باب المنظوم

(١) أبو نواس

كان أبو نواس١ ينادم ولد المهدي ويلازمهم، فلم يُلْف مع أحد من الناس غيرهم، ثم نادم القاسم بن الرشيد ولقي منه أشياء كرهها وكُرهت له، ففارقه.

ثم جلس أبو نواس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة، فأقبل الناشئ على أبيه هانئ وقال له: إن عاش ابنك هذا وقال الشعر ليقولنَّه بلسانٍ شتوم.

ثم اتصل بوالبة بن الحباب الأسدي، لقيه بدار النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور، فقال له والبة: إني أرى فيك مخايل فلاح، وأرى أنك لا تضيعها، وستقول الشعر وتعلو فيه، فاصحبني حتى أخرِّجك؛ فقال: ومن أنت؟ قال: أبو أسامة. قال: والبة؟ قال: نعم. قال: أنا والله — جُعلت فداك — في طلبك، وقد أردت الخروج إلى الكوفة وإلى بغداد من أجلك! قال: ولماذا؟ قال: شهوة للقائك ولأبيات سمعتها لك. قال: وما هي؟ فأنشده:

ولها ولا ذنبٌ لها
حبٌّ كأطرافِ الرِّماحِ
جرحتْ فؤادي بالهوى
فالقلبُ مجروح النواحي
سلَّ الخليفةُ صارمًا
هو للفساد وللصلاحِ
أجداه كفُّ أبي الوليـ
ـد يدًا مُبَارِية الرياحِ
ألقى بجانب خَصْره
أمضَى من الأجل المُتَاحِ
وكأنما ذَرَّ الهبا
ءَ عليه أنفاسُ الرياح

فمضى معه، ثم سأله أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام بالبادية سنة؛ ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد.

وكان أبو نواس متكلمًا جدلًا راوية فحلًا، رقيق الطبع ثابت الفهم في الكلام اللطيف. ويدل على معرفته بالكلام أشياءُ من شعره، منها قوله:

وذاتِ خد مورَّد
قوهيَّة المتجرَّدْ
تأمل العينُ منها
محاسنًا ليس تنفَدْ
فبعضه قد تناهى
وبعضه يتولد
والحسن في كل شيء
منها معاد مردد

ومنها قوله:

يا عاقدَ القلب عنِّي
هلا تذكرتَ حلَّا
تركتَ غيي قليلًا
من القليل أقلَّا
يكاد لا يتجزَّى
أقلَّ في اللفظ مِنْ لا

ومنها قوله في امرأة اسمها حُسن:

إن اسم حُسنْ لوجهها صفةٌ
ولا أَرَى ذا في غيرها جُمِعَا
فهي إذا سُمِّيت فقد وُصِفتْ
فيجمعُ الاسم معنييْن معا

ومن قوله فيما يتعلق بالحكمة:

قل لزُهَير إذا حدَا رشَدًا
أقللْ أوَ أكثِرْ فأنت مِهْذارُ
سخُنْتَ من شدَّة البرودة حتَّى
صرتَ عندي كأنَّك النارُ
لا يعجَبِ السامعون من صفتي
كذلك الثلجُ باردٌ حارُ

هذا شيء أخذه أبو نواس من مذهب حكماء الهند، فإنهم يقولون: إن الشيء إذا أفرط في البرودة انقلب حارًّا، وقالوا: إن الصندل يحك منه اليسير فيبرد، فإذا أكثر منه سخن.

قالوا: كان أبو نواس دعيًّا يخلط في دعوته. فمن ذلك قوله يهجو عرب البصرة:

ألا كل بصريٍّ يرى أنما العُلا
مُكَمَّهَة سُحْقٌ لهنَّ جَرِينُ٢
فإن تغرِسُوا نخلًا فإن غِرَاسَنا
ضِرابٌ وطعنٌ في النحور سَخِينُ
فإن أكُ بصريًّا فإن مُهاجري
دِمَشقُ ولكنَّ الحديثَ فنونُ
مجاورَ قوم ليس بيني وبينهم
أواصرُ إلا دعوةٌ وظنونُ
إذا ما دعا باسمي العريف أجبتُه
إلى دعوة مما عليَّ تَهُون

ثم هجا اليمن في هذه القصيدة بقوله:

لأزْد عُمَانٍ بالمهلَّب نَزوةٌ
إذا افتخر الأقوام ثمَّ تلينُ
وبَكر ترى أن النبوة أُنزلَت
على مِسْمَعٍ في الرِّحْم وهو جنينُ
وقالت تميمٌ لا نرى أن واحدًا
كأحنفنا حتَّى المماتِ يكونُ
فما لُمتُ قيسًا بعدها في قُتيبة
وفخرٍ به إن الفخار فنونُ

وإنما نشأ أبو نواس بالبصرة وليس له بدمشق قبل ولا بعد.

ومما هجا به اليمن أيضًا قوله لهاشم بن حُديج:

وردنا على هاشم مصرَهُ
فبارت تجارتنا عِندَه

يقول فيها:

رأيتك عند حضور الخِوا
ن شديدًا على العبد والعبده
وتحتدُّ حتى يخافَ الجليـ
ـس شَذاك عليه من الحدَّه
وتختم ذاك بفخرٍ عليه
بِكنْدةَ فاسلَحْ على كنده
فإن حُديجًا له هجرةٌ
ولكنَّها زمنَ الردَّه
وما كان إيمانكم بالرسول
سوى قتلكم صهرَه بعدَه
تُعدُّونها في مساعيكُم
كعدِّ الأهلَّة معتدَّه
وما كان قاتلُه في الرجال
بحمل لطهر ولا رِشده
فلو شهِدتْه قريشُ البِطا
ح لما مَحشت نارُكم جلدَه٣

وقوله أيضًا:

ما منك سلمى ولا أطلالها الدُّرُسُ
ولا نواطقُ من طير ولا خُرُس
يا هاشمُ بنَ حديج لو عددتَ أبا
مثلَ القَلَمَّس لم يعلَق بك الدَّنَس
إذ أصبح الملكُ النعمانُ وافدَه
ومن قُضاعَة أَسْرى عنده حُبُس
فابتاعهم بإخاءِ الدهر ما عَمِروا
فلم ينَلْ مثلَها من مثلهم أَنَسُ
أو رحت مثلَ حُوَىٍّ في مكارمه
هيهات منك حُوَىٍّ حينَ يُلْتَمَس
أو كالسَّمَوءل إذ طاف الهمامُ به
في جَحْفل لَجِبِ الأصواتِ يَرْتَجِس
فاختار ثُكْلًا ولم يَغْدِرْ بذمته
إذ قيل أَشْرِفْ تَرَ الأوداجَ تنبجسُ
ما زاد ذاك على تيهٍ خُصِصتَ به
وكيف بَعْدِل غيرَ السوءة الغَرَسُ

وقوله:

يا هاشمُ بنَ حُدَيج ليس فخركُم
بقتل صهرِ رسول الله بالسَّدَدِ
أدرجتمُ في إهاب العَيْر جثتَه
فبئَس ما قدَّمتْ أيديكُم لغدِ
إن تقتلوا ابنَ أبي بكر فقد قَتَلتْ
حُجْرًا بدارةِ مَلْحوبٍ بنو أسدِ
وطرَّدُوكم إلى الأجبال من أَجَأٍ
طردَ النَّعام إذا ما تاه في البلدِ
وقد أصاب شَرَاحيلًا أبو حَنَشٍ
يومَ الكُلَاب فما دافعتمُ بيدِ
ويوم قلتم لزيدٍ وهو يقتلكم
قتل الكلاب لقد أَبْرحتَ من ولدِ
وكلُّ كنديَّةٍ قالت لجارتها
والدمعُ ينهلُّ من مَثْنى ومنفرِدِ
أَلْهَى امرأَ القيس تشبيبٌ بغانية
عن ثأره وصفاتُ النَّوْء والوتدِ

وقد رثى أبو نواس خلفًا الأحمر بعد موته بقصائد من شعره، منها قصيدته التي أولها قوله:

لو كان حيٌّ وائلًا٤ من التَّلَفْ
لوألتْ شَغْواءُ في أعلى شَعَفْ
أمُّ فُرَيخ أحرزتْه في لَجَفْ٥
مُزَغَّبَ الأَلْغادِ لم يأكلْ بكفّ
كأنه مستقعَدٌ من الخَرَفْ
هاتيك أو عَصْماء في أعلى شرفْ
تَرُوغ في الطُّبَّاقِ٦ والنَّزْعِ الألفّ
أَوْدَى جِمَاعُ العلم مُذْ أودَى خَلَفْ
من لا يَعُدُّ العلم إلا ما عَرفْ
قَلْيَذَمٌ٧ من العَيَاليم الخُسُفْ
كنَّا متى نشاءُ منه نغترِفْ
روايةً لا تُجتنَى من الصحفْ

ومنها قوله يرثيه:

لا تَئِلُ العُصْمُ في الهضاب ولا
شَغْواء تَغْذُو فرخين في لَجَفِ
يُكِنُّها الجوُّ في النهار ويُؤ
ويها سَوادُ الدُّجَى إلى شَرَف
تحنو بُجؤْشُوشِها٨ على ضَرِم
كقِعْدة المنحني من الخَرَف
ولا شَبُوب٩ باتتْ تؤرِّقه النـ
ـنثْرةُ منها بوابِلٍ قَصِف
دانٍ على الأرِض والوَصِيد وفي
بَهْوٍ أمينِ الإيادِ ذي هَدَفِ١٠
ديدنُه ذاك طولَ ليلتِه
حتى إذا انجاب حاجبُ السَّدَف
غدا كوَقْف الهَلْوك ينهفتُ الـ
ـقِطْقِط١١ من مَنْبِتيه والكَتِفِ
كأن شَذْرًا وهتْ معاقدُه
بين صَلَاه فملعَب الشَّنَف
وأخدريٍّ صُلْب النَّوَاهق صَلْـ
ـصالٍ أمينِ الفُصُوص والوُظُفِ
منفرد في الفَلَاة تُوسعه
ريًّا وما يَخْتليه من عَلَف
ما ترك الموت من أولى شَبَحًا
بادتْ بتلك القِلَال والشَّعَف
لما رأيتُ المنونَ آخذةً
كلَّ شديدٍ وكلَّ ذي ضَعَفِ
بتُّ أُعَزِّي الفؤادَ عن خَلَفٍ
وبات دمعي إلَّا يَفِضْ يَكِفِ
أنسى الرَّزايا مَيِّتٌ فُجِعتُ به
أمسى رهينَ التُّراب في جَدَف
كان يُسَنِّي١٢ برِفقه غُلُقًا
في غير عِيٍّ منه ولا عُنُف
يجوبُ عنك التي غُشِيتَ بها
من قبلُ حتى يَشفيك في لَطَف
لا يبهم الحاءَ في القراءة بالخا
ء ولا لامَها مع الألف
ولا يُعَمِّي معنى الكلام ولا
يكون إنشادُه عن الصُّحُف
وكان ممن مضى لنا خَلَفًا
فليس منه إذ بان من خَلَف

واختلف أبو نواس إلى أبي زيد فكتب الغريب من الألفاظ، ثم نظر في نحو سيبويه، ثم طلب الحديث فكتب عن عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان وأزهر السمان وغيرهم، فلم يتخلف عن أحد منهم، وأدرك الناس فعلم، ثم قدم بغداد بعد ذلك.

وكان أيضًا يتنزر ويُدعى للفرزدق. ثم وقع بينه وبين الحكم بن قنبر المازني، فهجاه الحكم وذكر بَرْيَه العود وبغى عليه ونكبه. ولما قال أبو نواس قصيدته التي يهجو بها خِندِف، وهي:

ألم تَرْبَعْ على الطَّلَل الطِّمَاس
عَفَاه كل أسحم ذي ارتجاس١٣
وذاري التُّرَب مُرْتكِمٌ حَصَاه
نسيج المِيثِ مِعْنَقَة الدَّهَاس١٤
سوى سُفْع أعارتها الليالي
سوادَ الليل من بعد اغبساس١٥
وأورق حالف المْثواةَ هابٍ
كضاويِّ الفِراخ من الهُلاس١٦
منازلُ من عُفَيْرَة أو سُلَيْمى
أو الدهماء أختِ بني الحِمَاس
كأنَّ معاقدَ الأوضاح منها
بجِيدِ أغنَّ نُوَّم في الكِنَاس
وتَبْسِمُ عن أغرَّ كأنَّ فيه
مُجَاجَ سُلافة من بيت راس١٧
فمَنْ ذا مبلغٌ عمرًا رسولًا
فقد ذَكَّرْتَ وُدَّكَ غيرَ ناس
فلم أهْجُرْك هجر قِلًى ولكن
نوائبُ لا نزالُ لها نُقاسي
نوائبُ تعجِزُ الأدباءُ عنها
ويَعْيَا دونَها اللقِن النِّطاسي
وقد نافحتُ عن أحسابِ قومٍ
هُمُ وَرَثوا مكارمَ ذِي نُوَاس
فإن تَكُ أوقِدتْ للحرب نارٌ
فما غَطَّيتُ خوفَ الحرب راسي
سأبْلي خيرَ ما أبلَى مُحَامٍ
إذا ما النَّبْل ألْجِمَ بالقياس١٨
وسَمتُ الوِائلِينَ بفاقِراتٍ
بهنَّ وسَمْتُ رهطَ أبي فِرَاس
وقالت كاهلٌ وبنو قُعَيْنٍ
حَنَانَكَ إننا لسنا بناس
فما بالُ النِّعاج ثَغَتْ بشَتْمي
وفي زَمَعَاتهن دمُ الفراس
وما حامتْ عن الأحساب إلا
لترفع ذكرَها بأبي نواس

عارضه الحكم وهجاه، فانقلب على النزارية وادعى أنه من حاء وحكم؛ فزجره يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وقال له: أنت خوزي، فمالك ولحاء وحكم! فقال له: أنا مولى لهم. فتركوه، وقال بعضهم لبعض: إنه لظريف اللسان غزير العلوم فدعوه، وبهذا الولاء يتعصب لنا ويكايد عنا ويهجو النزارية. فكان كما قالوا وكما ظنوا، فانقلب إلى اليمن وعدل عن كنيته بأبي فراس واكتنى بأبي نواس، تشبهًا بكنية ذي نواس كما كانت اليمن تكتني، وندم على هجاء اليمن، ووجدهم له أنصر ولدعوته أقبل، فاعتذر إلى هاشم بن حديج الكندي من هجائه، ومدح اليمن فقال:

أهاشمُ خذْ منِّي رضاك وإن أتَى
رضاك على نفسي فغيرُ ملُوم
فأَقسمُ ما جاوزتُ بالشتم والدي
وعِرضي وما مزَّقتُ غيرَ أديمي
فعُذتُ بَحْقَويْ هاشمٍ فأعاذني
كريمٌ أَراه فوقَ كلِّ كريم
وإنَّ امرأً أَغْضَى على مثلِ زَلَّتي
وإن جَرَحتْ فيه لَجِدُّ حليم
تطاول فوقَ الناس حتَّى كأنَّما
يَرون به نَجمًا أمام نُجوم
إذا امتازتِ الأحسابُ يومًا بأهلها
أناخَ إلى عاديَّةٍ وصَميم
إلى كلِّ مَعصُوبٍ به التَّاجُ مِقوَلٍ
إليه أيادي عامرٍ وتَميم

وكان قبل أن ينتمي لليمن ويدعى لنزار يتعاجم في شعره، فمن ذلك قوله:

فاسقنيها وغنِّ صَو
تًا، لك الخيرُ، أَعجما
ليس في نعتِ دِمْنةٍ
لا ولا زَجْر أشأَما

وكان الجاحظ يقول: ما أعرف لأبي نواس شعرًا يفضل هذه القصيدة، وهي:

ودارِ نَدامَى عطَّلوها وأدلَجوا
بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارسُ
مَساحِبُ من جرِّ الزِّقاق على الثَّرى
وأضغاثُ ريحانٍ جنيٌّ ويابسُ
حبستُ بها صَحبي فجدَّدتُ عهدَهم
وإنِّي علَى أمثال تلك لحابسُ
ولم أدرِ منهم غيرَ ما شهِدتْ به
بشَرقيّ ساباطَ الديارُ البسابسُ
أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا
ويومًا له يومُ الترحُّل خامسُ
تُدار علينا الراحُ في عَسجديًّة
حَبَتها بأنواع التًّصاوِير فارس
قرارتُها كسرى وفي جَنباتها
مَهًا تدريها بالقِسيِّ الفوارسُ
فللخمر١٩ ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس

وقوله يصف كَرْمة وعبَّر عنها بالهجمة وهو يريد الدنان:

لنا هَجمةٌ لا يُدرك الذئبُ سَخلَها
ولا راعَها نَزوُ الفِحالة والخطر
إذا امتُحنت ألوانُها مال صفوها
إلى الكَمْت إلا أن أوبارَها خُضرُ
وإن قام فيها الحالبون اتَّقتهُمُ
بنَجلاء ثقب الجوف دِرَّتُها الخمرُ
مَسارحها الغربيُّ من نهر صَرصَر
فقُطْرَبُّلٌ فالصّالحيّةُ فالعَقْرُ
تُراثُ أبي ساسانَ كسرَى ولم تكن
مواريثَ ما أبقت تميمٌ ولا بكر
قَصَرتُ بها ليلي وليل ابنِ حُرَّة
له حسبٌ زاكٍ وليس له وَفرُ

وفي تَعَاجُم أبي نواس في شعره يقول الرقاشيُّ يهجوه:

نَبَطيّ فإذا قيل له
أنت مولَى حَكَمٍ قال أجْل
هو مولَى الله إذ كان به
لاحقًا فاللهُ أعلَى وأجلّ
واضعًا نسبتَه حيثُ اشتهى
فإذا ما رابَه ريبٌ رَحَل

فقال أبو نواس يهجوه:

هجوتُ الفضلَ دهري وهو عندي
رَقَاشيٌّ كما زعم المسولُ
فلما سُوئلتْ عنه رقَاشٌ
لنعلم ما تقول وما يقول
ولمَّا أن نصَصناه إليها
لتعلم ما يُقال وما نقولُ
وجدنا الفضلَ أبعدَ من رقاش
من الأتُن ادَّعت فيها الفُيول
وجدنا الفضلَ أكرمَ من رقاش
لأنَّ الفضلَ مولاه الرسولُ

يريد بذلك قوله : «أنا مولى من لا مولى له.»

وقال أيضًا يهجوه:

قل للرّقاشيّ إذا جئتَه
لو متَّ يا أحمقُ لم أهجُكا
لأنّني أكْرِم عرْضي ولا
أقرُنه يومًا إلى عِرْضكا
إن تهجُني تَهْجُ فتًى ماجدًا
لا يرفع الطَّرْفَ إلى مثلكا
دونَك عِرضي فاهْجُه راشدًا
لا تَدْنَسُ الأعراضُ من هجوكا
والله لو كنتُ جريرًا لما
كنتُ بأهجى لك من أصلكا

وقال أيضًا يهجوه:

يا عربيًّا من صَنْعة السُّوقِ
وصنعةُ السُّوق ذاتُ تَشْقيق
ما رأيكم يا نَزارُ في رجل
يدخُل فيكم من خَلْق مخلوق
ويحمل الوَطْبَ والعِلَابَ ولا
يصلُح إلَّا لحملِ إبريق
لقد ضربنا بالطبل أنك في الـ
ـقوم صحيحٌ وصِيَح في البُوق
قد أخذ اللهُ من رَقَاشَ على
تركهمُ المجدَ بالمواثيق
فالناس يسعَوْن للعلا قُدُمًا
وهم وراءٌ مكسَّرو السُّوق
هذا كذاكم وفي الهياج إذا
هِيجَ فما شئتَ من بَوَاشِيق٢٠

وقال أيضًا يهجوه:

أصبح الفضلُ ظاهرَ التِّيهِ
وذاك مذ صِرتُ أُهاجِيهِ
لله شعري، أيّ مِفْوَاهةٍ
لكلّ من دوني قوافيهِ
كم بين فضلٍ منذ هاجيتُه
وبينَه قبلَ أُهاجيهِ
فالحمد لله وإن كنتُ لم
أحفِلْ بقومٍ نَصَحوا فيه
رَضِيتُ أن يشتمني ساقطٌ
شِسْعِيَ خيرٌ من مَوَاليه

وكان أبو نواس في دعاويه يتماجن ويعبث ويخفي نسبه واسم أمه لئلا يُهجى، وذلك مشهور عنه. ولو غضب هو نفسه على أبيه لهجاه ولم يحتشم. والمذكور من أمره أنه كان مولى الحكميين، يفتخر باليمن ويمدحهم لذلك، ويمدح العجم ويذكرهم لأنه منهم، فلذلك قال في العجم ما قال.

قال أبو الفرج الأصفهاني: كان أبو عبيدة يقول: ذهبتْ اليمن بجد الشعر وهزله: امرؤ القيس بجده، وأبو نواس بهزله. وكان يقول: ذهبتْ اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه: امرؤ القيس في الأوائل، وأبو نواس في المحدثين. وكان يقول: شعراء اليمن ثلاثة: امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس. وقال أيضًا: أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين، فتح لهم هذه الفطن ودلهم على المعاني وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه. وكان يقول: يعجبني من شعر أبي نواس قوله:

بَنَينا على كسرى سماءَ مُدامةٍ
مكلَّلة حافاتُها بنجوم
فلو رُدّ في كسرى بن سَاسَان روحُه
إذنْ لاصطفاني دونَ كل نديم

وسئل يعقوب بن السكيت عما يختار روايته من أشعار الشعراء، فقال: إذا أردت من الجاهليين فلأمرئ القيس والأعشى، ومن الإسلاميين فلجرير والفرزدق، ومن المحدثين فلأبي نواس فحسب. وقيل للعُتْبي: من أشعر الناس؟ قال: عند الناس أم عندي؟ قيل: عند الناس؟ قال: امرؤ القيس. قيل: فعندك؟ قال: أبو نواس.

وقال عبد الله بن محمد بن عائشة: من طلب الأدب فلم يروِ شعر أبي نواس فليس بتامِّ الأدب. وسئل: من أشعر المحدثين؟ فقال: الذي يقول:

كأنّ ثيابَه أطلعـ
ـن من أزراره قمرا
يزيدك وجهُه حسنًا
إذا ما زدتَه نظرا
بعين خالط التفتيـ
ـرُ من أجفانها الحَورا
ووجهٍ سابِريٍّ لو
تصوَّب ماؤه قطَرا
وقد خطَّت حواضنُه
له من عنبرٍ طُرَرَا

وقال إبراهيم بن العباس الطويل: إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس علمت أن ذلك عنوان أدبه ورائد ظرفه.

وكان أبو نواس يقول عن نفسه: سفلتُ عن طبقة من تقدمني من الشعراء، وعلوت عن طبقة من معي ومن يجيء بعدي، فأنا نسيج وحدي.

وحدَّث جماعة من الرواة ممن شاهد أبا نواس قالوا: كان أقل ما في أبي نواس قول الشعر، وكان فحلًا راوية عالمًا.

وقال أبو عبيدة: بلغني أن أبا نواس يتعاطى قرض الشعر فتلقاني وهو سكران ما طرَّ شاربه بعد، فقلت له: كيف فلان عندك؟ فقال: ثقيل الظل، جامد النسيم. فقلت: زد. فقال: مظلم الهواء؛ منتن الفناء. فقلت: زد. فقال: غليظ الطبع، بارد الشكل. قلت: زد؛ فقال: وخم الطلعة؛ عسر القلعة؛ قلت: زد. قال: ناتئ الجنبات، بارد الحركات. قال: فخففت عنه. فقال: زدني سؤالًا أزدك جوابًا. فقلت: «كفى من القلادة ما أحاط بالعنق.»

وقال سليمان بن أبي سهل لأبي نواس: ما الذي استُجيد من أجناس شعرك؟ فقال: أشعاري في الخمر لم يُقَل مثلها، وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس، وهما أجود شعري إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد.

وكان يقول: ما قلت الشعر حتى رويتُ لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال؟ وإني لأروي سبعمائة أرجوزة ما تُعرف.

وكان قد استأذن خلفًا في نظم الشعر، فقال: لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة؛ فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال له: قد حفظتها. فقال: أنشدها. فأنشده أكثرها في عدة أيام، ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر؛ فقال له: لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمر يصعب عليَّ فإني قد أتقنت حفظها، فقال له: لا آذن لك إلا أن تنساها، فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها، ثم حضر فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن قد حفظتها قط. فقال له: الآن فانظم الشعر.

وكان أبو نواس يقول: لا أكاد أقول شعرًا جيدًا حتى تكون نفسي طيبة، وأكون في بستان مونق، وعلى حال أرتضيها من صلة أُوصل بها أو وعد بصلة، وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارًا لا أرضاها. وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أيامًا، ثم يعرضها على نفسه فيُسقط كثيرًا منها ويترك صافيها، ولا يسره كل ما يقذف به خاطره. وكان يهمه الشعر في الخمر فلا يعمله إلا في وقت نشاطه. ولم يكن في الشعر بالبطيء ولا بالسريع بل كان في منزلة وسطى.

وكان الأصمعي يقول: يعجبني من شعر الشاعر بيت واحد قد أجاد قائله وهو:

ضعيفَةُ كَرِّ الطَّرْف تحسَب أنها
قريبةُ عهدٍ بالإفاقة من سُقْمِ
وإنِّي لآتي الأمرَ من حيث يُتَّقَى
ويعلَم سَهْمي حينَ أَنْزِع مَنْ أَرْمِي

قال العنابي لرجلين تناظرا في شعر أبي نواس: والله لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فُضِّل عليه أحد.

وقال أبو عمرو الشيباني: أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس.

قال محمد بن عمر: لم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته، وبُعد صيته وظرف لسانه.

وقال أبو حاتم: سئل أبو نواس عن شعره فقال: إذا أردت أن أَجِدَّ، قلت مثل قصيدي: «أيها المنتاب عن عفره»، وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي: «طاب الهوى لعميده»، فأما الذي أنا فيه وحدي وكله جيد فإذا وصفت الخمر.

وقال أبو ذكوان: كنا عند التوزي فذكرت عنده أبا نواس، فوضع منه بعض الحاضرين؛ فقال له التوزي: أتقول هذا لرجل يقول:

يخافُه الناسُ ويَرجْونه
كأنه الجنةُ والنارُ

ويقول:

فما جازه جودٌ ولا حلّ دونَه
ولكن يصير الجودُ حيث يصيرُ

ويقول:

فتَمَشّتْ في مَفَاصلهمْ
كتَمَشِّي البُرْءِ في السَّقَمِ

قال ابن الأعرابي يومًا لجلسائه: ما أشعر ما قال أبو نواس في الخمر؟ فقال بعضهم:

إذا عَبّ فيها شاربُ القومِ خلتَه
يُقَبِّل في داجٍ من الْليل كوكبًا

وقال آخر:

كأن كُبْرَى وصُغْرَى من فَقَاقعها
حصباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذَّهَبِ

وقال آخر:

تَرَى حيث ما كانت من البيت مَشْرِقًا
وما لم تكن فيه من البيت مَغرِبا

وقال آخر:

فكأنّ الكئوسَ فينا نجومٌ
دائراتٌ بروجُها أيدينا

وقال آخر:

صفراءُ لا تنزلُ الأحزانُ ساحتَها
لو مَسّها حَجَرٌ مسته سَرّاءُ

فقال ابن الأعرابي: إن هذا كله لشاعر انفرد بالإحسان فيه، وتقدم من سبقه ومن تأخر عنه، ولكنه أشعر من هذا كله في قوله:

لا ينزِلُ الليلُ حيث حَلّتْ
فدهرُ شُرَّابها نهارُ

قال مسلم بن بهرام: لقيت أبا العتاهية فقلت له: من أشعر الناس؟ قال: تريد جاهليَّها أو إسلاميَّها أو مولَّدها؟ قال: كُلًّا أريد. قال: الذي يقول في المديح:

إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فأنت كما نُثني وفوق الذي نُثني
وإن جَرَتِ الألفاظُ يومًا بمدحةٍ
لغيرك إنسانًا فأنت الذي نَعني

والذي يقول في الزهد:

ألا ربّ وجهٍ في التُّراب عَتِيقِ
وياربّ حُسْنٍ في التراب رقيقِ
وياربّ حرمٍ في التراب ونَجْدةٍ
وياربّ رأيٍ في التراب وَثِيقِ
فقل لقريب الدار إنك راحلٌ
إلى منزلٍ نائي المَحَلِّ سَحيقِ
وما الناسُ إلا هالكٌ وابنُ هالكٍ
وذُو نَسَبٍ في الهالكين عريقِ
إذا امتحن الدنيا لَبِيبٌ تَكَشَّفتْ
له عن عدوٍّ في ثياب صديقِ

وكان يقول: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات وددت أني سبقته إليها بكل ما قلته؛ فإنه أشعر الناس فيها، منها قوله:

يا كبيرَ الذَّنب عفو الله
من ذنبك أكبرْ

وقوله:

مَنْ لم يكن لله متَّهمًا
لم يُمْسِ محتاجًا إلى أحَدِ

وقوله:

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفتْ
له عن عدوٍّ في ثياب صديقِ

ثم قال: قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت وددت أن أبا نواس له ثلثها بهذه الأبيات.

وقال الجاحظ: سمعت النَّظَّام يقول، وقد أنشد شعرًا لأبي نواس: كأن هذا الفتى جُمع له الكلام فاختار أحسنه. وقال بعضهم: كأن المعاني حُبست عليه، فأخذ حاجته وفرق الباقي على الناس. وقال أبو حاتم: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس.

حدَّث الحسين بن الخصيب الكاتب، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون، وهو مستلقٍ على قفاه، فقال لعبد الله بن طاهر: يا أبا العباس، من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم؟ فقال: أمير المؤمنين أعرف بهذا وأعلى عينًا. فقال له المأمون: على ذلك قَفِّل. تكلم أنت يا أحمد بن يوسف. فقال عبد الله بن طاهر: أشعرهم الذي يقول:

ويا قبرَ معنٍ كنت أوّلَ حُفْرة
من الأرض خُطَّت للسَّماحة منزلا

قال أحمد بن يوسف الكاتب: فقلت: بل أشعرهم الذي يقول:

أَشْبهتِ أعدائي فصرتُ أُحِبُّهمْ
إذ كان حَظِّي منك حَظِّي منهُمُ

فقال المأمون: يا أحمد أبيتَ إلا غزلًا! أين أنتم عن الذي يقول:

يا شقيقَ النَّفْس من حَكَمِ
نِمْتَ عن لَيْلي ولم أَنَمِ

فقلنا: صدقت يا أمير المؤمنين.

وكان المأمون يقول: لو سئلت الدنيا عن نفسها فنطقت، لما وصفت نفسها كما وصفها أبو نواس في قوله:

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تَكَشّفتْ
له عن عدوٍّ في ثياب صديق

ورد على العتابي بحلب عدةٌ من الكبار من أهل قنسرين، فدخلوا وسلموا؛ وكان في يده رقعة ينظر إليها، فقال لهم: لقد سلك صاحب هذه الرقعة واديًا ما سلكه أحد قبله! فنظروا فإذا هو شعر أبي نواس في جنان جارية آل عبد الوهاب الثقفي، وهو قوله:

رَبْعُ الكَرَى بين الجفون مُحِيلُ
عَفَّى عليه بُكًي عليك طويلُ
يا ناظرًا ما أقلعتْ لحظاتُه
حتى تشحَّط بينهن قتيلُ
أحللتُ قلبي من هواكَ محِلَّةً
ما حلَّها المشروبُ والمأكولُ
بكمال صورتك التي من دونِها
يتخيَّر التشبيهُ والتمثيلُ
فوقَ القصيرةِ والقصيرةُ فوقَها
دون السَّمِين ودونَها المهزولُ

ومما أنشده العتابي لأبي نواس فقال أحسن وأجاد:

متتايهٌ بجماله صَلِفٌ
لا يستطاع كلامُه تِيهَا
للحسن في وَجَناته بِدَعٌ
ما إن يَمَلُّ الدرسَ قاريها
لو كانت الأشياءُ تعقله
أَجْللنَه إجلالَ باريها
لو تستطيع الأرض لانقبضت
حتى يصير جميعه فيها

وقوله:

إن السحابَ لتستحيي إذا نظرتْ
إلى نداك فقاستْه بما فيها
حتى تَهُمّ بإقلاعٍ فيمنعُها
خوفٌ من السُّخْط من إجلال منشيها

قال محمد بن صالح بن بَيْهس الكلابي: لما دخلت العراق صرت إلى مدينة السلام فسألت عمن بها من الشعراء المحسنين، وذلك في أيام خلافة الأمين أو عند موته قبل دخول المأمون بيسير، فقيل لي: قد غلب عليهم فتى من أهل البصرة يقال له الحسن بن هانئ ويعرف بأبي نواس. وقد كنتُ سمعت شيئًا من شعره، فأتاني فتى كان من أهل الأدب، فقلت له: هل تروي لأبي نواسكم هذا شيئًا؟ قال: أروي له أبياتًا في الزهد وليس هو من طريقته. فقلت: أنشدنيها. فأنشدني:

أخي ما بالُ قلبك ليس يَنْقَى
كأنك لا تظُنّ الموتَ حَقَّا
ألا يا بنَ الذين فَنُوا وبادوا
أما والله ما ذهبُوا لتَبْقَى
وما للنفس عندكَ من مُقَام
إذا ما استكملتْ أَجَلًا ورِزْقَا
وما أحدٌ بزادك منك أَحْظَى
ولا أحدٌ بذنبك منك أَشْقَى
ولا لكَ غيرَ تقوى الله زادٌ
إذا جعلتْ إلى اللَّهَوات تَرْقَى

فقلت له: أحسن والله! قال: أفلا أنشدك أحسن من هذا؟ قلت بلى. فأنشدني في رثاء محمد الأمين:

طوى الموتُ ما بيني وبين محمد
وليس لما تَطْوي المنيةُ ناشرُ
فلا وصلَ إلا عَبْرةٌ تستديمُها
أحاديثُ نفسٍ ما لها الدهرَ ذاكرُ
لئن عَمَرتْ دور بمن لا أوده
لقد عَمَرتْ ممن أحبُّ المقابرُ
وكنتُ عليه أحذرُ الموتَ وحدَه
فلم يَبْقَ لي شيءٌ عليه أُحاذِرُ

فقال: بحق ما غلب هذا على أهل الأدب وقدموه على غيره.

قال محمد بن جعفر الأصم: كنا عند أبي نعيم، فتذاكرنا قول عائشة أم المؤمنين — رضي الله عنها — حين ذكرت شعر لبيد يرثي أخاه أربد:

ذَهَبَ الذين يُعاشُ في أكنافهم
وَبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجرب

ولقد أنشدني أبو نعيم أبياتًا، قلنا: أنشِدناها. فقال:

ذهبَ الناسُ فاستَقلُّوا وصِرْنَا
خَلَفًا في أراذل النَّسناسِ
في أُناسٍ نَعُدُّهم من عديدٍ
فإذا فُتِّشُوا فليسوا بناسِ
كلما جئتُ أبتغي الفضلَ منهم
بَدَرُوني قبل السؤالِ بياس
وبَكَوْا لي حتى تمنَّيتُ أنِّي
مُفْلتٌ عند ذاك رأسًا براس

ثم قال: أتدرون لمن الشعر؟ قلنا: لا. قال: للحسن بن هانئ.

قال أبو عبد الرحمن الضرير: رأيت مسلم بن الوليد بجرجان وهو يتولاها، فسألني عمن خلفت من الشعراء؛ فقلت له: أما من الكوفيين فأبو نواس، وهو مقدم عندهم. فقال: ويحك! كيف يتقدم وهو يقول: رويدك يا إنسان لا أنت تقفز؟ أرأيت قوله: «تقفز» خرجت من بين فكي شاعر قط؟! ثم قال: ويلك! وكيف يكون كذلك وهو يحيل ويتخطى من صفة المخلوق إلى صفة الخالق؟ فقلت: مثل ماذا من قوله؟ قال: أمَّا فيما أحال فكقوله:

وأخفتَ أهلَ الشِّرْكِ حتى إنه
لَتَخافُك النُّطَفُ التي لم تُخْلَقِ

وهذا من الإغراق المستحيل في العقول ومما ليس على مذهب القوم؛ وأما في تخطيه بصفة المخلوق إلى صفة الخالق فكقوله:

يَجِلّ أن تلحَقَ الصفاتُ به
فكلّ خُلْقٍ لخُلْقه مثلُ

وكقوله:

بريءٌ من الأشباه ليس له مثل

ومما قيل عن أبي نواس إن الشعر إنما هو بين المدح والهجاء وأبو نواس لا يحسنهما، وأجود شعره في الخمر والطرد، وأحسن ما فيهما مأخوذ ليس له وإنما سرقه، وحسبك من رجل يريد المعنى ليأخذه فلا يحسن أن يبني عليه حتى يجيء به قبيحًا، مثل قوله: «وداوني بالتي كانت هي الداء» أخذه من قول الأعشى: «وأخرى تداويت منها بها» والذي أخذه منه أحسن. ومنها أيضًا قوله: «إن الشباب مطية الجهل» أخذه من قول النابغة الجعدي: «فإن مطية الجهل الشباب». وقوله: «كطلعة الأشمط من إهابه» أخذه من قول أبي النجم: «كطلعة الأشمط من كسائه». ولكن رُزق أبو نواس في شعره أن سار وحمله الناس وقدمه أهل عصره، وإن له على ذلك لأشياء حسانًا لا يدفعها ولا يطرحها إلا جاهل بالكلام أو حاسد.

ومن أحسن مدائح أبي نواس قوله من أرجوزته التي يمدح بها الفضل بن الربيع، وهي:

وبلدة فيها زَوَرْ
صَعْراءَ تحظَى في صَعَرْ
مَرْتٍ٢١ إذا الذئبُ اقتفرْ
بها من القومِ الأثرْ
كان له من الجَزَرْ
كلُّ جَنِين ما اشْتَكرْ٢٢
ولا تَعَلَّاه شَعَرْ
مَيْتُ النَّسَاحيُّ الثَّغَرْ
عَسَفْتُها٢٣ على خَطَرْ
وغَرَرٍ من الغَرَرْ
ببازلٍ حين فَطَرْ
يَهُزُّه جِنُّ الأَشَرْ
لا مُتَشَكٍّ من سَدَرْ٢٤
ولا قريبٍ من خَوَرْ
كأنّه بعدَ الضُّمُرْ
وبعدَ ما جال الضُّفُرْ٢٥
وانْمَحَّ فيّ فَحَسْر:
جَأْبٌ٢٦ رَبَاعُ المُثَّغَرْ
يَحْدُو بحُقْب كالأكَرْ
ترى بأَثْباج القَصَرْ٢٧
منهنّ تَوْشِيمُ الجَدَرْ
رَعَيْنَ أبكارَ الخُضَر
شَهْرَيْ رَبِيع وصَفَرْ
حتى إذا الفحلُ جَفَرْ٢٨
وأشبه السَّفَى الإبَرْ
ونَشَّ أَذْخَارُ النُّقَرْ٢٩
قُلْنَ له: ما تأتمِرْ؟
وهنَّ إذ قُلْنَ: أَشِرْ
غيرُ عَوَاصٍ ما أمَرْ
كأنَّها لمن نَظَرْ
رَكْبٌ يَشِيمُونَ مَطَرْ
حتى إذا الظلُّ قَصُرْ
يَمَّمْنَ من جَنْبيْ هَجَرْ
أخضرَ طَمَّامَ العَكَرْ
وبينِ أَحْقافِ القَتَرْ
سَار وليس للسَّمَرْ
ولا تِلَاواتِ السُّوَرَ
يمسَحُ مِرْنَانًا يَسَرْ٣٠
زُمَّتْ بمَشْزُورِ المِرَرْ
لَأْمٍ كحُلْقُومِ النُّغَرْ٣١
حتى إذا اصْطَفَّ السَّطَرْ
أهدَى لها لو لم تُجَرْ
دَهْياءَ يَحْدُوها القَدَرْ
فتِلْكَ عَنْسٌ لم تُدَرْ
شَهْبَا إذا الآلُ ظَهَرْ
إليكَ كلّفنا السَّفَرْ
خُوصًا يُجَاذِبْنَ النَّظَرْ
قد انطوتْ منها السِّرَرْ
طَيّ القَرَاريّ٣٢ الحبَرْ
لم تتقعَّدْها الطِّيَرْ
ولا السَّنِيحُ المزدَجَرْ
يا فَضْلُ للقوم البَطَرْ
إذ ليس في الناس عَصَرْ
ولا من الخوف وَزَرْ
ونزلتْ إحدى الكُبَرْ
وقيلَ صَمَّاءُ الغيَرْ
فالناسُ أبناءُ الحَذَرْ:
فرَّجْتَ هاتيكَ الغُمَرْ
عَنّا «وقد صَابَتْ بقر»٣٣
كالشمس في شَخْصِ بشَرْ
أعيا مُجارِيكَ الخَطَرْ
أبوك جَليّ عن مُضَرْ
يوم الرِّواق المحتَضَر
والخوفُ يَفْرِي ويَذَرْ
لما رأى الأمرَ اقمطرّ٣٤
قام كريمًا فانتصَر
كهَزّة العَضْب الذّكْر
ما مسّ من شيء هَبَر٣٥
وأنت تَقْتافُ الأثَر
من ذي حُجُول وغُرَرْ
معيد وِرْدٍ وصَدَر
وإن علا الأمرَ اقتدر
فأين أصحابُ الغَمَر
إذ شَرِبوا كأس المَقِر٣٦
وقُصِرُوا فيمن قُصِر
هيهات لا يخفَى القمر
أصحرتَ٣٧ إذ دَبّوا الخَمَر
شكرًا، وحرٌّ مَنْ شَكَر
فاللهُ يُعطيك الشَّبرَ٣٨
وفي أعاديك الظَّفَرْ
والله مَنْ شاء نَصَر
وأنت إن خِفْنا الحَصَر٣٩
وهَرّ دهرٌ وكَشَرْ
عن ناجِذَيْه وبَسَر٤٠
أغنيتَ ما أغنى المَطَرْ
وفيك أخلاقُ اليَسَر
فإنْ أبَوا إلا العَسَرْ
أمررتَ٤١ حبلًا فاستمرّ
حتى ترى تلك الزُّمَر
تَهْوي لأذقان الثَّغَر٤٢
من جذْبِ أَلْوَى٤٣ لو نتر
إليه طَوْدًا لانأطَرْ٤٤
صعبٍ إذا لاقى أَبَرْ
وإن هَفَا القومُ وَقَرْ
أو رَهِبُوا الأمرَ جَسَرْ
ثم تَسَامَى فَفَغَرْ
عن شقْشق ثم هَدَرْ
ثم تَنَاجَى فخَطَرْ
بذي سبِيبٍ٤٥ وعُذُرْ
يمضع أطرافَ الوَبَرْ
هل لك والهَلّ٤٦ خِيَرْ
فيمن إذا غبتَ حَضَرْ
أو نالكَ القومُ ثَأَرْ
وإن رأى خيرًا شَكَرْ
أو كان تقصيرٌ عَذرْ

ولما عمل أبو نواس القصيدة التي أولها: «ومستعبدٍ إخوانَه بثرائه» بلغت الأمين، فبعث إليه، وعنده سليمان بن جعفر، فلما دخل عليه قال له: يا عاضَّ بظر أمه العاهرة، ويا مدعي ولاء حاء وحكم! أتدري يا بن اللخناء من توليت وإلى من ادعيت؟ إلى ألأم قبيلتين في اليمن، علوجٍ باغين. أنت تكتسب بشعرك أوساخ أيدي الناس اللئام، وتقول: «ولا صاحب التاج المحجَّب في القَصْر»! أما والله ما نلت مني شيئًا بعد ذلك أبدًا!

فقال له سليمان بن أبي جعفر: إي والله! نعم هو مع هذا من كبار الثنوية٤٧ (وكان يرمي بذلك). فقال له محمد الأمين: وهل يشهد عليه شاهد بشيء من ذلك؟ فأتاه سليمان بعدة نفر، فشهدوا عليه أنه شرب في يوم مطير فوضع قدحه تحت السماء في المطر فوقع فيه المطر؛ فقالوا له: ما تصنع بذلك ويحك؟ قال: أنتم تزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم تراني أشرب من الملائكة؟! ثم شرب ما في القدح؛ فغضب محمد، وأمر به إلى السجن. فذلك قول أبي نواس:
يا ربِّ إن القومَ قد ظلَمُونِي
وبلا اقترافِ معطّلٍ حبَسُوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافَه
ربِّي إليك بِكذْبِهم نَسَبُوني
ما كان إلّا الجَرْيُ في مَيْدانِهم
في كلّ خزْي والمَجَانَةُ دِيني
لا العذرُ يُقبَل لي ويَفْرَق شاهدي
منهم، ولا يرضَون حَلْفَ يميني
ما كان — لو يدرون — أولَ مَخْبأ
في دار مَنْقَصة ومنزل هُونِ
أما الأمينُ فلستُ أرجو دفعَه
عنّي، فمن لي اليوم بالمأمون

فبلغت أبياته المأمون، فقال: والله لئن لحقتُه لأُغنِينه غنًى لا يؤمله. فمات قبل دخول المأمون بغداد.

لما وصلت الخلافةُ إلى محمد الأمين وولَّى الفضل بن الربيع الوزارة، تفرغ محمد للَّهو والصيد والنزهة، وكان لا يخرج إلا لصيد أو لنزهة. فخرج ذات يوم وقد أمر الجند والقواد فركبوا، ولبس ثيابه وتقلد سيفه، وأعدت الحرَّاقات٤٨ والزلاجات في دجلة؛ فقال له إسماعيل بن صبيح — وكان كاتب سره: يا أمير المؤمنين، إن قوادك وجندك وعامة رعيتك قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم، وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك! فإن في ذلك تسكينًا لهم ومراجعة لآمالهم! فجلس في مجلسه وأذن للناس عامة فدخلوا على مراتبهم ومنازلهم، وقام الخطباء فخطبوا، والشعراء فأنشدوا، فلم يكن أحد منهم يتعدى إلى الإطناب والتطويل، إلا أُمر بالسكوت ومُنع من القول.

وقام فيمن قام أبو نواس، فقال: يا أمير المؤمنين! هؤلاء الشعراء أهل حجر ومدر، وإبل ووصفٍ للبقر وبيوت الشَّعَر، قد جفت ألفاظهم، وغلظت معانيهم، ليس لهم بصر بمدح الخلفاء ونشر مكارمهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاده فليفعل. فأذن له فأنشده:

أيا دارِها بالماء حتى تُلِينَها
فلن تُكرم الصَّهْباءَ حتى تُهينَها
أُغالي بها حتى إذا ما ملكتُها
أهنتُ لإكرام الخليل مَصُونَها
وصفراءَ قبل المَزْج بيضاءَ بعده
كأنّ شعاع الشمس يلقاك دونَها
ترى العينَ تستعفيك من لَمعَانها
وتحسُرُ حتى ما تُقِلّ جفونَها
نَزُوعٌ بنفس المرء عما يَسُوءه
ويُجْذِلُه ألّا يزالَ قرينَها
كأنّ يواقيتًا رواكدُ حولَها
وزُرْقَ سَنَانِيرٍ تدير عُيونَها
وشَمْطاءَ حلّ الدهرُ منها بنَجْوةٍ
دلفتُ إليها فاستللتُ جَبينَها
كأنا حُلُولٌ بين أكنافِ روضةٍ
إذا ما سلَبنْاها مع الليل طِينهَا

إلى أن أكمل القصيدة. فقال له محمد: ألم أنهك عن شرب الخمر! قال: بلى يا أمير المؤمنين، والله ما شربتها منذ نهيتني عنها ومنعتني من شربها، وأنا الذي أقول:

أيُّها الرائحانِ باللوم لُوما
لا أذوق المدامَ إلا شَمِيمَا
نالني بالمَلامِ فيها إمامٌ
لا أَرَى لي خِلَافَه مستقيمَا
فاصرِفاها إلى سِوايَ فإنِّي
لستُ إلا على الحديثِ نديمَا
كبر حظِّي منها إذَا هي دارتْ
أن أَرَاها وأن أشمَّ النسيمَا
فكأنِّي وما أزيِّن منها
قَعَدِيٌّ يُحَسِّن التحكيمَا٤٩
كلَّ عن حملِه السلاحَ إلى الحر
ب فأَوصَى المُطِيقَ ألّا يقِيمَا

فتبسم محمد، وقال له: أحسنت! وقام بعض الشعراء فأنشد:

ترقَّى في فضائله الأمينُ
وزايلَه المُشَاكِلُ والقَرينُ
وأورق زَهْرةُ التقوى وعَزّتْ
خلافتُه وصُدِّقتِ الظُّنُونُ
تَمَسُّ منابرَ الخلفاء منه
يَدٌ بخلاف طاعتِها المَنُونُ
يخاف الخوفُ صولتَه ويرجو
نداه الجودُ فهو له خَدين

فقال عدةٌ ممن حضر: قد أوجز وأجاد، أكرم الله أمير المؤمنين! فقال أبو نواس: أشعر منه يا أمير المؤمنين الذي يقول:

ألا يا خيرَ من رأتِ العيونُ
نَظِيرُك لا يُحَسُّ ولا يَكُونُ
وفضلُك لا يُحَدّ ولا يُجَارَى
ولا تَحْوي حيازتَه الظنونُ
فأنت نَسيجُ وحْدِك لا شبيهٌ
نُحَاشِيه عليك ولا خَدِينُ
خُلِقتَ بلا مشاكلة لشيء
فأنت الفوقُ والثقلان دُونُ
كأن الملكَ لم يَكُ قبلُ شيئًا
إلى أن قام بالملكِ الأمينُ

قال: ففضَّله محمد وأحسن جائزته. ويقال: إنه قالها بديهًا.

ثم نهض محمد من مجلسه ذلك، فركب الحرَّاقة إلى الشماسية، واصطفت له الخيل وعليها الرجال على شاطئ دجلة، وحملت معه المطابح والخزائن. وكان ركوبه حرَّاقة٥٠ على مثال الأسد. فما رأى الناس منظرًا كان أبهى ولا مسيرًا كان أحسن من ذلك المنظر والمسير. وركب أبو نواس معه يومئذ وهو ينادمه، فقال:
سخَّر اللهُ للأمين مطايا
لم تسخَّر لصاحب المحرابِ٥١
فإذا ما ركابُه سِرْنَ بحرًا
سار في الماء راكبًا ليثَ غابِ
أسدًا باسطًا ذراعيه يعدو
أَهْرَتَ الشِّدْقِ٥٢ كالِحَ الأنيابِ
لا يعانيه باللِّجام ولا السَّو
طِ ولا غَمْزِ رجلهِ في الرِّكابِ
عَجِب الناسُ إذ رأوْك على صو
رة ليثٍ تمرُّ مَرَّ السحابِ
سبَّحوا إذ رأوك سرتَ عليه
كيف لو أبصروك فوقَ العُقَابِ
ذات زَوْر ومِنْسَرٍ وجناحيـ
ـن تشُقُّ العُبَاب بعد العُبَابِ
تسبِق الطيرَ في السماء إذا ما اسـ
ـتعجلوها بجَيْئةٍ وذهابِ
بارَك الله للأمين وأبقا
ه وأبقى له رداءَ الشبابِ
ملك تَقْصُر المدائحُ عنه
هاشمِيٌّ موفَّق للصوابِ

ويقال: إن هذا الشعر قاله أبو نواس في محمد، وقد ركب حرَّاقته الدلفين؛ فقال له شيخ إلى جانبه: اتق الله يا هذا! فقال له أبو نواس: يا شيخ، إن الله لم يسخِّر لصاحب المحراب الدلفين، وقد سخَّر له ما هو خير من الدلفين، فأي شيء تنكر من هذا؟

قال ابن حبيب: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس في السجن فسلمنا عليه! ففعلنا؛ فقال أبو نواس لمؤنس: أين تريد؟ فقال: أريد أبا العباس الفضل بن الربيع. قال: فبلغه رقعة أعطيكها. قال: نعم. فأعطاه رقعة فيها:

ما من يدٍ في الناس واجدةٍ
كيدٍ أبو العباس مَوْلاها
نام البُغَاةُ على مضاجعهم
وسَرَى إلى نفسي فأحياها
قد كنتُ خِفْتُكَ ثم أمّنني
من أن أخافك خوفُك الله
فعفوتَ عنّي عفوَ مقتدر
وَجَبَتْ له نِقَمٌ فألغاها

فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من السجن.

انصرف أبو نواس من بعض المواخير سكران، فمر بمسجد قد حضرت فيه الصلاة، فدخل فقام في الصف الأول؛ فقرأ الإمام: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فقال أبو نواس من خلفه: لبيك! فلما قضيت الصلاة لبَّبوه٥٣ وقالوا له: يا كافر، نشهد عليك بالكفر! ودفعوه. فبلغ خبره الرشيد، فدعا له حمدويه صاحب الزندقة، وأحضر أبا نواس فقال له حمدويه: يا أمير المؤمنين، إن هذا ماجن، وليس هو بحيث يُظن. فقال له الرشيد: ويحك! إنه وقع في نفسي منه شيء، فامتحنه. قال: فخط له صورة ماني،٥٤ وقال له: ابصق عليها. فأهوى أبو نواس بفيه ليقيء عليها؛ فقال له حمدويه: قد قلت لك يا أمير المؤمنين إنه ماجن. قال: ودعا برجل من الزنادقة مشهور، وقال له: ابصق عليها. فقال: وما معنى البصاق! إنه من أخلاق الشرك ولا أفعله، وأبى أن يفعل. فقال الرشيد لبعض خدم القصر: امضِ بهذا (يعني أبا نواس) إلى السندي، فقل له: أدِّبه وأطلقه، وبهذا (يعني الزنديق) فقل له: احبسه قِبلك إلى أن تستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. قال: فمضى بهما الخادم، فلما صار في آخر الصحن، قال أبو نواس للخادم: إلى أين تذهب بنا؟ قال: إلى السندي. قال: فما تقول له؟ قال: أقول له يحبسك قِبَله حتى تُستتاب أو تُقتل، ويؤدب هذا ويطلقه. قال: فرفع أبو نواس يده ولطمه، وقال له: يا بن الزانية، من الساعة نسيت! وبصر بهم الرشيد، فقال: ردوهم. فقال لأبي نواس: ما هذا الذي رأيت منك؟ قال: أراد والله أن يهلكني ويطرحني بحيث أنسى أبدًا أو أبقى مخلدًا، سله يا أمير المؤمنين عن الرسالة، فإذا هو قد غيَّرها. فضحك من أبي نواس وأطلقه.

قال رُزين الكاتب: اجتمعنا يومًا أنا وأبو نواس وعلي بن الخليل في سوق الكرخ، وكنا نجتمع ونتناشد الأشعار ونتذاكر الأخبار ونتحدث بها؛ فقال أبو نواس: أدبر من كان في نفسي وكان أسرع الخلق في طاعتي، فما أدري ما أحتال له! فقال علي بن الخليل يمازحه: يا أبا علي، سل شيخك وأستاذك يعطفه عليك؛ فقال له أبو نواس: من تعني؟ قال: من أنت في طاعته ليلك ونهارك (يعني إبليس)، فإن لم يقضِ لك هذه الحاجة، فما ينبغي لك أن تسأله مسألة ولا أن تقر عينه بمعصية. فقال: هو أسدُّ لرأيه من أن يُخلَّ بي أو يخذلني. وانقضى مجلسنا ذلك. فلما كان بعد أيام اجتمعنا في ذلك الموضع، وأخذنا في أحاديثنا، فضحك أبو نواس؛ فقلنا له: ما أضحكك؟ فقال: ذكرتُ قول علي بن الخليل يومئذ: سل شيخك يعطفه عليك. حينئذ قد سألته يا أبا الحسن فقضى الحاجة، وما مضت والله ثالثةٌ حتى أتاني من غير أن أبعث إليه ومن غير أن أستزيره، فعاتبني واسترضاني، وكان الغضب منه والتجني، وأحسب الشيخ (يعني إبليس) كان يتسمع علينا في وقت كلامنا؛ وقد قلت أبياتا في ذلك. فقلنا: هاتها. فأنشد:

لما جفاني الحبيبُ وامتنعتْ
عنِّي الرسالاتُ منه والخبرُ
واشتدَّ شوقي فكاد يقتلُني
ذكرُ حبيبي والهمُّ والفِكَرُ
دعوتُ إبليسَ ثم قلتُ له
في خَلْوة والدموع تنحدر:
أما ترى كيف قد بُلِيتُ وقد
أقرح جَفْني البكاءُ والسهرُ؟
إن أنت لم تُلْقِ لي المودةَ في
صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلتُ شعرًا ولا سمعتُ غِنًا
ولا جرى في مفاصِلي السَّكَرُ
ولا آزالُ القرآنَ أدرُسُه
أروح في درسِه وأبتكرُ
وألزم الصومَ والصلاةَ ولا
أزال دهري بالخير آتمرُ
فما مضتْ بعد ذاك ثالثةٌ
حتى أتاني الحبيبُ يعتذرُ
ويطلب الودَّ والوِصَالَ على
أفضلِ ما كان قبلَ يهتجرُ
فيا لها مِنّةً لقد عظُمتْ
عندي لإبليس ما لها خَطَرُ
لما قدم أبو نواس على الخصيب٥٥ بمصر أذن له وعنده جماعة من الشعراء فاستنشده، فقال له: هنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن، فأذن لهم في الإنشاد، فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت وإلا أمسكت؛ فاستنشدهم الخصيب، فأنشدوا مديحًا في الخصيب، فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس؛ فتبسم أبو نواس ثم قال: أُنشِدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى لتلقف ما يأفكون؟ قال هات. فأنشده قصيدته التي أولها:
أجارةَ بيتَيْنا أبوكِ غَيُورُ
ومَيسورُ ما يُرْجَى لديكِ عَسِيرُ

حتى أتى على آخرها، فانفضَّ الشعراء من حوله.

ويقال: إن أبا نواس كان خرج إلى مصر في زي الشطَّار٥٦ وتقطيعهم بطرة قد صففها وكُمَّين واسعين وذيل مجرور ونعل مطبق، وكان خروجه مع سليمان بن أبي سهل؛ فلما دخل على الخصيب بهذه الصورة ازدراه واستخف به، وكان تُورد عليه كتب الجلَّة ممن بباب السلطان، ووردت كتب أبي نواس فيها فقرأها ولم يستنشده، فانصرف مهمومًا. وجاءه أهل الأدب فاستمعوا شعره وكتبوه وأنشدوه للخصيب؛ فاستحضره فأنشده:
أجارةَ بَيْتَيْنا أبوكِ غيورُ
وميسورُ ما يُرْجَى لديك عَسِيرُ
فإن كنتِ لا خِلْمًا٥٧ ولا أنت زوجةً
فلا بَرِحَتْ دوني عليكِ سُتُورُ
وجاورتُ قومًا لا تزاوُرَ بينَهم
ولا وصلَ إلَّا أن يكون نُشُورُ
فما أنا بالمشغوف ضربةَ لازِبٍ
ولا كلُّ سلطان عليَّ قَدِير
وإنِّي لطَرْفِ العين بالعين زاجرٌ
فقد كدتُ لا يَخْفَى عليَّ ضميرُ
كما نَظرتْ والريحُ ساكنةٌ لها
عُقَابٌ بأرساغ اليدين نُدُورُ٥٨
طوتْ ليلتين القوتَ عن ذي ضرورةٍ
أُزَيْغِبَ لم ينبُتْ عليه شَكِيرُ٥٩
فأوفتْ على علياءَ حين بدا لها
من الشمس قَرْنٌ والضَّرِيبُ يمورُ٦٠
تقلِّبُ طرفًا في حِجَاجَيْ مغارةٍ
من الرأسِ لم يدخُل عليه ذَرُورُ٦١

ولما قال أبو نواس:

تقول التي من بيتها خَفَّ مركبي:
عزيزٌ علينا أن نراك تَسِيرُ
أما دون مصرٍ للغنى متطلَّبٌ؟
بَلَى إن أسباب الغنى لكثير
فقلتُ لها واستعجْلتها بوادرٌ
جرتْ فَجَرى في جَرْيهن عَبِيرُ
ذَرِيني أكثِّر حاسديك بِرحْلَة
إلى بلدٍ فيه الخَصيبُ أميرُ

قال له الخصيب: إذا يكثر حسادها وتبلغ أملها. وأمر له بألف دينار.

وتمامها:

إذا لم تَزُرْ أرضَ الخصيب ركابُنا
فأيّ فتًى بعدَ الخصيب تزور!
فما جازه جودٌ ولا حَلَّ دونَه
ولكن يصير الجودُ حيث يصير
فتًى يشتري حسنَ الثناء بماله
ويعلم أن الدائراتِ تَدُورُ
ولم تَرَ عيني سُودَدًا مثلَ سُودَدٍ
يحِلُّ أبو نصرٍ به ويسير
وأطرق حَيَّات البلاد لحيَّةٍ
خَصِيبيِّة التصميم حين تَسُورُ٦٢
سموْت لأهل الجور في حال أمنِهم
فأضحَوْا وكلٌّ في الوَثَاقِ أسيرُ
إذا قام غنَّتْه على الساق حِلْيةٌ
لها خَطْوُه عند القيَامِ قصيرُ
فمن يَكُ أمسى جاهلًا بِمقَالتي
فإن أميرَ المؤمنين خَبِيرُ
فما زلتَ تُولِيه النصيحةَ يافعًا
إلى أن بدا في العارضيْن قَتيرُ٦٣
إذا غاله أمرٌ فإمّا كفَيْتَه
وإما عليه بالكِفاءِ تُشيرُ
إليك رمت بالقوم هُوجٌ كأنما
جماجمها تحت الرِّحال قبور
رحلْنَ بنا من عَقْرَقُوفَ٦٤ وقد بدا
من الصبح مفتوقُ الأديم شَهيرُ
فما نَجِدتْ٦٥ بالمَاء حتى رأيتُها
مع الشمس في عينْي أَبَاغَ تَغُورُ
وغُمِّرْن من ماء النقيب بشَرْبةِ
وقد حان من ديك الصباح زَمِيرُ
ووافَيْنَ إشراقًا كنائسَ تَدْمُرٍ
وهنّ إلى رُعْن المدخّن صُورُ٦٦
يؤمْمَن أهلَ الغَوطتين كأنما
لها عند أهل الغُوطتيْن ثُئُورُ
وأصبحْنَ بالجولان يَرْضَخْن٦٧ صخرَها
ولم يبقَ من أجراحهن شُطُورُ
وقاسيْنَ ليلًا دونَ بيسانَ لم يكد
سَنَا صبحِه للناظرين يُنيرُ
وأصبحن قد فوَّزْنَ من نهر فطرسٍ
وهنّ عن البيت المقدّس زورُ٦٨
طوالب بالرُّكبان غرة هاشم
وفي الفَرَما من حاجِهن شُقُور٦٩
ولما أتت فسطاطَ مصر أجارها
على ركبها أن لا تزال مجيرُ
من القوم بَسَّامٌ كأن جبينَه
سَنَا الفجرِ يَسْري ضوءُه وينيرُ
زها بالخصيب السيفُ والرمح في الوَغَى
وفي السّلم يزهو مِنبرٌ وسريرُ
جوادٌ إذا الأيدي كففْنَ عن الندى
ومن دون عورات النساء غَيُورُ
له سَلَفٌ في الأعجمين كأنهم
إذا استُؤذنُوا يومَ السلام بدورُ
وإنِّي جدير إذ بلغتُك بالمنى
وأنت بما أَمّلتُ منك جديرُ
فإن تُولِني منك الجميلَ فأهلُه
وإلا فإنّي عاذرٌ وشَكُورُ

وقال يمدح العباس بن الفضل بن الربيع وأجاد:

ساد الملوكَ ثلاثةٌ ما منهمُ
إن حُصِّلُوا إلا أغرُّ قَرِيعُ
ساد الربيعُ وساد فضلٌ بعدَه
وعَلَتْ بعبَّاسِ الكريم فُروعُ
عباسُ عباسٌ إذا احتدَم الوَغَى
والفضلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ

وقال يعاتب عمر الوراق:

يا من جَفَاني وَملَّا
نسيتَ أهلًا وسَهْلَا
ومات مرحبُ لما
رأيتَ ماليَ قَلَّا
إني أظنّك تَحْكي
فيما فعلتَ القِرِلَّى٧٠
تلقاه في الشرَّ يَنْأَى
وفي الرخا يتدلَّى

وله في عزة النفس:

ومستعبدٍ إخوانَه بِثَرَائه
لبستُ له كبْرًا أبرّ على الكِبْرِ
إذا ضَمَّني يومًا وإياه مَحْفِلٌ
يرى جانبي وَعْرًا يزيد على الوَعْرِ
أُخالفه في شكله وأجرُّه
على المنطق المبرور والنظر الشزْرِ
وقد زادني تِيهًا على الناس أنني
أرانِيَ أَغْناهم وإن كنتُ ذا فَقْرِ
فوالله لا يُبْدي لساني لَجَاجَةً
إلى أحد حتى أُغَيَّب في قبري
فلا يطمعَنْ في ذاك منّيَ طامعٌ
ولا صاحبُ التاج المحجَّبُ في القصر
فلو لم أَرِثْ فخرًا لكانت صيانتي
عن الناس حَسْبي من سؤالي من الفَخْر

دخل أبو نواس بعد ما نسك على قوم من إخوانه عندهم شراب ومغن، فعرضوا عليه الجلوس فأبى، وأخذ الدواة والقرطاس وكتب:

إذا لم تَنْهَ نفسَك عن هواها
وتُحْسِن صونَها فإليكَ عنِّي
فإني قد شبِعْتُ من المعاصي
ومن إدمانها وشبِعْنَ منّي
ومن أسوأ وأقبح من لبيبٍ
يرى متطربًا في مثلِ سنِّي

ومن شعر أبي نواس:

عفَّى المصلَّى وأقوتِ الكُثُبُ
مِنّي فالمِرْبدانِ فالَّلهَبُ
منازلٌ قد عَمَرْتُها يَفَعًا
حتى بدا في عُذاري الشُّهُبُ
في فتيةٍ كالسيوف هَزّهمُ
شَرْخُ شبابٍ وزانَهم أدب
ثم أرابَ الزمانُ فانقسموا
أيدي سَبَا في البلاد فانشعبُوا
لن يُخْلِفَ الدهْر مثلَهم أبدا
على هيهاتَ شأنُهم عجبُ
لما تيقَّنْتُ أن رَوْحتَهم
ليس لها ما حييتُ منقلَبُ
أَبْليتُ صبرًا لم يُبْلِه أحد
واقتسمتْني مآربٌ شُعَبُ
لذاك أنّي إذا رُزِئتُ أخًا
فليس بيني وبينَه نَسَبُ
قُطْرَبّل مَرْبَعي ولي بُقرَى الـ
ـكرخِ مَصِيفٌ وأُمِّيَ العِنَبُ
تُرْضعُني دَرَّها وتُلْحِفُني
بطَلِّها والهَجيرُ يلتهبُ
إذا ثَنَتْه الغُصُونُ جلَّلنَي
فَيْنانُ٧١ ما في أَدِيمِه جَرَبُ
تَبِيت في مَأْتم حَمَائمه
كما تَرَاءَى الفَوَاقِدُ السُّلُبُ
يهُبُّ شَوْقي وشوقُهن معًا
كأنما يَسْتخِفُّنا الطَّرَبُ
فقمتُ أحْبُو إلى الرَّضَاع كما
تَحامَل الطفلُ مَسَّه السَّغَبُ
حتى تخيرتُ بنتَ دَسْكَرةٍ
قد عجمتْها السِّنُون والحِقَبُ
هتكتُ عنها والليلُ معتكرٌ
مهلهَلُ النَّسْجِ ما لَه هُدُبُ
من نَسْج خَرْقاء لا تُشَدّ لها
أَخِيّة في الثَّرَى ولا طُنُبُ
ثم توجَّأْتُ خَصْرَها بشَبَا الـ
ـإ شْفَى فجاءتْ كأنّها لَهَبُ
فاستوْسَقَ الشَّربُ للنَّدَام وأجـ
ـراها علينا اللُّجَيْنُ والغَرَبُ٧٢
أقول لما تحاكَيَا شبهًا
أيُّهما للتشابُهِ الذهَبُ
هما سواءٌ وفَرْقُ بينهِما
أنهما جامدٌ ومنسكِبُ
مُلْسٌ وأَمْثَالُها محفَّرَةٌ
صُوِّر فيها القُسُوس والصُّلُبُ
يَتْلُون إنجيلَهم وفَوْقَهُمُ
سماءُ خمرٍ نجومُها حَبَبُ
كأنّها لؤلؤٌ تبدِّدُه
أَيْدي عَذَارَى أَفْضى بها اللَّعِبُ

ومن جيد شعره قوله لما منعه الأمين من شرب الخمر، وذلك أن المأمون أمر الخطباء بخراسان أن يَعيبوا الأمين بشعر أبي نواس ويقولوا هو جليسه ونديمه وينشدوا على المنابر شعره، فمنعه الأمين فقال:

غنِّنا بالطلولِ كيف بَلِينَا
واسقِنا نُعْطِك الثناءَ الثمينَا
من سُلَافٍ كأنه كلُّ طِيبٍ
يتمنَّى مخبّر أن يكونا
أكل الدهرُ ما تجسَّم منها
وتبقَّى لُبَابَها المَكْنُونَا
ثم شُجَّت فاستضحَكتْ عن لآلٍ
لو تجمّعْنَ في يدٍ لاقْتُنِينَا
وإذا ما لَمْستَها فَهَباءٌ
تمنع الكفَّ ما تُبِيح العُيُونَا
في كئوسٍ كأنهنّ نُجُومٌ
جارِياتٌ بُرُوجُها أيدينَا
طالعاتٌ من السُّقَاةِ علينا
فإذا ما غَرَبْنَ يَغْرُبْنَ فينا
لو تَرَى الشَّرْبَ حولَهَا من بعيدٍ
قلتَ قَوْمٌ من قِرَّةٍ يَصْطَلُونا
وغزالٍ يُدِيُرها بَبَنان
ناعمَاتٍ يزيدُها العُسْرُ لِينَا
ذاكَ عيشٌ لو دام لي غيرَ أنّي
عِفْتُه مكرهًا وخِفْتُ الأمينَا
أدِرِ الكأسَ حان أن تسْقِينا
وانقُرِ العُودَ إنه يُلْهِينَا
ودَعِ الذكرَ للطُّلولِ إذا ما
دارتِ الكأسُ يَسْرةً ويَمِينَا

ومن قول أبي نواس يمدح العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر:

غرَّد الديكُ الصَّدُوح
فاسقِني طاب الصَّبُوحُ
اسقِني حتى تَرَاني
حَسَنًا عندي القبيحُ
قهوةً تذكر نوحًا
حين شاد الفلكَ نوحُ
نحن نُخْفيها ويأبَى
طيبُ عَرْفٍ فَيفُوح
فكأن القومَ نُهْبَى
بينهم مسكٌ ذَبِيحُ
أنا في دنيا من العبـ
ـباس أَغْدو وأروحُ
هاشِميٌ عَبْد لي
عنده يَغْلو المديحُ
علَم الجودِ كتابٌ
بين عينيه يَلوحُ
كلّ جو يا أميري
ما خلا جودكَ رِيحُ
إنما أنتَ عطايَا
أبدًا ما تستريحُ
بَحَّ صوتُ المالِ ممّا
منك يَشْكُو ويَصيحُ
ما لهذا أحدٌ فو
قَ يديه أو نَصيحُ
جُدْتَ بالأموالِ حتّى
قيل ما هذا صحيحُ
فهو بالمال جوادٌ
وهو بالعِرْضِ شحِيحُ
صُوِّرَ الجودُ مثالًا
وله العباسُ رُوحُ

قال محمد بن عيينة: لقيت أبا نواس بعسكر مكرم فقلت له: أحب أن تنشدني من شعرك شيئًا تضن به على غيري، فأنشدني:

يَكْفي الكريمَ من الكلا
م لمن يحادثه أَقَلُّه
والشيءُ شيءٌ لم يَزَلْ
بأدقِّه يأتي أجَلُّه
إن لم يُصِبْكَ من الكريـ
ـم الحُرِّ وابلُه فطَلُّهْ
يُبْدي مكارمَه كما
يُبْدي فِرِنْدَ السيفِ سَلُّهْ
والنذلُ يُوقِع نفسَه
متعمِّدًا فيما يُذِلُّهْ
والحرُّ يكرِم نفسَه
بالصفح عمّن لا يُجِلُّهْ

وقال أبو نواس يمدح الأمين:

صببتُ على الأمين ثيابَ مدحي
فكلُّ الناسِ حسَّن واستجادَا
ولولا فضلُه ما جاد شعري
ولا أعطتْنيَ الفِطَنُ القِيَادَا
وقالوا قد أجدتَ فقلتُ إنّي
وجدتُ القولَ يمكنُني فجادا

ومن خمرياته:

ذكر الصَّبُوحَ بسُحْرةٍ فارتاحا
وأملَّه ديكُ الصباح صِيَاحَا
أَوْفَى على شَرَفِ الجدار بسُدْفَةٍ
غَرِدًا يصفِّق بالجناحِ جَنَاحَا
فأدِرْ صباحَك بالصَّبُوحِ ولا تكن
كَمُسَوِّفِين غَدَوْا عليك شِحَاحَا
إن الصَّبُوحَ جِلَاء كل مخمّر
بدرتْ يَدَاه بكأسه الإصْبَاحَا
وخَدِينِ لَذَّاتٍ معلّل صاحبٍ
تقتاتُ منه فكاهةً ومزاحَا
نبَّهتُه والليلُ ملتبسٌ به
وأزحْتُ عنه نُعَاسَه فانزاحَا
قال ابْغِني المصباحَ، قلت له اتَّئِدْ
حَسْبي وحَسْبُك ضوءُها مصباحَا
فسكبتُ منها في الزجاجة شَرْبةً
كانت له حتى الصباحِ صَبَاحَا
مِن قهوةٍ جاءتْك قبل مِزَاجِها
عُطُلًا فألبسها المزاج وِشَاحَا
شَكَّ البِزَالُ فؤادَها فكأنها
أهدتْ إليك بريحها تُفَّاحَا
صفراء تفترسُ النفوسَ فلا ترى
منها بهنّ سوى السُّبَاتِ جِرَاحَا

ومنها:

لا تَبْكِ لَيْلَى ولا تطربْ إلى هند
واشربْ على الورد من حمراءَ كالوردِ
كأسًا إذا انحدرتْ في حلقِ شاربها
أجدَتْه حمرتَها في العين والخدِّ
فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ
من كف لؤلؤة ممشوقة القدِّ
تسقيك من طَرْفِها خمرًا ومن يدها
خمرًا فما لك من سكريْنِ من بُدِّ
لي نشوتانِ وللنَّدْمان واحدةٌ
شيءٌ خُصِصْتُ به من دونهم وَحْدِي

كان الأصمعي يفضل أبا نواس على شعراء زمانه بهذه القصيدة:

أما ترى الشمسَ حَلَّتِ الحَمَلَا
وطاب وقتُ الزمان واعتدلَا
وغَنَّتِ الطيرُ بعد عُجْمَتِها
واستوفتِ الخمرُ حَوْلَها كَمَلَا
واكتستِ الأرضُ من زخارِفها
وَشْيَ ثيابٍ تخالُه حُلَلَا
فاشربْ على جِدّة الزمان فقد
أصبح وجهُ الزمان مقتبلا
من قهوةٍ تُذْهِب الهمومَ فلا
أَرْهَبُ فيها الملامَ والعَذَلَا
كَرْخِيّةٍ تترك الطويلَ من العيـ
ـش قصيرًا وتبسُط الأملا
تَلْمَعُ لمعَ السرابِ في قَدَح الـ
ـقوم إذا ما حَبَابُها اتصلا
يقول صرِّف إذا مزجتُ له
من لم يكن للكثير محتمِلا
فسَقِّ هذا بقدر طاقته
واحملْ على ذا بقدر ما احتملا
عُجْنَا بشيئين من طبائعها
حسن وطيبٍ ترى به المَثَلَا

كان أبو نواس لا يستنشد شيئًا من شعره إلا أنشد هذه القصيدة:

وخَيْمةِ نَاطُورٍ٧٣ برأس مُنِيفةٍ
تَهُمَّ يدَا مَنْ رامها بزَلِيلِ٧٤
إذا عارضتْها الشمسُ فَاءَ ظلالُها
وإن واجهتْها آذنتْ بدُخُولِ
حَطَطْنا بها الأثقالَ فَلَّ٧٥ هَجِيرةٍ
عَبُورِيةٍ تُذْكَى بغير فَتِيلِ
تأنَّتْ٧٦ قَليلًا ثم فاءتْ بمَذْقَةٍ
من الظلِّ في رَثِّ الأَبَاءِ ضَئيلِ
كأنّا لديْها بين عِطْفَيْ نعامةٍ
جَفَا زورُها عن مَبْرَكٍ ومَقِيلِ
حلبتُ لأصحابي بها دِرَّةَ الصِّبَا
بصَهْباءَ من ماء الكروم شَمُولِ
إذا ما أتتْ دون اللَّهاةِ من الفتى
دعا همُّه من صدره برَحِيلِ
فلما توفَّى الشمسَ جِنْحٌ من الدُّجَى
تصابيتُ واستجملتُ غيرَ جَميل
وعاطيتُ من أَهْوَى الحديثَ كما بدا
وذللْتُ صعبًا كان غيرَ ذَلِيلِ
فغنَّى وقد وسَّدْتُ يُسْرايَ خدَّه
ألا ربما طالبتُ غيرَ مُنِيلِ
وأنزلتُ حاجاتي بحَقْوَيْ مساعدٍ
وإن كان أدنى صاحب وخليلِ
وأصبحتُ أَلْحَى السكَر والسكُر محسِنٌ
ألا رُبَّ إحسانٍ عليكَ ثقيلِ
كفى حَزَنًا أن الجوادَ مقتَّرٌ
عليه ولا معروفَ عند بَخِيلِ
سأَبْغي الغنى إما جليسَ خليفةٍ
يقوم سواء أو مخيفَ سبيلِ
بكلّ فتًى لا يُسْتطارُ جَنَانُه
إذا نوَّه الزَّحْفانِ باسم قَتِيلِ
لنَخْمسَ مالَ الله من كلّ فاجرٍ
أخي بِطْنةٍ للطّيبات أَكُول
ألم ترَ أن المالَ عَوْنٌ على النَّدَى
وليس جوادٌ مقترٌ كبخيلِ

فإن استُزيد أنشد هذه القصيدة الأخرى:

كان الشبابُ مطيةَ الجهل
ومحسِّن الضحكاتِ والهَزْلِ
كان الجمالَ إذا ارتديتُ به
ومشيتُ أَخْطِر صَيِّتَ النعلِ
كان البليغَ إذا نطقتُ به
وأصاخِت الآذانُ للمُمْلي
كان المشفَّع في مآربه
عند الفتاةِ ومدرِك التَّبْلِ
والآمري حتى إذا عزمت
نَفْسي أعان يديّ بالفِعْلِ
فالآن صرتُ إلى مقاربة
وحططتُ عن ظهر الصِّبَا رَحْلي
والراح أَهْواها وإن رَزَأتْ
بُلَغَ المعاشِ وقلَّلتْ فَضْلي
صفراء مجَّدها مَرَازِبُها
جَلَّتْ عن النُّظَراءِ والمِثْلِ
ذُخرتْ لآدمَ قبل خِلْقتِه
فتقدّمتْه بحُظوة القَبْلِ
فأتاك شيءٌ لا تلامسُه
إلا بحسنِ غَريزة العقل
فَتُرود منها العينُ في بَشَرٍ
حُرِّ الصَفيحة ناصِعٍ سَهْلِ
فإذا علاها الماءُ ألبَسها
حَبَبًا شبيهَ جَلاجل الحِجلِ
حتى إذا سكنتْ جَوَامحُها
خطَّت بمثل أكارع النَّمْلِ
خطَّيْن من شتَّى ومجتمع
غُفْلٍ من الإعجام والشَّكْلِ
فاعذِر أخاك فإنه رجلٌ
مَرَنتْ مسامعُه على العَذْلِ

ومن طيب شعره، والشطر الأول من القصيدة لفظ ابن الدمينة:

أعاذَل ما على وجهي قُتُومُ
ولا عِرْضي لأولِ مَنْ يَسُومُ
يفضِّلني على الفتيان أَنّي
أَبِيتُ فلا أُلَام ولا أَلُوم
أعاذل إن يكن بُرْدَايَ رَثَّا
فلا يَعْدَمْك بينهما كريمُ
شُقِقْتُ من الصبا واشْتُقَّ منّي
كما اشتُقَّتْ من الكَرم الكُرُومُ
فلست أَسُومُ للذات نفسي
مياومةً كما دفع الغريمُ
ومتصلٍ بأسباب المعالي
له في كل مكرُمةٍ قديمُ
رفعتُ له النداءَ بقُمْ فَخُذْها
وقد أخذتْ مطالَعها النجومُ
بتَفْديةٍ تزال النفسُ فيها
وتُمْتهن الخئولةُ والعمومُ
فقام وقمتُ من أخوينْ هاجا
على طربٍ وليلُهما بَهِيمُ
أجرّ الزِّقَّ وهو يجرّ رجلا
يجور به النعاسُ ويستقيمُ
سَلِ النَّدْمان ما أولْته منها
وسَلْها ما احتوى منها الكريمُ
كلا الشخصيْن منتصِفٌ ولكن
قضتْ وَطَرًا وذا منها سَقِيمُ

وقال:

إنِّي صرفتُ الهوى إلى قَمَرٍ
لم تبتذله العيونُ بالنظرِ
إذا تأملَته تعاظمك الـ
ـإقرارُ أنه من البَشَرِ

ومن قوله:

يا شقيقَ النفسِ من حَكَمِ
نمتَ عن ليلى ولم أَنَمِ
فاسْقِني البكَر التي اختمرت
بخِمَار الشيبِ في الرَّحِم
ثُمَّتَ انْصَاتَ الشبابُ لها
بعد ما جازتْ مَدَى الهَرَمِ
فهي لليوِم التي بُزِلتْ
وهي تِرْبُ الدهرِ في القِدَمِ
عَتُقتْ حتّى لو اتصلتْ
بلسانٍ ناطقٍ وفَمِ
لاحتبتْ في القوم ماثلةً
ثم قصَّتْ قصّةَ الأمم
فرعَتْها بالمزاج يَدٌ
خُلِقَتْ للسيفِ والقلم
في نَدَامَى سادةٍ زُهُرٍ
أخذوا اللذاتِ من أَمَم
فتمشّتْ في مفاصلهم
كتمشِّي البُرْء في السَّقَم
فعلتْ في البيتِ إذ مُزِجَتْ
مثلَ فعلِ الصبح في الظُّلَمِ
فاهتدى ساري الظلام بها
كاهتداء السَّفْر بالعَلَمِ

ومن طرديات أبي نواس في صفة الكلب:

أنعتُ كلبًا أهلُه من كَدِّهْ
قد سعِدتْ جُدودُهم بجَدِّهْ
فكلّ خيرٍ عندَهم من عِنْدِه
وكل رِفْد نالهم من رِفْدهْ
يظَلّ مولاه له كعبدهْ
يبيتُ أَدنى صاحبٍ من مَهْدِهْ
وإن عرى جلَّله ببُرْدِهْ
ذا غُرَّة محجَّلًا بِزَنْدِهْ
تلَذُّ منه العينُ حسنَ قدِّه
يا حُسْنَ شِدْقَيْه وطولَ قدِّه
تَلْقَى الظباءُ عنتًا من طَرْدِهْ
يشربُ كأسًا شُّدها من شَدِّهْ
يا لك من كلبٍ نسيج وَحْدِهْ

أبو نواس وجنان

قال أبو الفرج: كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت حلوة جميلة المنظر أديبة، ويقال: إن أبا نواس لم يَصدُق في حب امرأة غيرها، وقيل له يومًا إن جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجه وقال: أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها! وقال وقد حج وعاد:

ألم تر أنني أفنيتُ عمري
بمطلبها ومطلبُها عسيرُ
فلما لم أجدْ سببًا إليها
يقرِّبني وأعيَتْني الأمورُ
حجَجْتُ وقلتُ قد حَجَّتْ جنانٌ
فيجمَعُني وإياها المَسِيرُ

قال من شهده حين حج مع جنان وقد أحرم: لما جنَّه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو به ويطرب، فغنى به كلُّ من سمعه وهو قوله:

إِلهنا ما أعدَلَكْ
مَلِيكَ كلِّ من مَلَكْ
لبَّيْكَ قد لبَّيْتُ لكْ
لبيكَ إن الحمدَ لكْ
والملكَ لا شريكَ لكْ
والليلَ لما أنْ حَلَكْ
والسابحات في الفَلَكْ
على مَجَاري المُنْسلَكْ
ما خاب عبدٌ أمَّلَكْ
أنت له حيثُ سَلَكْ
لولاك يا ربِّ هلَكْ
كلُّ نبيٍّ ومَلَكْ
وكل مَنْ أهلَّ لكْ
سبَّح أو لبَّى فلَكْ
يا مخطئًا ما أغفلك
عجِّل وبادرْ أجَلكْ
واختمْ بخيرٍ عملَكْ
لبَّيك إن الملكَ لَكْ
والحمدُ والنعمةُ لكْ
والعزُّ لا شريكَ لكْ

وفيها يقول:

جَفْنُ عينِي قد كان يسـ
ـقطُ من طولِ ما اختلجْ
وفؤادي من حرّ حبـ
ـك والهجرِ قد نَضَجْ
خبِّريني فدتكِ نفـ
ـسي وأهلي متى الفرجْ
كان ميعادُنا خرو
جَ زيادٍ فقد خرجْ
أنت من قتلِ عائذٍ
بِك في أضيقِ الحَرَجْ

قال الأصفهاني: قال محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي: دخلنا على أبي نواس نعوده في علته التي مات فيها، فقال له علي بن صالح الهاشمي: يا أبا علي، أنت في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله عز وجل هناتٌ، فتب إلى الله عز وجل. فبكى ساعة ثم قال: ساندوني ساندوني! ثم قال: أأخوَّفُ بالله عز وجل وقد حدثني حماد بن مسلم عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : «لكل نبي شفاعة، وإني اختبأتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة.» أفتراني لا أكون منهم؟

ومن قوله في مرض موته:

دبَّ فيَّ السقامُ عُلْوًا وسُفْلًا
وأراني أموتُ عُضْوًا فعُضْوا
ليس تمضي من لحظةٍ بيَ إلّا
نقصتني بمَرِّها فيَّ جُزْوَا
ذهبتْ جِدّتي بحاجة نفسي
وتطلبتُ طاعةَ الله نِضْوا
لهفَ نفسي على ليلٍ وأيا
م تجاوزتُهن لِعْبًا ولَهْوًا
قد أسأنا كلَّ الإساءة فاللـ
ـهمّ صفحًا عنا وغَفْرًا وعَفْوَا

ثم قال:

شِعْر حيٍّ أتاكَ من لفظ مَيْتٍ
صار بين الحياة والموت وَقْفَا
قد برتْ جسمَه الحوادثُ حتى
كاد عن عين الخلائق يَخْفَى
لو تأملتَني لتُبْصِرَ وجهي
لم تبِنْ من كتاب وجهِيَ حَرْفَا
ولكرَّرْتَ طَرْفَ عينيكَ فيمن
قد براه السقام حتى تعَفَّى

وكان عُمْر أبي نواس تسعًا وخمسين سنة، وكانت وفاته قبل دخول المأمون مدينة السلام بست سنين (سنة ١٩٨).

(٢) العتَّابي٧٧

قال أحمد بن سهل: تذاكرنا شعر العتابى فقال بعضنا: فيه تكلف، ونصره بعضنا، فقال: شيخ حاضر: ويحكم! أيقال إن في شعره تكلفًا وهو القائل:

رُسُلُ الضّمير إليك تَتْرَى
بالشوق ظالِعةً وحَسْرَى
متزجِّيَات٧٨ ما يَنِيـ
ـنَ على الوَجَا من بعد مَسْرَى
ما جَفَّ للعينين بعـ
ـدك يا قَرِيرَ العينِ مَجْرَى
فاسْلَمْ سلِمتَ مُبَرّأً
من صَبْوتي أبدًا مُعَرَّى
إن الصبابةَ لم تَدَعْ
منِّي سوى عَظْمٍ مُبَرَّى
ومدامعٍ عَبْرَى على
كبدٍ عليك الدهرَ حَرَّى

أو يقال إنه متكلف وهو الذي يقول:

فلو كان للشكر شخصٌ يَبين
إذا ما تأمّله الناظرُ
لمثّلتُه لك حتى تراه
لتعلم أنّي امرؤ شاكر

وَجِد الرشيد على العتابي فدخل سرًّا مع المتظلمين بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين، قد آذتني الناس لك ولنفسي فيك، وردَّني ابتلاؤهم إلى شكرك، وما مع تذكرك قناعة بغيرك، ولنِعْم الصائن لنفسي كنت لو أعانني عليك الصبر، وفي ذلك أقول:

أَخِضْني المقامَ الغَمْر إن كان غَرّني
سَنَا خُلّبٍ أو زَلّت القَدَمانِ
أتتركني جَدْبَ المعيشة مُقْترًا
وكفّاك من ماء الندى تَكِفَانِ
وتجعلني سهم المطامع بعد ما
بَلَلْتَ يميني بالندى ولساني

فأَعجبَ الرشيدَ قولُه، وخرج وعليه الخلع، وقد أمر له بجائزة.

كلَّم العتابي يحيى بن خالد في حاجة بكلمات قليلة، فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقل. فقال له: وكيف لا يقل وقد تكنفني ذل المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد؟ فقال: والله لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده، وقضى حاجته.

قال يحيى بن خالد البرمكي لولده: إن قدرتم أن تكتبوا أنفاس كلثوم بن عمرو العتابي فضلًا عن رسائله وشعره، فلن تروا أبدًا مثله.

وقف العتابي بباب المأمون يلتمس الوصول إليه، فصادف يحيى بن أكثم جالسًا ينتظر الإذن، فقال له: إن رأيتَ — أعزك الله — أن تذكر أمري لأمير المؤمنين إذا دخلت فافعل. قال له: لستُ — أعزك الله — بحاجبه. قال: فإن لم تكن حاجبًا فقد يفعل مثلُك ما سألتُ، واعلم أن الله عز وجل جعل في كل شيء زكاة، وجعل زكاة المال رفد المستعين، وزكاة الجاه إغاثة المهلوف؛ واعلم أن الله عز وجل مقبل عليك بالزيادة إن شكرت، أو التغيير إن كفرت. وإني لك اليوم أصلح منك لنفسك، لأني أدعوك إلى ازدياد نعمتك وأنت تأبى. فقال له يحيى: أفعل وكرامة. وخرج الإذن ليحيى، فلما دخل لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن استأذن المأمون للعتابي، فأذن له.

وقيل له: لو تزوجت! فقال: إني وجدت مكابدة العفة أيسر عليَّ من الاحتيال لمصلحة العيال.

قال دعبل: ما حسدتُ أحدًا قط على شعر كما حسدت العتابي على قوله:

هَيْبَةُ الإخوانِ قاطعةٌ
لأخي الحاجات عن طَلَبه
فإذا ما هِبتَ ذا أمل
مات ما أمّلتَ من سببهْ

كان العتابي جالسًا ذات يوم ينظر في كتاب، فمر به بعض جيرانه، فقال: أيش ينفع العلم والأدب مَن لا مال له؟ فأنشد العتابي قوله:

يا قَاتَل اللهُ أقوامًا إذا ثَقِفُوا
ذا اللُّب ينظر في الآداب والحِكَم
قالوا: وليس بهم إلا نَفَاسَتُه٧٩
أنافعٌ ذا من الإقتار والعُدُم
وليس يدرون ما الحظّ الذي حُرُموا
— لحاهم الله — من عِلْم ومن فَهَم

ومن قوله أيضًا:

لئن كانت الدنيا أنالتْك ثروةً
فأصبحتَ ذا يُسر وقد كنت ذا عُسْرِ
لقد كشّف الإثراءُ منك مَخازِيًا
من اللؤم كانت تحت سِتْر من الفقر

وقال أيضًا:

رحَل الرجاءُ إليك مغترِبا
حُشِدَتْ عليه نوائبُ الدهر
ردّتْ إليك نَدامتي أملي
وثنا إليك عِنانه شكري
وجعلتُ عَتْبَك عَتْبَ موعظة
ورجاءَ عفوك منتهى أملي

لما سعى منصور النمري بالعتابي إلى الرشيد اغتاظ عليه فطلبه، فستره جعفر بن يحيى عنه مدة وجعل يستعطفه عليه حتى استل ما في نفسه وأمَّنه، فقال يمدح جعفر بن يحيى:

ما زلتُ في غَمَرات الموت مُطَرَّحًا
قد ضاق عني فسيحُ الأرض من حِيلي
ولم تَزَل دائبًا تسعى بلطفك لي
حتى اختلستَ حياتي من يَدَيْ أَجَلي

عاد عبد الله بن طاهر وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب كلثوم بن عمرو العتابي في علة اعتلها، فقال الناس: هذه خطرة خطرت. فبلغ ذلك العتابي، فكتب إلى عبد الله بن طاهر:

قالوا الزيارةُ خَطْرَةٌ خَطَرتْ
وبِحارُ بِرّك ليس بالخَطْر
أَبْطِلْ مقالتهم بثانية
تستنفِد المعروفَ مِنْ شكري

فلما بلغت أبياته عبد الله بن طاهر ضحك من قوله وركب هو وإسحاق فعاداه مرة ثانية.

كانت له امرأة من باهلة، فلما مضى إلى رأس عين قالت له: هذا منصور النمري، قد أخذ الأموال فحلى نساءه وبنى داره واشترى ضياعًا وأنت ههنا كما ترى! فأنشأ يقول:

تلوم على تَرْك الغِنى باهلِيّةٌ
ذوى الفقر عنها كلَّ طِرْف وتالد
رأت حولها النّسوان يرفُلن في الثرى
مقلَّدة أعناقُها بالقلائد
أسرَّكِ أني نلتُ ما نال جعفر
من العيش أو ما نال يحيى بن خالد
وأن أميرَ المؤمنين أغصّني
مغصهما بالمُرْهَفات البَوارد
رأيتُ رفيعات الأمور مَشُوبةً
بمستودَعات في بطون الأساود
دعيني تَجِئْني ميتتي مطمئنةً
ولم أتجشّم هولَ تلك الموارد
لما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون أذن له، فدخل عليه وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكان العتابي شيخًا جليلًا نبيلًا، فسلَّم فرد عليه وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبَّل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق، فاستظرف المأمون ذلك وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإيناس قبل الإبساس.٨٠ فاشتبه على المأمون قوله، فنظر إلى إسحاق مستفهمًا، فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم، فقال: يا غلام، ألف دينار! فأتى بذلك، فوضع بين يدي العتابي وأخذوا في الحديث، وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق، فبقى العتابي متعجبًا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ قال: نعم سل. فقال لإسحاق: يا شيخ، من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كُلْ بصل. فتبسم العتابي وقال: أما أنت فمعروف وأما الاسم فمنكر. فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كُلْ بصل، واسمك كلثوم، وكلثوم من الأسماء، أو ليس البصل أطيب من الثوم؟ فقال له العتابي: لله درك! فما أحجك، أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أصله بما وصلتني به؟ فقال المأمون: بل ذلك موفَّر عليك ونأمر له بمثله. فقال له إسحاق: أما إذ أقررت بهذه فتوهمني تجدني. فقال: ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي يتناهى إلينا خبره. قال: أنا حيث ظننت. وأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون — وقد طال الحديث بينهما: أما إذ قد اتفقتما على المودة فانصرفا متنادمَيْن. فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.

قال عثمان الوراق: رأيت العتابي يأكل خبزًا على الطريق بباب الشام، فقلت له: ويحك! أما تستحي؟ فقال لي: أرأيت لو كنا في دار بها بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ فقال: لا! قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر! فقام فوعظ وقص ودعا حتى كثر الزحام عليه ثم قال لهم: روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار! فما بقي أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدره حتى يبلغها أم لا، فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟

قال الفضل: رأيت العتابي بين يدي المأمون وقد أسنَّ، فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده واعتمد الشيخ على المأمون، فما زال المأمون ينهضه رويدًا رويدًا حتى أقله فنهض.

وكتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له يستجديه:
أما بعد — أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة — فإنك كنتَ عندنا روضة من رياض الكرم، تبتهج النفوس بها، وتستريح القلوب إليها؛ وكنا نعفيها من النُّجْعة٨١ استتمامًا لزهرتها، وشفقة على خضرتها، وادخارًا لثمرتها، حتى أصابتنا سنة كانت عندي قطعة من سِنِي يوسف اشتد علينا كَلَبها،٨٢ وغابت قطتها، وكذبتنا غيومها، وأخلفتنا بروقها، وفقدنا صالح الإخوان فيها، فانتجعتك. وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك، مع علمي بأنك موضع الرائد،٨٣ وأنك تغطي عين الحاسد. والله يعلم أني ما أعدُّك إلا في حومة٨٤ الأهل. واعلم أن الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يمكنه الكثير، لم يعرف جوده ولم تظهر همته. وأنا أقول في ذلك:
إذا تكرمت عن بذل القليل ولم
تقدِر على سَعَة لم يظهر الجُود
بث النوالَ ولا تمنعك قِلّته
فكل ما سَدّ فقرًا فهو محمود

قيل فشاطره جميع ماله.

(٣) دِعبِل٨٥

شاعر متقدم مطبوع هجَّاء خبيث اللسان، لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أم لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أو صغير.

وكان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى عليٍّ صلوات الله عليه. وقصيدته: «مدارس آيات خلت من تلاوة» من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام، وقصد بها أبا علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه، وخلع عليه خلعة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قُم ثلاثين ألف درهم، فلم يبعها فقطعوا عليه الطريق فأخذوها؛ فقال لهم: إنها إنما تُراد لله عز وجل وهي محرَّمة عليكم. فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فردَ كُمٍّ، فكان من أكفانه.

قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولًا في دعبل يحرضه عليه؛ فضحك المأمون وقال: إنما تحرضني عليه لقوله فيك:

يا معشرَ الأجناد لا تَقْنَطوا
وارضَوْا بما كان ولا تَسخَطوا
فسوف تُعْطَوْن حُنّيْنِيّةً٨٦
يَلْتَذّها الأَمْردُ والأشْمَط
والمَعْبَدِيّات٨٧ لقُوادكم
لا تدخل الكيسَ ولا تُرْبَط
وهكذا يرزق قوَّادَه
خليفةٌ مُصْحفه البَرْبَط
قد ختَم الصَّكَّ بأرزاقكم
وصحّح العزمَ فلا تسخَطوا
بَيْعَةُ إبراهيم مشئومةٌ
يُقْتَل فيها الخَلق أو يَقْحَطوا

فقال له إبراهيم: فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين. فقال: دعْ هذا عنك، فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا! وضحك. ثم دخل أبو عباد، فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم: دعبل يجسر على أبي عباد في الهجاء ويحجم عن أحد! فقال له: وكأن أبا عباد أبسط يدًا منك يا أمير المؤمنين! قال: لا! ولكنه حديد جاهل لا يؤمَن، وأنا أحلم وأصفح، والله ما رأيت أبا عباد مقبلًا إلا أضحكني قول دعبل فيه:

أولى الأمورِ بضَيْعةٍ وفساد
أمرٌ يدبِّره أبو عَبّاد
خَرِقٌ على جلسائه فكأنهم
حضَروا لِمَلْحَمة ويومِ جِلاد
يَسطو على كتَّابه بِدَواته
فَمُضَمّخ بدم وَنضْح مِداد
وكأنه من دَيْرِ هِرْقِل مُفْلتٌ
حَرِد يجرّ سلاسل الأقياد
فاشدُدْ أميرَ المؤمنين وَثاقه
فأصَحُّ منه بقيّة الحَدّاد

وكان «بقيّة» هذا مجنونًا في البيمارستان.

قال أبو خالد الخزاعي لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعًا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك! فقال: ويحك! إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي الشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يُخَف شره، ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرَّفته شَرُف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك أوجعتَ عِرض غيره وفضحته اتقاك وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع! فضحك أبو خالد وقال: هذا والله مقال من لا يموت حتف أنفه.

كان سبب خروج دعبل من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار، فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة، فجلسا على طريق رجل من الصيارفة، وكان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله، فلما طلع مقبلًا إليهما وثبا إليه فجرحاه وأخذا ما في كمه، فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة، ولم يكن كيسه ليلتئذ معه، ومات الرجل مكانه، واستتر دعبل وصاحبه، وجَدَّ أولياء الرجل في طلبهما وجَدَّ السلطان في ذلك، فطال على دعبل الاستتار فاضطر إلى أن هرب من الكوفة، فما دخلها حتى لم يبقَ من أولياء الرجل أحد.

قال أحمد بن خالد: كنا يومًا بدار صالح بن علي من عبد القيس ببغداد ومعنا جماعة من أصحابنا، فسقط على سطح البيت ديك طار من دار دعبل، فلما رأيناه قلنا: هذا صيدنا، فأخذناه، فقال صالح: ما نصنع به؟ قلنا: نذبحه. فذبحناه وشويناه، وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح، فطلبه منا فجحدناه وشربنا يومنا، فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة ثم جلس على باب المسجد — وكان ذلك المسجد مجمع الناس يجتمع فيه جماعة من العلماء وينتابهم الناس — فجلس دعبل على باب المسجد وقال:

أَسَرَ المؤذِّنَ صالحٌ وضيوفُه
أسْرَ الكَميّ هَفَا خِلال المأقِط
بَعثوا عليه بَنِيهمُ وبَناتهم
من بين ناتِفةٍ وآخَر سامِط
يتنازعون كأنهم قد أوثَقوا
خَاقان أو هَزموا قبائلَ ناعط٨٨
نَهَشوه فانتُزعت له أسنانُهم
وتهشّمت أقفاؤُهم بالحائط

فكتبها الناس عنه ومضوا؛ فقال لي أبي، وقد رجع إلى البيت: ويحكم! ضاقت عليكم المآكل فلم تجدوا شيئًا تأكلونه سوى ديك دعبل! ثم أنشدنا الشعر، وقال: لا تدع ديكًا ولا دجاجة تقدر عليه إلا اشتريته وبعثت به إلى دعبل وإلا وقعنا في لسانه! ففعلت ذلك.

قال أحمد بن أبي كامل: كان دعبل ينشدني كثيرًا هجاءً له، فأقول له: فيمن هذا؟ فيقول: ما استحقه أحد بعينه بعد، وليس له صاحب، فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه وذكر اسمه في الشعر.

كان دعبل يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، وهو خرَّجه وفهَّمه وأدَّبه، فظهر له منه جفاء وبلغه أنه يعيبه ويذكره وينال منه، فقال يهجوه:

يا بُؤْس للفضل لو لم يأتِ ما عَابَهْ
يستفرغ السّمَّ من صَماء قِرضَابَهْ
ما إن يزال وفيه العيبُ يجمعه
جهلًا لأعراض أهلِ المجد عيّابهْ
إن عابني لم يَعِبْ إلا مؤدِّبه
ونفسَه عاب لمَّا عاب أدَّابهْ
فكان كالكلب ضَرّاه مكلِّبه
لغيره فعدا فاصطاد كلّابهْ

كان دعبل يقول: ما كانت لأحد قط عندي منَّة إلا تمنيتُ موته.

كتب دعبل إلى أبي نهشل بن حميد الطوسي قوله:

إنما العيشُ في مُنادمة الإخوا
ن لا في الجلوس عند الكَعاب
وبصِرفٍ كأنها ألْسُن البَر
قِ إذا استعرضَتْ رقيقَ السّحاب
إن تكونوا تركتُمُ لذّةَ العيـ
ـش حِذارَ العِقاب يومَ العقاب
فدعوني وما ألذُّ وأهوى
وادفعوا بي في صدر يوم الحساب

قال محمد بن زكريا الفرغاني: سمعت دعبلًا يقول في كلام جرى «لَيْسَك» فأنكرته عليه؛ فقال: دخل زيد الخيل على النبي فقال له: «يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه لَيْسَك.» يريد غيرك.

قال عمرو بن مسعدة: حضرت أبا دلف عند المأمون وقد قال له المأمون: أي شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم؟ فقال: وأي أخي خزاعة يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن تعرف فيهم شاعرًا؟ فقال: أما من أنفسهم فأبو الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وداود بن أبي رزين، وأما من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله. فقال: ومن عسى من هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل! هات أي شيء عندك فيه؛ فقال: وأي شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم، فقرن إحسانهم بالإساءة وبذلهم بالمنع وجودهم بالبخل، حتى جعل كل حسنة منهم بإزاء سيئة منه! قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول في المطلب بن عبد الله بن مالك، وهو أصدق الناس له وأقربهم منه، وقد وفد إليه إلى مصر فأعطاه الجزيل وولاه، ولم يمنعه ذلك أن قال فيه:

اِضرِبْ نَدَى طَلْحَةِ الطَّلْحات متئِدًا
بلؤم مطَّلِبٍ فينا وكن حَكَما
تُخْرج خُزَاعةَ من لؤم ومن كَرَم
فلا تحِسّ لها لؤمًا ولا كرما

فقال المأمون: قاتله الله! ما أغوصه وألطفه وأدهاه! وجعل يضحك. ثم دخل عبد الله بن طاهر فقال: أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل؟ فقال: أحفظ أبياتًا له في أهل بيت أمير المؤمنين. قال: هاتها ويحك! فأنشده:

سَقْيًا ورَعيًا لأيام الصَّبَابات
أيام أرفُل في أثواب لذّاتي
أيام غصني رطيبٌ من ليَانته
أصبو إلى غير جاراتٍ وكُنّات
دعْ عنك ذكر زمان فات مَطلبُه
واقذِف برحلك عن مَتْن الجَهَالات
واقصِد بكل مديح أنت قائلُه
نحو الهُداة بَني بيت الكَرَامات

فقال المأمون: إنه قد وجد والله مقالًا فقال، ونال ببعيد ذكرهم ما لا يناله في وصف غيرهم.

ومن قول دعبل وفيه غناء:

أيْنَ الشباب وأَيّةً سلَكا
لا أين يُطلب ضَلّ من هَلَكا
لا تعجبي يا سَلْم من رجل
ضحِك المشيبُ برأسه فَبَكى
يا ليت شعري كيف يومُكما
يا صاحبيّ إذا دَمي سُفِكا
لا تأخذوا بظُلامتي أحدًا
قلبي وطَرْفي في دمي اشتركا

قال إبراهيم بن المدبر: لقيت دعبل بن علي فقلت له: أنت أجسر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول:

إني من القوم الذين سيوفُهم
قتلَتْ أخاك وشرّفتك بمَقْعَد
رفعوا محلِّك بعد طول خموله
واستنقذوك من الحضيض الأوْهَد

وأولها:

أخذ المشيبُ من الشباب الأغيدِ
والنائباتُ من الأنام بمَرْصد

فقال: يا أبا اسحاق، أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها.

كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاد وأثرى، وكانت الشراة والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرون به، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه: نفنف وشعف، وكانا مغنيين، فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم، فكانوا قد عرفوه وألفوه لكثرة أسفاره، وكانوا يواصلونه ويصلونه. وأنشد دعبل لنفسه في بعد أسفاره:

حلّلتُ مَحَلًّا يقصرُ البرقُ دونه
ويعجز عنه الطيفُ أن يَتجشَّما

قال البحتري: دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد؛ لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم؛ وكان يتعصب له.

كان المعتصم يبغض دعبلًا لطول لسانه. وبلغ دعبلًا أنه يريد اغتياله وقتله، فهرب إلى الجبل؛ وقال يهجوه:

بَكى لِشَتات الدين مكتئِبٌ صبُّ
وفاض بفَرْط الدمع من عينه غَرْبُ
وقام إمام لم يكن ذا هِدَاية
فليس له دين وليس له لُب
وما كانت الأنباءُ تأتي بمثله
يُمَلَّك يومًا أو تدين له العُرْب
ولكن كما قال الذين تتابعوا
من السّلَف الماضِين إذ عظَم الخطب
ملوك بني العباس في الكُتْبِ سبعةٌ
ولم تأتنا عن ثامن لهمُ كُتْب
كذلك أهلُ الكهف في الكهف سبعةٌ
خِيارٌ إذا عُدّوا وثامِنهم كَلْب
وإني لأُعلي كلبَهم عنك رفعةً
لأنك ذو ذَنب وليس له ذنب
لقد ضاع مُلك الناس إذ ساس مُلكَهم
وَصِيفٌ وأَشنَاس وقد عَظُم الكرب
وفَضْل بن مروان يُثَلّم ثُلمةً
يظل لها الإسلام ليس له شَعْب

لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:

قد قلتُ إذ غَيّبوه وانصرفوا
في خير قبر لخيرِ مدفون
لن يجبر اللهُ أمّةً فقدتْ
مثلَك إلا بمثل هارون

فقال دعبل يعارضه:

قد قلتُ إذ غيبوه وانصرفوا
في شرّ قبر لشر مدفون
اِذهب إلى النار والعذاب فما
خَلْقُك إلا من الشياطين
ما زلت حتى عقدتَ بَيْعةَ مَنْ
أضرّ بالمسلمين والدين

وقال في ذلك وفي قيام الواثق:

الحمدُ لله لا صَبْرٌ ولا جَلَدُ
ولا عزاءٌ إذا أهلُ البَلَا رقدوا
خليفةٌ مات لم يحزَن له أحد
وآخرٌ قام لم يفرح به أحد

ولقد أحسن في وصف سفر سافره، فطال ذلك السفر عليه، فقال فيه:

ألم يَأنِ للسَّفْر الذين تحمّلوا
إلى وطنٍ قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملِك سوابِقَ عَبْرة
نَطَقْن بما ضُمّت عليه ضلوع
تبيّنْ فكم دارٍ تفرّق شملُها
وشَمْلٍ شتِيتٍ عاد وهو جَميع
كذاك الليالي صَرْفُهنّ كما ترى
لكل أناس جَدْبةٌ ورَبيع

ثم قال: ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري وهجيراي ومسليتي حتى أعود.

ومن قول دعبل وفيه غناء:

سَرَى طيفُ ليلى حين آن هُبُوبُ
وقضّيت شوقًا حين كاد يذوب
فلم أرَ مطروقًا يحلّ برِحلة
ولا طارقًا يَقرِى المُنى ويُثيب

ومن قوله:

لقد عجبتْ سَلْمى وذاك عجيبُ
رأت بي شيبًا عجّلته خُطوبُ
وما شيّبتني كَبْرةٌ غير أنني
بدهرٍ به رأسُ الفطيم يَشيب

وقال في صالح بن عطية الأضجم، وكان من أقبح الناس وجهًا، وخاطب فيها المعتصم:

قل للإمام إمامِ آل محمد
قول امرئ حدِبٍ عليك مُحَام
أنكرت أن تفترَّ عنك صنيعةٌ
في صالح بن عَطيّة الحَجّام
ليس الصنائع عنده بصنائع
لكنهن طَوائلُ الإسلام
اِضربْ به جيشَ العدوّ فإنه
جيشٌ من الطاعون والبِرْسام

قال أبو تمام: ما زال دعبل مائلًا إلى مسلم بن الوليد مقرًّا بأستاذيته، حتى ورد عليه بجرجان فجفاه مسلم، وكان فيه بخل، فهجره دعبل وكتب إليه:

أبا مَخْلَدٍ كنا عَقِيدَي مودّة
هوَانا وقَلْبانا جميعًا مَعًا معا
أحوطك بالغيب الذي أنتَ حائطي
وأجزع إشفاقًا مِن أنْ تتوجّعا
فصيّرتني بعد انتكاثك مُتْهِمًا
لنفسي عليها أرْهَبُ الخلق أجمعا
غششتَ الهوى حتى تداعت أصولُه
بنا وابتذلتَ الوصلَ حتى تقطّعا
وأنزلتَ من بين الجوانج والحَشى
ذخيرةَ وُدٍّ طالما قد تمنّعا
فلا تَلْحَيَنِّي ليس لي فيك مطَمعٌ
تخرّقتَ حتى لم أجد لك مرقعا
فَهَبْك يميني استأكلتْ فقطعتُها
وجشَمتُ قلبي صبرَه فتشجّعا

ثم تهاجرا فما التقيا بعد ذلك.

أجرى الرشيد على دعبل رزقًا سنيًّا، فكان أول من حرضه على قول الشعر. فوالله ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على فعله من العطاء السني والغنى بعد الفقر والرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة، وقال فيه يهجوه من قصيدةٍ مَدَح بها أهل البيت عليهم السلام:

وليس حَيٌّ من الأحياء نعلمه
من ذي يَمانٍ ومن بَكْر ومن مُضَرِ
إلا وهم شركاءٌ في دمائهمُ
كما تَشَارك أيْسَارٌ على جُزُر
قتلٌ وأسْرٌ وتحريقٌ ومَنْهَبةٌ
فِعلَ الغُزاةِ بأرض الروم والخزَر
أرى أميَّة معذورين إن قتلوا
ولا أرى لبني العباس من عُذُر
اِرْبَعْ بِطُوس على القبر الزكيّ إذا
ما كنت تَرْبَع من دِين على وطر
قَبْران في طوسَ خيرُ الناس كلهم
وقبرُ شرّهمُ هذا من العِبرَ
ما ينفع الرّجسَ من قرب الزكيّ ولا
على الزكيّ بقرب الرّجس من ضرر
هيهات، كلّ امرئ رَهْنٌ بما كسبتْ
له يداه فخُذ ما شئتَ أو فَذَر

استدعى بعض بني هاشم دعبلًا وهو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام، فقصده إليها فلم يقع منه بحسن ظن وجفاه، فكتب إليه دعبل:

دَلّيتني بغرورِ وعدك في
مُتَلاطم من حَوْمة الغَرَق
حتى إذا شمت العدوّ وقد
شُهِرَ انتقاصك شُهْرة البَلَق
أنشأت تحلف أنَّ ودّك لي
صافٍ وحبلك غير منحذِق
وحسبتني فَقْعًا بقَرْقَرة
فوطِئتَني وَطْئًا على حَنَق
ونصبتَني عَلَمًا على غَرَض
ترمِينني الأعداءُ بالحَدَق
وظننتَ أرضَ الله ضَيّقةً
عنّي وأرضُ الله لم تَضِق
من غير ما جُرمٍ سوى ثِقةٍ
منّي بوعدك حين قلتَ ثِقِ
ومودّةٍ تحنو عليك بها
نفسي بلا مَنٍّ ولا مَلَق
فمتى سألتُك حاجةً أبدا
فاشددْ بها قُفْلًا على غَلَق
وقَفَ الإخاءُ على شَفَا جُرُف
هارٍ فبِعْه بَيْعة الخَلَق
وأعِدّ لي قُفْلًا وجَامعةً
فاشدد يديّ بها إلى عنقي
أعفيك مما لا تحبّ بها
واسدُدْ على مذاهب الأُفُق
ما أطولَ الدنيا وأعرضَها
وأَدَلّني بمسالك الطُرُق

دخل دعبل على عبد الله بن طاهر فأنشده وهو ببغداد:

جئتُ بلا حُرْمة ولا سببِ
إليك إلَّا بحرمة الأَدَبِ
فاقضِ ذِمامي فإنني رجلٌ
غير مُلحٍّ عليك في الطَّلب

فانتقل عبد الله ودخل الحرم ووجه إليه بِصرَّة فيها ألف درهم، وكتب إليه:

أعجلتنا فأتاك عاجلُ بِرِّنا
ولو انتظرت كثيرَه لم يقلل
فخذ القليلَ وكن كأنك لم تَقُل
ونكون نحن كأننا لم نفعل

مات دعبل بقرية من قرى السوس، بعث إليه مالك بن طوق مَن ضرب ظهره بعكاز لها زُجٌّ مسموم فمات من غد.

(٤) حسين بن الضحاك٨٩

شاعر٩٠ ظريف شديد الظرف، ربما انقطع نظيره في شعراء العصر العباسي كله، وهو مع ظرفه وإسرافه في المجون، قليلُ الفحش في اللفظ. غير متهالك على القول الآثم والألفاظ المنكرة، لا يتخيرها ولا يقصد إليها، وإنما يعرض لها إذا اضطر إليها اضطرارًا، وهو على ظرفه ورقة حاشيته وحرصه على نقاء اللفظ وطهره شاعر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، مجود إذا فكر، مظفر إذا بحث، موفق إلى اللفظ المتين، والأسلوب الرصين في غير جفوة ولا غلظة، لا يعرف التكلف في لفظ ولا معنى، وإنما ينطلق لسانه مع سجيته، وسجيته سهلة مرسلة غنية غزيرة المادة، لا تكاد تنضب، ولا ينالها إعياء أو كلال، وحياته كلها عبر وعظات ولكنها عبر وعظات مبتسمة ليست بالمظلمة ولا العابسة ولا بالتي تردك وتنفرك، وتجعل للحزن والأسى إلى قلبك سبيلًا، ولعلك لا تجد من شعراء هذا العصر رجلًا مثله، تقرأ أخباره فتظل مبتسمًا منذ تبتدئ إلى أن تنتهي دون أن تعبس أو تقطب. وربما تجاوزت الابتسام إلى الإغراق في الضحك من حين إلى حين، ولكنك لن تترك الابتسام إلى الحزن الشديد. وربما اعترضتك في طريقك سحابة محزنة، ولكن هذه السحابة رقيقة هادئة هينة، فهي أضعف من أن تزيل ابتسامتك. وكان هذا الشاعر من المعمرين، بلغ المائة أو كاد، وعاصر طبقات من الشعراء، وألوانًا من حاشية الخلفاء، ولكنه ظل محتفظًا بشخصيته الوادعة المبتسمة، تغيَّر الناس واختلفت الظروف، وظل هو واحدًا لم يتغير. كان خليعًا، بل كان يُعرف بالخليع، وكان كثير المجون مسرفًا فيه، وما أحسب أن أبا نواس سبقه إلى لذة أو برز عليه في مأثم، ولكنه على خلاعته وإسرافه في المجون وتهالكه على اللذات، احتفظ طول حياته بشيء من كرم الخلق وطهارة العنصر وجودة الأصل، كأنما كانت هذه اللذات والآثام تنزلق على نفسه وأخلاقه انزلاقًا دون أن تترك فيها أثرًا باقيًا، وإنما كانت الآثار التي تتركها لياليه الساهرة، وأيامه المملوءة بالعبث، هذه الأشعار الجميلة الحلوة التي سأظهرك على طرف منها.

فلم يكن هذا الرجل كغيره من الشعراء الذين إنما كانوا يصلون إلى الخلفاء بعد الجهد والكد، وبعد التلطف وحسن الحيلة؛ وإنما كان متصلًا بالخلفاء اتصالًا شديدًا، يعاشرهم ويرافقهم ويتدخل في حياتهم الخاصة، وربما تدخَّل إلى أكثر مما ينبغي. وكان الخلفاء يبحثون عنه، ويحرصون على عشرته، ويبذلون في ذلك غير قليل من الإلحاح والعطاء، وكان شعره كله أو أكثره مرآة لحياة القصر في أيام طائفة غير قليلة من الخلفاء.

فترى من هذا الوصف أنه شاعر أديب ظريف مطبوع، حسن التصرف في الشعر، حلو المذهب، لشعره قبول ورونق صافٍ، وكان أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر فيغير عليها، وإذا شاع له شعر نادر في هذا المعنى نسبه الناس إلى أبي نواس، وله معانٍ في صفتها أبدع فيها، وهاجى مسلم بن الوليد فانتصف منه، وله غزل كثير جيد، وهو من المطبوعين الذين تخلو أشعارهم ومذاهبهم جملة من التكلف.

قال: أنشدت أبا نواس قصيدتي التي قلتها في الخمر وهي:

بُدّلتَ من نَفَحات الورد بالآء٩١
ومن صَبُوحك درَّ الإبْلِ والشَّاء

فلما انتهيت منها إلى قولي:

حتى إذا أسْنِدت في البيت واحْتُضِرت
عند الصّبوح ببَسَّامِين أكْفاء
فُضَّت خواتمها في نَعْت واصفها
عن مثل رَقراقة في جفن مَرْهاء٩٢

فصُعق صعقة أفزعتني وقال: أحسنت والله يا أشقر! فقلت: ويلك يا حسن، إنك أفزعتني والله! فقال: بلى والله أنت أفزعتني ورعتني، هذا معنى من المعاني التي كان فكري لا بد أن ينتهي إليها أو أغوص عليها وأقولها، فسبقتني إليه واختلسته مني، وستعلم لمن يروى؛ ألي أم لك! فكان والله كما قال، سمعت من لا يعلم يرويها له.

لما قدم المأمون من خراسان أمر بأن يسمَّى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذُكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، وكان من جلساء محمد المخلوع، فلما رأى اسمه قال: أليس هو الذي يقول في محمد:

هلا بقيتَ لسَدّ فاقتنا
أبدًا وكان لغيرك التَّلَفُ
فلقد خَلَفْتَ خلائفًا سَلَفوا
ولسوف يُعْوِز بعدك الخَلَف

لا حاجة لي فيه، والله ولا يراني أبدًا إلا في الطريق. ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به، وانحدر حسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون.

قال أبو صالح بن الرشيد: دخلت يومًا على المأمون ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين. فقال: أنشدهما. فأنشدتهما:

حمدنا الله شكرًا إذ حَبَانا
بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقَّا
جمعت سماحة وجمَعتَ دينا

فقال: لمن هذان البيتان؟ فقلت: لعبدك يا أمير المؤمنين حسين بن الضحاك. قال: قد أحسن. فقلت: وله يا أمير المؤمنين أجود من هذا. فقال: وما هو؟ فأنشدته قوله:

أَجِرْني فإني قد ظَمِئتُ إلى الوعد
متى تُنجِز الوعدَ المؤكد بالعَهْد
أعِيذُك من خُلف الملوك وقد بدا
تَقطّع أنفاسٌ عليك من الوَجْد
أيبخل فَرْدُ الحسن عني بنائل
قليلٍ وقد أفردتُه بهوًى فَرْد
رأى اللهُ عبدَ الله خيرَ عباده
فملّكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
مميِّزة بين الضّلالة والرشد

فأطرق ساعة ثم قال: ما تَطيب نفسي له بخير بعد ما قال في أخي محمد ما قال.

ومن قوله يرثي محمدًا الأمين:

أطِلْ حَزَنًا وابكِ الإمام محمدا
بحزن وإن خِفتَ الحسام المهندا
فلا تَمّتِ الأشياءُ بعد محمد
ولا زال شَمْل الملك منها مُبَدّدا
ولا فرِح المأمونُ بالملك بعده
ولا زال في الدنيا طريدًا مشرَّدا

ولحسين في محمد الأمين مراثٍ كثيرة جياد، وكان كثير التحقق به والموالاة له لكثرة إفضاله عليه، وميله إليه، وتقديمه إياه، وبلغ من جزعه عليه أنه خولط فكان ينكر قتله لما بلغه ويدفعه ويقول: إنه مستتر وأنه قد وقف على دعاته في الأمصار يدعون إلى مراجعة أمره والوفاء ببيعته ضنًّا به وشفقة عليه.

ومن جيد مراثيه إياه قوله:

سألونا أَنْ كيف نحن؟ فقلنا
من هَوَى نجمُه فكيف يكون؟
نحن قوم أصابنا حَدَثُ الدﻫ
ـر فظَلْنا لريْبه نستكِين
نتمنى من الأمين إيابا
لَهْفَ نفسي وأين منّي الأمين

ومن جيد قوله في مراثيه إياه:

أعَزّي يا محمدُ عنك نفسي
معاذ الله والأيدي الجِسامِ
فهلّا مات قومٌ لم يموتوا
ودُوفع عنك لي يومَ الحِمام
كأن الموت صادَف منك غُنْمًا
أو استشفى بقربك من سَقَام

وقال أيضًا يرثيه:

يا خير أسْرته وإن زَعموا
إنّي عليك لمُثْبَتٌ أَسِفُ
الله يعلم أن لي كبدًا
حَرّي عليك ومقلةً تَكِف
ولئن شَجِيتُ بما رُزئتُ به
إني لأضْمر فوق ما أَصِف
هلًّا بَقِيتَ لسَدًّ فاقتنا
أبدًا وكان لغيرك التَّلَف
فلقد خَلَفتَ خلائفًا سَلفوا
ولسوف يُعْوِز بعدك الخلف
لا بات رَهْطُك بعد هفوتهم
إني لرهطك بعدها شَنِف٩٣
هَتكوا بحرمتك التي هُتِكت
حُرَم الرسول ودونها السُّجُف
وثَبَتْ أقاربُك التي خَذَلتْ
وجميعُها بالذل معترِف
لم يفعلوا بالشَّطّ إذ حضروا
ما تفعل الغَيْرانَةُ الأنفُ
تركوا حريمَ أبيهم نَفَلًا
والمُحْصَناتُ صوارِخٌ هُتُفُ
أبدت مُخَلْخَلَها على دَهَش
أبكارُهنّ ورَنّت النَّصَفُ
سُلِبَت مَعاجِرُهنّ٩٤ واجْتُلِيت
ذاتُ النِّقاب ونُوزع الشَّنَف
فكأنهنّ خِلالَ مُنْتَهَبٍ
دُرٌّ تكشَّف دونَه الصَّدَف
مَلكٌ تخوّن مُلْكَه قدَرٌ
فَوَهَى وصرفُ الدهر مختلفِ
هيهاتَ بعدك أن يدوم لنا
عِزّ وأن يبقى لنا شَرَف
لا هَيَّبُوا صُحُفًا مشرَّفة
للغادرين تحتها الجَدَف
أفَبَعْد عهد الله تقتُلُه
والقتل بعد أمانةٍ سَرَف
فستعرِفون غدًا بعاقبةٍ
عزَّ الإله فأورِدُوا وقِفُوا
يا من يُخَوِّن نومَه أرَقٌ
هَدَتِ الشجونُ وقلبهُ لَهِف
قد كنتَ لي أملًا غَنِيتُ به
فمضى وحلّ محلَّه الأَسَف
مَرِجَ النّظام وعاد مُنْكُرنا
عُرْفًا وأنْكِر بعدك العُرُف
فالشملُ منتشر لفقدك والـ
ـدُّنيا سُدًى والبال منكسف

وقال أيضًا يرثيه:

إذا ذُكِر الأمينُ نَعَى الأمينا
وإن رقَد الخَلِيّ حَمَى الجُفُونا
وما بَرِحتْ منازلُ بين بُصرى
وكَلْوَاذَى تُهَيِّج لي شجونا
عِراصُ الملك خاويةٌ تَهادى
بها الأرواح تَنْسجها فنونا
تخوّن عزَّ ساكنها زمانٌ
تلّعب بالقرون الأَوَّلينا
فَشَتّتَ شملَهم بعد اجتماع
وكنتُ بحسن أُلفَتهم ضنينا
فلم أرَ بعدهم حُسْنًا سِواهم
ولم تَرَهُم عيونُ الناظرينا
فوا أسَفَا وإن شَمَت الأعادي
وَآهِ على أمير المؤمنينا
أضَلّ العُرفَ بعدك مُتْبِعوه
ورُفّه عن مطايا الراغبينا
وكنَّ إلى جنابك كلّ يوم
يَرُحْنَ على السّعود ويغَتدينا
هو الجبلُ الذي هوت المعالي
لِهَدّته ورِيع الصّالحونا
سَتندُب بعدك الدنيا جِوارًا
وتندب بعدك الدِينَ المصونا
فقد ذهبت بشاشةُ كلِّ شيء
وعاد الدين مطروحًا مَهِينا
تعقّد٩٥ عزُّ مُتَّصِلٍ بكسرى
ومِلّته وذَلّ المسلمونا

وقال أيضًا يرثيه:

أسَفًا عليك سَلاك أقربُ قُرْبَةً
منّي وأحزاني عليك تزيد

قال أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي: حسين بن الضحاك أشعر المحدثين حيث يقول:

أيُّ ديباجةِ حُسْنِ
هيّجتْ لوعةَ حزني
إذ رماني القمرُ الزا
هر عن فَتْرة جفن
بأبي شمسُ نهار
برزتْ في يوم دَجْن
قرّبتني بالمنى حتـ
ـى إذا ما أخلفتني
تركتني بين ميعا
د وخُلْفٍ وتَجَنِّ
ما أرى فيَّ من الصَّبْـ
ـوة إلّا حسنَ ظني
إنما دامت على الغد
ر لما تَعرِف مِنّي
أستعيذ الله من إعرا
ض من أعرضَ عنّي

لما ولي المعتصم أمر بمكاتبته بالقدوم عليه، فلما دخل وسلم استأذنه في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قوله:

هلّا سألتَ تلذّذ المشتاق
ومَنَنْتَ قبلَ فراقه بِتَلَاق
إن الرقيب ليَستريب تنفُّسًا
صُعُدًا إليك وظاهر الإقلاق
ولئن أَرِبْتُ لقد نظرتُ بمقلَة
عَبْرى عليك سَخينة الآماق
نفسي الفداءُ لخائفٍ مترقِّبٍ
جَعَل الوداع إشارةً بعِناق
إذ لا جوابَ لُمْفحَم متحيِّر
إلا الدموع تُصان بالإطراق

حتى انتهى إلى قوله:

خيرُ الوفود مبَشِّر بخلافة
خَصّتْ ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمةً
من كل مشكلة وكل شِقاق
أعطته صفْقتَها الضمائرُ طاعةً
قبل الأَكُف بأوكَد المِيثاق
سكنَ الأنامُ إلى إمام سَلامةٍ
عَفِّ الضمير مهذِّب الأخلاق
فحمى رعيَّتَه ودافع دونَها
وأجار مُمْلِقَها من الإملاق

حتى أتمها، فقال له المعتصم: ادنُ مني. فدنا منه، فملأ فمه جوهرًا من جوهر كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فمه، فأخرجه وأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده، ليعلموا موقعه من رأيه، ويعرفوا فضله، فكان أحسن ما مُدح به يومئذ.

ومن شعره قوله:

أمينَ الله ثِقْ بالله
تُعْطَ الصبر والنُّصْرَهْ
كِلِ الأمرَ إلى الله
كَلاك الله ذو القُدره
لنا النصر بعون الله
والكَرّة لا الفَرّه
وللمُرّاق أعدا
ئك يومُ السوء والدَّبْره
وكأس تلفِظ الموت
كريهٍ طعمُها مُرّه
سَقوْنا وسقيناهم
ولكن بهم الحِرَّه
كذاك الحرب أحيانًا
علينا ولنا مَرّه

ومن قوله في غضب حظِيَّة للواثق من زيارته أخرى في نوبتها:

غَضِبتْ أَنْ زرتُ أخرى خِلْسةً
فلها العُتبى لَدَيْنا والرِّضا
يا فَدَتْكِ النفس كانت هَفْوةً
فاغفريها واصفحي عما مضى
واتركي العَدْل على من قاله
وانسُبي جَوْري إلى حكم القضا
فلقد نبهتِني من رَقْدتي
وعلى قلبي كنِيران الغَضا

كان الواثق يتحظَّى جارية له فماتت، فجزع عليها وترك الشراب أيامًا، ثم سلاها وعاد إلى حاله، فدعا الحسين ليلة وقال له: رأيت فلانة في النوم فليت نومي كان طال قليلًا لأتمتع بلقائها، فقل في هذا شيئًا. فقال:

ليت عينَ الدهر عنا غَفَلت
ورقيبَ الليل عنا رَقَدا
وأقام النوم في مدَّته
كالذي كان وكنَّا أبدا
بأبي زَوْرٌ تلفَّتُّ له
فتنفّستُ إليه الصُّعَدا
بينما أضحك مسرورًا به
إذ تقطّعتُ عليه كَبِدا

لما أعيته الحيلة في رضا المأمون عنه رمى بأمره إلى عمرو بن مسعدة وكتب إليه:

أنت طَوْدي من بين هذي الهِضاب
وشِهابي من دون كل شهاب
أنت يا عمرو قُوّتي وحياتي
ولساني وأنت ظُفْري ونابي
أَتُراني أنسى أياديَك البِيـ
ـض إذا اسودّ نائل الأصحاب
أين أخلاقك الرضيّة حالت
فيّ أم أين رِقّة الكتّاب؟
أنا في ذِمَة السحاب وأطْمَا؟
إن هذا لوَصمةٌ في السحاب
قم إلى سيّد البريّة عني
قومَةً تَسْتَجِرّ حُسْنَ الخطاب
فلعل الإله يُطفئ عنّي
بك نارًا عليّ ذات التهاب

فلم يزل عمرو يلطف للمأمون حتى أوصله إليه وأدر أرزاقه.

ولما عفا المأمون عنه أمر بإحضاره، فلما حضر سلم، فرد عليه السلام ردًّا جافيًا، ثم أقبل عليه فقال: أخبرني عنك، هل عرفت يوم قتل أخي محمد هاشمية قتلت أو هتكت؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك:

وسِرْب ظِباء من ذؤابة هاشم
هَتَفْن بدعوى خيرِ حي وميِّت
أَرُدّ يَدًا منّي إذا ما ذكرتُه
على كبد حَرّى وقلبٍ مُفَتّت
فلا بات ليلُ الشامتين بغِبطةٍ
ولا بَلَغت آمالُهم ما تمنّت

فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عطفت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون وقال: قد عفوت عنك، وأمرت بإدرار رزقك، وإعطائك ما فات منه، وجعلت عقوبتك امتناعي من استخدامك.

ومن قوله:

وكالوردة الحمراء حَيا بأحْمَر
من الورد يمشي في قَراطِق كالورد
له عَبَثاتٌ عند كل تحيّة
بعينيه تَستدعي الحليمَ إلى الوجد
تمنّيت أن أُسقَى بكفّيه شَرْبة
تذكّرني ما قد نَسيتُ من العهد
سقى الله دهرًا لم أبِتْ فيه ليلةً
خَليًّا ولكن من حبيبٍ على وعد

ومن قوله:

وا بِأبي مُفْحَم لعزّته
قلتُ له إذ خلوتُ مكتَتما
تُحِبّ بالله من يخصّك بالـ
ـود فما قال لا ولا نَعَما
ثم تولّى بمُقْلَتَيْ خَجِل
أراد رَجْع الجواب فاحتشما
فكنت كالمُبتغي بحيلته
بُرءًا من السُّقْم فابتدا سَقَما

وقال في هوى له:

عالِمٌ بحبّيه
مطرِق من التِّيه
يوسفُ الجمالِ وفِر
عون في تَعَدّيه
لا وحقِّ ما أنا فيـ
ـه من عطفٍ أرَجّيه
ما الحياةُ نافعة
لي على تأَبِّيه
النعيم يَشغَلُه
والجمال يُطغِيه
فهو غيرُ مكترث
للذي ألاقِيه
تَائِهٌ تُزَهِّده
في رغبتي فيه

ومن قوله في هوى له:

إن من لا أرى وليس يَراني
نُصْب عيني مُمَثَّل بالأماني
بأبي مَنْ ضميره وضميري
أبدًا بالمَغِيب ينتجِيان
نحن شخصان إن نظرت ورو
حان إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما همَمتُ بالأمر أو هَمَّ
بشيء بدأتُه وبداني
كان وفقًا ما كان منه ومنّي
فكأني حَكَيتهُ وحَكاني
خَطَرات الجفون منّا سواءٌ
وسواء تحرّكُ الأبدان

ومن قوله:

فَدّيتُ من قال لي على خَفَره
وغَضّ من جفنه على حَورَه
سمّع بأشعارك المليحَ فما
يَنْفَكَّ شَاد بها على وَتَره
حسبك بعضُ الذي أذعتَ ولا
حَسْبٌ لِصَبٍّ لم يَقْضِ من وَطَره
وقلتُ يا مستعيرَ سالفة الـ
ـخِشْفِ وحُسْنِ الفُتور من نَظَره
لا تنكِرنّ الحبيبَ من طَرَب
عَاوَد فيك الصِّبا على كِبره

ومن قوله:

سائل بطيفك عن لَيْلي وعن سهري
وعن تتابع أنفاسي وعن فِكَري
لم يَخْلُ قلبيَ من ذكراك إذ نظرت
عيني إليك على صَحْوي ولا سكري
سَقْيًا ليومِ سروري إذ تُنَازِعني
صفوَ المُدامة بين الأنس والخَفَر
وفضلُ كأسك يأتيني فأشربه
جَهْرًا وتشرب كأسي غير مُستتر
وكيف أشمِله لثمي وألزمه
نحري وترفعه كفّي إلى بصري
فليت مُدّة يومي إذ مضى سلَفًا
كانت ومدّة أيامي على قَدَر
حتى إذا ما انطوت عنّا بشاشته
صِرنا جميعًا كذا جارَيْن في الحُفَر

ومن قوله لهوى كان له:

تَعَزَّ بيأسٍ عن هوايَ فإنني
إذا انصرفت نفسي فهيهات عن رَدّي
إذا خُنتُم بالغيب ودّي فمالكم
تُدِلّون إدلال المقيم على العهد
ولي منك بد فاجتنبني مَذَمَّما
وإن خِلتَ أني ليس لي منك مِنْ بدِّ

لما ولي الواثق الخلافة أنشده حسين:

أُكلتم وجدي فما يَنكتمْ
بمن لو شكوتُ إليه رَحِمْ
وإني على حسن ظنّي به
لأَحْذَر إن بُحتُ أن يحتشم
ولي عند لحظته رَوْعة
تحقّق ما ظَنّه المتّهم
وقد علم الناس أنَّى له
محبّ وأحسبه قد علِم
وإني لمُغْضٍ على لوعة
من الشوق في كبدي تَضْطَرم
عَشيّة ودّعت عن مقلة
سَفُوحٍ وزفرةِ قلبٍ سَدِم
فما كان عند النَّوى مُسْعِد
سوى العين تمزج دمْعًا بِدَم
سيذكر من بان أوطانَه
ويبكي المقيمين من لم يُقِم

كتب إلى الحسن بن رجاء في يوم شك، وقد أمر الواثق بالإفطار، فقال:

هَزَزْتُك للصَّبوح وقد نهاني
أميرُ المؤمنين عن الصِّيام
وعندي من قِيان المِصر عَشْرٌ
تَطِيب بهنّ عاتِقة المدام
ومن أمثالهن إذا انتشينا
ترانا نجتني ثَمَر الغرام
فكن أنتَ الجواب فليس شيء
أحبّ إليّ من حَذْف الكلام

فوردت رقعته، وقد سبقه إليه محمد بن الحارث بن بُسخنر ووجه إليه بغلام نظيف الوجه ومعه ثلاثة غلمة أقران حسان الوجه، ومعهم رقعة كتبها كما تكتب المناشير، وختمها في أسفلها وكتب فيها يقول:

سِرْ على اسم الله يا أشـ
ـكل من غصنِ لُجَيْنِ
في ثلاثٍ من بَني الرو
م إلى دار حسينِ
أَشْخِص الكهل إلى مو
لاك يا قُرّة عيني
أَرِه العُنْف إذا استعـ
ـصى وطالِبه بدَيْنِ
ودَعِ اللفظ وخاطبـ
ـه بغمز الحاجبَيْنِ
واحذر الرَّجعة من وجـ
ـهك في خُفَّيْ حُنَيْنِ

فمضى معهم.

ومن قوله لمن أعرض عنه:

تَتِيه علينا أَنْ رُزِقْتَ ملاحةً
فمهلًا علينا بعضَ تيهك يا بَدرُ
لقد طال ما كنّا مِلاحًا وربما
صدَدنا وتهنا ثم غيّرنا الدهرُ

وله في هوى حُجب عنه:

ظَنّ من لا كان ظنـًّ
ـا بحبيبي فحَمَاه
أَرْصَد البابَ رقيبيـ
ـن له فاكْتَنَفاه
فإذا ما اشتاق قربي
ولقائي مَنَعَاه
جعل اللهُ رقيبيـ
ـه من السُّوء فِداه
والذي أقْرح في الشا
دن قلبي ولوَاه
كلُّ مشتاق إليه
فمن السُّوء فِداه
سِيّما من حالت الأحـ
ـراس من دون مُناه

أمره المتوكل بأن ينادمه ويلازمه، فلم يطق ذلك لكبر سنه، فقال للمتوكل بعض من حضر عنده: هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير والسكر فيها ويعجز عن خدمتك! فبلغه ذلك، فدفع إلى أحمد بن حمدون أبياتًا قالها وسأله إيصالها، فأوصلها إلى المتوكل، وهي:

أما في ثمانين وُفِّيتَها
عذيرٌ وإن أنا لم أعْتَذِرْ
فكيف وقد جزتُها صاعدًا
مع الصاعدين بِتْسع أُخَرْ
وقد رفع الله أقلامه
عن ابن ثمانين دون البشر
سوى من أصَرّ على فتنة
وألْحَد في دينه أو كفر
وإني لمن أُسَراء الإلـ
ـه في الأرض نصْبَ صُروف القَدَر
فإن يَقْضِ لي عملًا صالحًا
أثاب وإن يقضِ شرًّا غفر
فلا تَلْحَ في كبرٍ هَدّني
فلا ذنب لي أن بلغت الكبر
هو الشيب حَلّ بعَقْب الشباب
فمن ذا يلوم إذا ما عذر
وإني لَفي كَنَفٍ مُغْدِق
وعزٍّ بنصرِ أبي المُنْتَصِر
يُباري الرياح بفضل السما
حِ حتى تَبلّد أو تَنْحَسِر
له أكّد الوحيُ ميراثَه
ومن ذا يخالف وحي السُّوَر
وما للحسود وأشباهه
ومن كذَّب الحقَّ إلا الحجر

فلما أوصلها شيعها بكلام يعذره وقال: لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها! فقال المتوكل: صدقت. وأمر له بعشرين ألف درهم.

(٥) محمد بن عبد الملك الزيات٩٦

كان محمد شاعرًا مجيدًا لا يقاس به أحد من الكتَّاب، وإن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك، فإن إبراهيم مقلٌّ وصاحب قصار ومقطعات. وكان محمد شاعرًا يطيل فيجيد، ويأتي بالقصار فيجيد؛ وكان بليغًا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب.

ولما تولى محمد الوزارة اشترط ألا يلبس القباء، وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفًا بحمائل، فأجيب إلى ذلك.

وكان يقول: الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، ما رحمت شيئًا قط؛ فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني! فقالوا له: وهل رحمت شيئًا قط فتُرحم؟ هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها.

لما ماتت أم ابنه عمرو رثاها بقصيدة منها:

يقول لي الخِلّان لو زُرْتَ قبرَها
فقلتُ وهل غير الفؤاد لها قبرُ
على حين لم أحدُث فأجهل قبرها
ولم أبلُغ السِّنّ التي معها الصبر

ومن شعره قوله:

ما أعجب الشيءَ ترجوه فَتُحرَمَه
قد كنتُ أحسب أني قد ملأت يدي
ما لي إذا غِبتُ لم أُذْكَر بصالحة
وإن مَرِضتُ فطال السَّقمُ لم أُعَد

ومن شعره قوله:

ألم تعجَب لمكتئبٍ حزينٍ
خدين صبابةٍ وحليف صبرِ
يقول إذا سألت به بخير
وكيف يكون مهجورٌ بخيرِ

وكان لمحمد برذون أشهب لم يُر مثله فراهة وحسنًا، فسعى به محمد بن خالد إلى المعتصم ووصف له فراهته، فبعث إليه المعتصم فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك يرثيه:

كيف العزاءُ وقد مضى لسبيله
عنا فودّعنا الأحَمّ الأَشهبُ
دَبَّ الوُشاةُ فأبعدوك وربما
بَعُد الفتى وهو الأحَبّ الأقرب
لله يومَ نأيت عنّيَ ظاعِنًا
وسُلِبتُ قربك أيّ عِلْق أَسْلَب
نَفسٌ مفرَّقَةٌ أقام فريقُها
ومضى لِطيّته فريقٌ يُجْنَب
فالآن إذ كمُلت أداتك كلّها
ودعا العيونَ إليك لونٌ مُعْجِب
واخْتِير من سِرّ الحدائد خيرُها
لك خالصًا ومن الحليّ الأغرب
وغدوتَ طَنّان اللجام كأنما
في كل عُضو منك صَنْج يضرِب
وكأن سَرْجك إذ علاك غمامةٌ
وكأنما تحت الغمامة كوكب
ورأى عَلَيَّ بك الصديقُ جَلالةً
وغدا العدوّ وصدرُه يَتلهّب
أنساك لا زالت إذا منيته
نفسي ولا زالت يميني تنكب
أضمرتُ منك اليأس حين رأيتَني
وقُوى حبالي من قُواك تُقَضّب
ورَجَعتُ حين رجَعت منك بحسرة
لله ما فعل الأحَمّ الأشهب

ولما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة اقترض من مياسير التجار مالًا، فأخذ من عبد الملك أبي محمد عشرة آلاف درهم وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال. ولم يتم أمره، فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم، فقال: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من فيئهم، والأمر الآن إلى غيري. فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة خاطب فيها المأمون ومضى إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه إياها وقال: والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضتَه من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون! فخاف أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله، فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال ونجِّم على بعضه. ففعل؛ والقصيدة قوله:

ألم تَرَ أنّ الشيءَ للشيءِ عِلّةٌ
تكون له كالنار تُقدَح بالزَّنْدِ
كذلك جَرَّبت الأمور وإنما
يدُلُّك ما قد كان قَبْلُ على البَعْدِ
وظَنّي بإبراهيم أنّ مكانه
سَيبْعَث يومًا مِثْلَ أيامه النُّكْدِ
رأيت حُسَينًا حين صارَ محمدٌ
بغير أمان في يَدَيْهِ ولا عَقْدِ
فلو كان أمضى السيفَ فيه بضربة
فصيّره بالقاع مُنْعفِرَ الخَدِّ
إذا لم تكن للجُنْد فيه بقيّةٌ
فقد كان ما بُلِّغْتُ من خبر الجندِ
هُمُ قتلوه بعد أن قتلوا له
ثلاثين ألفًا من كُهُول ومن مُرْدِ
وما نصروه عن يدٍ سَلفت له
ولا قتلوه يوم ذلك عن حِقدِ
ولكنّه الغَدْر الصُّراحُ وخِفّة الـ
ـحلوم وبُعد الرأي عن سُنَن القَصْدِ
فذلك يومٌ كان للناس عِبرةً
سيبقى بقاءَ الوَحْي في الحجر الصَّلدِ
وما يوم إبراهيم إن طال عمرُه
بأبْعَد في المكروه من يومه عندي
تذكّر أميرَ المؤمنين مَقامَه
وأَيْمانه في الهزل منه وفي الجِدِّ
أما والذي أمسيتَ عبدًا خليفةً
له شر إيمَان الخليفة والعبدِ
إذا هزّ أعوادَ المنابر باسْتِه
تَغَنَّى بليلَى أو بِمَيّة أو هِندِ
فوالله ما من تَوْبةٍ نَزعتْ به
إليك ولا مَيْلٍ إليك ولا وُدِّ
ولكنّ إخلاصَ الضمير مقرِّبٌ
إلى الله زُلْفى لا تَبِيدُ ولا تُكْدِي
أتاك بها كَرْها إليك بأنْفِه
على رَغْمه واستأثر الله بالحمدِ
فلا تَتْركَنْ للناس موضِع شُبهْة
فإنك مَجْزِي بِحَسْب الذي تُسْدي
فقد غلطوا للناس في نَصْب مِثْله
ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناسُ والتقت
ببيعته الرُّكبان غَوْرًا إلى نَجدِ
ومن سَكّ تسليمُ الخلافة سمعه
يُنادَى به بين السِّماطين من بُعْدِ
وأيّ امرئ سَمَّى بها قط نفسَه
ففارقها حتى يُغيَّب في اللّحدِ
وتزعُم هَذي النّابِتِيّة أنه
إمام لها فيما تُسِرّ وما تُبدي
يقولون سُنّي وأيّةُ سُنّة
تَنِمُّ بصَعْل الرأس جَوْنِ القَفا جَعْدِ
وقد جعلوا رُخْص الطعام بعهده
زعيمًا له باليُمن والكوكب السَّعدِ
إذا ما رأوْا يومًا غَلاءً رأيتَهم
يَحِنّون تَحْنانًا إلى ذلك العهدِ
وإقبالُه في العيد يُوجِفُ حَوْله
وَجِيفَ الجِياد واصطكاك القَنَا الجُرْدِ
ورَجّالةٌ يمشون بالبِيض قَبْلَه
وقد تَبِعوه بالقضيب وبالبُرْدِ
فإن قلتَ قد رام الخلافةَ قَبْلَه
فلم يُؤْتَ فيما كان حاول مِن جِدِّ
فلم أجْزِه إذ خيّبَ الله سَعْيه
على خطأ إذ كان منه على عَمْد
ولم أَرْضَ بعد العفو حتى رفعتُه
ولَلْعَمّ أولى بالتَّغَمُّد والرِّفدِ
فليس سَواءً خارجِيٌ رَمَى به
إليك سَفَاه الراي والرأي قد يُرْدي
تَعَادَتْ له من كل أوْب عصابة
متى يُورِدوا لا يُصدِروه عن الوِرْدِ
ومن هو في بيتِ الخلافة تَلْتَقي
به وبك الآباء في ذِرْوة المجدِ
فمولاك مولاهُ وجُنْدُكَ جُنْدُه
وهل يَجْمع القَيْنُ الحُسَاميْن في غِمْدِ
وقد رابَني من أهل بيتك أنني
رأيتُ لهم وَجْدًا به أيَّما وَجْدِ
يقولون لا تَبْعَد من ابنِ مُلِّمةٍ
صبورٍ على اللأواء ذي مِرّة جَلْدِ
فَدانا وهانت نفسُه دون مُلْكنا
عليه لدى الحال التي قلّ مَنْ يَفْدي
على حينِ أعطَى الناسُ صَفْقَ أكفّهم
عليَّ بن موسى بالوِلاية والعَهْدِ
فما كان فينا من أبَى الضيمَ غيرُه
كريمٌ كَفَى ما في القَبول وفي الرَّدِّ
وجّرد إبراهيم للموت نفسَه
وأبدى سلاحًا فوق ذي مَيْعة نَهْدِ
وأبلى ومن يبلُغ من الأمر جَهْدَه
فليس بمذموم وإن كان لم يُجْدِ
فهذي أمور قد يَخاف ذوو النُّهى
مَغَبّتها والله يَهديك للرّشدِ

وكانت الخلافة في أيام الواثق تدور على إيتاخ وكاتبه سليمان بن وهب، وعلى أشناس وكاتبه أحمد بن الخصيب، فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة وأوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر، وهي:

يا بن الخلائف والأملاك إن نُسِبوا
حُزْت الخلافةَ عن آبائك الأُوَل
أَجُرْت أم رقدت عيناك عن عَجَب
فيه البريّة من خوف ومن وَهَل
ولَّيتَ أربعةً أمرَ العباد معًا
وكلُّهم حاطِبٌ في حبل مُحْتبِل
هذا سليمانُ قد ملّكت راحتَه
مشارقَ الأرض من سَهْل ومن جبل
ملّكته السِّند فالشِّحْريْن من عَدَن
إلى الجزيرة فالأطراف من مَلَل
خلافةٌ قد حواها وحده فَمضَتْ
أحكامُه في دماء القوم والنُّفَل
وابن الخصيب الذي ملّكت راحته
خلافةَ الشأم والغازين والقفل
فنِيلُ مِصرَ فبحرُ الشأم قد جَرَيَا
بما أراد من الأموال والحُلَل
كأنهم في الذي قَسَّمتَ بينهم
بَنُو الرشيد زمانَ القَسْم للدُّوَل
حَوَى سليمانُ ما كان الأمينُ حوى
من الخلافة والتبليغِ للأمل
وأحمدُ بن خصيب في إمارته
كالقاسم بن الرشيد الجَامع السُّبل
أصبحتَ لا ناصحٌ يأتيك مستَترًا
ولا علانِيةً خوفًا من الحِيَل
سل بيتَ مالك أين المال تعرفه
وسل خَراجك عن أموالك الجُملَ
كم في حُبُوسك ممن لا ذنوب لهم
أسْرَى التَّكَذّب في الأقياد والكُبلَ
سمِّيت باسم الرشيد المُرتضى فَبِه
تُسْمى الأمور التي تُنْجي من الزلَّل
عِثْ فيهم مثل ما عاثت يداه معا
على البرامك بالتهديم للقُلَل

فلما قرأ الواثق هذا الشعر غاظه، ونكب سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب، وأخذ منهما ومن أسبابهما ألفي ألف دينار فجعلها في بيت المال.

(٦) ابن البَوَّاب٩٧

لما أُتيَ المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:

أيبخَل فَرْدُ الحسنِ فَرْدُ صِفَاته
عليّ وقد أفردتُه بهوَّى فَرْدِ
رأى اللهُ عبدَ الله خيرَ عباده
فملَّكه واللهُ أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عِصمة
مميِّزة بين الضّلالة والرّشد

فقال المأمون: أليس هو القائل:

أعَيْنيّ جُودَا وابْكِيا لي محمدا
ولا تَذْخَرا دمعًا عليه وأَسْعِدا
فلا فرِح المأمون بالمُلك بعده
ولا زال في الدنيا شريدًا مُطَرَّدا

واحدة بواحدة، ولم يصله بشيء. ولما سخط عليه قال قصيدة يمدحه بها، ودس من غناه في بعضها لما وجد منه نشاطًا، فسأل: من قائلها؟ فأخبر به، فرضي عنه ورده إلى رسمه من الخدمة، وهي:

هل للمحبِّ مُعِينُ
إذ شَطّ عنه القرينُ
فليس يبكي لشجو الـ
ـحزينِ إلا الحزينُ
يا ظاعِنًا غاب عنا
غداةَ بانَ القَطِينُ
أَبْكَى العيونَ وكانت
به تَقَرّ العيون
يا أيها المأمون الـ
ـمباركُ الميمونُ
لقد صَفَتْ بك دنيا
للمسلمين ودين
عليك نورُ جلال
ونور مُلْك مُبِين
القولُ منك فَعال
والظن منك يقين
ما من يديكَ شِمال
كلتا يديك يمين
كأنما أنت في الجو
د والتّقى هارون
مَنْ نال من كل فضل
ما نالَه المأمون
تألَّف الناسَ منه
فضلٌ وجود ولين
كالبدر يبدو عليه
سكينةٌ وسكون
فالرزق من راحتيه
مقسَّم مضمون
وكل خَصْلة فضل
كانت فمنه تكون

ومما يغنَّى فيه قوله:

أَفِقْ أيها القلب المعذّب كم تَصْبو؟
فلا النَّأْي عن سَلْماك يُسلي ولا القربُ
أقول غَدَاةَ استخبرتْ مِمَّ علَّتي؟
من الحب كربٌ ليس يُشبهه كرب
إذا أبصرتْكِ العينُ من بُعْد غاية
فأدخلت شكًّا فيك أثْبَتَك القلب
ولو أن رَكْبًا يَمَّمُوك لَقَادهم
نسيمُك حتى يَستدلَّ بِك الركب

أملق ابن البواب حين جفاه الخليفة وعلت سنه عن الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى ومدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم وعاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات؛ وهي قوله:

طرَقَتْك صائدةُ القلوب رَبابُ
ونَأَتْ فليس لها إليك مآب
وتصرّمتْ منها العهود وغُلّقتْ
من دون نَيل طِلابها الأبواب
فلأصْدِفنّ عن الهوى وطِلابه
فالحبّ فيه بَليّة وعذاب
وأخصُّ بالمدح المهذّب سيّدًا
نَفَحاتُه للمُجْتدِين رِغاب
وإلى أبى دُلَفٍ رحلتُ مطّيتي
قد شَفّها الإرقال٩٨ والإتعاب
تعلو بنا قُلَلَ الجبال ودونها
مما هَوَتْ أهْويّة وشِعَاب
فإذا حللتُ لدى الأمير بأرضه
نلتُ المنى وتقضّتِ الآرابُ
مَلِك تأثّل عن أبيه وجده
مَجْدًا يقصِّر دونه الطُّلَّاب
وإذا وزَنْت قديمَ ذي حَسَبٍ به
خَضَعتْ لفضل قديمه الأحساب
قوم عَلوْا أملاكَ كلّ قبيلة
فالناسُ كلّهم له أذناب
ضَربتْ عليه المكرماتُ قِبابها
فعلا العمودُ وطالت الأطناب
عَقِم النساءُ بمثله وتعطّلت
من أن تُضَمَّن مثلَه الأصلابُ

(٧) الخُرَيمي

كان متصلًا بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة،٩٩ وله فيه مدائح جياد، ثم رثاه بعد موته، فقيل له: يا أبا يعقوب، مدائحك لآل منصور بن زياد أحسن من مراثيك وأجود. فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.

وهو القائل في عينيه:

أُصْغي إلى قائدي ليُخبرني
إذا التقينا عمّن يُحيّيني
أريد أن أعْدِل السلام وأن
أَفْصِل بين الشريف والدُّون
أسمع ما لا أرى فأَكْرَهُ أن
أخْطئ والسمعُ غير مأمون
لله عيني التي فُجِعتُ بها
لو أن دهرًا بها يُواتيني
لو كنتُ خُيّرت ما أخذتُ بها
تَعْميرَ نوح في مُلك قارون
حقّ أخِلائي أن يَعودوني
وأن يُعَزّوا عنّي ويبكوني

وهو القائل:

إذا ما مات بعضُك فابكِ بعضًا
فإن البعض عن بعض قريبُ
يُمنّيني الطبيبُ شفاء عيني
وهل غير الإله لها طبيب

وقال يذكر بغداد والفتنة التي كانت بها:

قالوا ولم يَلْعبِ الزمانُ ببغـ
ـداد وتَعْثُرْ بها عواثِرُها
إذ هي مثلُ العروس بادِئُها
مُهَوَّل للفتى وحاضِرها
جَنّةُ دنيا ودارُ مَغْبَطَة
قَلّ من النائبات وائِرُها١٠٠
دَرّت خُلوفُ الدنيا لساكنها
وقَلّ معسورُها وعاسِرُها
وانفرجَتْ بالنعيم وانْتَجعت
فيها بلذّاتها حواضِرها
فالقومُ منها في روضة أنُفٍ
أشرق غِبّ القِطار زاهرها
من غَرّه العيش في بُلَهْنِية
لو أن دنيا يدوم عامِرها
دارُ ملوك رَسَت قواعدها
فيها وقرتّ بها منابِرها
أهلُ العلا والثّرى وأنديةَ الـ
ـفخر إذا عُدّدَتْ مفاخرها
أفراخُ نُعْمَى في إرث مملكة
شَدّ عُراها لها أكابرها
فلم يزل والزمانُ ذو غِير
يَقدَح في مُلكها أصاغرها
حتى تَساقتْ كأسًا مُثَمِّلة
من فتنة لا يُقال عاثرها
وافترقت بعد أُلفَة شِيَعًا
مقطوعةً بينَها أواصِرها
يا هَلْ رأيتَ الأملاكَ ما صَنَعَت
إذ لم يَزَعها بالنّصح زاجرها
أورد أملاكُنا نفوسَهمُ
هُوّةَ غَيّ أعْيَت مصادِرها
ما ضَرّها لو وَفَتْ بمَوْثِقها
واستحكمتْ في التُّقى بصائرها
ولَم تُسَافِك دماءَ شِيعتها
وتَبْتعِل فتيةً تُكابرها
وأقنَعتْها الدنيا التي جُمِعت
لها ورَغْبُ النفوس ضائِرها
ما زال حَوْضُ الأملاك […]
مسجورها بالهوى وساجِرُها
تُبْقي فُضولَ الدنيا مُكَاثَرةً
حتى أُبِيحت كَرْها ذخائرها
تبِيع ما جَمَّع الأَبوَّة للـ
ـأبناء لا أَرْبَحت مَتاجرها
يا هل رأيتَ الجِنان زاهرةً
يروق عينَ البصير زاهرها
وهل رأيت القصورَ شارعة
تُكِنّ مثل الدُّمَى مَقاصرها
وهل رأيتَ القُرى التي غَرَس الـ
ـأملاكُ مُخْضرّةً دَسَاكرُها
محفوفةً بالكروم والنّخلِ والـ
ـرّيْحان قد دَمِيت محاجرها١٠١
فإنها أصبَحت خلايا من الـ
ـإنسان قد دَمِيت مَحاجرها١٠٢
قَفْرًا خلاء تَعْوي الكلابُ بها
يُنكر منها الرسومَ داثِرها
وأصبح البؤسُ ما يفارقها
إلْفًا لها والسرورُ هاجرها
بزَنْد وَرْد والياسِرّية والـ
ـشَّطّيْن حيث انتهت معابرها
وبالرحى والخَيْزُرانية الـ
ـعُليا التي أشرفت قناطرها
وقَصْر عَبْدويه عِبرةٌ وهُدًى
لكل نفس زكَت سرائرها
فأين حرّاسها وحارسُها
وأين مَجبورها وجابرها
وأين خِصيانُها وحِشوتها
وأين سكّانها وعامرها
أين الجَراديّة الصَّقالبُ والـ
ـأحْبُش تعدو هُدْلًا مَشافرها
يَنصدِع الجندُ عن مواكبها
تعدو بها سُرّبًا ضوامرها
بالسّند والهند والصّقالب والـ
ـنوبةِ شِيبت بها بَرابرها
طيرًا أبابيل أُرسلَت عبثا
يقدُم سُودانَها أحامرها
أين الظباء الأبكار في روضة الـ
ـمُلك تَهادى بها غَرائرها
أين غَضاراتها ولذّتها
وأين مَحبورُها وحابرها
بالمسك والعنبر اليمانيّ والـ
ـيلنجوج مشبوبَةٌ مجامِرها
يرفُلن في الخَزّ والمجاسد والـ
ـمَوْشِيّ مخطومةً مَزامرها
فأين رقّاصها وزَامرها
يُجبِن حيث انتهت حناجِرها
تكاد أسماعُهم تُسَلّ إذا
عارض عيدانَها مَزاهرها
أمست كجوف الحمار خاليةً
يسعَرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحتْ بساحتهم
عادٌ ومسّتهم صَراصرها
لا تعلم النفسُ ما يُبايتها
من حادث الدهر أو يُباكِرها
تُضحى وتمسي دَرِيّةً غرَضًا
حيث استقرّت بها شَراشرها
لأسهم الدهر وهو يرشُقها
مُحْنِطُها مرة وباقِرها
يابؤسَ بغداد دارِ مملكةٍ
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها اللهُ ثم عاقبَها
لما أحاطتْ بها كبائرها
بالخسفِ والقذف والحريق وبالـ
ـحرب التي أصبحت تُسَاورها
كم قد رأينا من المعاصي بها
كالعاهر السوء …
حلّت ببغداد وهي آمِنة
داهيةٌ لم تكن تُحاذِرها
طالَعها السوءُ من مطالعه
وأدركت أهلَها جرائرها
رقّ بها الدين واستُخِفّ بذي الـ
ـفضل وعزّ النُّسَّاك فاجِرها
وخَطم العبدُ أنفَ سيّده
بالرّغم واستعبدتْ مخادرها
وصار ربّ الجيران فاسقُهم
وابتزّ أمر الدروب ذاعِرها
من ير بغدادَ والجنودُ بها
قد رَبَّقتْ حولها عساكرها
كلّ طَحُونٍ شهباء باسلةٍ
تُسقِط أحبالها زَماجِرها
تُلقى بَغيّ الردى أوانِسَها
يُرهقها للقاء طاهرها
والشيخُ يعدو حَزْمًا كتائبُه
يُقدِم أعجازَها يعاورها
ولزُهَيرْ بالقول مأسَدة
مرقومة صُلبةٌ مكاسرها
كتائبُ الموت تحت ألوِيَة
أبرَحَ منصورُها وناصرها
يعلم أن الأقدارَ واقعةٌ
وقعًا على ما أحَبّ قادرها
فتلك بغدادُ ما يَبن من الـ
ـدَّلَه في دُورها عصافرها
محفوفةً بالردى منطَّقةً
بالصُّقْر محصورةً جبابرها
وبين شَطّ الفُرات منه إلى
دِجلة حيث انتهت مَعابرها
كهادِي السُّفراء نافِرُه
تركُض من حولها أشاقِرها
يُحرقها ذا وذاك يَهدِمها
ويَشتفي بالنِّهاب شاطرها
والكَرْخُ أسواقُها معطّلة
يَستَنّ عَيّارها وعائِرها
أخرجتِ الحربُ من سواقِطِها
آسَاد غِيل غُلْبًا تُساورها
من البَوارى تِرَاسُها ومن الـ
ـخُوص إذا استلأَمتْ مَغافرها
تغدو إلى الحربِ في جواشِنها الـ
ـصّوف إذا ما عَدَت أساوِرها
كتائِب الهِرْش تحت رايته
سَاعَد طَرّارَها مُقامرها
لا الرّزق تبغي ولا العطاءَ ولا
يحشُرها للقاء حاشرها
في كل دَرْب وكل ناحِية
خَطّارة يَستهِلّ خاطرها
بمثل هام الرجال من فِلَق الـ
ـصخر يَزود المقلاعَ بائرها
كأنما فوق هامها عِدَف
من القطا الكُدْر هاج نافِرها
والقومُ من تحتها لهم زَجَل
وهي تَرامَى بها خواطرها
بل هل رأيتَ السيوفَ مصْلتة
أشهَرَها في الأسواق شاهرها
والخيلَ تستَنّ في أزِقّتها
بالتُرك مسنونة خناجرها
والنَّفط والنار في طرائقها
وهابِيًا للدخان عامرها
والنّهب تعدو به الرجالُ وقد
أبدت خلاخيلَها حَرائرها
مُعْصَوْصِبات وسط الأزِقّة قد
أبرزها للعيون ساتِرها
كلٌّ رَقُود الضّحى مَخبَأةٌ
لم تَبْدُ في أهلها محاجرها
بَيْضَة خِدْر مكنونة بَرَزتْ
للناس منشورةً غدائرها
تعثُر في ثوبها وتُعْجِلها
كَبّةُ خيل زِيعَت حوافرها
تسأل أين الطّريق والهةً
والنارُ من خلفها تبادرها
لم تَجْتَلِ الشمسُ حسنَ بهجتها
حتى اجتلتها حَرْب تُباشرها
يا هْل رأيت الثكلى مُوَلوِلَةً
في الطُّرق تسعى والجَهْد باهرها
في إثْر نعش عليه واحدها
في صدره طعنة يُساوِرها
فرغاء تُلْقي النِّثَار من يدها١٠٣
يَهزّها بالسّنان شاجرها
تنظُر في وجهه وتهتِف بالـ
ـثّكل وعِزّ الدموع خامرها
غَرْغر بالنّفس ثم أسلَمَها
مَطلولةً لا يُخاف ثائرها
وقد رأيتُ الفِتيان في عَرْصَة الـ
ـمَعْرك معفورةً مَناخِرها
كلّ فتى منّاعٌ حقيقتَه
تَشقَى به في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشُه
مخضوبةً من دمٍ أظافرها
أما رأيتَ الخيولَ جائلةً
بالقوم منكوبةً دوائرها
تعثُر بالأوجهِ الحسان من الـ
ـقَتْلَى وغُلّتْ دمًا أشاعرها
يَطأْنَ أكبادَ فتيةٍ نُجُدٍ
يَفْلِق هَاماتهم حوافرها
أما رأيتَ النّساء تحت المجا
نيق تَعادَى شُعْثًا ضفائرها
عقائلَ القوم والعجائزَ والـ
ـعُنّس لم تُختبر مَعاصرها
يحمِلن قوتًا من الطّحين على الـ
ـأكتاف معصوبةً مَعاجرها
وذات عيشٍ ضَنْك ومُقْعِسة
تَشدَخُها صَخْرةٌ تُعاوِرها
تسأل عن أهلها وقد سُلِبت
وابتُزّ عن رأسها غَفَائرها
يا ليت ما والدهر ذو دُوَلٍ
تُرجى وأخرى تُخشى بوادرها
هل ترجعن أرضُنا كما غَنِيَت
وقد تناهَتْ بنا مَصايرها
مَنْ مُبلغٌ ذا الرياستِين رِسا
لاتٍ تأتَّى للنّصح شاعِرها
بأن خير الوُلاة قد علم النـ
ـاسُ إذا عُدّدتْ مآثرها
خليفةُ الله من بريّته الـ
ـمأمون سائسُها وجابرها
سمَتْ إليه آمال أمته
منقادةً بَرّها وفاجرها
شَامُوا حيا العدل من مَخايِله
وأصْحَرت بالتّقى بصائِرها
وأَحْمَدوا منك سِيرةً جَلَتِ الـ
ـشّك وأخرى صَحّت معاذرها
واستجمعتْ طاعة برفقك للـ
ـمأمون نَجْدِيّها وغائرها
وأنت سَمْع في العالمين له
ومقلَةٌ ما يَكِلّ ناظرها
فاشكر لذي العرش فضلَ نعمته
أوجَبَ فضلَ المزيد شاكِرها
واحذر فِداء لك الرعيّةُ والـ
ـأجنادُ مأمورُها وآمرها
لا تَرِدَنْ غَمرةً بنفسك لا
يصدر عنها بالرأي صادِرَها
عليك ضَحْضاحَها فلا تَلِج الـ
ـغَمْرَ مُلْتَجّةً زواخرها
والقصدَ إن الطريق ذو شُعَبٍ
أشأمُها وَعْثُها وجَائرها
أصبحتَ في أمّة أوائلُها
قد فارقت هَدْيَها أواخرها
وأنت سُرْسُورُها وسائسها
فهل على الحقّ أنت قاسرها
أدِّبْ رجالًا رأيتَ سِيرتهم
خالف حكمَ الكتاب سائرها
وامدُد إلى الناس كف مرحمة
تُسَدّ منهم بها مفَاقرها
أمكنك العدلُ إذ هممتَ به
ووافقت مدَّه مقادرها
وأبصر الناسُ قصدَ وَجْههمُ
ومَلَكت أمةً أخايرها
تُشْرَع أعناقنا إليك إذا السـ
ـادات يومًا جَمّت عشائرها
كم عندنا من نصيحةٍ لك في الله
وقُربى عزّت زوافرها
وحرمةٍ قرُبت أواصِرُها
منك وأخرى هل أنتَ ذاكرها
سَعْيُ رجالٍ في العلم مطلبُهم
رائحُها باكر وباكرها
دونك غراءَ كالوَذيلة لا
تفقد في بلدة سوائرها
لا طَمَعًا قلتُها ولا بَطَرًا
لكل نفس نفسٌ تُؤَامرها
سيّرها الله بالنصيحة والـ
ـخَشية فاستدمجتْ مرائرها
جاءتك تحكي لك الأمور كما
ينشُر بَزّ التِّجار ناشرها
حمّلتُها صاحِبًا أخا ثِقَةٍ
يظل عُجْبًا بها يُحاضِرها

ومن جيد شعره قوله:

الناسُ أخلاقُهم شتّى وإن جُبِلوا
على تَشَابُه أرواحٍ وأجساد
للخير والشرّ أهلٌ وُكّلوا بهما
كلٌّ له من دواعي نفسه هاد
منهم خليلُ صَفاء ذو محافظةٍ
أرسى الوفاءُ أواخِيه بأوتاد
ومُشْعَر الغدر مَحنيٌّ أضالعُه
على سريرة غَمْر غِلّها باد
مُشَاكِسٌ خَدِع جَمّ غوائلُه
يُبدي الصفاءَ ويخفي ضَربة الهادي
يأتيك بالبغى في أهل الصفاء ولا
ينفَكّ يسعى بإصلاحٍ لإفساد

ومن جيد شعر الخريمي قوله:

أُضاحِك ضيفي قبل إنزال رَحْله
ويُخصب عندي والمحل جَديب
وما الخِصب للأضياف أن يكثُر القِرى
ولكنما وجه الكريم خَصِيب

ومن جيد شعره قوله:

زاد معروفَك عندي عِظَما
أنّه عندك مَحقورٌ صغير
وتناسيه كأن لم تأتِه
وهو عند الناس مشهور كبير

وهو القائل:

وإن أشَدّ الناس في الحَشْر حَسْرَةً
لَمُورِثُ مالٍ غيرَه وهو كاسِبه
كفى سَفَهًا بالكهلِ أن يتبَعَ الصِّبا
وأن يأتيَ الأمرَ الذي هو عائبه

ويستجاد له قوله:

ودون النّدى في كل قلب ثَنّية
لها مَصْعَدٌ وعر ومُنْحَدر سَهْل
وَوَدّ الفتى في كل نيل يُنيله
إذا ما انقضى لو أن نائلَه جَزْل
وأعلم عِلمًا ليس بالظنّ أنه
لكل أناس من ضَرائبهم شَكْل
وأنّ أَخِلاءَ الزمان غَناؤهم
قليل إذا الإنسانُ زَلّت به النّعل
تزوَّدْ من الدنيا متاعًا لغيرها
فقد شَمّرتْ حَذّاء وانصرم الحبل
وهل أنتَ إلا هامَةُ اليومِ أو غَدِ
لكل أناس من طوارقها الثّكل

وفي هذا الشعر يقول:

أبا لصُّغْد بأسٌ إذ تعيّرني جُمْلُ
سَفاهًا ومن أخلاق جَارَتِيَ الجهل
فإن تفخري يا جمل أو تتجمّلي
فلا فخرَ إلا فوقه الدّين والعقل
أرى الناس شَرْعًا في الحياة ولا يُرى
لقبر على قبر عَلاء ولا فَضْل
وما ضَرّني أن لم تَلِدْني يُحابِر
ولم تَشتمل جَرْمٌ عليّ ولا عُكْل

وهو القائل:

ما أحسنَ الغَيْرةَ في حينِها
وأقبحَ الغيرة في كل حِين
من لم يزل متَّهِما عِرْسَه
مُنَاصِبًا فيها لريْب الظنون
أوشك أن يُغْرِيَها بالذي
يَخاف أن يُبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وَضْعُها
منك إلى عِرضٍ صحيح ودين
لا تطَّلع منك على رِيبةٍ
فيتبع المقرونُ حبل القرين

(٨) عبد الله بن طاهر

كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكان من الخلفاء، يُستغنى به عن التقريظ له والدلالة عليه، وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة، وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يُدفع، وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه أحد.١٠٤

وكان أديبًا ظريفًا جيد الغناء، نسب إليه صاحب الأغاني أصواتًا كثيرة أحسن فيها ونقلها أهل الصنعة عنه، وله شعر رائع ورسائل ظريفة، فمن شعره قوله:

نحن قومٌ تُلِينُنا الحَدَقُ النُّجْـ
ـلُ على أنّنا نُلين الحديدا
طَوْعُ أيدي الظِّباء تقتادنا العِيـ
ـن ونقتاد بالطِّعان الأُسودا
نَمْلِك الصِّيد ثم تملكنا البِيـ
ـضُ المصوناتُ أَعْيُنًا وخدودا
تَتَّقي سخطنا الأسود ونخشى
سَخَط الخِشْف حين يُبدي الصدودا
فترانا يوم الكريهة أحرا
رًا وفي السّلمِ للغواني عبيدا

أعطاه المأمون مال مصر لسنة، خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه في الناس ورجع صفرًا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه، فأنشده أبياتًا قالها في هذا المعنى، وهي:

نَفْسي فِداؤُكَ والأعناقُ خاضعةٌ
للنائبات أبيًّا غيرَ مُهْتَضَم
إليك أقبلتُ من أرضٍ أقمتُ بها
حَوْلَين بعدَك في شَوْقٍ وفي أَلَم
أَقْفُو مساعيَك اللائي خُصِصتَ بها
حَذْوَ الشِّراك على مِثْل من الأَدَم
فكان فَضْليَ فيها أَنّني تَبَعٌ
لِمَا سَنَنْتَ من الإنعام والنّعم
ولو وُكِلْتُ إلى نفسي عَنِيت بها
لكن بدأتَ فلم أعجزْ ولم أُلَم

فضحك المأمون وقال: والله ما نفستُ عليك مكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عندك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه.

لما فتح عبد الله مصر سوَّغه المأمون خراجها، فصعد المنبر فلم يزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف ألف دينار أو نحوها، فأتاه معلًّى الطائي وقد أعلموه ما صنع بالناس في الجوائز وكان عليه واجدًا، فوقف بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح الله الأمير، أنا معلًّى الطائي، وقد بلغ مني ما كان منك من جفاء وغلظ، فلا يغلظن عليَّ قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول:

يا أعظمَ الناسِ عفوًا عند مَقْدِرَةٍ
وأظلَم الناسِ عندَ الجود للمال
لو أصبحَ النيلُ يَجْري ماؤه ذهبًا
لَمَا أشرتَ إلى خَزْنٍ بمِثقال
تُغْلي بما فيه رِقّ الحمد تملكه
وليس شيءٌ أعاضَ الحمدَ بالغالي
تَفُك باليُسْر كَفَّ العُسْر من زَمَنٍ
إذا استطالَ على قَوْمٍ بإقلال
لم تخلُ كفُّك من جُودٍ لمُخْتَبِطٍ
ومُرْهَفٍ قاتلٍ في رأسِ قَتّال
وما بَثَثْتَ رَعِيلَ الخيل في بَلَدٍ
إلا عَصَفْنَ بأرزاقٍ وآجال
إن كنتُ منْك على بالٍ مَنَنْتَ به
فإن شكرَك من قلبي على بال
ما زلتُ مُقْتَضَبًا لولا مجاهرةٌ
من ألسُنٍ خُضْنَ في صَدْري بأقوال

فضحك عبد الله وسُرَّ بما كان منه وقال: يا أبا السمراء، أقرِضني عشرة آلاف دينار فما أمسيتُ أملكها. فأقرضَه فدفعها إليه.

كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر بمصر، وكان نديمه وجليسه، وكان له مؤثرًا مقدمًا، فأصاب منه معروفًا كثيرًا وأجازه بجوائز سنية هناك وقبل ذلك، ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر فجفاه وظهر له منه بعض ما لم يحبه، فرجع حينئذ إلى بغداد وقال:

إنْ كان عبدُ الله خلّانا
لا مُبْدئًا عُرْفًا وإحسانا
فَحَسْبُنا اللهُ رَضِينا به
ثم بعبد الله مَولانا

يعني به المأمون، وغنت فيه جاريته وسمعه المأمون، فاستحسنه ووصله وإياها، فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه ذلك وقال: أجل! صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع.

ولعبد الله ألحان صاغها، فمنها ومن مختارها وصدورها ومقدمها لحنه في شعر أخت عاصية، فإنه صوت نادر جيد صحيح العمل مزدوج النغم، بين لين وشدة على رسم الحذاق من القدماء، وهو:

هلّا سَقَيتُمْ بني سَهْم أَسِيرَكُمُ
نَفْسي فداؤك من ذي غُلَّة صادي
الطاعنُ الطعنةَ النجلاءَ يتبعها
مُضَرَّجٌ بعد ما جادتْ بإزْبَاد

ومن غنائه أيضًا:

راحَ صَحْبي وعاودَ القلبَ داءُ
من حبيب طِلَابُه لي عَنَاءُ
حَسَنُ الرأي والمواعيد لا يُلْـ
ـفى لشيء مما يقول وفاءُ
مَنْ تَعَزَّى عمن يحب فإني
ليس لي ما حييتُ عنه عَزَاءُ

(٩) ما قيل في هجاء الأمين ورثائه

قيل في هجائه:

لم نُبَكّيك لماذا للطّرَبْ
يا أبا موسى وتَرْوِيح اللَّعبْ
ولِتَرْك الخَمْس في أوقاتها
حَرَصًا منها على ماء العنب
وَشَنِيفٍ أنا لا أبكي له
وعلى كَوْثَر لا أخشى العَطَب
لم تكن تعرف ما حدّ الرضا
لا ولا تعرف ما حَدّ الغضب
لم تكن تَصلُح للملك ولم
تُعْطِك الطاعةَ بالملك العرب
أيها الباكي عليه لا بَكَتْ
عين من أبكاك إلّا للعَجَب
لم نبكّيك لِما عَرّضتنا
للمَجَانيق وطَوْرًا للسَّلَب
ولقومِ صيّرونا أعْبُدًا
لهم يبدو على الرأس الذّنَب
في عذابٍ وحِصارٍ مُجْهدٍ
سَدّد الطُّرقَ فلا وَجْهَ طلب
زعموا أنك حيٌّ حاشر
كلّ من قَدْ قال هذا قد كَذَب
ليت من قد قاله في وَحْدَة
من جميع ذاهبٍ حيث ذهب
أوجب اللهُ علينا قتلَه
فإذا ما أوجب الأمرَ وجَب
كان والله علينا فِتنةً
غَضِبَ الله عليه وكَتَب

وقال عبد الرحمن بن أبي الهداهد يرثيه:

يا غَرْبُ جُودي قد بُتّ من وذَمِه
فقد فقدنا الغَزير من دِيَمِه
ألوت بدنياك كفُّ نائبة
وصِرتَ مُغْضًى لنا على نِقَمه
أصبح للموت عندنا عَلَم
يضحك سِنّ المنون من عَلَمه
ما استنزلَتْ دَرّةُ المنون على
أكرم من حَلّ في ثرى رَحِمه
خليفةُ الله في بريّته
تقصُر أيدي الملوك عن شِيمَه
يفتَرّ عن وجهه سَنا قَمَر
يَنشَقّ عن نوره دُجَى ظُلَمه
زُلزِلت الأرضُ من جوانبها
إذ أُولغَ السيفُ من نجِيع دَمه
مَنْ سكتت نفسُه لِمَصْرعةٍ
من عُمُمِ الناس أو ذَوي رَحِمه
رأيتُه مثلَ ما رآه به
حتى تذوّق الأمرَّ من سَقَمه
كم قد رأينا عزيزَ مملكةٍ
يُنقَل عن أهله وعن خَدَمِه
يا مَلِكًا ليس بعده مَلِك
لخاتم الأنبياء في أُمَمِه
جادَ وحَيّ الذي أقمتَ به
سَحّ غزير الوكيف من دِيمه
لو أحجم الموتُ عن أخي ثِقَةٍ
أُسْوِيَ في العزّ مُسْتَوى قَدَمِه
أو ملكٍ لا ترام سطوتُه
إلا مَرامَ الشَّتيم في أجَمِه
خَلّدك العزّ ما سَرَى سَدَف
أو قام طِفل العشىّ في قَدَمِه
أصبح مُلكٌ إذا اتّزرتَ به
يَقْرع سنَّ الشُّقَاةِ من نَدَمِه
أَثَّر ذُو العرشِ في عِداك كما
أثّر في عاده وفي إرَمِه
لا يُبعد الله صَيّورةً تَلِيت
لخيرِ داعٍ دعاه في حَرَمه
ما كنتُ إلا كحُلم ذي حُلُم
أُولِجَ بابَ السرور في حُلُمه
حتى إذا أطلقتْه رَقْدتُه
عاد إلى ما اعتراه من عَدَمِه

وقال أيضًا يرثيه:

أقول وقد دنوت من الفِرار
سُقِيت الغيثَ يا قصر القَرارِ
رمتك يدُ الزمان بسهم عَيْن
فصِرتَ مُلَوَّحًا بدُخان نار
أبِن لي عن جميعك أين حَلّوا
وأين مزارهم بعد المَزار
وأين محمدٌ وابناه ما لي
أرى أطلالهم سُود الدِّيار
كأن لم يُؤْنَسوا بأنيسِ مُلك
يطول على الملوك بخير جار
إمامٌ كان في الحَدَثان عونًا
لنا والغيثُ يمنحُ بالقِطَار
لقد ترك الزمانُ بَني أبيه
وقد غمرتهم سُود البِحار
أضاعوا شمسهم فَجَرتْ بنحسٍ
فصاروا في الظّلام بلا نَهار
وأجلَوْا عنهم قمرًا منيرًا
ودَاسَتْهُمْ خيولُ بني الشِّرار
ولو كانوا لهم كفؤًا ومِثلًا
إذا ما تُوّجوا تيجانَ عَار
ألا بَان الأمامُ وَوَارِثاه
لقد ضَرِم الحشى منّا بنار
وقالوا الخُلْد بِيع فقلتُ ذُلًّا
يصير ببائِعيه إلى صَغَار
كذاك الملك يُتبِع أَوَّلِيه
إذا قُطِع القَرار من القَرار

وقال مقدِّس بن صيفي يرثيه:

خليلي ما أتَتْك به الخطوبُ
فقد أعطاك طاعتَه النَّحيب
تدلّت من شماريخ المنايا
مَنَايا ما تقوم لها القلوبُ
خِلالَ مقابِر البستان قبر
يُجَاور قبرهَ أسَدٌ غريب
لقد عَظُمت مُصيبته على من
له في كل مَكرُمة نصيب
على أمثاله العَبَراتُ تُذْرى
وتُهْتَك في مآتِمِه الجُيوب
وما ادّخَرتْ زُبيدة عنه دمعًا
تُخَصّ به النسيبةُ والنّسيب
دعُوا موسى ابنه لبُكاء دَهرٍ
على موسى ابنه دخَل الحَزِيب
رأيتُ مَشَاهدَ الخلفاء منه
خَلاءً ما بساحتها مُجِيب
ليَهْنِك أنني كهلٌ عليه
أذوبُ وفي الحشى كَبِد تَذوب
أُصِيبَ به البعيد فَخَرّ حزنًا
وعاين يومه فيه المُريب
أُنادي من بطون الأرض شخصًا
يحرّكه النِّداء فما يُجيب
لئن نَعَتِ الحروبُ إليه نفسًا
لقد فُجِعت بمصرعه الحروب

وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:

لخير إمامٍ قام من خير عُنْصُر
وأفضلِ سامٍ فوق أعواد مِنبر
لِوارثِ علم الأولين وفهمهم
وللمَلك المأمونِ من أم جَعْفر
كتبتُ وعيني مُسْتهِلٌ دموعُها
إليك ابن عمي من جفوني ومَحْجَري
وقد مَسّني ضُرٌ وذلُّ كآبةٍ
وأرَّقَ عيني يا ابن عمي تفكّري
وهِمتُ لما لاقيتُ بعد مصابه
فأمري عظيم مُنْكّرٌ جدّ مُنْكَر
سأشكو الذي لاقيتُه بعد فقده
إليك شَكَاة المستهامِ المُقَهَّر
وأرجو لما قد مَرّ بي مذ فقدتُه
فأنت لبَثّي خير رَبّ مُغَيِّر
أتى طاهِر لا طهّر اللهُ طاهرًا
فما طاهر فيما أتَى بمُطَهّر
فأخرجني مكشوفةَ الوجه حاسِرًا
وأنْهَبَ أموالي وأحْرَق آدُرِي
يَعِزّ على هارون ما قد لقِيتُه
وما مَرّ بي من ناقص الخَلْق أعور
فإن كان ما أسدى بأمر أمرتَه
صبَرتُ لأمرٍ من قدير مُقَدِّر
تذكّر أميرَ المؤمنين قرابتي
فديتُك من ذي حرمة مُتَذَكِّر

وقال أيضًا يرثيه:

سبحان ربّك ربّ العِزّة الصَّمَد
ماذا أُصِبْنا به في صُبْحة الأَحَد
وما أُصيب به الإسلامُ قاطبةً
من التَّضَعضُع في رُكْنَيه والأَوَد
مَنْ لم يُصَب بأمير المؤمنين ولم
يُصبح بِمَهْلَكة والهمُّ في صُعُد
فقد أصِبتُ به حتى تبيّن في
عقلي وديني ودنياي وفي جسدي
يا ليلةً يَشتكي الإسلامُ مُدّتَها
والعالَمون جميعًا آخِرَ الأَبَد
غَدرتِ بالمَلك الميمونِ طائرُه
وبالإمام وبالضّرغامة الأسَد
سارتْ إليه المنايا وهي تُرهِبْه
فواجَهَتْه بأوغادٍ ذوي عَدَد
بشُورَجِينَ وأغْتَامٍ يقودهم
قُرَيشُ بالبِيض في قُمْصٍ من الزَّرَد
فصادفوه وحِيدًا لا مُعِين له
عليهم غائبَ الأنصار بالمَدَد
فجرّعوه المنايا غيرَ مُمْتَنِع
فَرْدًا فيا لك من مُسْتسلِم فَردَ
يَلقى الوجوهَ بوجه غير مُبْتَذَل
أبْهى وأنْقى من القُوهِيّة الجُدُد
وا حَسْرَتا وقريشٌ قد أحاط به
والسيفُ مُرْتَعِد في كَفّ مُرْتَعِد
فما تحرّك بل ما زال منتصِبًا
منكَّسَ الرأس لم يُبدئْ ولم يُعد
حتى إذا السيفُ وافى وسْطَ مَفْرِقه
أذْرَتْه عنه يداه فعلَ مُتَّئِد
وقام فاعتلقتْ كفّاه لَبّته
كضيغَمٍ شَرس مستبِسلٍ لَبِد
فاجترّه ثم أهوى فاستقلّ به
للأرض من كَفّ ليث مُحْرَج حَرِد
فكاد يقتله لو لم يُكاثِره
وقام منفَلِتًا منه ولم يَكد
هذا حديثُ أمير المؤمنين وما
نَقَصتُ من أمره حرفًا ولم أَزِد
لا زلت أنْدُبه حتى الممات وإنْ
أخنى عليه الذي أخْنَى على لُبَد

وذكر عمر بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه أن لبابة ابنة علي بن المهدي قالت البيتين الآتيين وقيل إنهما لابنة عيسى بن جعفر وكانت مملكة بمحمد:

أبكيك لا للنّعيم والأُنْس
بل للمعالي والرّمح والتُّرْس
أبكي على هالكٍ فُجعتُ به
أَرْمَلَني قبل ليلة العُرس

(١٠) هجاء يحيى١٠٥ بن أكثم

وعدناك في المجلد الأول أن نذكر مثلًا من الهجاء قاله بعض الشعراء في يحيى بن أكثم، وها هو ذا:

أرّقَه بَرْحُ الهوى وسَدِمُهْ
ومَلّه الحبُّ فبات يألَمُهْ
طورًا يُعَانيه وطورًا يَشْتُمُه
مثل الحريقِ في الحشا يُضَرِّمُه
ففاضتِ العينُ بدمع تَسجُمُه
نمّت عليه كلّ شوقٍ يكتُمُه
وباح بالحب الذي يُجَمجِمُه
وبات والقلبُ يُسامي هِمَمُه
من لمحبٍ قد تراه يرحمُه
أصبح بالبأساء عارٍ أَنْغُمُه
طال تَصابِيه وطال سَقَمه
وبَليَ الجسم ورَقّت أعظُمُه
يَشهدني الله على من يَظلِمُه
يمنعه طعمَ الكرى ويحرِمُه
واهًا له يصرِم من لا يصرِمُه
أصبح هذا الدين رَثًّا رِمَمُه
عطّله الجَور وطال قِدَمُه
سَحّت من الجوْر عليه دِيَمه
فَبَادَ مغنى رَبْعه وأرسُمُه
إلا بقايا قومِه وجُمَمُه
أوطَنَه الجور فأضحى مَعْلَمُه
يَرود فيه شَاؤه ونَعَمُه
من يَشْهَد الجور فنحن نَعْلمُه
أنْوَك قاضٍ في البلاد نعلمُه
يقول حقًّا لا تُعَيّث ترحمُه
مذ وَلِيَ الحكمَ أُبِيح حَرَمُه
وانتُهِكتْ من القضاء حُرَمُه
واضطربت أركانُه ودِعَمُه
والله يَبْنِيه ونحن نهدِمُه
يا ليت يحيى لم يَلِده أكْثَمُه
ولم تَطأْ أرضَ العراق قَدَمُه
ملعونةٌ أخلاقه وشيمُه١٠٦
واللهِ واللهِ لقد حَلّ دَمُه
لو أن للدِّين عِمادًا يدعَمُه
يعدِل عنه الميلَ أو يقوِّمُه
لكان قد رنّ عليه مأتمُه
أرجو ويقضي اللهُ لا يُسَلِّمه
من وجهه هذا ولكن يقَصِمُه
بالسيف إذ حلت عليه نقمه

(١١) وصف ثورة بغداد وحريقها

أما ما أصاب بغداد من سلب ونهب وتحريق وتخريب وفتنة شعواء وقتل ودماء، فإنا نترك الكلمة في ذلك لشعراء ذلك العصر.

قال الأعمى يصف دمار الحرب:

تقطّعتِ الأرحامُ بين العشائر
وأسْلَمهم أهلُ التّقى والبصائر
فذاك انتقامُ الله من خَلْقه بهم
لما اجتَرَموه من ركوبِ الكبائر
فلا نحن أظهرنا من الذنب توبَةُ
ولا نحن أصلحنا فسادَ السرائر
ولم نستمع من واعظٍ ومذَكِّر
فَينجَعَ فينا وعْظُ ناهٍ وآمِر
فابكِ على الإسلام لما تقطّعت
عراه ورجّى ضرَّه كلّ كافر
فأصبح بعض الناس يقتل بعضهم
فمن بين مقهورٍ عزيزٍ وقاهر
وصار رئيسُ القوم يحمَل نفسه
وصار رئيسًا فيهم كلُّ شاطر
فلا فاجر للبَرّ يحفظ حرمة
ولا يستطيع البَرّ دَفْعًا لفاجرِ
تراهم كأمثال الذئابِ رأتْ دمًا
فأمَّتْه لا تَلْوي على زَجْر زاجر
وأصبح فُسّاقُ القبائل بينهم
تسلّ على أقرانها بالخناجر
فابكِ لِقتلي من صديقٍ ومن أخ
كريم ومن جار شفيقٍ مُجَاور
ووالدةٍ تبكي بحزنٍ على ابنها
فيبكي لها من رحمةٍ كلُّ ظائر
وذاتِ حليلٍ أصبحت وهي أيِّمٌ
وتبكي عليه بالدموع البوادر
تقول له قد كنتَ عِزًّا وناصرًا
فَغُيِّب عني اليوم عزّي وناصري
وابكِ لإحراقٍ وهدمِ منازل
وقتلٍ وإنهاب اللهى والذخائر
وإبراز ربّات الخدور حواسِرًا
خرجن بلا خُمْرٍ ولا بمآزِر
تَراها حَيَارى ليس تعرف مَذْهَبًا
نوافرَ أمثالَ الظباء النوافر
كأن لم تكن بغدادُ أحسنَ مَنْظَرًا
ومَلْهًى رأته عينُ لَاهٍ وناظر
بل هكذا كانت فأَذَهَب حسنَها
وبدّد منها الشّمْلَ حكُم المَقادر
وحلّ بهم ما حلّ بالناس قبلهم
فأضحَوْا أحاديثًا لبَادٍ وحاضِر
أبغدادُ يا دارَ الملوك ومُحْتَمَى
صروف المنايا مستقرّ المنابر
ويا جَنّةَ الدنيا ومطَّلَبَ الغنى
ومستنبطَ الأموال عند الضرائر
أبيني لنا أين الذين عَهِدتُهم
يحلّون في روضٍ من العيش زاهر
وأين ملوك في المواكب تَغْتَدي
تُشَبَّه حسنًا بالنجوم الزواهر
وأين القضاة الحاكمون برأيهم
لِورْد أمور مشكلاتِ الأوامر
أو القائلون الناطقون بحكمة
وَرْصفِ كلامٍ من خطيبٍ وشاعر
وأين مراح١٠٧ للملوك عهِدتُها
مزخرفةً فيها صنوفُ الجواهر
تُرَشّ بماء المسك والورد أرضُها
يَفُوحُ بها من بعد رِيح المَجامر
ورَوْح النَّدامى فيه كلّ عَشِيّة
إلى كل فَيّاض كريم العناصر
وأين قِيان تستجيب لنغمها
إذا هو لبّاها حَنينُ المزامر
وأين الملوك الغُرُّ من آل هاشم
وأشياعهم فيها اكتفوا بالمعاذر
يروحون في سلطانهم وكأنهم
يروحون في سلطان بعضِ العشائر
يجادل عما نالهم كبراؤهم
فَنَالتهمو بالكُرْه أيدي الأصاغر
فأَقسم لو أن الملوك تناصَروا
لَزَلّتْ لها خوفًا رِقابُ الجبابر

وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي بغداد ويهجو طاهرًا ويعرِّض به:

من ذا أصابكِ يا بغدادُ بالعيْنِ
ألم تكوني زمانًا قُرّة العينْ
ألم يكن فيكِ أقوامٌ لهم شرف
بالصَّالحات وبالمعروف يَلْقَوْني
ألم يكن فيك قومٌ كان مسكنُهم
وكان قرْبُهُم زينًا من الزّيْن
صاح الزمانُ بهم بالبيْن فانقرضوا
ماذا الذي فجَعَتْني لوعة البيْن
استوِعُ اللهَ قومًا ما ذكرتُهمو
ألّا تحدّر ماءُ العين من عيني
كانوا ففرَّقَهم دَهرٌ وصدّعهم
والدّهر يَصْدَع ما بين الفريقيْن
كم كان لي مُسْعِد منهم على زَمَني
كم كان منهم على المعروف من عَوْن
لله دَرُّ زمان كان يجمعنا
أَيْن الزمانُ الذي ولَّى ومن أينْ
يا من يُخَرّب بغدادًا ليعمرُها
أهلكتَ نفسك ما بين الطريقيْن
كانت قلوبُ جميع الناسِ واحدةً
عينًا وليس يكون العيْن كالدّيْن
لما استبيتهمُ فَرَّقْتِهم فرقًا
والناس طُرًّا جميعًا بين قلبينْ

ولبعض فتيان بغداد:

بكيتُ دَمًا على بغداد لما
فقدتُ غَضارةَ العيش الأنِيق
تَبَدّلْنا همومًا من سرور
ومن سَعَةٍ تبدلْنا بضِيق
أصابتها من الحُسّاد عينٌ
فأفنت أهلَها بالمَنْجَنِيق
فقومٌ أُحْرِقوا بالنار قَسْرًا
ونائحةٌ تنوح على غَرِيق
وصائحةٌ تُنَادي وَا صَباحًا
وباكِيةٌ لفِقْدان الشَّفيق
وحوراءُ المدامع ذاتُ دَلّ
مضمّخَة المجَاسد بالخَلُوق
تَفِرّ من الحريق إلى انتهاب
ووالدُها يفرّ إلى الحريق
وسَالِبةُ الغزالة مُقْلَتيهْا
مَضاحِكها كَلَألأة البُروق
حَيَارَى كالهَدايا مُبْكِرات
عليهن القلائِدُ في الحُلوق
يُنادِين الشفيقَ ولا شفيقٌ
وقد فُقِد الشفيقُ من الشفيق
وقومٌ أُخرِجوا من ظِلّ دُنيَا
متاعُهمُ يُباع بكل سُوق
ومُغْتَرِبٌ قريبُ الدار مُلْقًى
بلا رأسٍ بقارعةِ الطريق
توسّط من قِتالهمُ جميعًا
فما يدرون من أي الفَريق
فلا ولد يُقِيم على أبيه
وقد هَرَب الصّديق من صديق
ومهما أَنْسَ من شيء تولّى
فإني ذاكر دار الرّقيق

هوامش

(١) هو أبو علي الحسن بن هانئ، الشاعر المتفنن، الجاد الماجن، صاحب الصيت الطائر، والشعر السائر، ورأس المحدثين بعد بشار. وهو فارسي الأصل. وُلد بقرية من كورة خوزستان سنة ١٤٥ﻫ، ونشأ يتيمًا فقَدِمت به أمه البصرة بعد سنتين من مولده، فتعلم العربية ورغب في الأدب، فلم تعبأ أمه بحاله وأسلمته إلى عطار بالبصرة، فمكث عنده لا يفتر عن معاناة الشعر والاختلاف إلى الأدباء والمجان، إلى أن صادفه عند العطار والبة بن الحباب الشاعر الماجن الكوفي في إحدى قدماته إلى البصرة، فأعجب كل منهما بالآخر، فأخرجه والبة معه إلى الكوفة، فبقي معه ومع ندمائه من خلعاء الكوفة وتخرَّج عليهم في الشعر وفاقهم جميعًا. وقدم بغداد وقد أربت سنُّه على الثلاثين، فاتصل ببعض الأمراء ومدحهم، وبلغ خبره الرشيد فأذن له في مدحه، فمدحه بقصائد طنانة وحبسه مرة على هجوه مضر.
وكان يقصد بعض عمال الولايات ويمدحهم؛ ومنهم الخصيب عامل مصر، ثم انقطع إلى مدح محمد الأمين، وثبت عنده بعض ما يوجب تعزيره فسجنه، ولم يلبث بعد خروجه من السجن أن مات ببغداد.
وكان أبو نواس جميل الصورة، فَكِه المحضر، كثير الدعابة، حاضر البديهة، متينًا في اللغة والشعر والأدب، متعصبًا لليمانية على المضرية. وأجمع أكثر علماء الشعر ونقدته وفحول الشعراء على أن أبا نواس أشعر المحدثين بعد بشار وأكثرهم تفننًا وأرصنهم قولًا وأبدعهم خيالًا مع دقة لفظ وبديع معنى، وأنه شاعر مطبوع برز في كل فن من فنون الشعر.
وامتاز عن كل الشعراء بقصائده الخمريات ومقطعاته المجونيات، وكان شعره لقاح الفساد والقدوة السيئة، لنقله الغزل من أوصاف المؤنث إلى المذكر والخروج بذلك عن مألوف العرب وآدابهم؛ إذ لم يكن ذلك معروفًا قبله وقبل شيطانه والبة. وزاد على ذلك انفراده بالإبداع في وصف الخمر، فكان نموذج سوء لمن تأخر، فافتتن بشعره الشبان في زمانه وبعده، وحاكوه وغلب عليهم هذا المذهب حتى صار الشاعر لا يعد ظريفًا إلا إذا مزج شعره بشيء من ذلك وإن لم يقع في محظوراته.
ووصفه عبد الله الجماز فقال: كان أظرف الناس منطقًا، وأعزرهم أدبًا، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جوابًا، وأكثرهم حياء، وكان أبيض اللون، جميل الوجه، مليح النغمة والإشارة، ملتف الأعضاء بين الطويل والقصير، مسنون الوجه، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك، حلو الصورة، لطيف الكف والأطراف، وكان فصيح اللسان، جيد البيان، عذب الألفاظ، حلو الشمائل، كثير النوادر، وأعلم الناس كيف تكلمت العرب، راوية للأشعار، علَّامة بالأخبار، كأن كلامه شعر موزون. توفي سنة ١٩٩ﻫ. وتجد ترجمته وأخباره وأشعاره في كتاب خاص باسم «أخبار أبي نواس» لابن منظور طبع مصر سنة ١٩٢٤، والأغاني (ج١٨ ص٢) و(ج٦ ص١١٠، ١٧٠، ١٨٦) و(ج١٦ ص١٤٨)، وابن خلكان (ج١ ص١٣٥)، وطبقات الأدباء (ص٩٦)، والشعر والشعراء (ص٥٠١)، والفهرست (ص١٦٠)، والعقد الفريد (ج٣ ص٣٣٧).
(٢) المكمهة: الغراس الكثيرة. والسحق: الطويلة، يريد النخل. والجرين هنا: موضع تجفيف التمر.
(٣) المحش: قشر الجلد عن اللحم.
(٤) وائلًا: ناجيًا. ووألت: لجأت. والشغواء: العقاب. والشعف: رءوس الجبال.
(٥) اللجف: الغار في الجبل. ومزغب: صار ذا زغب، والزغب صغار الريش. والألغاد جمع لغد بالضم وهو لحمة في الحلق.
(٦) الطباق والنزع: نوعان من الشجر.
(٧) القليذم: البئر الغزيرة. والعياليم: جمع عيلم وهو البئر الكثيرة الماء. والخسف جمع خسيفة وهي البئر التي حفرت في حجارة فنبع منها ماء غزير لا ينقطع.
(٨) الجؤشوش: الصدر. والضرم: فرخ العقاب.
(٩) الشبوب: الشاب من الثيران والغنم. والنثرة: منزلة من منازل القمر.
(١٠) الوصيد: بيت كالحظيرة يتخذ من الحجارة للمال أي الغنم وغيرها في الجبال. والإياد: التراب يجعل حول الحوض أو الخباء يقوى به أو يمنع ماء المطر. والهدف: كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل.
(١١) ينهفت: يتساقط وينخفض. والقطقط: المطر الصغير أو المتتابع العظيم القطر، وقيل هو دون الرذاذ، وقيل البرد أو صغاره.
(١٢) سناه تسنية: سهله وفتحه.
(١٣) طماس بالكسر: دارس. والأسحم: السحاب. والارتجاس: الرعد.
(١٤) المعنقة: حبل في الرمل.
(١٥) الاغبساس: بياض فيه كدرة. والسفع: يريد بها الأثافي.
(١٦) الهُلَاس: الضمور. وهاب: لونه لون الهباء.
(١٧) بلدة بالشام تنسب إليها الخمر.
(١٨) جمع قوس.
(١٩) يعني أن الخمر مصبوب فيها إلى حلوق الصور صرفًا. وقوله: وللماء، يعنى أنهم صبوا الماء في مزجها حتى علا رءوسها.
(٢٠) جمع باشقي، وهو اسم طائر، أعجمي معرب.
(٢١) المرت: الأرض لا نبات فيها. واقتفر الأثر: اقتفاه وتبعه.
(٢٢) الجزر (بفتحتين): ما يذبح من الشاة ذكرًا كان أو أنثى. واحدته: جزرة. وما اشتكر: لم يثبت له الشكر وهو الضعيف من الشعر الذي لا يكاد يظهر.
(٢٣) عسفها: سلكها متخبطًا، والغرر: الخطر.
(٢٤) السدر: النحير.
(٢٥) الضمر (بالضم وبضمتين): الهزال. والضفر: جمع ضفار (بالفتح) وهو ما يشد به البعير من شعر مضفور.
(٢٦) الجأب: الحمار الغليظ من حمر الوحش.
(٢٧) الأثباج: جمع ثبج وهو وسط الشيء، والقصر: جمع قصرة وهي أصل العنق.
(٢٨) جفر: امتنع عن الضراب.
(٢٩) السفى: كل شجر له شوك، ونش: نضب، والنقر: جمع نقرة وهي الوهدة المستديرة من الأرض.
(٣٠) المرنان: القوس.
(٣١) زمت: شدت، ومشزور: مفتول، والمرر: جمع مرة وهي قوة الفتل، واللأم: الشديد، والنغر: كصرد البلبل. والعرب تشبه الدقيق بالأوتار وحلاقيم النغران.
(٣٢) القراري: الخياط.
(٣٣) القر: القرار، يقال إذا وقع الأمر موقعه: صابت بقر ووقعت بقر. قال طرفة بن العبد البكري:
كنت منهم كالمغطى رأسه
فانجلى اليوم غطائي وخمر
سادرًا أحسب غيي رشدًا
فتناهيت وقد صابت بقر
(٣٤) اشتد.
(٣٥) هبر: قطع.
(٣٦) المقر: المر.
(٣٧) أصحرت: برزت إلى الصحراء. ودبوا الخمر: مشوا مختفين. والخمر: ما سترك من شجر أو بناء أو نحوه.
(٣٨) الخير والقوة.
(٣٩) الضيق.
(٤٠) كشر: أبدى عن ناجذيه، وبسر: عبس.
(٤١) أي أحكمت فتله.
(٤٢) جمع ثغرة وهي نقرة النحر.
(٤٣) الألوى: الشديد الخصومة.
(٤٤) اعوجَّ وانثنى.
(٤٥) السبيب: شعر الذنب والعرف والناصية، والعذر جمع عذار.
(٤٦) قصد لفظ هل الاستفهامية فأدخل عليها الألف واللام.
(٤٧) الثنوية أصحاب الاثنين الأزليين وهم الذين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام.
(٤٨) الحراقات: ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمي بها العدو في البحر.
(٤٩) القعدي من الخوارج: الذي يرى رأي القعدة الذين يرون التحكيم حقًّا، غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس.
(٥٠) وذلك أنه كان للأمين ثلاث من السفن المعروفة بالحراقات لركوبه خاصة، وهي الليث والعقاب والدلفين.
(٥١) صاحب المحراب هو سليمان بن داود عليه السلام؛ لأنه بنى بيت المقدس.
(٥٢) أهرت الشدق: واسعه. وكالح الأنياب: كاشرها.
(٥٣) لببوه: أخذوا بلببه، وهو موضع القلادة في الصدر.
(٥٤) هو ماني بن فاتك الحكيم، الذي ظهر في زمن سابور ذي الأكتاف بن أزدشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور، وذلك بعد عيسى عليه السلام. اتخذ له دينًا بين المجوسية والنصرانية. وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام، ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام. حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسيًّا عارفًا بمذاهب القوم، أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يُزالا ولن يُزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وأنهما لا يزالان قوتين حساستين سميعتين بصيرتين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادتان، وفي الحيز متحاذيتان تحاذي الشخص والظل (انظر الملل والنحل للشهرستاني).
(٥٥) هو الخصيب بن عبد الحميد العجمي أمير مصر على الخراج. وإليه تنسب منبة الخصيب بالوجه القبلي وليس بابن صاحب نهر أبي الخصيب، ذاك عبد المنصور يقال له مرزوق. وكان هذا رئيسًا في أراضيه. فانتقل إلى بغداد وصار كاتب مهرويه الرازي، ثم انتقل إلى الإمارة.
(٥٦) الشطار: جمع شاطر وهو من أعيا أهله خبثًا.
(٥٧) الخلم: الصديق.
(٥٨) الندور: خروج العظم من موضعه أو زواله. وفي البيت من سوء التركيب ما فيه، والتقدير فيه كما نطرت عقاب لها بأرساغ اليدين ندور والريح ساكنة.
(٥٩) أُزيغب تصغير أزغب، وهو الفرخ ذو الزغب؛ أي الريش الدقيق اللين. والشكير: الريش أول ما ينبت.
(٦٠) الضريب: الثلج أو الجليد. ويمور: يتحوك أو يجيء ويذهب أو يسيل على وجه الأرض.
(٦١) الحجاجان مثنى حجاج، وهو العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب. والذرور: ما يذور في العين من الدواء.
(٦٢) تسور: تئب.
(٦٣) القتير: الشيب.
(٦٤) عقرقوف: اسم موضع.
(٦٥) نجدت: عرقت.
(٦٦) صور: مائلات.
(٦٧) يرضخن: يكسرن.
(٦٨) زور: جمع زوراء بمعنى مائلة.
(٦٩) جمع شقر وهو الأمر الملتصق بالقلب المهم له.
(٧٠) القرلى: كان لحمير وكان لا يسمع لأحد شيئًا إلا جاء إليه وداخله ولا يتخلف عن طعام لأحد، وإذا سمع بخصومة لم يقرب ذلك، فضرب به المثل حتى قيل لطير من طيور الماء يوفي عليه: القرلى.
(٧١) الفينان: الظل الكثيف، والجرب، أي لا خال فيه.
(٧٢) الغرب: الذهب.
(٧٣) الناطور: حافظ النخل والكرم والزرع، وفي البارع: الناطر والناطور بالطاء المهملة حافظ الزرع، من كلام أهل السواد وليس بعربي محض.
(٧٤) الزليل مصدر كالزلل.
(٧٥) أي منهزمي هاجرة، وعبورية نسبها إلى الشعرى العبور وأيام طلوعها أيام الحر الشديد.
(٧٦) يعني الشمس؛ أي توقفت في الجو عند زوالها. وفاءت بمذقة، أي دخلت عليهم من تلك الخيمة الخلقة التي ثبتت على الأباء الضعيف من القصب الرث فلم تقوَ الشمس وعليهم لم تمنعهم الخيمة بستر قوي فيصير ظلًّا ولكنه شمس وظل، فشبهت بالممذوق من اللبن؛ أي الممزوج.
(٧٧) هو كلثوم بن عمرو بن أيوب العتَّابي التغلبي، من ولد عتَّاب بن أسيد، ثم من بني تغلب بن وائل، شاعر مترسل بليغ مطبوع متصرف في فنون الشعر مقدم، من شعراء الدولة العباسية، وكان منقطعًا إلى البرامكة فوصفوه للرشيد ووصلوه به، فبلغ عنده كل مبلغ وعظمت فوائده منه.
وكان حسن الاعتذار في شعره ورسائله، وله مصنفات في المنطق والأدب واللغة، وكان يقيم في رأس عين بعيدًا عن دور الخلفاء والأمراء. وبلغ الرشيد قصيدة قالها فأعجب بها فطلب إشخاصه إليه، فجاء وعليه قميص غليظ وفروة وخف، وعلى كتفه ملحفة جافية بغير سراويل، فلما رفع الخبر بقدومه إلى الرشيد أمر بأن تفرش له حجرة وتقام له وظيفة ففعلوا، فكانت المائدة إذا قدِّمت إليه أخذ منها رقاقة وملحًا وخلط الملح بالتراب فأكله بها، فإذا كان وقت النوم نام على الأرض، والخدم يتفقدونه ويتعجبون من فعله. وسأل الرشيد عنه فأخبروه، فأمر بطرده، فخرج حتى أتى يحيى بن سعيد العقيلي وهو في منزله، فسلم عليه وانتسب له فرحب به وقال له: «ارتفع!» فقال: «لم آتك للجلوس.» قال: «فما حاجتك؟» قال: «دابة أبلغ عليها إلى رأس عين.» فقال: «يا غلام، أعطه الفرس الفلاني.» فقال: «لا حاجة لي في ذلك، ولكن تأمر أن تُشترى لي دابة أتبلغ عليها.» فقال لغلامه: «امضِ معه فابتع له ما يريد.» فمضى معه فعدل به العتابي إلى سوق الحمير فقال الغلام: «إنما أمرني أن أبتاع لك دابة.» فقال له: «إنه أرسلك معي ولم يرسلني معك، فإن عملت ما أريد وإلا انصرف!» فمضى معه فاشترى حمارًا بمائة وخمسين درهمًا وقال: «ادفع إليه ثمنه.» فدفعه إليه فركب الحمار عريًا بمرشحة عليه وبرذعة وساقاه مكشوفتان، فقال له يحيى بن سعيد: «فضحتني! أمثلي يحمل مثلك على هذا!» فضحك وقال: «ما رأيت قدرك يستوجب أكثر من ذلك.» ومضى إلى رأس عين.
توفي سنة ٢٢٠ﻫ، وتجد أحباره في الأغاني (ج١٢ ص٢)، وفوات الوفيات (ج٢ ص١٣٧).
(٧٨) أي متبلغات بالقليل حتى يصلن إليك.
(٧٩) حسده.
(٨٠) الإبساس: دعوة الناقة إلى الحلب.
(٨١) النجعة: طلب الكلأ في موضعه.
(٨٢) الكَلَب: القحط وبلاء الشتاء ومرض يصيب الكلاب.
(٨٣) الرائد: الطالب.
(٨٤) الحومة هنا: الجماعة والطائفة.
(٨٥) هو دعبل بن علي بن رزين، من خزاعة، أصله من الكوفة، وجاء بغداد بطلب من الرشيد. وهو شاعر مطبوع هجَّاء خبيث اللسان، لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أو صغير، فكان الناس يخافونه ويتقونه حتى المأمون، فإنه هجاه هجاء شديدًا واحتمل ذلك منه. توفي سنة ٢٤٦ﻫ. وتجد أخباره في الأغاني (ج١٨ ص٢٩)، وابن خلكان (ج١ ص١٧٨)، والشعر والشعراء (ص٥٣٩)، والفهرست (ص١٦١).
(٨٦) يريد أصواتًا منسوبة إلى حنين الحيري المغني.
(٨٧) يريد أصواتًا منسوبة إلى معبد المغني.
(٨٨) قبيلة من همدان، وأصله جبل نزلوا به فنسبوا إليه.
(٨٩) هو مولى باهلة، ولد في البصرة ونشأ فيها ونادم الخلفاء من بني العباس، وكان خليعًا فاسدًا، وكان مع ذلك حسن التصرف في النظم، ولشعره قبول ورونق، فهو من المتقنين، وله معانٍ جديدة في الخمر كان أبو نواس يأخذها عنه، ومع أن أبا نواس مات سنة ١٦٨ﻫ، والضحاك مات سنة ٢٥٠ﻫ فقد تعاصرا؛ لأن مولدهما متقارب، لأن ابن الضحاك عمر كثيرًا. وهو أول من نادم الأمين وله فيه مدائح كثيرة، وعمر عمرًا طويلًا حتى قارب مائة السنة، ومات في خلافة المستعين أو المنتصر. وتجد أخباره في الأغاني (ج٦ ص١٧٠)، وابن خلكان (ج١ ص١٥٤).
(٩٠) من بحوث صديقي الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية.
(٩١) الآء: ثمر شجر، واحدته آءة.
(٩٢) المرهاء: التي لا تكتحل.
(٩٣) مبغض متنكر.
(٩٤) جمع معجر (بالكسر) وهو ثوب تعتجر به المرأة؛ أي تشده على رأسها.
(٩٥) استحكم.
(٩٦) هو أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة، واشتهر بابن الزيات لأن جده (أبان) كان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، وكان أديبًا شاعرًا عالمًا بالنحو واللغة، وله ديوان شعر ومجموعة رسائل جيدة، وكان في أول أمره من جملة الكتَّاب، ثم صار وزيرًا للمعتصم ولابنه الواثق. ولما تولى المتوكل قبض عليه وأمر بإدخاله في تنور من حديد كان ابن الزيات أعده لتعذيب المصادرين وأرباب الدواوين المطالبين بالأموال، وقيده بخمسة عشر رطلًا من حديد، ثم أمر بإخراجه بعد أن مكث فيه أربعين يومًا، فوجدوه ميتًا وذلك سنة ٢٣٣ﻫ. وتجد ترجمته في الأغاني (ج٢٠ ص٤٦)، وابن خلكان (ج٢ ص٧٨).
(٩٧) هو عبد الله بن عتاب من أهل بخارى، وجيء بجده وجماعة معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف، فنزلوا عنده بواسط، فأقطعهم سكة بها، فاختطوها ونزلوها طول أيام بني أمية، ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع فخدموه، وكان عبد الله بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء، وكان صالح الشعر قليله وراوية لأخبار الخلفاء عالمًا بأمورهم.
(٩٨) الإرقال: ضرب من الخبب.
(٩٩) [الخريمي] هو إسحاق بن حسان، ويكنى أبا يعقوب، من العجم، وهو القائل:
إني امرؤ من سراة الصغد ألبسني
عرق الأعاجم جلدًا طيب الخبر
وكان مولى ابن خريم الذي يقال لأبيه: خريم الناعم. وهو خريم بن عمرو من بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وعمي أبو يعقوب الخريمي بعد ما أسن، وكان يقول في ذلك شعرًا، فمنه قوله:
فإن تك عيني خبا نورها
فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعمَ قلبي ولكنما
أرى نور عيني إليه سرى
فأسرح فيه إلى نوره
سراجًا من العلم يشفي العمى
(١٠٠) مفزعها وذاعرها.
(١٠١) كذا في الطبري في حوادث سنة ١٩٧ﻫ، طبع بولاق وطبع أوروبا.
(١٠٢) كذا في الطبري في حوادث سنة ١٩٧ﻫ، طبع بولاق وطبع أوروبا.
(١٠٣) كذا في هامش النسخة الأوروبية من الطبري. وفي نسخة بولاق وأوروبا (في صلبها):
فرغاء ينقى الشنار مريدها
وهي رواية ظاهر عليها التحريف وفساد المعنى.
(١٠٤) هو أبو العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق، كان سيدًا نبيلًا عالي الهمة شهمًا، وكان المأمون كثير الاعتماد عليه، حسن الالتفات إليه لذاته ورعاية لحق والده وما أسلفه من الطاعة في خدمته، وكان واليًا على الدينور فلما خرج بابك الخرمي على خراسان وأوقع الخوارج بأهل قرية الحمراء من أعمال نيسابور وأكثروا فيها الفساد واتصل الخبر بالمأمون، بعث إلى عبد الله وهو بالدينور يأمره بالخروج إلى خراسان، فخرج إليها وحارب الخوارج وقدم نيسابور في رجب سنة ٢١٥ﻫ. وكان المطر قد انقطع عنها في تلك السنة، فلما دخلها مطرت مطرًا كثيرًا، فقام إليه رجل بزاز من حانوته وأنشده:
قد قحط الناس في زمانهم
حتى إذا جئت جئت بالدرر
غيثان في ساعة لنا قدمًا
فمرحبًا بالأمير والمطر
تولى الشام والعراق ومصر. وتوفي سنة ٢٣٠ﻫ. وتجد ترجمته في ابن خلكان (ج١ ص٣٦٩)، والأغاني (ج١١ ص١١).
(١٠٥) انظر ما كتبناه عن يحيى بن أكثم في المجلد الأول (ص٤٤٠).
(١٠٦) حذفنا بعد هذا البيت أربعة أبيات رأينا أنها تنافي الآداب العامة.
(١٠٧) كذا في الأصل، ولعلها صروح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤