها هوبز بالتنين، تسقط الفروق بين الشعب والطبقة الاجتماعية لأن كل الناس متساوون، ولأن كل شيء في مقابل الحاكم. أضف إلى هذا أن هوبز لم يقل بملكيةٍ مطلقة للدولة ومن الممكن أن تتمثل هذه السلطة في شكل الحكم الجمهوري وليس بالضرورة في شكل حكمٍ ملكي.٨٢
تتحول الطبيعة الذئبية عند هوبز إلى طبيعةٍ خيرة واجتماعية عند جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م) فالإنسان عنده خيِّر في الحالة الطبيعية أو حالة الفطرة، وهو لا يكتسب الشر إلا من خلال المدنية والدولة الشريرة غير العادلة التي يسودها نظام متعدد الطبقات وتنتشر فيها اللامساواة في الملكية التي ينتج عنها الأنانية الاجتماعية. والمبدأ الذي يقوم عليه الحق الطبيعي عند روسو هو الحرية الفردية (التي طمسها هوبز)، وهي حرية أناسٍ خيرين بفطرتهم، وليست حرية الذئاب.٨٣ ولذلك يسخر روسو من الأمة الإنجليزية قائلًا: «إن الشعب البريطاني يعتقد أنه حر، غير أن هذه الحرية لا توجد إلا في لحظة الانتخاب فقط، وعندما تنتهي هذه اللحظة يصبح عبدًا بل ولا شيء على الإطلاق.»٨٤ ومن الضروري أن تكون الحرية هي الهدف الحقيقي للدولة. ولهذا يسأل متعجبًا كيف تنشأ دولة ليس بها فردٌ واحد يتمتع بالحرية؟ إن الحرية التي تسلمها الدولة للفرد في لحظة الانتخاب (وهي اللحظة الوحيدة التي يكون الفرد فيها مجبرًا على أن يكون حرًّا) تعود فتستردها مرةً أخرى عندما يتنازل الفرد للدولة عن كامل حريته عند إتمام العقد.
ذهب روسو إلى العكس من هوبز عندما جعل العقد الاجتماعي — الذي أصدره عام ١٧٦٢م — مجرد وسيلة لحماية هذه الحرية الفردية. بذلك تحول القانون الطبيعي لأول مرة إلى سيادة الشعب. وما يميز العقد الاجتماعي هو أن الفرد يدخل بإرادته في علاقةٍ مباشرة مع المجتمع، بمعنى أنه لا يسلم حريته لأي نوع من التمثيل سواء كان ملكًا أو أميرًا أو حتى تمثيلًا برلمانيًّا.٨٥ لذلك طالب روسو الفرد أن يشارك مشاركةً مباشرة في أعمال الحكومة بالمساعدة في صنع القوانين، وبأن يكون حرًّا في انتقادها واقتراح بدائل لها. ولا يعني هذا أن تتمادى الفردية في غيِّها، وإنما هي بحاجة إلى الانضباط. وقد أكد العقد الاجتماعي تأكيدًا شديدًا على أداء الواجب إلى جانب الحقوق. فالانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة التحضر المدني تُحدِث تغيرًا ملحوظًا في الإنسان لأنها تستعيض عن «الحرية الطبيعية» المرتبطة بقوة الفرد «بالحرية الحضارية» المقيدة بالإرادة العامة، وبحريةٍ أخلاقيةٍ جديدة تكبح جماح شهواته.٨٦ بحيث يمكن القول بأنه إذا استُبعد من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره لتقلص إلى العبارات التالية: «يسهم كلٌّ منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإدارة العامة العليا، وفي المقابل نسترد كل عضو باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الكل.»٨٧ فالذات لا تغترب عن حريتها، منذ أن أصبحت جزءًا متساويًا من الإرادة العامة أي أن الأساس الأيديولوجي لفلسفة روسو يكمن في مبدأ الحرية الفردية وقوَّتها الكلية التي تتخلل الإرادة العامة للمجتمع.٨٨
ومذهب الإرادة العامة عند روسو لا يلغي الحقوق الطبيعية للفرد بل يتَّجه لتحقيق المساواة في الملكية الخاصة. ومن خلال أيديولوجيته في الملكية الخاصة لمس جوهر الشيوعية في كل اليوتوبيات الاجتماعية: «إن قوة السلطة ليس لها أي حق في المساس بملكية فرد أو جملة أفراد، ولكن لديها كل الحق شرعًا في الاستيلاء على أملاك الجميع بلا استثناء.»٨٩ وإذا لم يكن روسو هو أول من نادى بهذا المبدأ — أي مبدأ مصادرة الملكية — إلا أن مذهبه من المذاهب القليلة في نظريات القانون الطبيعي التي نادت بهذا المبدأ الأساسي عند كل روَّاد النزعات اليوتوبية الاشتراكية الذين قالوا بالمساواة في الحياة الاقتصادية. ولكن قوة الحق الطبيعي الكلاسيكي لا تكمن في التمرد الاقتصادي وحده؛ إذ إنها امتدت أيضًا إلى المجال السياسي وأقامت ما يسمى بالحقوق الأساسية للفرد وهي: الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة الظلم. وقد كانت هذه الحقوق — التي تمثل البناء الفوقي القانوني — كانت هي المبادئ الأساسية للبرجوازية المتأخرة.٩٠

والآن ما حقيقة العلاقة بين الحق الطبيعي — بما ينشده من عدل وتأكيد للكرامة الإنسانية — واليوتوبيات الاجتماعية — بما تنشده من سعادة البشرية؟ لقد اتضح في بداية الحديث عن القانون الطبيعي أوجه الاختلاف والاتفاق بينه وبين اليوتوبيات الاجتماعية. فهل اجتمعا لخلق مجتمعٍ أفضل يسوده الحق والعدل وتعمُّه السعادة والمساواة؟ أم سار كلٌّ منهما في طريقٍ موازٍ للآخر؛ مما جعل من الصعب أن يلتقيا في أي مرحلةٍ تاريخية؟ وأيهما كان أكثر من غيره تأثيرًا في المجتمع؟ يمكن القول إنه في مرحلة الصراع البرجوازي كاد الحق الطبيعي أن يسيطر سيطرةً كاملة، بل وجاء معبرًا عن آمال الطبقة البرجوازية حتى بدا أنه من الممكن أن يحلَّ محل اليوتوبيات الاجتماعية. ولا بد من الإشارة إلى أن الفترة التاريخية التي ازدهر فيها الحق الطبيعي كانت الطبيعة هي المرشد الموجه لكل الاتجاهات الفكرية في المجتمع، فازدهر الدين الطبيعي والعلم الطبيعي والمنهج الرياضي ممثلًا في ديكارت وليبنتز.

وقد كان لسيطرة الحق الطبيعي تأثيرها على مواد ونصوص الحقوق الدولية، فاستعان المشرِّعون للقانون الدولي بنظريات جروسيوس وغيره، كما استعانت الثورة الفرنسية بنظرية العقد الاجتماعي لروسو وبخاصة المادة التي تنص على أن القانون يعبر عن الإرادة العامة. كذلك استعان القانون البروسي بنظريات القانون الطبيعي، في حين لم يكن لليوتوبيات الاجتماعية تأثير يُذكَر في المجتمع، لا سيما في القرن الثامن عشر الذي لم تظهر فيه أي يوتوبيات أصيلة، فمنذ توماس مور وكامبانيلا في القرن السابع عشر لم تظهر يوتوبياتٌ حقيقية إلا في القرن التاسع عشر مع أوين وفورييه وسان سيمون.٩١
وعلى الرغم من سيطرة نظريات القانون الطبيعي في القرن الثامن عشر وغياب اليوتوبيا بالمعنى الحقيقي، إلا أن الحق الطبيعي كان له صدًى يوتوبيٌّ في كل العصور، كما أن الحق الطبيعي ليس إلا يوتوبيا قانونية، فنظم اليوتوبيات الاجتماعية التي تنشد تحقيق السعادة للإنسان لا تريد جنة لحيوانات غير مسئولة، كما أن مذاهب القانون الطبيعي التي تنشد الكرامة الإنسانية لا تقف في وجه الحياة الخيِّرة، وكلاهما يؤمن بأن الوجود الحاضر يجب دفعه للأمام لكي يتحرر من كل الظروف التي تعوق فتح الطريق لحياةٍ أفضل. واليوتوبيات بتاريخها الطويل لا تخلو من القانون الطبيعي، بدليل أن الرواقية قد طورت يوتوبياها عن الدولة العالمية من خلال القانون الطبيعي، ولم تخلُ أية يوتوبيا — من الرواقية وجروسيوس حتى سان سيمون وأتباعه ومعاصريه الذين كانوا رغم عدم تعاصرهم رواقيين بهذا المعنى، بمعنى إيمانهم بالحقوق الطبيعية — من لمحات عن الحق الطبيعي. كما ارتبطت نظريات القانون الطبيعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر باليوتوبيات الاجتماعية عن طريق القاسم المشترك بينهما وهو القصد الطيب الذي وجههما معًا ودفع بهما إلى التطور انطلاقًا من الطبيعة البشرية والظروف السيئة التي تعيشها. وهذا القصد الطيب يُفهَم بمعنًى سلبي: ففي الحالتَين نجد إهمالًا للظروف السيئة في العالم الواقعي، وفي الحالتَين يوجد تطورٌ هادئ يبدأ من الطبيعة البشرية ويخدم هذه الطبيعة، واتجاهٌ بطيء نحو هدفٍ إنساني بوسائل تَفضُل الوسائل التي استخدمت من قبلُ. ولكن هناك أيضًا معنًى إيجابي يجب أن يُفهَم من خلاله هذا القصد الطيب، وهو أنه يوجد في الحالتَين كيانٌ سياسي يُشكَّل تشكيلًا جديدًا على ضوء مفهوم الغاية والهدف، فالنظرية اليوتوبية عند توماس مور تقوم على أساس الفكرة الرئيسية في القانون الطبيعي وهي الحرية الطبيعية للفرد، بينما يقوم القانون الطبيعي عند جروسيوس على أساس الليبرالية اليوتوبية (تحرير المصالح الفردية)، كذلك هناك نوع من الارتباط بين يوتوبيا كامبانيلا ذات النظام الصارم وبين نسق القانون الطبيعي ذي النزعة المطلقة عند هوبز. وفي مشروع كانط عن السلام الدائم نجد أن أحد موضوعات القانون الطبيعي — وهي فكرة القانون الدولي والدولة العالمية التي تترتب عليه — نجد أن هذا الموضوع يتحول إلى المستقبل كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا حسب لغة كانط بالحلم اليوتوبي بنظامٍ عالمي.٩٢
إن اليوتوبيات السابقة تحلم باقتصاد يرضي حاجات الشعوب ويعبر عن نزعةٍ شيوعية تنشد السعادة. ولكن البناء العقلي لنظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي القائم على العلاقات والاستنباطات الرياضية كان سببًا في بعض الضربات التي وُجِّهت إليه، فكان نقد كانط للعقل بمثابة الضربة الأولى لهذا البناء، ثم جاء الجدل الهيجلي ليوجه الضربة الثانية. وأخيرًا جاء ماركس ليستبعد العلاقات الزائفة القائمة على الاستنتاج العقلي الرياضي التي عاقت هذا التراث عن التعامل مع الواقع.٩٣ ومع ازدهار اليوتوبيات الاشتراكية في القرن التاسع عشر نظر الماركسيون باستياءٍ شديد إلى نظريات القانون الطبيعي واعتبروه مجردًا ولا يعبر إلا عن الطبقة البرجوازية التي نشأ في ظلها. وربما يعود ذلك إلى الطبيعة المزدوجة التي تميز بها هذا التراث، ولذلك لم يقدره بعض الماركسيين حق قدره، ولم ينظروا للجانب الثوري فيه.٩٤ ولكن الماركسية لا تستطيع أن تستبعده أو تتجاهله بسبب ما فيه من جوانبَ إنسانية لا تستغني عنها المجتمعات الاشتراكية، ولا بد من التمييز الدقيق لمضمون هذا التراث وتأكيد الجانب الإنساني فيه. كما أن القانون الدولي في أمسِّ الحاجة إلى قوانين ومعاييرَ موضوعيةٍ تنظم حقوق الإنسان وأسس السلام العالمي، الأمر الذي يحتم الرجوع لأصحاب القانون الطبيعي للاسترشاد بآرائهم.
إن من واجب الماركسية — كما يقول بلوخ — أن تفهم الماضي أكثر مما فهم نفسه،٩٥ لأن استبعادها لنظريات القانون الطبيعي لم يجعلها تدرك تداخل هذا التراث الكلاسيكي مع اليوتوبيات الاجتماعية وأن كليها مهد للإنسانية الماركسية. ويمكن القول إن النزعة الماركسية هي التي ربطت بينهما بعد أن كانا منفصلَين، وارتفعت بهما معًا من الناحية العملية؛ إذ لا كرامة للإنسان بدون القضاء على الحاجة والحرمان، ولا سعادة بغير القضاء على أشكال العبودية القديمة والحديثة.٩٦ ومن الطبيعي ألا ينظر بلوخ لميراث القانون الطبيعي نظرةً تقليدية، وأن يدرك سبب إخفاق التراث الماركسي الذي يتلخَّص في غياب فكرة القانون وقضية الحقوق الإنسانية من جدول أعمال الثورات الاشتراكية. لقد وضع كتابه مع بدايات إخفاق هذه الثورات، وتبيَّن الظلم الواقع على الإنسان فكرس جهده للتغلب عليه بحثًا عما هو حق، وما هو عدل. وواجب كل ثورةٍ اشتراكية أن تدرك بوعي ما تتضمنه من أمل ومن حقوقٍ طبيعية وكرامةٍ إنسانية.
إن على الماركسية التي تسعى لتحقيق مجتمعٍ خالٍ من الطبقات أن تعي أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون له قصدٌ حقيقي للقانون الطبيعي الذي هو بمثابة القوة التي تقاوم تعسف الدولة، فيصبح هذا القانون هو أساس مملكة الحرية، ولا بد لها أن تنظر لمذاهب القانون الطبيعي نظرةً إيجابية وتعيد صياغة هذا التراث للتغلب على وظيفته الثنائية. وإذا كانت الماركسية تهتم بنقد الواقع القائم، فيجب ألا يغيب عنها أن الحق هو الذي يقاوم الاستغلال والإهانات الواقعة على الكرامة الإنسانية. إن العدل الحقيقي هو محط آمال البشر المستضعفين الذين تصوَّروا أن المخلص سيأتيهم من الخارج، وظلوا ينتظرون مملكة الله العادلة التي لم تتحقق في الواقع الفعلي بل في آخر الزمان،٩٧ لذلك كانت مهمة بلوخ البحث عما هو اشتراكي في ميراث الحق الطبيعي، وكانت نظرته أقرب إلى الواقع العيني بما فيه من ظلم وجد رموزه في التناقضات الاجتماعية والمعاناة والاغتراب. وكان هذا أمرًا ضروريًّا وطبيعيًّا بالنسبة لمفكر يسعى لتخليص المجتمع من الانحلال والاستغلال والعبودية وتحقيق مجتمعٍ متكامل غير مغترب.
وإذا كانت الماركسية تتحدث عن تطبيع الإنسان فهي تتحدث أيضًا عن أنسنة الطبيعة، وفي هذا ثقة وإيمان بكمال الطبيعة، ولكنها ليست هي الطبيعة الحيوانية ولا قوانين الطبيعة الرياضية كما بدت في نظريات القانون الطبيعي التي استبعدتها، بل تلك الطبيعة التي تكون في حالة صيرورةٍ متجددة بحيث يمكن أن تكون طبيعةً يوتوبية.٩٨ وإذا كان هوبز قد عرَّف هذه الطبيعة بأنها مجبولة على الشر، ووصفها روسو بأنها خيِّرة بالفطرة، فإن ماركس لم يؤمن بجوهرٍ ثابت للإنسان، وليس لدية «السكونية» التي يقوم عليها القانون الطبيعي، فالواقع الفعلي ومسار التاريخ دليلان كافيان على تحولات الطبيعة البشرية، والإنسان طبقًا لتعريفه التاريخي والأخلاقي هو نتاج العلاقات الاجتماعية.٩٩ خلاصة هذا أن كلًّا من اليوتوبيات الاجتماعية ونظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي جزء من خلفية التراث الثوري الاشتراكي، وأن كليهما يتضمن بالضرورة القدرة على توقع شيءٍ ما أفضل من ذلك الذي أصبح بالفعل، لأن كليهما ينتمي إلى مملكة الأمل الإنساني.

(٢) اليوتوبيا الفيدرالية

تعددت أقسام المعرفة في القرن التاسع عشر واتجهت اتجاهاتٍ شتى: «إن من سمات الحياة الحديثة أنها أخرجت من داخلها تيارات من الفكر متنوعةً تنوعًا هائلًا، ومتعارضة أشد التعارض، ولذلك لا نستطيع أن ننظر للقرن التاسع عشر ككلٍّ أو كوحدةٍ واحدة، بل علينا أن نجزِّئه إلى عدد من أساليب الفكر أو عوالم الفكر.»١٠٠ وبطبيعة الحال كان لا بد أن ينعكس هذا على التفكير اليوتوبي حيث تنوَّعت الأشكال اليوتوبية، فنشأت يوتوبيات تبحث عن السعادة والمتع الحسية، وأخرى تصور مجتمعاتٍ شيوعيةً مثالية وإنسانية اختفت منها الملكية الفردية، إلى جانب يوتوبيات تندفع إلى المستقبل في تفاؤلٍ شديد، متأثرة بأفكار فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر ومُصلحيه الكبار الذين رسم بعضهم مشروعاتٍ نظرية وحضارية تدور حول فكرة التقدم الحتمي في الفنون والعلوم والأخلاق ونظم الاجتماع وإمكان تشكيل الطبيعة البشرية والوصول بها إلى الكمال عن طريق التربية المعرفية الأخلاقية والجمالية.١٠١ وقد تبلورت هذه الأفكار المستقبلية وأخرجت التفكير اليوتوبي من سكونيته ولاتاريخيته السابقة.
وجاءت يوتوبيات القرن التاسع عشر مفعمة بالحركة والتفاؤل بالمستقبل بعد أن صبَّت أفكارها بصورةٍ غير مباشرة في الثورتَين الكبيرتَين في أواخر القرن الثامن عشر، وهما ثورة الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية. وحملت هذه الأفكار اليوتوبية أصداء أزمات العصر وطموحاته، وارتبط تاريخ اليوتوبيا بميلاد الحركة الاجتماعية التي ازدهرت وانتشرت في القرن التاسع عشر، بحيث يصعب التمييز بين الأعمال التي تخص الفكر اليوتوبي والأخرى التي تعالج المشاكل الاجتماعية التي نشأت في تلك الفترة، إذ فقدت الكلمة — أي اليوتوبيا — معناها الأصلي في تلك الحقبة الزمنية بسبب إساءة استخدام أنصار الماركسية لها إلى الحد الذي جعلهم يتهمون بها خصومهم في الفكر.١٠٢ لقد اتهموا كُتاب اليوتوبيا بإهمال الدور الريادي لطبقة البروليتاريا التي أنتجها التطور التاريخي، وعدم فهمهم للمذهب الاشتراكي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد بلوغ الرأسمالية درجةً معينة من التطور، واستبعادهم للثورة التي بإمكانها وحدها السيطرة على الأوضاع الاقتصادية ووسائل الإنتاج وإلغاء الطبقات، بحكم أن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على إنجاز هذه الثورة. وكانت أكبر تهمة وجهوها إلى كتاب اليوتوبيا أنهم تصوَّروا أن المجتمع الجديد يمكن أن يوجد في أي مكان أو زمان، وأنه لا علاقة بين تطور النزعة الرأسمالية وإمكانية تحقيق مجتمعٍ جديد، وإن الدولة يمكنها السيطرة على وسائل الإنتاج والأوضاع الاقتصادية بالطرق السلمية والإصلاح الاجتماعي.١٠٣

أثَّر آباء النزعة الاجتماعية تأثيرًا كبيرًا على كُتاب اليوتوبيا في القرن التاسع عشر، ولم يقتصر هذا التأثير على كتاباتهم النظرية فقط، بل شمل المشروعات الاجتماعية الإصلاحية التي تصوَّروها لشكل المجتمع اليوتوبي — سواء كانت خططًا اجتماعية أو قرًى تعاونية — والتي أوحت بأشكالٍ عديدة من اليوتوبيات التي كُتبت بعد ذلك. وعلى الرغم من الثورة الصناعية التي فتحت مجالاتٍ جديدة وبدت للكثيرين وكأنها قدَّمت الحل الحاسم لمشكلات الفقر وعدم المساواة، إلا أن الفقر في الدول المتقدمة اقتصاديًّا كان أكثر بشاعةً مما في غيرها. فقد وصل عدد ساعات العمل إلى ما يتجاوز الثمانية عشر ساعة في اليوم، وازداد الأغنياء غنًى، بينما ازداد الفقراء فقرًا. وظهرت مجموعة من المفكرين والكُتاب الاشتراكيين كانت مهمتهم التركيز على تحقيق اليوتوبيا أكثر من التركيز على الشكل المحدَّد للمجتمع اليوتوبي أمثال أوين وفورييه وسان سيمون وأتباعه.

ويأتي اسم روبرت أوين Owen (١٧٧١–١٨٥٩م) على رأس أصحاب اليوتوبيات الفيدرالية التي لم تقرَّ بالحكومة المركزية. ولم يوجه أوين اهتمامًا كبيرًا للصناعة، بل وضع نظامًا جديدًا للإنتاج على أساس التنظيمات التعاونية؛ فاهتمَّ بالتجمعات الزراعية المستقلة التي لا يزيد عدد سكانها عن الثلاثة آلاف، وعليها أن تحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء عن طريق تقسيم البضائع المنتجة على أعضاء الجماعة بالتساوي. أما عن الحكم فيتم من قِبل إدارةٍ مستقلة، ويدير الشئون الداخلية مجلسٌ عام يتكون من كل أعضاء الجماعة الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والأربعين عامًا، ويحكمون وفق قوانين الطبيعة البشرية، بينما يحكم الشئون الخارجية مجلسٌ عامٌّ آخر يتكوَّن أعضاؤه ممن تتراوح أعمارهم ما بين الأربعين والستين عامًا، وعندما يبلغ العالم حد الاكتفاء من الغذاء الزراعي تصبح الحكومات غير ضرورية وتختفي.١٠٤
ويؤمن أوين بأن التربية هي إحدى الطرق الموصلة إلى الهدف، ولذلك نراه يقدم نظامًا في التعليم — كان له تأثيره على كُتَّاب اليوتوبيا فيما بعدُ — يؤكد فيه إمكانية تعديل الطبيعة البشرية لدى الأطفال عن طريق التوجيه الرشيد إلى حب الغير، والتربية العاقلة للفكر، والسلوك المستقيم. وقد وضع في ذلك كتابه «النظرة الجديدة إلى العالم — أو مقالات عن مبدأ تشكيل الطبع الإنساني وتطبيقه في الواقع العملي» عام ١٨١٦م. وكذلك قدم كتاب «العالم الأخلاقي الجديد» عام ١٨٣٦م ووضع أوين أساس نزعةٍ شيوعية تدعو لحب الجنس البشري، وتنظر إلى الملكية الخاصة والزواج والدين الوضعي باعتبارها ثلاثية الشر التي تخلق التعاسة البشرية. ودعا إلى قيام مجتمعٍ خالٍ من البطالة والفقر والجريمة والعقاب، وأوصى بإصلاح المجتمع بالتسوية السلمية وبدون صراع أو إضراب، كما ناشد رجال الصناعة التخلي عن النزعة الرأسمالية، وإن لم يدعُ إلى تدمير الآلة بل شجع أعضاء الجماعة على الميكنة المنزلية. والمهم أن حلمه اليوتوبي المفعم بالأماني لم يتطلع لإقامة مجتمعٍ صناعيٍّ كبير، بل إلى مجتمعاتٍ فيدراليةٍ صغيرة.١٠٥
إذا كانت يوتوبيا أوين تقوم على تفكيرٍ غير تاريخي فإنه يختلف عن فيدراليٍّ آخر هو شارل فورييه Fourier (١٧٧٢–١٨٣٧م) الذي أقام نقده للواقع القائم على أساسٍ تاريخي، ورأى أن تقديم نموذجٍ حي وناجح لمجتمعٍ يوتوبي هو السبيل لإقناع الجنس البشري بتبنِّي مثل هذا النموذج. فكان بذلك رائد الحركة التعاونية وتكوين اقتصادٍ جديدٍ مجرد من الأنانية، وأقام مدينته الفاضلة على تقسيم الدولة إلى مناطق أو معسكراتٍ تعاونية أطلق على كلٍّ منها اسم الفالنستير Phalanstere.١٠٦ وفيها يتحرر الفرد من كل المعوقات ويطلق العنان لغرائزه وأهوائه ورغباته دون اعتبار لقيودٍ أخلاقية. وينتقل من متعة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر في حريةٍ تامة وفقًا لميوله. وقد أقام فورييه آراءه في الإصلاح على أساس نقده للمدينة والمجتمع المتحضر، فكان عمله الأول «نظرية الحركات الأربع» عام ١٨٠٨م — تعبيرًا عن نزعةٍ نقدية للحياة المعاصرة. وكذلك كتابه «التجمع الأهلي الزراعي» عام ١٨٢٢م وفي كتاب «العالم الصناعي الجديد» الذي وضعه عام ١٨٢٩م وصف الحياة الحضارية بأنها حالة البربرية المتوحشة التي أوجدت الرذيلة وأنتجت الفساد والانحلال في كل مكان وزمان، وأنه عندما تتخطى المجتمعات البشرية هذه الحالة البربرية سيحل التناغم والانسجام وتتحقق مدينة السعادة.١٠٧ وتختلف آراء فورييه الفيدرالية عن آراء الاشتراكية الماركسية للقرن التاسع عشر، فهو لا يؤمن بأن الثورة والعنف هما السبيل لتحقيق مجتمعٍ أفضل، ويفضل طريق التغيير والإصلاح الاجتماعي السلمي. هذا بالإضافة إلى أن مشروعه اليوتوبي يقوم على أساس الإقرار بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والعمل على زيادة الإنتاج لرفع مستوى المعيشة، والسماح بتكوين ثرواتٍ صغيرة لا تهدف إلى استغلال الآخرين ولكن لمنع ذوبان الفرد في الجماعة، وإقامة التوازن في كل «فلنستر»، وهو يسمح كذلك بتقسيم الأرباح بين المساهمين — وهم مجموعاتٌ رأسماليةٌ صغيرة — ويبقي على حافز الربح للتشجيع على المزيد من الإنتاج وإشباع غريزة الطموح عند الإنسان؛ مما يؤكد في النهاية أن حلم فورييه المفعم بالأماني هو التخطيط لمجتمعاتٍ تعاونيةٍ صناعيةٍ صغيرة.
وتحول الحلم اليوتوبي الفردي الفيدرالي عند أوين وفورييه إلى حلمٍ يوتوبيٍّ مركزي عند كابيه وسان سيمون، فلم تعد الجماعات الصغيرة أو الكوميونات هي الهدف، بل اتجه كلٌّ منهما إلى تكوين تنظيماتٍ اقتصاديةٍ كبيرة. ولم تعد الحرية فردية ذات شكلٍ اقتصادي بل تحولت إلى حريةٍ اجتماعيةٍ موجهة إلى غاياتٍ عامة، بمعنى تحقيق نظام ينكر النزعة الذاتية السابقة ويحولها إلى نزعةٍ جماعيةٍ صناعية يسميها بلوخ باليوتوبيا المركزية.١٠٨ ويمثل كابيه Cabet (١٧٨٨–١٨٥٦م) هذا النظام الاتحادي، وتقوم يوتوبياه على النظام الصارم الذي عرضه في كتابه الذائع الصيت «رحلة إلى إيكاريا» عام ١٨٣٩م، وتداولته الطبقة العاملة. وقد باشر كابيه بنفسه تأسيس مجتمعه اليوتوبي في ولاية تكساس الأمريكية، ولكنه اضطر للعودة إلى باريس عام ١٨٥٣م فأصاب مجتمعه اليوتوبي الوهن بعد رحيله بسبب الصراعات الداخلية، وعندما عاد إلى أمريكا ثانية لم يستطع أن يُعيد لمجتمعه عهده الأول فمرض ومات، وظل مجتمعه قائمًا بضعة عقود حتى عام ١٨٩٨م.١٠٩
يقوم مجتمع إيكاريا على المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. أما نظام الحكم فهو جمهوري يُعبِّر فيه الشعب عن نفسه من خلال مجالسَ قومية ونيابية. والشعب الذي يملك حق التصويت، له السلطة العليا في منظمةٍ سياسيةٍ قائمة على جمهوريةٍ ديمقراطية. ويقوم هذا المجتمع أيضًا على النظام العشري، فالدولة مقسَّمة إلى مائة ولاية، مقسمة إلى عشر كميونات. وإيكاريا هي مركز هذه الولايات والكميونات. وتعتمد إيكاريا الموحدة على الصناعة المنظمة التي تصنع عالم المستقبل، فالإبداع الصناعي بها على مستوًى عالٍ من التقنية بفضل عمالٍ مهرة ومهندسين يعملون سبع ساعات كل يوم من خلال خطةٍ اقتصاديةٍ اشتراكية.١١٠
ويعبر سان سيمون (١٦٧٠–١٨٢٥م) أيضًا عن يوتوبيا مركزيةٍ مناوئة للنزعة الذاتية الاقتصادية التي تتلخَّص في المبدأ الليبرالي «دعه يعمل، دعه يمر.» وإذا كان أوين وفورييه قد أقاما يوتوبياهما على أساس تجمعاتٍ تعاونيةٍ زراعيةٍ صغيرة، فإن كابيه وسان سيمون قد أقاماها على تنظيماتٍ صناعيةٍ كبيرة. فقد كان سان سيمون «يعتقد أن كل مجتمع سوف يصبح مصنعًا كبيرًا أو خليةً واسعة للإنتاج. وحكومة هذا المجتمع يجب أن يتولاها بالضرورة رجال أكفاء هم رجال الصناعة، بمعنى أنه يجب أن تحل حكومة تقوم على أساسٍ اقتصادي محل الحكومات السياسية.»١١١ فالغاية الوحيدة ليوتوبيا سان سيمون هي إقامة مجتمعٍ صناعيٍّ كبير شعاره أن كل إنسان يجب أن يعمل، وعلى قمته رجال الصناعة، حتى إنه طالب بسحب السلطة السياسية من أيدي رجال الدين وإيداعها في أيدي رجال الصناعة، «كان هدف سان سيمون أن يجعل من السياسة علمًا وضعيًّا، فالسياسة في نظره هي «علم الإنتاج» والصناعة بالنسبة إليه هي حجر الزاوية في سعادة الإنسانية، فهو يرى في العمل الوسيلة الوحيدة للتحرر والاستقلال الذاتي.»١١٢
وينظر سان سيمون بعطفٍ متزايد نحو الطبقة العاملة، ويحسُّ بحالة البؤس التي يعانيها العمال، ويرى في إلغاء الامتيازات الوسيلة الوحيدة لعلاج هذه الحالة. ويتحقق إلغاء الامتيازات — في نظره — عن طريق تنمية الإنتاج المادي وتثقيف الطبقة العاملة بطريقةٍ مثمرة.١١٣ ويقتصر دور الحكومة في المجتمع الذي ينشده سان سيمون على أمن الإنتاج وحريته، ويتكون مجتمعه اليوتوبي من رجال الصناعة والعلماء والفنانين، وفيما عدا هذه الفئات الثلاث لا يوجد إلا الطفيليون والمتسلطون. وتمثل هذه الفئات الثلاث المثل الأعلى لنظام الحكم في برلمانٍ مؤلف من ثلاثة مجالس: مجلس الاختراع ويتكون من الفنانين، ومجلس الفحص من العلماء، ومجلس التنفيذ من رجال الصناعة.
وقد استمد سان سيمون اقتناعه بنظريته من مظاهر التاريخ نفسه ومن خلال الوعي التاريخي، فقد مر التاريخ — في رأيه — بثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تم فيها خلق الآلهة للعالم، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على القوى الطبيعية أو الأفكار المجردة، ثم المرحلة الوضعية التي تأتي من تحليل الوقائع، وهذه هي مرحلة المجتمع الصناعي الحديث. والدولة الصناعية المنظمة هي الكاهن الاجتماعي الأسمى، أو هي نوع من البابوية الصناعية التي ستكون على رأس هذه الدولة.١١٤ التي يتحقق فيها التناغم والانسجام بلا عنف ولا ثورات ولا لجوء إلى استخدام القوة.

(٣) الصهيونية ويوتوبيا الأرض الجديدة-القديمة

بدأت الحركات القومية في أوروبا مع بدايات القرن التاسع عشر؛ مما ترتب عليه ظهور المشكلة اليهودية، فلم يستطع الشعب اليهودي — في الشتات — الذوبان في المجتمعات التي استوطنها، بل ظل مغلقًا على نفسه محتفظًا بهويته. ولم يكن حلم استعادة مملكة داود قد مات، بل بقي المتزمتون من اليهود لمدة ألفَي عام يختمون صلواتهم بعبارة: العام القادم في أورشليم. وظلوا يحترقون شوقًا لذكرى الأرض والسعادة التي فقدت، سواء في فلسطين أو في إسبانيا بعد طرد اليهود منها، فالحنين إلى الماضي كان دائمًا صفةً مميزة للشعب اليهودي. وجاء موسى هيس (١٨١٢–١٨٧٥م) في وقت كانت فيه الحركة القومية تحتل مركز الصدارة في أوروبا، وأصبح على اقتناعٍ كامل بأن عالم المستقبل يجب أن ينظم على أساس الثقافات القومية، وقد حاول في كتابه «روما والقدس» عام ١٨٦٢م إثبات أن الاتجاه الداعي إلى ذوبان اليهود في المجتمعات الأوروبية لا يشكل حلًّا عمليًّا بالنسبة للمسألة اليهودية، لأن اليهود المقيمين وسط الأمم الأخرى لا يمكن أن يلتحموا عضويًّا بهذه المجتمعات.١١٥ كان الجنس أو العرق عند هيس هو القوة المشكِّلة للتاريخ، وكان أول من رسم حدود الحلم الصهيوني قبل مؤسس الحركة تيودور هرتزل.
وعلى الرغم من دوافع هيس الاشتراكية إلا أنه لا ينظر للاقتصاد باعتباره المحرك الأول للتاريخ، بل جعل العرقية هي أساس نزعته الاشتراكية، ودعا أبناء شعبه إلى إقامة المستعمرات في الأرض المقدسة، وأن يزرعوها كما فعلوا منذ ألفَي عام خلت: «إن البذور المَختزَنة في داخلكم، شأنها شأن بذور القمح التي كانت توضع بجانب المومياوات المصرية، قد ظلت هاجعة لآلاف السنين ومع ذلك لم تفقد قدرتها على التكاثر، إن البعث القومي وحده هو الذي ستستمد منه العبقرية الدينية لليهود قوةً جديدة وتفعم من جديد بالروح المقدسة للأنبياء، وذلك مثل العملاق الذي تلمس قدماه الأرض التي ولد فيها فتبعث فيه القوة.»١١٦ أصبحت النزعة الاشتراكية بالنسبة لهيس هي انتصار الرسالة اليهودية في روح الأنبياء، ومن أجل هذا الهدف وضع خطةً اشتراكيةً عالمية تتحول إلى فعل في فلسطين، وهي المكان الذي يمكن أن ينشأ فيه اليهود مرةً أخرى.١١٧ ورسم هيس حلمًا مفعمًا بالأماني ليوتوبيا صهيونيةٍ اشتراكية ترتكز منذ البداية على ما أورده الأنبياء في الكتاب المقدس، «وبهذا وصلت العنصرية الإسرائيلية إلى ذروتها بالجمع بين العنصرية الجنسية أو العرقية والعنصرية الدينية.»١١٨ لكن اليهود الغربيين كان أغلبهم من الطبقة البرجوازية ولم يكن بينهم عددٌ كبير من العمال؛ لذلك لم تحقق هذه الأحلام الصهيونية تأثيرًا كبيرًا إلا في الطبقة الوسطى الدنيا التي ليس لها مراكزُ اجتماعية في مجتمعاتها.
وجاء هرتزل (١٨٦٠–١٩٠٤م) الذي وضع البرنامج الصهيوني الأكثر تأثيرًا لاستقطاب الطبقة البرجوازية اليهودية، ومواجهة أزمة الطبقة الوسطى، والوقوف في وجه موجة العداء للسامية التي بدأت تظهر وتزداد حدَّتها في أوروبا في ذلك الحين. وأصبح هذا البرنامج الصهيوني بالفعل مقبولًا من البرجوازية الليبرالية اليهودية.١١٩ ورأى هرتزل أن المسألة اليهودية ليست مسألةً اجتماعية أو دينية بل مسألةٌ قومية، وأن المخرج الوحيد لمشاكل اليهود ومعاناتهم لا يمكن أن يكون إلا عبر توكيد اليهود على قوميتهم وسعيهم لإقامة دولتهم.١٢٠ ولم تكن القدس في بداية الأمر هي الصوت الذهبي ليوتوبيا هرتزل للبحث عن أرض المستقبل، فقد تأرجحت هذه الأرض بين الأرجنتين وفلسطين، وكان حلمه اليوتوبي هو تشكيل دولةٍ رأسماليةٍ ديمقراطية بمساعدة إنجلترا وألمانيا. وظهرت فكرة «الدولة اليهودية» عام ١٨٩٦م وهي دولةٌ رأسماليةٌ تعاونية لإصلاح الأرض التي ستصبح ملكيةً عامة، وتبلور الحلم لجعل الحكاية الخرافية حقيقة على الأرض إذا أراد لها اليهود ذلك. وظهرت الرواية اليوتوبية «أرض قديمة جديدة» عام ١٩٠٠م لتصور أرض التقدم البرجوازي يوتوبيا ليست في المستقبل البعيد، بل تقرر لها أن تكون ابتداءً من عام ١٩٢٠م في الدولة اليهودية التي تقوم على التعاونيات الزراعية. وتمركزت يوتوبيا هرتزل وتمحورت حول الشيء الوحيد الذي لا تمتلكه وهو الأرض.١٢١ وحام الحلم اليوتوبي حول فلسطين: «إن هدف الصهيونية هو إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام.» كانت هذه العبارة هي الهدف الذي أعلنه هرتزل في أول مؤتمر صهيوني في مدينة بال عام ١٨٩٧م.

اختلفت يوتوبيا هرتزل عنها عند موسى هيس، فهذا الأخير ربط يوتوبياه الاشتراكية بحركة العمل الدولية، وربط رسالته الاشتراكية بتراث أنبياء اليهود، وجعل محور عمله في فلسطين. ولكن هرتزل حوَّل هذا الحلم إلى آخر برجوازي، وأخذ الحلم ينمو ويزدهر بمساعدة بعض المفكرين الإنجليز الذين أثاروا المشاعر اليهودية القبلية، كما أثاروا تعاطف الإمبريالية الألمانية — في ذلك الوقت — مع الحركة الصهيونية. والحقيقة أن هذا الاهتمام بالنزعة الصهيونية كان جزءًا من السياسة الإمبريالية الغربية، فقد كانت إنجلترا تريد تأمين الطريق البري للهند، واقترح بعض الكُتَّاب السياسيين — مثل هو لنجروت — إقامة دولةٍ يهودية في تلك البقعة. كما كانت السلطات الألمانية تريد تأمين مصالحها في الشرق بمساعدة تركيا رجل أوروبا المريض — كما أُطلق عليها في ذلك الحين — فبحثت الأمر مع هرتزل عام ١٨٩٨م بشأن إقامة دولة تحت الحماية الألمانية والسلطة التركية. ولكن هذا المشروع فشل بسبب انسحاب ألمانيا من اللعبة. وحانت لحظة اقتراب الحلم من التحقق في إعلان وعد بلفور عام ١٩١٧م الذي وعد بإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين التي كانت حتى هذا الإعلان دولةً عربية تحت الحماية البريطانية. ووجدت الإمبريالية البريطانية أن أجزاء من برنامج هرتزل الصهيوني تناسب السياسة البريطانية فأعلنت تحت قناع إنسانيةٍ مزيفة إقامة مأوًى لما تبقى من ضحايا النازية والفاشية، على ألا يزيد عدد السكان اليهود عن ثلث السكان العرب في ذلك الحين. وهكذا بدأت دولة هرتزل الصهيونية بأعدادٍ محدودة، وتشكَّلت كميوناتٌ زراعية على غرار تلك التي رسمها أوين وكابيه في أمريكا الشمالية.

وبدأت المأساة على أرض فلسطين، وليس من الغريب أن نجد بلوخ — وهو الذي ينحدر من أصلٍ يهودي — وقد تغلبت عليه نزعته الاشتراكية الإنسانية فيصف الصهيونية بأنها نزعةٌ عنصريةٌ قائمة على الوعي الزائف، ويقرُّ بأن دولة إسرائيل التي قامت للهروب من الفاشية أصبحت هي نفسها دولةً فاشية، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر أصبحت إسرائيل قلب النزعة الإمبريالية الأمريكية في الشرق.١٢٢ يضاف إلى هذا أنه ينظر للمشكلة اليهودية من وجهة النظر الماركسية التي عبَّر عنها ماركس في كتابه «المسألة اليهودية» الذي أكد فيه أن استمرار الشعب اليهودي ليس لصفاتٍ ذاتيةٍ عرقية أو جنسية أو لأنه شعب الله المختار على حد زعمه، لأن استمراره في البقاء لم يكن برغم التاريخ بل في التاريخ وبفضله. إن البحث في المسألة اليهودية يجب أن يكون بالبحث في الظروف المادية التي أحاطت بهذه المسألة عبر التاريخ، وبذلك وضع ماركس القضية في إطار يتجاوز الأطر البرجوازية إلى رحاب الثورة العالمية البروليتارية.١٢٣
معنى هذا — في رأي بلوخ أيضًا — أنه ليس هناك حلٌّ منعزل للمشكلة اليهودية بدون حلٍّ شامل للمشكلة الاجتماعية-الاقتصادية. وإن الفترات التي تزايدت فيها كراهية البشرية للجنس اليهودي — حتى قبل فترة الاضطهاد النازي — إنما تعود إلى أسبابٍ اجتماعية واقتصادية منذ البداية. ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها هذه الأسباب إلى ثلاث مراحلَ مختلفة، في العصور القديمة كانت غطرسة اليهود وتكبرهم على الأمم الأخرى وانغلاقهم على أنفسهم بدعوى أنهم شعب الله المختار سببًا في إثارة مشاعر الكراهية في نفوس الشعوب الأخرى. وفي العصور الوسطى تعود الكراهية إلى أسبابٍ دينية وهي خيانة يهوذا للمسيح التي أثارت حنق الشعوب المسيحية ورغبتها في الانتقام. أما في العصر الحديث فقد كان للصهيونية والنظرية العرقية أثرٌ كبير في إثارة العداء للسامية، فاجتمعت الأسباب المُحرِّضة ضد اليهود. ويرى بلوخ أن هذه الأسباب كانت مبررة لأن اقتصار الكتاب المقدس على الشعب اليهودي — الذي يشعر بالفخر لهذا بل وما زال مخدوعًا بهذا الوهم — دون سائر شعوب الجنس البشرى حادثة غير مسبوقة في التاريخ.١٢٤
والحقيقة أن الأسباب التي ذكرها بلوخ ونتج عنها العداء للسامية في العصر الحديث تكتمل بالتفسيرات الأخرى لحقيقة هذا العداء، وأن الصراع الذي تميز بالدموية والوحشية في مطلع هذه العصور، كان بعيدًا تمامًا عن أن يكون صراعًا بين مجموعتَين أو قوميتَين أو دينَين كما قد يبدو في الظاهر، لقد كان في واقع الأمر بين طبقتَين، إذ كانت البرجوازية القومية الناشئة في بلدان أوروبا تصارع بضراوة ضد الاحتكار اليهودي التاريخي للتجارة. وكانت البرجوازية التجارية اليهودية هي الحاجز الرئيسي في طريقها، وكان هدم التسلط اليهودي هو شرط نموها واستيلائها على السوق. وقد كانت الطبقات الدنيا هي التي تصارع ضد اليهود، تقودها البرجوازية الناشئة وينضم إليها أحيانًا النبلاء بدافع الحقد على دائنيهم. ولا شك أن اضطهاد اليهود خلال العصور الوسطى تحت شعار إبادة الخونة كان بمثابة الإرهاصات الأولى للثورة الاجتماعية البرجوازية.١٢٥ فالظروف الاجتماعية والاقتصادية إذن هي — في رأي بلوخ وأنصار الماركسية — العوامل التي تختفي وراء المسألة اليهودية. والعداء للسامية ليس من الأمور الخالدة أو الأبدية كما يريد الصهاينة أن يقنعونا بذلك. وحتى إذا كان الأمر كذلك فلن يخفِّف — في رأي بلوخ — من هذا العداء غزو البلاد العربية وخلق خلافاتٍ جديدة ونزعةٍ يهوديةٍ جديدة، ولا عن طريق دولة رأسمالية-ديمقراطية كما يتصورها هرتزل، ولا بوسائل هيس الاشتراكية التي تحوم حول القدس، فليست المسألة أن يكون لليهود أمة أم لا!١٢٦ ولكن السؤال الآن: هل ما زال لدى اليهود — سواء أكانوا أمة أم لا — وعي بما قاله إله الخروج لعبده إسرائيل وكلَّفه به كمهمة لا كمجرد وعد: «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.»١٢٧ إن هذه المهمة التي وجهها الرب لأمة ابتُليت بالشقاء تتلخص في: «لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.»١٢٨ ويؤكد بلوخ أن اليهود قد قاموا بهذه المهمة الخلاصية وإن لم يقوموا بها على نفس المستوى الذي نجده في المسيحية والإسلام، ففي القرن الثاني بعد الميلاد انتشرت الديانة اليهودية ووصلت إلى الصين، وفي القرن الثامن الميلادي دخلت إمبراطورية كازار Chazar — وعاصمتها استراخان — في اليهودية. صحيح أن هذا كله تم في وقتٍ متأخر، ولكن معظم النصوص اليهودية المقدسة — كما يقول بلوخ — تطرق فكرة التبشير ورسالة الخلاص وتنبه اليهود لنشرها: «لا يسوءون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.»١٢٩ وقد ظلَّت ذكرى هذه النزعات التبشيرية والخلاصية موجودة في اليهود الذين تجردوا من النزعة القومية الصهيونية. ولكن النزعة التبشيرية الخلاصية المستقبلية يمكن — على العكس من ذلك — أن تغيب تمامًا عن اليهود الذين يحصرون أنفسهم في وعيٍ قوميٍّ ضيق أو يتبنَّون نزعات التوسع التجاري الدولي، لقد اقتصر وعيهم عام ١٩١٧ — وهو عام وعد بلفور — في الركن الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تحت الحماية البريطانية ومصالحها التجارية في قناة السويس وبترول الموصل. ثم دخل الوعي الآن في دائرة الرأسمالية الغربية ومناطق النفوذ البريطاني وتحت حماية الوحش الأمريكي. لكن إذا أرادت الأمة اليهودية أن تبقى فلا بد أن تعي رسالتها بين الأمم الأخرى وتدرك دورها في حركة التحرير الاجتماعي وإلا فلن يكون لها مستقبل على الإطلاق.١٣٠

لا شك أن نزعة بلوخ الإنسانية الاشتراكية قد غلبت عليه في تحليله للصهيونية كحركةٍ قوميةٍ عنصرية. ولم تمنعه ديانته اليهودية — خلافًا لغيره من الماركسيين اليهود — من أن يُدين العنف الإسرائيلي الموجَّه ضد العرب، ولا أن يوجِّه نقده إلى أمته التي رأى فيها بوادر نازيةٍ جديدة، وعلى الرغم من ذلك فهو لا ينكر حقها في أن تحتفظ بهويتها القومية شأنها شأن غيرها من الأقليات القومية الأخرى، وأن تنمي لغتها وتراثها وثقافتها على الأرض التي ولدت فيها وتربَّت عليها في إطار نزعةٍ اشتراكيةٍ عالمية تساهم مساهمةً فعالة جنبًا إلى جنب مع الأمم الأخرى في حركات التحرير الاجتماعي. وأغلب الظن أن المواطن العربي قد يؤيد هذا المطلب المشروع في حق الأمة اليهودية في الاحتفاظ بهويتها وثقافتها الوطنية. ولكن السؤال: هل كان من الضروري أن يتحول الشعب الذي كان مقهورًا فيما مضى إلى شعبٍ قاهر لكل الشعوب العربية المحيطة به؟ هل كان من الضروري — لكي تحتفظ الأمة اليهودية بهويتها الدينية والثقافية — أن يتشرد شعب بأكمله وتُسلب أرضه ويطرد من دياره؟ وهل كان من الضروري أن تقوم الهوية اليهودية في أرض فلسطين؟ ألم يعترف بلوخ نفسه بأن جبل صهيون في فلسطين لم يكن إلا رمزًا فحسب، وإنه من الممكن أن يكون هناك جبل صهيون حيث يكون اليهود في أي مكان؟ ألا يمكنهم الاحتفاظ بهويتهم وقوميتهم وتراثهم في الدول التي نشئوا فيها ونهلوا من ثقافتها؟ ألم يكن من الممكن إدماج ثقافتهم وتراثهم في التراث الإنساني كما فعل فلاسفة اليهود في ظل الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس قديمًا، وكما فعلت قلةٌ قليلة من المثقفين اليهود المعاصرين الذين أسهموا في إثراء التراث الإنساني من خلال إسهامهم في تراث الأمم التي نشئوا على أرضها؟ بذلك وحده تتحول النزعة القومية العنصرية المقصورة على الجنس اليهودي إلى نزعةٍ اشتراكيةٍ عالمية، وليس مهمًّا أن يكون لها وطن، فحل المسألة اليهودية لا يحتاج إلى صهيونيةٍ جغرافية في فلسطين، لأن هذا يمكن تحقيقه في أي دولة ينتمي إليها الشعب اليهودي.

(٤) الماركسية واليوتوبيا العينية

بعد هذا العرض الموجز السريع لأهم اليوتوبيات منذ بدايات التفكير البشري وحتى القرن العشرين لا بد أن يُطرح السؤال: ما مدى ما حققته من تغيير في مجتمعاتها؟ إن هؤلاء الحالمين الذين وقفوا في وجه الفساد والاستغلال في عصرهم، وأدانوا الظلم بقلوبهم، ونشدوا العدل الاجتماعي، وسعوا بعقولهم وخيالهم — باعتبارهم يوتوبيين تأمليين — إلى بناء عالمٍ أفضل، توافرت لديهم جميعًا النية الطيبة والرغبة في الإصلاح، ولكن ندر بينهم من امتلك إرادة التغيير واكتشف التوسط التاريخي — مثل فورييه، وبنسبةٍ أقل سان سيمون — وقليل منهم كان لديه الحس المسبق بالاتجاهات والإمكانات الواقعية الموجودة في عصرهم؛ الأمر الذي جعل من هذه اليوتوبيات أشكالًا مجردة لدولٍ خياليةٍ بعيدة عن سياق التاريخ — لا يوتوبيات عينية متحققة — وكأن الحلم اليوتوبي يمكن أن يشرق في فراغ، والصور الخيالية اليوتوبية المفعمة بالأماني يمكن أن تطبق خارج التاريخ وصيرورته الجدلية، بل بطريقةٍ سكونية على واقع لا يعرف عنها شيئًا أو على أفضل تقدير يعرف عنها القليل.١٣١
ولا يرجع ضعف هذه اليوتوبيات فحسب لعواملَ ذاتيةٍ كامنة في شخص أو شخصيات المفكرين اليوتوبيين ونزعتهم العقلية التأملية والمجردة، ولكن يرجع أيضًا لعواملَ موضوعية من أهمها أن الظروف الاجتماعية والواقع الفعلي لم يكونا قد وصلا لمرحلة النضج بالقدر الذي يسمح بالتغيير. لم تكن الصناعة قد طُوِّرت بشكلٍ كافٍ، ولم تكن الرأسمالية قد واصلت تطورها بحيث تنشأ طبقة بروليتاريا ناضجة كما يقول ماركس في «بؤس الفلسفة».١٣٢ كانت اليوتوبيات الكلاسيكية إذن وحتى نهاية القرن الثامن عشر على أقل تقدير يوتوبياتٍ نظرية، وكان المنهج الرياضي الاستنباطي هو المنهج المتبع فيها وليس المنهج التاريخي. ومعنى هذا أنها انحصرت في استنباطات من الفكر الخالص كما اتضح من نظريات الحق الطبيعي التي افتقدت الحس الحقيقي بالتاريخ. أما عن اليوتوبيات الحديثة فقد خرجت من نطاق العقل المجرد، وبخاصة تلك التي ارتبط أصحابها بنظريات علم الاجتماع. فهؤلاء الحالمون كانت لهم أفكار لا يمكن تجاهلها، وعلى الرغم من مظهرها المجرد، إلا أنهم لم يكونوا أبدًا من المفكرين التأمليين، بل هم يوتوبيون اقتصاديون سياسيون، وإرادة التغيير لديهم لا شك فيها. لقد شرع بعضهم في التطبيق الفعلي الذي لم يحالفه الحظ، وإذا كانت إرادة التغيير الكامنة في بعضها لم تخرج إلى حيز التأثير الفعَّال، فإنما يرجع ذلك لضعف ارتباطها بالطبقة العاملة، وكذلك بسبب التحليل غير الكافي للاتجاهات الموضوعية والإمكانات الواقعية في المجتمع القائم، أو بسبب عدم نضج الظروف الاقتصادية نضجًا كافيًا بحيث تُفجِّر إرادة الفعل في الذات، فهذه الظروف الموضوعية من الأمور التي تساعد على الانتصار الثوري.١٣٣
ظلت اليوتوبيات السابقة الذكر عهودًا طويلة تعبر عن أملٍ يوتوبي غير دنيوي، وذلك باستثناء بعض اليوتوبيات التي نظرت إلى الواقع وانطلقت منه ولكنها كانت غير ناضجة فصورت العالم الأفضل بشكلٍ مجرد وأقامت نسقًا في عقول مبدعيها فقط. إن الماركسية وحدها هي التي قهرت التجريد، وإن تحسين العالم لا يأتي بالتأمل بل بالفعل، بالنظرة الجدلية إلى الواقع مع مراعاة قوانين العالم الموضوعي، حتى تتحول اليوتوبيا من تأمليةٍ مجردة إلى يوتوبيا عينية ذات نزعةٍ اشتراكية. وتاريخ اليوتوبيات الاجتماعية يثبت أن هذه النزعة الاشتراكية قديمة قدم العالم الغربي، وقدم الحلم بالعصر الذهبي.١٣٤ ولا عجب بعد ذلك أن ينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى أن تاريخ اليوتوبيا ما هو إلا تطورٌ تدريجي لهذه النزعة التي اكتملت في الماركسية.
مع الماركسية تقدمت النزعة الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم، وبدأت فكرة تحسين العالم من الاتجاهات الفعلية للواقع. لم ينظر للبؤس كحالة تدعو للرثاء، ولكن بدأ بحث أسبابه وتفجير قوَّته الثورية الكامنة للقضاء عليه. ولم يسمح ماركس لسخطه على المجتمع أن يجعله يغفل عن العوامل الثورية الموجودة فيه. وإذا كان بعض اليوتوبيين قد رأى أن أجور العمال في المجتمع الرأسمالي غير منصفة، وطالبوا بمجتمعٍ جديد بأجور أكثر إنصافًا، فإن ماركس لم ينظر للأمر من هذه الزاوية، وإنما حلَّل العوامل الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، واكتشف ما فيه من تناقضات تُسبِّب انهياره في نهاية الأمر بفعل عواملَ جدليةٍ باطنه. وبذلك وضع أُسسًا جديدة للنقد الاقتصادي كانت مفتقدة في اليوتوبيات الاجتماعية المجردة في مرحلة ما قبل الماركسية، وهي التي خصصت تسعة أعشار مساحتها في وصف دولة المستقبل، والعشر الباقي للنقد، بينما كرس ماركس تسعة أعشار كتاباته للتحليل النقدي للحاضر وسمح بمساحةٍ ضئيلة لوصف المستقبل، لأن كل عمله، وليس فقط جزء منه، مُوجَّه للمستقبل، كما أنه لم يرسم صورة للجنة بل تناول بالنقد والتحليل الحياة الاقتصادية، وكشف سر الاستغلال وفساد الربح.١٣٥
جسد ماركس بشكلٍ مادي توقعات اليوتوبيا بوسائلَ اقتصادية عندما بحث في جدل الإنتاج وفائض القيمة، وبذلك وضع الأسس المادية لجدل التاريخ، وألغى الثنائية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الممارسة التجريبية واليوتوبيا من أجل إعادة تنظيم المجتمع بشكلٍ ثوري، ولذلك أغفل كل اليوتوبيات السابقة من أجل نزعةٍ واقعيةٍ مفعمة بالمستقبل؛ المستقبل الذي استنار بعواملَ مادية-تاريخية من الماضي والحاضر تعمل باستمرار لتصب في المستقبل.١٣٦
في الماركسية يزداد الحلم العيني وضوحًا، ويتطور مضمونه ليصبح حلمًا متحققًا تحققًا فعليًّا. كما تهتم الماركسية — بوصفها يوتوبيا عينية — بأن تفهم الحلم لأنه يكمن في النزوع التاريخي نفسه، وتتوسط هذه اليوتوبيا مع الصيرورة وتركز اهتمامها على تحقيق الأشكال والمفاهيم التي طورتها في رحم المجتمع الحاضر، إنها يوتوبيا عينيةٌ تقدمية بسبب ارتكازها على عنصرَين أساسيَّين هما: توجهها للمستقبل، وارتباطها بإمكاناتٍ حقيقيةٍ موضوعيةٍ كامنة في الواقع الفعلي وإن لم تتحقق بعدُ في العالم الخارجي. وتتجه هذه اليوتوبيا العينية إلى الجمع بين النظرية والتطبيق، ولا ينحصر قصدها اليوتوبي في أرض الحلم المنعزلة أو في أفضل نظامٍ اجتماعيٍّ متصوَّر كما كان الحال في اليوتوبيات الاجتماعية، بل يتسع ليشمل كل الميادين الأخرى من تقنية وعمارة وفنونٍ تشكيلية وأدب وموسيقى … إلخ، فكل هذه الميادين لها صورٌ مفعمة بالأمل ومتشابكة مع بعضها البعض من أجل خلق عالمٍ بشري، وكل فلسفة وكل عملٍ فني له نافذةٌ يوتوبية تطل على المستقبل، أو هو محاط بعنصرٍ يوتوبيٍّ قائم على أساسٍ موضوعي يكون كامنًا في البداية ويحمل داخله بذرة نمائه حتى يشرق في إمكاناتٍ حقيقية قد تؤدي في النهاية إلى كارثةٍ محققة، أو تكون بذرة الأمل الممكن، وذلك حسبما تقرره إرادة الموجوادت البشرية.١٣٧ وتمتد اليوتوبيا لتنتشر كالمادة المشعة في كل الأنشطة الإنسانية، وتدفع معوقات الطبيعة للخلف بصنع البشر — المتمتعين بوعيٍ كامل — التاريخ لأول مرة بدون فكرة الضرورة أو القدر الأعمى، لأن هذه الفكرة الأخيرة تجد من يتعبدها في المجتمع الطبقي وحده. أما اليوتوبيا التي أصبحت عينية فلا تعرف القدر أو الضرورة لأنها وضعت أساسًا لنظام غير مغترب في حدود عالمٍ أفضل.١٣٨
عندما يصبح الجدل عينيًّا، وعندما يجعل نفسه في خدمة هدف يضع المستقبل والمتمنَّى نُصب عينَيه، لا تكفي الرغبة وحدها ولا بد أن تضاف لها الإرادة، ومع الإرادة التبصر النافذ. عندئذٍ تتحول اليوتوبيا إلى علم، ويصبح العلم دليلًا يهدي إلى السلوك الصحيح، وذلك وفقًا للقضية الحادية عشرة من قضايا فويرباخ التي تطالب بأن تصب كل النظريات الصحيحة في تغيير العالم: «إن فويرباخ في جهوده لتوليد الوعي يقطع أبعد شوط يمكن لنظري أن يقطعه دون أن يكفَّ عن أن يكون نظريًّا وفلسفيًّا (…) إنه يؤوِّل مجرد تأويل العالم المحسوس القائم، ويسلك تجاهه سلوك النظري، في حين أن المسألة هي أحداث الثورة في العالم القائم ومهاجمة حالة الأشياء كما وجدها وتبديلها عمليًّا.»١٣٩ ويرتبط بالعلم العيني أو الواقعي قدر من العاطفة التي لا غنى عنها لتحويل المعرفة إلى عمل وممارسة، ذلك أن المبادرة لا تأتي أبدًا من المعرفة وحدها، وإنما تنبع أساسًا من الإرادة. إن المعرفة يمكنها أن تهدي الإرادة، ولكن الإرادة هي التي تحقق المعرفة. وبغير العاطفة الثورية والحماس الإرادي القوي لتغيير العالم تبقى أنطولوجيا الإمكان والمستقبل واﻟ «ليس-بعد» مجرد أفكار مهما وُصفت هذه الأفكار بأنها تقدمية، ولو تشبَّعت بالعاطفة الثورية لأصبحت أداة لتحقيق اليوتوبيا.
لكن بعض الثوريين الذين تحركت ضمائرهم أمام البؤس المنتشر وانضموا إلى صفوف الاشتراكية ظلوا في أعماقهم برجوازيين، لذلك أدانتهم الماركسية كما أدانت الاشتراكية النابعة من عواملَ إنسانية فقط، أي من التعاطف والرغبة فحسب؛ إذ لا بد من تضافر الضمير والمعرفة لتوفير الوعي الاشتراكي «الموضوعي» لا الذاتي فحسب من أجل قلب كل الظروف والعلاقات التي يكون فيها الإنسان كائنًا مهانًا مستعبدًا مهجورًا ومحتقرًا. وإذا كان هناك محاولاتٌ وجودية للتقليل من شأن ثورية ماركس وتصويره في صورة القريب من كيركيجورد أو باسكال فإن من المستحيل — في رأي بلوخ — تزييف ماركس الحقيقي لأنه نموذج الإنسانية الماضية في تحرير نفسها بصورةٍ فعالة. وهي إنسانية ترفض معاملة البشر كما تعامل الكلاب؛ إنسانيةٌ واقعيةٌ موجهة لمن يستحقها، تمسك السوط بيدها في غضب وسخط كما تنادي وتهيب وتبحث عن سبيلٍ موضوعي للإنقاذ.١٤٠ ولا تقتصر هذه الإنسانية الماركسية على الطبقة العاملة المغتربة وحدها، بل تمتد إلى كل المستغلين والمغتربين في ظل الرأسمالية. ولا تقتصر هذه الثورية الإنسانية على كتابات ماركس الشاب، لأن إنسانيته الواقعية تمتد لتشمل تفسيره المادي للتاريخ. صحيح أن مصطلح الاغتراب لا يظهر في كتاباته المتأخرة، ولكنه اختفى كلفظ فقط وظل الموضوع الإنساني باقيًا في تحليلاته ليوم العمل ولمجموع العلاقات الاجتماعية، كما ظلت الإنسانية «الفاعلة» ماثلة في نصوصٍ عديدة.١٤١
ويهاجم بلوخ المحاولات العديدة لتجريد ماركس والماركسية من النزعة المستقبلية وإبعادها حتى عن التراث الليبرالي، كما يحمل حملةً شديدة على محاولات إعادة الماركسية لجذورها العقلية لا المادية الواقعية، وتصوير ماركس على أنه كانطي أو هيجليٌّ جديد أو ردِّ نظريته إلى أفكار الخلاص القديمة من أوغسطين ويواخيم الفيوري لتصوير الماركسية في صورةٍ مسيحيةٍ علمانية وكأنها مجرد نسخةٍ اقتصادية أو تحولٌ اقتصاديٌّ فاسدٌ لعقيدة الخلاص اليهودية-المسيحية. إن كل الذين يبذلون هذه المحاولات ينسون أن الماركسية تلغي مجتمع الطبقات الذي سمح بوجود السيد والعبد، وتحرر إرادة الأمل من عقالها، كما أن أصالة ماركس لا تنفي أن له آباءً وأجدادًا، وأنه حقق حلمهم الماضي وارتفع به إلى مستوى الوعي الثوري وجعله شيئًا جديدًا كل الجدة.١٤٢
وقد تصور بعض الأدباء والباحثين الرومانسيين مثل كرويتسر Creuzer وفيلكر welcker أن علم الأساطير يعبر عن المجموع الكلي للمعرفة الذي وجد منذ أزمان لا تعيها الذاكرة، وإن كل ما جاء بعد ذلك — مثل نظرية المثل لأفلاطون على سبيل المثال — لم يكن إلا صدًى شاحبًا لهذا العلم الشامل، ومن ثم تصوروا أن ماركس حالمٌ رومانسي مثل غيره من العلماء الرومانسيين الذين قالوا إن العلم كله أصله أسطوري. ولذلك اتُّهم ماركس بأنه وضع الأساطير في هذا العالم وأضفى الصبغة الدنيوية عليها. ويدافع بلوخ عن ماركس مستشهدًا بهذه العبارة التي كتبها إلى روجا عام ١٨٤٣م: «سوف يتضح أن العالم كان يملك منذ أمدٍ طويل حلمًا عن المادة، وهي المادة التي يتحتم عليه أن يعيها لكي يملكها بحق، وسوف يتضح أيضًا أن المسألة ليست خطًّا فاصلًا بين الماضي والمستقبل، وإنما الأمر يتعلق بمواصلة أفكار الماضي.» إن هذه العبارات التي قالها ماركس هي في الواقع الجوهر الحقيقي للأصالة، وتعبر عن موقفٍ جديد كل الجدة من الماضي. ويتضح هذا من قول ماركس نفسه بأنه موقف يقوم على تحليل الوعي الأسطوري الذي لم يتضح لنفسه على نحو ما كان عليه في الماضي، وبدون الانفصال عن ذلك الماضي بشكلٍ مجرد أو صارم، وعلى هذا فإن ماركس لم يُضعف من جانب المعرفة الأسطورية بل صححها.١٤٣
إن الجديد الرائد الذي جاء به ماركس هو في معرفة فائض القيمة، وفي التفسير الاقتصادي الجدلي للتاريخ، وفي فهمه للعلاقة بين النظرية والممارسة. وإذا لم يفهم الرومانسيون هذا الجديد الرائد — بالمعنى السابق أي انفصال العلوم عن أصولها الأسطورية — فإن هذا يكشف عن انتماءاتهم البرجوازية وعقليتهم التي تنزع إلى الترميم والإصلاح، لا إلى الثورة الحقيقية. كما أن جهلهم بهذا الجديد ليس إدانة للماركسية على الإطلاق، لأن موقفهم المتخلف هذا لا يمكن أن يعي الإنسانية الجديدة والفاعلية الجديدة وتغيير العالم والحلم المتَّجه إلى الإمام على الدوام في الماركسية المفتوحة.١٤٤ ولننظر إلى الأخلاق … فهل انتقص من قدر الأخلاقية لأنها لم تعد لصالح عالمٍ آخر أم أنها أصبحت أكثر نقاءً وصفاءً؟ ولننظر إلى المسيحية نفسها … هل شوهها «توماس مونتسر» لاهوتي ثورة الإصلاح الديني عندما سلك سلوكًا ثوريًّا ولم يقبل أن يسالم؟ ألم تصبح المسيحية — على العكس من ذلك — أكثر أصالةً عندما دفع بها إلى النشاط الفعلي وإلى التاريخ المعاصر. ولننظر إلى تاريخ العلم الذي نشأ عند اليونان نشأة انفصل فيها عن الأسطورة على الرغم من أن الأسطورة كانت دائمًا تدخل في إيضاح الأفكار غير الأسطورية. هل أصبحت الفلسفة والعلم — بعد أن فصل اليونان العلم عن الأسطورة — أفقر مما كانا عليه أم أنهما ازدادا غنًى وثراءً عندما انفتحا على آفاقٍ جديدة لم تُرَ من قبلُ ولم يفكر فيها أحد من قبلُ كما فعل سقراط على سبيل المثال عندما حاول أن يُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وكما فعل ديمقريطس بفكرته عن الضرورة عندما غرسها في البنية الذرية١٤٥ … إلخ.
لا شك أن هناك نداءً أسطوريًّا أو صوفيًّا يتردد من بعض أفكار ماركس الإنسانية والجدلية. ولكن هذه الإنسانية وهذه الجدلية تتجه بدون شك نحو النور والظهور في نهضةٍ مستقبلية. ويتجلى هذا الجانب الأسطوري في فكرة الخلاص عند ماركس التي يحيط بها وينبعث منها بريقٌ أسطوري. وإن المؤمن بالتنوير الحقيقي لن يضنَّ على هذه الروح التنبُّئية بالخلاص عند ماركس، لن يضنَّ عليها بعرفانه واندهاشه وتعلمه من مثل هذه الأفكار التنبُّئية. والواقع أن ما يصحح مسار العالم ويضيف إليه ويضيئه من داخله لا يمكن أن يبرز إلا عندما يصل الوعي إلى موقفٍ علميٍّ صحيح. فلم يعد من المكن أن يتحقق هذا أو أن يُفهم في مجتمع لا يعيش فيه إلا فيلسوفان فقط، أحدهما فيلسوف يائس تخلَّى عن كل شيء، والآخر فيلسوفٌ عنكبوتي يحاول أن يقدم لنا كنوز الحكمة المدرسية الوسيطة وكأنما هي فصل الخلاص الأخير. إن الماركسية الخلَّاقة وحدها هي المعبرة عن عصرنا، وهو العصر الذي يبدع ويواصل تراث الماضي ويحققه في نفس الوقت. والماركسية وحدها تمثل الإنسانية الحقيقية التي ترفع من شأن الأرض ولا تجعلها مجرد شبح يعكس الصورة الأسطورية القديمة. وهي التي تحقق ما يعرف بأنه حق وفقًا للإمكانيات الواقعية وللمنظور الواقعي للمستقبل. وفي هذه الممارسة لا يتم فصل العالي أو علمنته عندما تنفصل الماركسية عما هو فوق الإنسان ولا يؤثر في صيرورة الإنسان، وما لم تُفهَم العلمنة بالمعنى الماركسي الجديد وحده الذي يوحد بين النظرية والتطبيق فلن تفهم أبدًا.١٤٦ وعلى حين كان كل عظماء الفكر قبل ماركس قانعين بأن يصبح العالم فلسفيًّا، فإن الإنسانية الماركسية قد فتحت على طريقتها — ووفقًا لعبارة ماركس الشهيرة عن ضرورة تغيير العالم بدلًا من الاكتفاء بتفسيره — آفاقًا جديدة يمكن أن تجعل الفلسفة عالمية، وبهذا تكون الفلسفة قد أُوقفت على قدمَيها من جديد، ووُهبت القدرة والكفاءة لإعادة بناء هذا الكوكب الأرضي. ولا بد أن نلاحظ أن الماركسية لم تُنقِص من قدر الأفكار العظيمة بحق في الماضي، ولم تختزلها لأن ذلك الماضي ظل غنيًّا بالأفكار الحقيقية.١٤٧
إن الأمل النابع من خطةٍ علميةٍ مدروسة والمرتبط بالممكن الوشيك التحقق هو أفضل ما يوجد في حياة الإنسان، بشرط أن يرتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع مع الممارسة. لا يمكن أن يزدهر العقل بغير الأمل، ولا يمكن أن يتكلم الأمل بغير العقل، لأن وحدتهما وحدةٌ ضرورية. والذين يتهمون الماركسية بأنها أخروية لا يدركون نزعة الحلم، فقد حرص ماركس على تعقيل الحلم لا إغراقه في سحب العواطف، كما حرص على أن يقترن التعقيل بالحماس بحيث تربط الماركسية بينهما لإبراز «الجديد» واليوتوبي الواقعي. والمهم هو التوحيد بين التعقيل والحماس — أي الخيال في حالة الفعل — وتوجيههما نحو الأمل المتطور المدروس. وتعد الماركسية نظرًا وتطبيقًا هي الطريق الوحيد لتحقيق حلم العصر الذهبي، إنها لا تنسى الواقع، كما تفعل اليوتوبيات الاجتماعية، بل تطوره جدليًّا واقتصاديًّا وعلميًّا دون أن تتخلى عن التراث أو عن صور أحلام يقظته عن المستقبل، لأنها تخلصها من اغترابها القديم ومن تحولها إلى تأملاتٍ مجردة. فالماركسية هي التي تحقق مضامين الأمل وتضفي عليه الوجود العيني، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو المجتمع الخالي من الطبقات.١٤٨
ولا بد من التفرقة بين الأمل الذاتي — الذي يظل أملًا ذاتيًّا — والأمل الموضوعي وهو الأمل بالمعنى الصحيح الذي يتوسط النزوع التاريخي، كما يتم في العالم وعن طريقه ويتجه نحو هدفه، وهو تحقيق الإنسانية الاشتراكية. والفلسفة رحلةٌ جدليةٌ شجاعة تضع الأمل في المقدمة، الأمل في تحقيق الممكن والكشف عن المجهول، أي الأمل الموضوعي الواقعي المؤسس على معرفة الشروط الذاتية والموضوعية معرفةً دقيقة وعلى الإرادة الثورية التي توجهه وتكافح في سبيل تحقيقه. إنه أمل يرتبط بالمادة بحيث يتجاوز أرسطو وفهمه للمادة بكثير، وهو ليس كامنًا في الذرة المادية ولا هو مغلق فيها وإلا حال هذا دون تصور الوثبة الجدلية الكيفية ﻟ «ليس-بعد» نحو الجديد.١٤٩ وهنا يختلف الهدف والغاية المادية خلال العملية الجدلية عنهما في المذاهب الغائية الدينية التي تُفترَض قبليا من منظور العناية الإلهية والحقيقة النهائية. وبذلك يكون عصب المفهوم التاريخي الصحيح هو الجديد، وعصب المفهوم الفلسفي الصحيح هو الجديد الأفضل، وكلاهما غير متحقق في الأنطولوجيات الثابتة للماهيات الثابتة. هذا بالإضافة إلى أن عيب كل الفلسفات الميتافيزيقية السابقة على ماركس أنها تأملية وأنها تتجاهل حقيقة المادة الأساسية وهي أنها مادةٌ متجهة إلى الإمام.١٥٠
هكذا وجد بلوخ أن الماركسية هي فقط المعنية بتحقيق الهدف النهائي للأمل وهي الفلسفة الوحيدة القادرة على تحقيق الحلم اليوتوبي والوصول به إلى غايته المنشودة إلى مملكة الحرية. وقد ظل على رأيه حتى مات ١٩٧٧م ولم يشهد انهيار المعسكر الاشتراكي في أواخر عام ١٩٨٩م، إلا أنه استشعر بداية النهاية. ونزعته التفاؤلية وإصراره على الأمل حتى اللحظة الأخيرة لم يحجبا عنه رؤية الواقع الفعلي وتجاربه المريرة، فما كان منه إلا أن طرح هذا السؤال: «هل يمكن أن يخيب الأمل في الأمل؟»١٥١ إنه سؤال تفرضه الأمثلة العديدة التي يقدمها التاريخ على اليأس والإحباط بعد هزيمة الإرادة الثورية على المستوى الفردي والجماعي في مختلف العصور التاريخية. وقد وجد بلوخ أن السؤال لا يزال معاصرًا إلى أبعد حد بعد أن رأى مع الزمن أن البداية العظيمة قد وقعت في أيدٍ صغيرة، غير أنه لم يتخلَّ عن «الأمل» ولم يفرط في الهدف، وإنما وضع في حسابه الحواجز والانحرافات التي تقف في طريقهما، وأخطار الفشل والانتكاس الذي يهددهما. بل إنه لم يعد يقتصر على «اللا» الكامنة في الصيغة الأنطولوجية والشعورية التي أسس عليها فلسفته، وهي وجود اﻟ «ليس-بعد» أو الوجود الذي لم يتحقق بعدُ، وإنما أخذ يفكر في «العدم» أو قوة السلب المطلقة التي تقضي على الأمل وتعوق الطريق إلى الهدف إن لم تدمره تدميرًا. بيد أن خيبة الأمل التي درس أسبابها واستقصى أنواعها لا تصدر عن يأس أو قلقٍ وجودي، لذلك ازداد تمسكًا بالأمل والنضال في سبيل تحقيق الهدف الذي بدا له بعيدًا وإن لم يكن مستبعدًا ولا مستحيلًا؛ إذ لولا التمسك به لما وجد على الإطلاق. وإذا كان بلوخ يؤكد دور العامل الذاتي في تحقيق هذا الهدف، فإن عينه لم تغفل عن المصاعب الموضوعية التي تواجه تحقيق الأمل المتجدد دون أن تؤدي به إلى اليأس.

اقتضت الضرورة طرح هذا السؤال الذي فرضته الأحداث: هل يمكن أن يخيب الأمل أو هل يمكن أن تخيب أساليبه؟ إن هذا أمر شائع ومتكرر، فأي حياةٍ مملوءةٌ بأحلام لم تتحقق، هذا أمر لا بد منه بالنسبة للتفكير الذي يقتصر على التمني وإقامة قصور في الهواء لا أساس لها ترتكز عليه؛ ذلك أن مثل هذا التفكير يتلذذ بنفسه ولا يسأل فيه عن الواقع. كذلك أحلام اليقظة العامة كم سبحت دون أن تنزل في الماء! وكم غرر بالشباب مثل هذا الأمل! فكانت خيبة الأمل التي أعقبته هي الشيء الحقيقي فيه. من الأرجح أن أحلام اليقظة وحدها تؤدي دائمًا إلى خيبة الأمل، سواء كانت أحلامًا خاصة أو عامة. ولكن هل الأمل القائم على أساس، ويقوم بدور «التوسط» لهدفٍ حقيقي يبشر به، يختلف عن الأمل السالف الذكر؟ مثل هذا الأمل الأخير يمكن بل يتحتم أن يخيب لأنه كان نوعًا من التمني والاسترسال وراء أحلام اليقظة، ولم يقم على أي أساسٍ موضوعي، فهو أمل يختلف تمامًا عن ذلك الذي يعتمد على الوعي الكافي بالإمكانات والنزعات الكامنة في الواقع.

ولهذا يمكن أن يخيب الأمل في الأمل، أولًا، لأنه منفتح على الأمام (الآتي والمستقبل) ولا يقصد الحاضر. ولأنه دائمًا في حالة عدم تحدُّد ويهتم بما هو متغير لا بتكرار ما هو قائم، فإنه ينطوي على عنصر الصدفة الذي يجب أن يحسب حسابه. ثانيًا، من الممكن أن يخيب الأمل في الأمل لأنه — باعتباره توسطًا عينيًّا — لا يتعامل مع وقائعَ ثابتةٍ أو جامدة. فما يسمى وقائعُ ثابتة إما أن تكون الذات قد شيَّأتها، أو تعتبر من الناحية الموضوعية مرحلة توقف للمسار التاريخي، بيد أن هذا المسار التاريخي جدليٌّ مستمر وليس فيه واقعةٌ ثابتة. ولهذا يبقى الأمل كعاطفة مع الخوف المتعلق به، كما يبقى الأمل كمنهج في مجال اﻟ «ليس-بعد»، أي في مجال لا يتحدد فيه تحققه ولا امتلاؤه بالمضمون. ومعنى هذا بعبارةٍ أخرى أن الأمل ينطوي على احتمال إفساده وإبطاله؛ إذ إنه ليس ضمانًا موثوقًا به، لأن فيه ما في العملية التاريخية والكونية نفسها من عدم تحدُّد، فلا هي تبطل تمامًا ولا هي تكسب تمامًا. ولهذا كله ينتمي الأمل للإمكان الموضوعي والواقعي الذي يطوق الواقع السائد تطويق الخطر والنجاة الممكنة معًا. ذلك الممكن هو المشروط جزئيًّا لا كليًّا مثل الوجود الواقعي الراهن، وعدم الضمان هذا لا يعني عدم الثقة والاطمئنان التام الذي يجعل كل ممكن وكل انتظار نوعًا من اللامعقول الذي يناقض الشروط الجزئية القائمة في عالم الإمكان الموضوعي والواقعي. وحتى لو أضيفت العوامل الذاتية إلى المعرفة الموضوعية بالشروط القائمة، فإن الأمل لا يفقد طابع «عدم الضمان» الذي يميزه.١٥٢
وهنا تعترف اليوتوبيا الواقعية بأنها على الطريق، هذا الطريق الذي توجد عليه ماهية العالم التي تمكنه أن يتحقق بعيدًا عن الشك، ولهذا لا تدعي مثل هذه اليوتوبيا الكمال طالما أنها تظل معلقة بخيبة الأمل وانعدام كل ثقة وضمان، ثم ألا يؤكد الواقع نفسه — حتى لو كانت مضامينه كلها قد تحققت — أنه لم يصل إلى مستوى الكمال الذي كان يُرجي له قبل تحققه؟ وإذا كانت خيبة الأمل لا يخلو منها الواقع الذي تحقق منه القليل، فإن هذا مما يؤكد الطموح الوجودي والماهوي للأمل. إن خيبة الأمل تتعلم من الخسائر والأضرار التي تحيق بها، وتزداد فطنةً بالانتباه إلى النزوع الكامن في الوقائع المزعومة التي تظل في حالة صيرورة. ولكنها من ناحيةٍ أخرى لا تتعلم منها، إذ إن «الأمل المؤسس» لن يقنع بأي واقع بل سيدينه على أساس أنه لم يحقق الجوهر الكامن أو مضمون الهدف الذي كان ينزع إليه الموجود الواقعي، وإنما شوَّهه أو وضع عليه قناعًا، ولذلك، فإن هذا الموجود سيدان من اليوتوبيا المؤسسة، وكم ستزيد هذه الإدانة إذا كان هذا الهدف — وهو الإنسانية الواقعية — لا يزال في حيز الإمكان أو مجال اﻟ «ليس-بعد» ثم إذا كان الواقع الذي يدَّعي أنه يعبر عن الوجود الحقيقي — أو عن ذلك الهدف — أبعد ما يكون عن الإنسانية بل ضدها.١٥٣
على وجه الإجمال ومصداقًا لعبارة اسبينوزا إن الحق ليس دليلًا على نفسه فحسب، بل هو دليل على الكذب أيضًا. فإن خيبة الأمل لا تتعلق بتحقق الواقع تحققًا جزئيًّا لا يعبر عن النزوع الكامن فيه، وإنما تتعلق خيبة الأمل الحقيقية بالأمل بحكم أنها ترفض الواقع المشوَّه إلى حد عدم القدرة على التعرف عليه، وبحكم أن الأمل، ومضمون الهدف الذي يسعى إليه، وهو «مملكة الحرية»، يفرض واجبه عليه أن يكون مقياسًا للحكم على ذلك الواقع المشوَّه وإدانته. يقينًا ستساعد التحليلات الاقتصادية-الاجتماعية على النفاذ إلى أصل هذا الواقع المشوَّه. ولكن لا بد أن يكون «الكل» اليوتوبي أو الهدف حاضرًا فيها ولا يغيب عنها. وهذا الهدف الكلي نفسه موجود في أقدم حلم يقظة حلمته البشرية، وهو قلب كل الظروف التي يكون فيها الإنسان كائنًا مهانًا ومحتقرًا ومهجورًا ومستعبدًا. وكون هذه العبارة جاءت على لسان ماركس يجعلها تصلح أن تكون شعارًا للأمل، ولما كانت قوة اليوتوبيا المؤسسة في إصرارها على النضال، فإن هذا على التحديد هو مصدر خيبة أملها في النتيجة التي انتهت إليها، وهذا بالضبط هو المقياس الذي يجعلها محصنة من خيبة الأمل. وكما كان تولستوي وتذكيره بالمسيحية الأولى مزعجًا للقيصر فإن التذكير بروزا لوكسمبرج أو بالذين تشبثوا بمبادئ الاشتراكية الإنسانية مزعج للذين أوصلوا الاشتراكية إلى ما وصلت إليه. إذن فالأمل كمقياس لذاته لا يمكن أن يكون سببًا في خيبة الأمل، وكذلك فإن الالتزام به — أي بالأمل — لا يمكن أن يكون سببًا فيه. ولو كان من الممكن القضاء عليه — أي على الأمل — لما أصبح في نظر أعدائه شيئًا غير محتمل (أي أعدائه من أصحاب السلطة الذين جنوا على الاشتراكية الإنسانية والمسئولين عن نقيضها) والأمر هنا شبيه بالعبقري والعبقرية في تاريخ البشرية، فلو كان من الممكن القضاء عليها لما وجد عبقري أبدًا.١٥٤
ليس هناك ما هو أكثر إنسانيةً من تجاوز ما هو كائن. ومن المعروف منذ القدم أن زهور الأحلام لم تنضج ثمراتها إلا فيما ندر. والأمل — الذي امتحن بتجاربَ طويلة — يعرف هذا أكثر من غيره، ولهذا لم يبلغ أبدًا حد اليقين المطمئن. وهو لا يعرف فقط — بحكم تعريفه — إنه حيث يكون الخطر تظهر النجاة منه، كما يقول هولدرلين، وإنما يعرف أيضًا أنه حيث تكون النجاة أو الخلاص يكون الخطر. إنه يعلم أن الإفساد يجوس في العالم مؤديًا دور العدم، وإن العبث كامن داخل الإمكان الموضوعي والواقعي الذي يطوي النعيم كما يطوي البلاء. إن صيرورة العالم لم تكتسب تمامًا، كما أنها لم يُقضَ عليها القضاء التام، والبشر يمكنهم أن يكونوا الحراس على هذا الطريق الذي لم يحسم بعدُ. ويبقى العالم في مجموعه هو معمل الخلاص الممكن. ولهذا يمكن القول على لسان هيراقليطس: إن من لا يأمل في البعيد المستبعد، لا يمكنه أن يعثر عليه. إن الوجود الإنساني، بالمعنى المتعالي الذي يقوم عليه، هو التجاوز. وهذا القول يتفق مع الكرامة الإنسانية، كما يفتح الأبواب على بحر الإمكانيات الواقعية-الموضوعية، وهو البحر الذي لن تستطيع الوضعية أن تجفف مياهه، ولن يستطيع التأمل المجرد أن يسبح فيه. هكذا يتطلب الأمل في المستقبل دراسةً جادة، لا تنسى المحنة ولا تنسى قبل ذلك الخروج منها. إن للتجاوز أشكالًا عديدة، وفلسفة الأمل المتجاوزة أو المتعالية بطبيعتها هي التي تجمع هذه الأشكال جميعًا وتفكر فيها مهتدية بقول «لوكريتوس»: «إنني إنسان، وما من شيءٍ إنساني غريب عليَّ.»١٥٥

الحق أن عرض بلوخ لليوتوبيات بصفةٍ عامة، سواء التاريخية منها أو الاجتماعية، إنما جاء بهدفٍ واضح ومحدد وهو إلقاء الضوء على الجوانب التي يشرق منها الأمل في هذه اليوتوبيات، والمواضيع التي تستشرف الجديد وتتطلع إلى المستقبل. وبمعنًى آخر يمكن القول بأن هدفه هو تحديد ما هو تاريخي منها وما هو غير تاريخي أيضًا، فكأنه عرضٌ تمهيديٌّ موجَّه لما يريد أن يؤكده في نهاية الأمر، وهو أن كل هذا التفكير ما هو إلا خطوة أو — بمعنًى أدق — خطوات قطعتها البشرية طوال تاريخها لكي تتوج في النهاية بتاجٍ ماركسي — بما يوحى إلى حدٍّ كبير بإيمانه بأن التطور التاريخي لا بد أن ينتهي إلى الماركسية حتى ولو كانت ماركسيةً مفتوحة إلى ما لا نهاية على المستقبل كما يفترض — في حين أن بلوخ نفسه لا يؤمن بالمقولة الماركسية المزعومة عن حتمية التطور التاريخي. والحقيقة أن عدم إيمان بلوخ بهذه المقولة إنما يتَّسق تمامًا مع نسقه الفلسفي وجدله المفتوح الذي يتحدث عن نزوعٍ ممكن أو كامن لم يتقرر بعدُ، ويستحيل أن يوجد في هذا النسق المفتوح علةٌ ثابتة تسبب نتيجةً محددة، كما تصور بعض المنظرين الماركسيين. لقد زعم هؤلاء أن العلِّية الاقتصادية هي التي تسبب الحتمية التاريخية، لأن هذه الحتمية تعني أن النتيجة موجودة وجودًا مسبقًا في العلة ولا بد أن تنتج عنها، وهو الأمر الذي أدى بهم إلى القطع بالحتمية الاشتراكية كنتيجةٍ ضرورية لما سموه بالحتمية التاريخية. صحيح أنه لا بد من توافر جميع الشروط لإمكان ظهور الجديد في المستقبل، ولكن هذه الشروط ليست عللًا تتسبب في إحداث نتائجَ ضرورية، لأن توافر الشروط الضرورية «يمكن» أن يسبب النتيجة المتوقَّعة، ولكن ليس ثمة ضرورةٌ ملزمة لذلك. إن الجديد يمكن أن يظهر، ولكن ليس حتمًا أن يظهر، والعملية التاريخية يمكن أن تنجح وتؤدي إلى تحقيق الخير، كما يمكن أن تفشل وتنتهي إلى العدم أو الكارثة. وهذا ما يتفق تمامًا — في رأينا — مع فلسفة بلوخ. ولكن كيف يستقيم هذا التحليل — الذي يقبله منطق العقل والجدل، ويؤمن به بلوخ نفسه — مع تأكيده في مواضعَ عديدة على أن الماركسية هي بالضرورة الحل الذي ينتهي إليه رفع الاغتراب بين الذات والموضوع؟ أليس في هذا نوع من الحتمية التاريخية التي لا تبعد كثيرًا عما تفترضه الماركسية الرسمية؟ ألا يتناقض هذا مع التوجه العام لهذه الفلسفة المفتوحة على المستقبل اللانهائي غير محدد المعالم؟ ربما يكون هذا التناقض بالإضافة إلى تناقضاتٍ أخرى أشرنا إليها في موضعها من الأمور التي تُوقِعنا في دائرة الحيرة أمام هذا النسق الفلسفي الضخم الذي ما زال في حاجة إلى دراساتٍ تفصيلية لفك الكثير من غموضه ورموزه.

يضاف إلى ما سبق أن اليوتوبيا العينية التي نسبها بلوخ إلى الماركسية وحدها دون سائر اليوتوبيات ليست في حقيقة الأمر سوى يوتوبيا بلوخ نفسه. فمن المعروف أن ماركس يرفض التفكير اليوتوبي من أساسه لأنه بتحقيق المجتمع الشيوعي — الذي زعم أنه خاتمة المطاف التاريخي — ينتفي أي تفكيرٍ يوتوبي باعتباره فكرًا متحققًا بالفعل. فكيف يمكن — بهذا المعنى — أن ينسب للماركسية يوتوبيا لم تتحقق بعدُ؟ هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن القول إنه على الرغم من استعمال بلوخ للعديد من المقولات الماركسية، إلا أنه قدم اليوتوبيا العينية بمفرادت نسقه الفلسفي الخاص ومقولاته الأساسية، كأنطولوجيا الإمكان واﻟ «ليس-بعد» و«الكل» اليوتوبي … إلخ بحيث يصعب فهم هذه اليوتوبيا العينية بغير تلك المفردات الخاصة ببلوخ نفسه لا بمفردات ماركس والماركسيين التقليديين. كما يمكن الانتهاء إلى حقيقةٍ هامة، وهي أنه على الرغم من أن بلوخ يعتبر نفسه فيلسوفًا ماركسيًّا وكثيرًا ما يستشهد بنصوص ماركس، إلا أنه لم يأخذ من الماركسية سوى منهجها النقدي وأسقط معظم مقولاتها التقليدية والحرفية المعروفة، بحيث يمكن القول بأنه اتخذ من الماركسية مدخلًا لفلسفته الخاصة أو ﻟ «بلوخيته» — إذا جاز هذا التعبير — أي مدخلًا لماركسيةٍ جديدة هي فلسفة بلوخ نفسه، ماركسية لها مقولاتٌ أخرى مختلفة عن تلك التي أسسها كارل ماركس، بحيث تصبح هذه الأخيرة مجرد حالةٍ خاصة داخل إطارها الأوسع والأشمل. وعلى الرغم من ذلك فإن يوتوبياه ظلت في نطاق الحلم العاطفي الغامض، فقد قدم نسقًا نظريًّا هائلًا ولكنه لم يقدم تخطيطًا مدروسًا لمعالم مجتمعٍ مدنيٍّ إنسانيٍّ مثالي يمكن أن يكون هو الوطن للبشر جميعًا وتختفي معه كل أخطار الحروب والدمار والتلوث. ويمكن القول إن اليوتوبيا العينية التي مهد لها بدراساته الضخمة لتاريخ الأمل وتجلياته لم تأتِ بصورةٍ عينية كما كان متوقعًا منه.

١  Merson, L. Roger: Dictionary of the history of ideas. Studies of selected pivotal ideas. Edit by philip p. Wiener Article utopia. New York. Charles scribner’s suns. 1973. p. 459.
٢  Bloch: p. of H. VII p. 48.
٣  أفلاطون، الجمهورية، ترجمة د. فؤاد زكريا، مراجعة د. محمد سليم سالم، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، الكتاب العاشر (٦٢٠)، ص٣٩٥.
٤  Berneri, Marie Louise: Journey through Utopia, Foreword by Gerorge Woodcock. New York, Schocken Books, 1971. p. 34.
٥  Ibid: p. 35.
٦  أفلاطون، الجمهورية، الترجمة العربية، الكتاب الأول (٣٥٣)، ص٣٨.
٧  المرجع السابق، الكتاب الرابع (٣٤٥)، ص١٤١.
٨  أفلاطون، الجمهورية، الترجمة العربية، الكتاب الثالث (٤١٥)، ص١١٥-١١٦.
٩  المرجع السابق، الكتاب الثاني (٣٧٧)، ص٦٦.
١٠  المرجع السابق، ص٦٦.
١١  المرجع السابق، الكتاب الثاني (٣٧٨)، ص٦٢.
١٢  المرجع السابق، (٥٥٠)، ص٢٩٥.
١٣  المرجع السابق، (٥٥١)، ص٢٩٧.
١٤  المرجع السابق، (٥٥٧)، ص٣٠٦.
١٥  المرجع السابق، (٥٦٣)، ص٣١٥.
١٦  المرجع السابق، (٥٦٧)، ص٣٢٠.
١٧  Emerson, L. Roger: Dictionary of the history of ideas p. 459.
١٨  أفلاطون، المرجع السابق، الكتاب الخامس (٤٦٩)، ص١٨٦.
١٩  Bloch: p. of H. VII. p. 484.
٢٠  عبد العزيز لبيب، الأيطوبيا والأيطوبيات، ص١٢١.
٢١  Iamboulos: وضع «جزيرة الشمس» على شكل رواية تتكون عناصرها الأساسية من إلغاء الملكية، وتقسيم العمل وإلغاء العبيد، كان لها أثرٌ كبير على يوتوبيات عصر النهضة — بعد ترجمة شذرات منها إلى الإيطالية والفرنسية — وبخاصة على توماسو كامبانيلا الذي لم يتأثر فقط بعنوانها بل أيضًا بمبدئها الاشتراكي الذي يقوم على هيمنة الدولة. C. F. Bloch: p. of H. VII. p. 488–491.
٢٢  عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، القاهرة، مكتبة النهضة العربية، ١٩٠٩م، ص٢٢٢.
٢٣  عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، القاهرة، مكتبة النهضة العربية، ١٩٥٩م، ص٢٢٢.
٢٤  عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، ٢٣٣-٢٢٤.
٢٥  Bloch: p. of H. VII. p. 496.
٢٦  الملوك الأول، ١٨: ٢، الكتاب المقدس.
٢٧  الملوك الأول، ١٠: ٢٧، المرجع السابق.
٢٨  إشعياء، ١٣: ١١ وما بعدها، المرجع السابق.
٢٩  إشعياء، ٥٥: ١، المرجع السابق.
٣٠  إشعياء، ٢: ٤؛ وميخا، ٤: ٣ وما بعدها، المرجع السابق.
٣١  متى، ٣: ١٠، المرجع السابق.
٣٢  متى، ٣: ١٢، المرجع السابق.
٣٣  الفريسيون: طائفة من اليهود على عهد المسيح عرفت بتمسكها بالطقوس والتقوى الكاذبة وهم المتظاهرون بالصلاح.
٣٤  Bloch: p. of H. VII. p. 499.
٣٥  يوحنا، ١٨: ٣٦، الكتاب المقدس.
٣٦  متى، ١٢: ٣٢، المرجع السابق.
٣٧  إشعياء، ٦٥: ١٧، المرجع السابق.
٣٨  يوحنا، ٨: ٤٤، المرجع السابق.
٣٩  متى، ١٠: ٣٤، المرجع السابق.
٤٠  متى، ٢٤: ٢، المرجع السابق.
٤١  Bloch: p. of H. VII. p. 500-501.
٤٢  Ibid: p. 505.
٤٣  Edwards, Paul (editor): The Encyclopedia of Philosophy article Augustine V. I. p. 204.
٤٤  Ibid: p. 206.
٤٥  Bloch: p. of H. VII. p. 507.
٤٦  Edwards, Paul (editor): Ibid: p. 205.
٤٧  Augustine (St): The City of God. An abridged version from Translation by Gerald G. Walsh and Others. Edited with an introduction by vernon J. Bourke New York ImaGE Books 1985. Iv, 4. 88.
٤٨  Ibid: V. 16. p. 113.
٤٩  Ibid: xxll, 30. p. 453.
٥٠  Bloch: p. of H. VII p. 508.
٥١  Joachim of Fiore: لاهوتيٌّ صوفيٌّ إيطالي وفيلسوف تاريخ، ولد عام ١١٣٥م في تشيليكوفي مقاطعة كالابريا (بإيطاليا) ومات عام ١٢٠٢م في فيورا، وضع فلسفةً صوفية للتاريخ تأثر فيها بتيارات المسيحانية الموجودة في عصره، وأهم مؤلفاته «مملكة الروح القدس».
٥٢  Bloch: Ibid: p. 509.
٥٣  Ibid: p. 510.
٥٤  Ibid: p. 510-511.
٥٥  بلوخ: فلسفة عصر النهضة، الترجمة العربية، ص١١.
٥٦  Nicola de Cusa: كاردينال ألماني، فيلسوف ومتصوف، ورجل سياسة ودولة. كرَّس نفسه لمشروعه الكبير في التوفيق بين المسيحيين والمسلمين وتوحيدهم، وأقام فكره على حقيقةٍ أساسية تقول بالطبيعة الإلهية للبشر؛ مما جعل الإنسان مركزًا للعالم (انظر المرجع السابق، مقدمة المترجم، ص١٤-١٥).
٥٧  Emerson, L. Roger: Dictionary of the history of ideas article Utopia p. 461.
٥٨  Erasmus: من أعظم رجال النزعة الإنسانية وعصر النهضة في أوروبا، توطدت علاقته بكبار أصحاب النزعة الإنسانية في أوروبا وخصوصًا توماس مور. ولما قامت حركة الإصلاح الديني على يد لوثر، اهتمَّ بها لكنه رأى خطرها على الفكر والثقافة الإنسانية ولهذا حاربها. دعاه ملك إنجلترا إلى بلاطه، وفي أثناء رحلته ألف كتابه الشهير «مدح الحماقة». ثم دعاه عاهل الأراضي الواطئه وعيَّنه مستشارًا للملك، بيد أنه لم يشارك في السياسة لأنه كرس نفسه لأمور الفكر وحدها (عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ج١، ص٩٧).
٥٩  Berneri, Marie Louise: Journey Through Utopia p. 61.
٦٠  مور، توماس: يوتوبيا، ترجمة د. إنجيل بطرس سمعان، القاهرة، دار المعارف ١٩٧٤م، ص٦١.
٦١  المرجع السابق، ص١٥١.
٦٢  Bloch: p. of H. V. II. p. 519-520.
٦٣  مور، توماس: المرجع السابق، ص١٣٣–١٣٥.
٦٤  المرجع السابق، ص٢٢٨-٢٢٩.
٦٥  المرجع السابق، ص٢٢٩.
٦٦  Bloch: Ibid: p. 522.
٦٧  بلوخ: فلسفة عصر النهضة، الترجمة العربية، ص٧٢.
٦٨  انظر تفاصيل الجانب التقني من يوتوبيا كامبانيلا في الفصل السابق.
٦٩  Berneri, L. Marie: Journey Through Utopia p. 89-90.
٧٠  Ibid: p. 93.
٧١  Campanella, Tommaso: City of the sun in famous Utopias of the Renaissance, Introduction and Notes by Frederic R. White New York Hendricks House, fifth printing 1955. p. 161.
٧٢  Ibid: p. 179.
٧٣  Bloch: p. of H. V. II p. 534.
٧٤  يستخدم الألمان هذا المصطلح Naturrecht عند حديثهم عن فلاسفة الحق الطبيعي مثل التوسيوس وجروسيوس وهوبز … إلخ. أما الإنجليز فيستخدمون مصطلح Natural law للدلالة على نفس المعنى، وقد تُرجم المصطلح الألماني في كتاب بلوخ «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» بالقانون الطبيعي، أما في مبدأ الأمل فقد حرص مترجموه إلى اللغة الإنجليزية على المصطلح الألماني فجعلوه الحق الطبيعي Natural right ولذلك لزم التنويه.
٧٥  Bloch: Natural law and Human Dignity trans. by Dennis J. Schmidt. England, the Mit press, 1986. p. 204-205.
٧٦  Ibid: p. 205.
٧٧  بلوخ: فلسفة عصر النهضة، الترجمة العربية، ص١٢٤.
٧٨  المرجع السابق، ص١٣١-١٣٢.
٧٩  المرجع السابق، ص١٣٧.
٨٠  المرجع السابق، ص١٣٧.
٨١  المرجع السابق، ص١٣٨.
٨٢  Bloch: p. of H. VII. p. 537.
٨٣  Bloch: Natural law and Human Dignity p. 62.
٨٤  روسو، جان جاك: العقد الاجتماعي، ترجمة ذوقان قرقوط، بيروت، دار القلم د.ت، الكتاب الثالث، الفصل الخامس عشر، ص١٥٥.
٨٥  Bloch: Natural law and Human Dignity p. 62.
٨٦  باومر ل. فرانكلين: الفكر الأوروبي الحديث، الترجمة العربية، ج٢، ص١١٢.
٨٧  روسو، جان جاك: العقد الاجتماعي، الترجمة العربية، ١، ٦، ص٥.
٨٨  Bloch: Natural law and Human Dignity p. 63.
٨٩  روسو، جان جاك: أميل، ترجمة د. نظمي لوقا، قدَّم له الأستاذ أحمد زكي محمد، القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، ط١، ١٩٥٨م، ص٣٨٨.
٩٠  Bloch: p. of H. VII. p. 539.
٩١  Ibid: p. 545.
٩٢  Bloch: Natural law and Human Dignity p. 506–207.
٩٣  Ibid: p. 191.
٩٤  Ibid: p. 186.
٩٥  Ibid: p. 199.
٩٦  Ibid: p. 207.
٩٧  Ibid: p. 200-201.
٩٨  Ibid: p. 195.
٩٩  Ibid: p. 192.
١٠٠  باومر ل. فرانكلن: الفكر الأوربي الحديث، الترجمة العربية، ج٣، ص١٥٤
١٠١  Emerson, L. Roger: Dictionary of history of ideas p. 462.
١٠٢  Berneri, Marie Louise: Journey through Utopia p. 207.
١٠٣  Ibid: p. 208.
١٠٤  Ibid: p. 211.
١٠٥  Bloch: p. of H. VII. p. 557-558.
١٠٦  تتكون الكلمة من Phalange وتعني التجمع أو الجماعة، وكلمة monastere وتعني الدير، وتدل على الوحدة الاجتماعية التي سيتألف منها المجتمع الجديد.
١٠٧  Bloch: Ibid: p. 558-559.
١٠٨  Ibid: p. 561.
١٠٩  Berneri, Marie Louise: Journey through Utopia. p. 224.
١١٠  Bloch: p. of H. VII.p. 562.
١١١  محمد طلعت عيسى، أتباع سان سيمون، فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، القاهرة، مطبعة جامعة القاهرة، ١٩٦٣م، ص١٢.
١١٢  المرجع السابق، ص١٢.
١١٣  المرجع السابق، ص١٢-١٣.
١١٤  Bloch: Ibid: p. 567.
١١٥  أسعد عبد الرحمن: المنظمة الصهيونية العالمية (تنظيمها وأعمالها ١٨٩٧–١٩٤٨م) بيروت، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، ص١٧.
١١٦  Bloch: p. of H. VII. p. 601.
١١٧  Ibid: p. 602.
١١٨  محمد خليفة حسن أحمد: دراسات في تاريخ الشعوب السامية القديمة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥م، ص١٧.
١١٩  Bloch: p. of H. VII. p. 603.
١٢٠  أسعد عبد الرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية، ص٢٠-٢١.
١٢١  Bloch: p. of H. VII. p. 603.
١٢٢  Ibid: p. 607.
١٢٣  أديب ديمتري: الماركسية والدولة الصهيونية (الوجود والكيان)، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط١، ١٩٧١م، ص٦٨.
١٢٤  Bloch: Ibid: p. 609.
١٢٥  أديب ديمتري، المرجع السابق، ص٤٤-٤٥.
١٢٦  Bloch: p. of H. VII. p. 609-610.
١٢٧  إشعياء، ٤٢: ١، الكتاب المقدس.
١٢٨  إشعياء، ٤٢: ٧، المرجع السابق.
١٢٩  إشعياء، ٩: ١١، المرجع السابق.
١٣٠  Bloch: Ibid: p. 610-611.
١٣١  Ibid: p. 578-579.
١٣٢  Ibid: p. 579.
١٣٣  Ibid: p. 580.
١٣٤  Ibid: p. 583.
١٣٥  Ibid: p. 620.
١٣٦  Ibid: p. 622.
١٣٧  Ibid: p. 620.
١٣٨  Ibid: p. 624.
١٣٩  ماركس وإنجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة جورج طرابيشي، دمشق للطباعة والنشر، ط٢، ١٩٦٦م، ص٤١-٤٢.
١٤٠  Bloch: Ibid: 1354–1357.
١٤١  Ibid: p. 1358-1359.
١٤٢  Ibid: p. 1362.
١٤٣  Ibid: p. 1363.
١٤٤  Ibid: p. 1363.
١٤٥  Ibid: p. 1364.
١٤٦  Ibid: p. 1364.
١٤٧  Ibid: p. 1365.
١٤٨  Ibid: p. 1370.
١٤٩  Ibid: p. 1372-1373.
١٥٠  Ibid: p. 1374.
١٥١  هو عنوان المحاضرة الافتتاحية التي بدأ بها التدريس عام ١٩٦١م في جامعة توبنجن بعد لجوئه إلى ألمانيا الغربية، وقد نشرها هانزهاينس هولتس في كتابه مختارات من بلوخ.
١٥٢  Holz, Hans Heinz: Ernst Bloch, S. 178.
١٥٣  Ibid: S. 179.
١٥٤  Ibid: S. 180-181.
١٥٥  Ibid: S. 181.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤