باب المنثور

ذكرنا في مقدمة المجلد الأول من «عصر المأمون» أننا قسمنا المجلد الثاني إلى ملحقات للكتب الثلاثة عن العصور الثلاثة، وعنينا عناية خاصة إلى جانب ذلك بذكر جملة صالحة من آثار كاتب خاص وشاعر خاص لتمثيل عصرهما. واتخذنا من عبد الحميد الكاتب وعمر بن أبي ربيعة أنموذجًا أمويًّا، ومن أبي الربيع محمد بن الليث وبشار بن برد مثالًا عباسيًّا، ومن عمرو بن مسعدة وأبي نواس نموذجًا لتصوير الحياة الكتابية والشعرية في عصر الأمين والمأمون، إلى غير ذلك من النماذج والآثار مما يستدعيه المقام، وقد أوردناها من غير أن نعرض لها بتحليل أو بيان — اللهم إلا تفسير بعض ألفاظها الغريبة وشرح كلماتها الغامضة — فهي في وضوحها ودلالتها على ما أردنا من إيرادها غير محتاجة إلى شيء. وها نحن أولاء نذكر ما وعدناك به.

(١) رسالتا أبي بكر وعلي

قال١ أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي: سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي ببغداد، فتصرف في الحديث كل متصرف؛ وكان غزير الرواية، لطيف الدراية، فجرى حديث السقيفة، فركب كل مركبًا، وقال قولًا، وعرَّض بشيء، ونزع إلى فن. فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر٢ الصديق، رضي الله عنه، إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجواب علي عنها، ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة لا والله؛ فقال: هي والله من بنات الحقائق، ومخبآت الصنادق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته، فكتبها عني بيده. وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين؛ وإنها لتدل على علم وحلم، وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدة غوص. فقال له العباداني: أيها القاضي، فلو أتممت المنة علينا بروايتها! أسمعناها، فنحن أوعى لك من المهلبي، وأوجب ذمامًا عليك؛ فاندفع وقال: حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة، قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح، قال سمعت مولاي أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرها ويسر خيرها، بلغ أبا بكر عن علي تلكؤ وشماس،٣ وتهمم٤ ونفاس،٥ فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة، وتشتعل الجمرة، وتتفرق ذات البين؛ فدعاني بحضرته في خلوة، وكان عنده عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وحده، فقال: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله بالمكان المحوط، والمحل المغبوط؛ ولقد قال فيك في يوم مشهود: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة»، ولم تزل للدين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى؛ ولأهلك ركنًا، ولإخوانك ردءًا. قد أردتك لأمر خطره مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف، ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك، ولم تجب٦ حيته برقيتك، وقع اليأس، وأعضل البأس؛ واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك. فتأت٧ له أبا عبيدة وتلطف فيه، وانصح لله عز وجل ولرسوله ، ولهذه العصابة غير آل جهدًا، ولا قالٍ حمدًا، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك، إن شاء الله.
امض إلى علي واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه، وقل له: البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف،٨ والليل أغدف،٩ والسماء جلواء،١٠ والأرض صلعاء،١١ والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قداحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العدواة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، نافخ حضنيه١٢ لأهله، ينتظر الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادًا لله عز وجل أولًا، ولآدم ثانيًا، ولنبيه ودينه ثالثًا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور. يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورًا بالباطل، دأبًا له منذ كان على عهد أبينا آدم ، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعض الناجذ على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عز وجل في ابتغاء رضاه. ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه؛ ولقد أرشدك من أفاء١٣ ضالتك، وصافاك من أحيا مودته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك؛ ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوَى به قلبك، ويلتوي عليك رأيك، ويتخاوص١٤ دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر عنده صُعَدَاؤك، ولا يفيض به لسانك، أعجمة بعد إفصاح! أتلبيس بعد إيضاح! أدين غير دين الله! أخلُق غير خلق القرآن! أهدي غير هدي النبي ! أمثلي «تمشي١٥ له الضراء وتدب له الخمر!» أم مثلك ينقبض عليه الفضاء، ويُكسف في عينه القمر! ما هذه القعقعة بالشنان!١٦ وما هذه الوعوعة باللسان! إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله ، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا، هجرة إلى الله عز وجل، ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا، وخدر الغرارة، وعنفوان الشبيبة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل؛ ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالًا تزيل الرواسي؛ ونقاسي أهوالًا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيَّارها، نتجرع صابها، ونشرج١٧ عيابها، ونحكم آساسها، ونبرم أمراسها،١٨ والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشخذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف؛ لا ننتظر عند المساء صباحًا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادًا إلا بعد الإياس من الحياة عنده؛ فادين في جميع ذلك رسول الله بالأب والأم، والخال والعم، والمال والنشب، والسبد١٩ واللبد، والهلة٢٠ والبلة، بطيب أنفس، وقرة أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلًا، ولولا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلًا، كيف وفؤادك مشهوم،٢١ وعودك معجوم! والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلص أردانك، ودع التقعس والتجسس لم لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛٢٢ فالأمر غض، والنفوس فيها مض، وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم٢٣ لجاجا، وسيفها العضب، فلا تنب اعوجاجا، وماءها العذب فلا تحل أجاجا. والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر، فقال لي: «يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش٢٤ عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه،٢٥ هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي.»
ولقد شاورني رسول الله في الصهر، فذكر فتيانًا من قريش، فقلت: أين أنت من علي! فقال : إني أكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنه. فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة؛ مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء٢٦ ولا لوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك؛ وكنت إذ ذاك خيرًا لك منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله في هذا الأمر، فلم يكن معرضًا عن غيرك: وإن كان قال فيك فما سكن عن سواك؛ وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم، فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع. ولقد نقل رسول الله إلى الله عز وجل، وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حذر، يسره ما سرها ويسوءه ما ساءها، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحدًا من أصحابه وأقاربه وسجرائه،٢٧ إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمزية، وأفرده بحالة! أتظن أنه ترك الأمة سدى بددا، عباهل٢٨ مباهل، طلاحى مفتونة بالباطل، مغبونة عن الحق، لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط ولا حائط، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي! كلا! والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه، إلا بعد أن ضرب المدى، وأوضح الهدى، وأبان الصوى٢٩ وأمن المسالك والمطارح، وسهل المبارك والمهايع،٣٠ وإلا بعد أن شدخ يافوخ٣١ الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة في ذات الله، وتفل في عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.
وبعد، فهؤلاء٣٢ المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة ودار جامعة، إن استقالوني لك وأشاروا عندي بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى رأيهم فيك. وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالتهم، والرادع لغوايتهم. فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والتناصر على الحق. ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن.

وبعد، فالناس ثمامة فارفق بهم واحن عليهم ولِن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيدًا، وطائر الشر واقعًا، وباب الفتنة مغلقًا، فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير.

قال أبو عبيدة: فلما تأهبت للنهوض، قال عمر رضي الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول؛ فوقفت وما أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللًا، وقال لي: قل لعلي: الرقاد محلمة، والهوى مقحمة، وما منا إلا له مقام معلوم، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم؛ وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفًا، وقارب البعيد تلطفًا، ووزن كل شيء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، دينًا كان أو دنيا، ضلالًا كان أو هدى. ولا خير في علم مستعمل في جهل، ولا خير في معرفة مشوبة بنكر. ولسنا كجلدة رفغ٣٣ البعير بين العجان والذنب. وكل صال فبناره، وكل سيل فإلى قرار. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي،٣٤ ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق. وقد جدع الله بمحمد أنف كل ذي كبر، وقصم ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال. ما هذه الخنزوانة٣٥ التي في فراش رأسك! ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك! ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك! وما هذه الوحرة٣٦ التي أكلت شراسيفك! وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر، واشتملت عليه بالشحناء والنكر! ولسنا في كسروية كسرى، ولا في قيصرية قيصر! تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر! قد جعلهم الله جزرًا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرمىً لطعاننا، وتبعًا لسلطاننا؛ بل نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الرتق والفتق، لها من الله قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين باصرة. أتظن ظنًا يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتًا على الأمة خادعًا لها أو متسلطًا عليها! أتراه حل عقودها وأحال عقولها! أتراه جعل نهارها ليلًا، ووزنها كيلًا، ويقظتها رقادًا، وصلاحها فسادًا! لا والله! سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأز دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويد أوجب الله عليه شكرها، وأمة نظر الله به إليها. والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة. وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقك فيما آتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمس من قرابتك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شبيبتك، وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازن ولا هبع.٣٧
ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله وعلاقة نفسه، وعيبة سره، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه. وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدليل عليه. ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح. وهذا فرق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون. ومهما شككت في ذلك، فلا تشك أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة. فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع لك غدًا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك في الأمد طول، وفي الأجل فسحة، فستأكله مريئًا أو غير مريء، وستشربه هنيئًا أو غير هنيء، حين لا راد لقولك إلا من كان آيسًا منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعًا فيك، يمض٣٨ إهابك، ويعرك٣٩ أديمك، ويزري على هديك. هنالك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجًا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك، فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت إلى حالتك التي استغويتها. ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة: فتمشيت متزملًا أنوء كأنما أخطو على رأسي، فرقًا من الفُرقة، وشفقًا على الأمة، حتى وصلت إلى علي٤٠ رضي الله عنه في خلاء، فابتثثته بثي كله، وبرئت إليه منه، ورفقت به. فلما سمعها ووعاها، وسرت في مفاصله حمياها، قال: «حلت مُعْلَوِّطة،٤١ وولت مُخْرَوِّطة»،٤٢ وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسى٤٣ هيسى
لا تنعمي الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة، أكل هذا في أنفس القوم، ويحسون به، ويضطغنون٤٤ علي! قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاض حق الدين، وراتق فتق المسلمين، وسادٌّ ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان٤٥ قلبي، وقرارة نفسي.

فقال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصدًا للخلاف، ولا إنكارًا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما قد وقذني به رسول الله من فراقه، وأودعني من الحزن لفقده. وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدًا إلا جدد علي حزنًا، وذكرني شجنًا. وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره. وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق، رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله، وأسلم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه. على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع، ولا عن الحق الذي سيق إلي دافع. وإذ قد أفعم الوادي بي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحبًا بما ساء أحدًا من المسلمين وسرني، وفي النفس كلام لولا سابق عقد وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخضت لجته بأخمصي ومفرقي، ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي، وعنده أحتسب ما نزل بي. وإني غاد إلى جماعتكم، فمبايع صاحبكم، صابر على ما ساءني وسركم، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غرة،٤٦ ولم أختزل شيئًا من حلوه ومره، وبكرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ وإذا علي مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه، وقال خيرًا، ووصف جميلًا، وجلس زميتًا،٤٧ واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرمًا له، مستأثرًا لما عنده.
فقال علي رضي الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارهًا، ولا أتيته فرقًا، ولا أقول ما أقول تعلة. وإني لأعرف منتهى طرفي، ومحط قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي؛ ولكن قد أزمت على فأسي٤٨ ثقة بربي في الدنيا والآخرة.
فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك، واستوقف سربك، ودع العِصيَّ بلحائها، والدلاء على رشائها. فإنا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا. ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت. وزعمت أنك قعدت في كن بيتك لما وقذك به رسول الله من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك! بل مصابه أعظم وأعم من ذلك، وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها. هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه. وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره! فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم. وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه؛ فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك، وأي حق لط٤٩ دونك! قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرًّا وجهرًا، وتقلبت عليه بطنًا وظهرًا، فهل ذكرت أو أشارت بك، أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر؟ أو أومأ بعينه أو هم في نفسه؟ أتظن أن الناس ضلوا من أجلك، وعادوا كفارًا زهدًا فيك، وباعوا الله تحاملًا عليك؟ لا والله! لقد جاءني عقيل ابن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالو: إن عليًّا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة؛ فأنكرت عليهم، ورددت القول في نحرهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحي ويتوكف٥٠ مناجاة الملك؛ فقلت: ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد أكان الأمر معقودًا بأنشوطة،٥١ أو مشدودًا بأطراف ليطة؟٥٢ كلا! والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت، ولا شوكاء إلا وقد تفتحت. ومن أعجب شأنك قولك: «ولولا سالف عهد وسابق عقد، لشفيت غيظي» وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟ تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها، وهور ليلها، وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان، والهدى والبرهان. وزعمت أنك ملجم؛ ولعمري إن من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه.
فقال علي رضي الله عنه: مهلًا يا أبا حفص، والله ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولًا عنه، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشقاق، وفي الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللبان،٥٣ فصيح اللسان، فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه.

قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فانصرف علي وعمر رضي الله عنهما. وهذا أصعب ما مر علي بعد رسول الله .

(٢) ومن كلام عائشة٥٤ رضي الله عنها في الانتصار لأبيها

يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقوامًا يتناولون أبا بكر رضي الله عنه، فأرسلت إلى أزفلة٥٥ من الناس، فلما حضروا، أسدلت أسنارها، وعلت وسادها، ثم قالت: أبي، وما أبيه! أبي والله لا تَعْطُوه٥٦ الأيدي، ذاك طود منيف؛ وفرع مديد، هيهات، كذبت الظنون! أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم؛ سبق الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئًا، وكهفها كهلًا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها، حتى حليته قلوبها، ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجدًا يحيى فيه ما أمات المبطلون. وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت قسيها، وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضًا، فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه،٥٧ حتى إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجًا، ومن كل فرقة أرسالًا وأشتاتًا، اختار الله لنبيه ما عنده؛ فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان رواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده وماج أهله، وبغي الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها، ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم! فقام حاسرًا مشمرًا، فجمع حاشيتيه ورفع قطريه، فرد رسن الإسلام على غربه، ولم شعثه بطبه، وانتاش الدين فنعشه، فلما أراح الحق على أهله، وقرر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، آلته منيته، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملت به ودرت عليه! لقد أوحدت به، ففنخ٥٨ الكفرة وديخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت خبأها،٥٩ ترأمه ويصدف عنها، وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيها فيئها وودعها كما صحبها. فأروني ماذا ترتئون، وأي يومي أبي تنقمون: أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئًا؟ قالوا: اللهم لا.

(٣) كلمة أم الخير بنت الحريش٦٠

ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي رضي الله عنه: يُروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش البارقية برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرًا وبالشر شرًا. فلما ورد عليه كتابه، ركب إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب! ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه يجازيني بقولك في بالخير خيرًا وبالشر شرًا؛ فما عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل، ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع حريمه ثلاثًا، ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع، وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ قال لها: وعليك السلام يا أم الخير، وبالرغم منك دعوتني بهذا الاسم؛ قالت: مه يا أمير المؤمنين! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ولكل أجل كتاب؛ قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل في عافية وسلامة حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق؛ قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم؛ قالت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تُردي عاقبته، قال: ليس هذا أردنا، أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زورته٦١ قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالًا غير ذلك فعلت؛ قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم يحفظ كلام أم الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد؛ قال: هاته؛ قال: نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيدي كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك٦٢ وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة! ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله! أفرارًا عن أمير المؤمنين، أم فرارًا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادًا عن الحق! أما سمعتم الله عز وجل يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ.

ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشر الرعب، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر! إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية؛ وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.

ثم قالت: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ. صبرًا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، وكأني بكم غدًا قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة، فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة! إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل في النار. أيها الناس، إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون — رحمكم الله — عن ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته، وتفرع عن نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته، ويمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة اللذات. وهو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون. فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن؛ فيا لها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقًا، وردة وشقاقًا، وقد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلى! والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك.

قالت: والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه، استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون؛ فقال: إيها يا أم الخير، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه؛ قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدًا، ما أردت بعثمان نقصًا، ولقد كان سباقًا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة، اغتيل من مأمنه، وأُتي من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: يا هذا لا تدعني كرجيع الصبيغ يُعرك في المركن؛٦٣ قال: حقًّا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك؛ قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه، وقد شهد له رسول الله بالجنة، ولقد كان سباقًا إلى كل مكرمة في الإسلام. وإني أسألك بحق الله يا معاوية، فإن قريشًا تحدث أنك من أحلمها، أن تسعني بفضل حلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وامض لما شئت من غيرها؛ قال: نعم وكرامةً، قد أعفيتك؛ وردها مكرمة إلى بلدها.

(٤) كلمة الزرقاء٦٤ بنت عدي

ومن كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ما قالته يوم صفين أيضًا: يروى أنها ذكرت عند معاوية يومًا، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين؛ قال: فأشيروا علي في أمرها؛ فأشار بعضهم بقتلها، فقال: بئس الرأي! أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة! ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينًا، ويسترها بستر خصيف،٦٥ ويوسع لها في النفقة. فلما دخلت على معاوية، قال: مرحبًا بك وأهلًا! قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة! قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلًا ممهدًا؛ قال: بذلك أمرناهم. أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ وما يعلم الغيب إلا الله عز وجل؛ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين بصفين تحضين الناس على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب؛ والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر؛ قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله، ولقد أنسيته؛ قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين:

أيها الناس، ارعووا وارجعوا! إنكم أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة. فيا لها فتنة عمياء، صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكواكب لا تنير مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.

أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها! فصبرًا يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص؛ فكان قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة التقوى، ودمغ الحق باطله! فلا يجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنى! ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في عواقب الأمور. إيهًا إلى الحرب قدمًا غير ناكصين ولا متشاكسين.

ثم قال لها: يا زرقاء، لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه؛ قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك من بشر بخير وسر جليسه؛ قال: ويسرك ذلك؟ قالت: نعم سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل! فضحك معاوية وقال: لَوَفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك؛ قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا، ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد من غير طلبة؛ قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسًا.

(٥) عكرشة بنت الأطرش

ومن كلام عكرشة بنت الأطرش ما قالته يوم صفين أيضًا: يروى أنها دخلت على معاوية متوكئة على عكاز لها، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست؛ فقال لها معاوية: الآن صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم إذ لا علي حي! قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. إن الجنة لا يحزن من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها؛ فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها. وكونوا قومًا مستبصرين في دينهم، مستظهرين على حقهم؛ إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم إلى الباطل فأجابوه، واستدعاهم إلى الدنيا فلبوه. فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفئ نور الحق. هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى. يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدًا وقد لقيتم أهل الشأم كالحمر الناهقة تقصع قصع٦٦ البعير.

ثم قال: فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش، فإن كدت لتفلين أهل الشأم لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، يقول الله جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، وإن اللبيب إذا كره أمرًا لا يحب إعادته؛ قال: صدقت، فاذكري حاجتك؛ قالت: كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وقد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير، ولا ينعش لنا فقير؛ فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة، ولا استعمل الظلمة؛ قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتق، وبحور تتدفق؛ قالت: سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقًّا فجعل فيه ضررًا لغيرنا وهو علام الغيوب؛ قال معاوية: هيهات يا أهل العراق، نبَّهكم عليٌّ فلن تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافهم.

(٦) رسالة لعبد الحميد الكاتب٦٧

كتب عبد الحميد٦٨ بن يحيى الكاتب عن مروان بن محمد لبعض من ولاه:٦٩

أما بعد، فإن أمير المؤمنين — عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي، المتسكع في حيرة الجهالة، وظلم الفتنة، ومهاوي الهلكة، ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادًا، وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافًا، وبدلوا نعمة الله كفرًا، واستحلوا دماء أهل سلمه جهلًا — أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك، وعوام شئونك، ودخائل أحوالك، ومصطرف تنفلك عهدًا يحملك فيه أدبه، ويشرع لك به عظته، وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطعنك الله لولاية العهد مختصًا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك. ولولا ما أمر الله تعالى به دالًا عليه، وتقدمت فيه الحكماء آمرين به: من تقديم العظة، والتذكير لأهل المعرفة، وإن كانوا أولى سابقة في الفضل وخصيصاء في العلم، لاعتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إياك وتفضيله لك بما رآك أهله في محلك من أمير المؤمنين، وسبقك إلى رغائب أخلاقه، وانتزاعك محمود شيمه، واستيلائك على مشابه تدبيره. ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم، أو لقنوه إلهامًا من تلقائهم ولم نصبهم تعلموا شيئًا من غيرهم، لنحلناهم علم الغيب، ووضعناهم بمنزلة قصر بها عنهم خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته في فردانيته وسابق لاهوتيته، احتجابًا منهم لتعقب في حكمه، وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته، على سابق مشيئته. ولكن العالم الموفق للخير، المخصوص بالفضل، المحبو بمزية العلم وصفوته، أدركه معانًا عليه بلطف بحثه، وإذلال كنفه، وصحة فهمه، وهجر سآمته.

وقد تقدم أمير المؤمنين إليك، آخذًا بالحجة عليك، مؤديًا حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك، وما ينظر به الوالد المعنى الشفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل قبيح يهش له طمع، وأن يعصمك من كل مكروه حاق بأحد، وأن يحصنك من كل آفة استولت على امرئ في دين أو خلق، وأن يبلغه فيك أحسن ما لم يزل يعوده ويريه من آثار نعمة الله عليك، سامية بك إلى ذروة الشرف، متبحبحة بك بسطة الكرم، لائحة بك في أزهر معالي الأدب، مُورثة لك أنفس ذخائر العز؛ واللهَ يستخلف عليك أميرُ المؤمنين ويسأل حياطتك، وأن يعصمك من زيغ الهوى، ويُحضرك داعي التوفيق، معانًا على الإرشادا فيه، فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو.

اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكًا، وركب أخطارها قاصدًا، إلى سعة عاقبتها، وأمن سرحها، وشرف عزها. وأنها لا تعار بسخف الخفة، ولا تنشأ بتفريط الغفلة، ولا يتعدى فيها بامرئ حده. وربما أظهرت بسطة الغي مستور العيب. وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها، من غير تعب البحث في طلبها، ولا متطاول لمناولة ذروتها؛ بل تأثلت منها أكرم نبعاتها، واستخلصت منها أعتق جواهرها؛ ثم سموت إلى لباب مصاصها،٧٠ وأحرزت منفس ذخائرها، فاقتعد ما أحرزت، ونافس فيما أصبت.
واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك مؤثرًا لها، وإضمار طاعته منطويًا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرًا له، مرتبطًا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع، أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة، فإن ذلك أحق ما بدئ به ونظر فيه، معتمدًا عليه بالقوة والآلة والعدة والانفراد به من الأصحاب والحامة. فتمسك به لاجئًا إليه، واعتمد عليه مؤثرًا له، والتجئ إلى كنفه متحيزًا إليه: فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابًا، وأعوده نفعًا، وأعمه صلاحًا؛ أرشدك الله لحظك، وفهمك سداده، وأخذ بقلبك إلى محموده. ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه، من نفسك نصيبًا تجعله له شكرًا على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة جوارح وعافية بدن، وسبوغ نعم، وظهور كرامة، وأن تقرأ فيه من كتاب الله — تبارك وتعالى — جزءًا تردد رأيك في آية، وترتل٧١ لفظك بقراءته، وتحضره عقلك ناظرًا في محكمه، وتتفهمه مفكرًا في متشابهه: فإن في القرآن شفاء الصدور من أمراضها، وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعه،٧٢ وضياء معالم النور، تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك، فإنه مغلاق الحسنات، ومفتاح السيئات، وخصم العقل.
واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته؛ فاحذرها مجانبًا لها، وتوقها محترسًا منها؛ واستعذ بالله عز وجل من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية٧٣ فيه، وحزم نافذ لا مثنوية٧٤ لرأيك بعد إصداره، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه؛ ومضاءة صارمة لا أناة معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها: فإن ذلك ظهري صدق لك على ردعها عنك، وقمعها دون ما تتطلع إليه منك؛ فهي واقية لك سخطة ربك، داعية إليك رضا العامة عنك، ساترة عليك عيب من دونك؛ فازدن بها متحليًا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوق عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها، وتقصر بك دون شأوها: فإن المئونة إنما اشتدت مستصعبة، وفدحت باهظة أهل الطلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سمو القدر، بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها، حتى فرط أهل التقصير في بعض أمورهم، فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها، فنسبوا إلى التفريط، ورضوا بذل المنزل، فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل، عمهين عن درج الشرف، ساقطين دون منزلة أهل الحجا. فحاول بلوغ غاياتها محرزًا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصنًا أعمالك من العجب: فإنه رأس الهوى، وأول الغواية، ومقاد الهلكة؛ حارسًا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها، من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضياع، ودخل الوهن. فتوق غلوب الآفاق على عقلك، فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا حال الرأي وفحص النظر.
فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرزًا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها: من ذلك أن تملك أمورك بالقصد، وتداري جندك بالإحسان، وتصون سرك بالكتمان، وتداوي حقدك بالأنصاف، وتذلل نفسك بالعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي. وأناتك فوقِّها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرعها روية النظر واكنفها بأناة الحلم. وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عي اللفظ، وخف سوء القالة؛ واستماعك فأرعه حسن التفهم، وقوه بإشهاد الفكر؛ وعطاءك فامهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب، وتحرز فيه من السرف واستطالة البذخ وامتنان الصنيعة؛ وحياءك فامنعه من الخجل وبلادة الحصر؛ وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة؛ وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط، وتعمد بها أهل الاستحقاق؛ وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق، وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدين؛ واستئناسك فامنع منه البداء وسوء المناقثة.٧٥ وتعهدك أمورك فحده أوقاتًا، وقدره ساعات لا تستفرغ قوتك، ولا تستدعي سآمتك؛ وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي، ولجاجة الإقدام؛ وفرحاتك فاشكمها عن البطر، وقيدها عن الزهو؛ وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع؛ وحذراتك فامنعها من الجبن، واعمد بها الحزم؛ ورجاءك فقيده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطلب.
هذه جوامع حلال، دخال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه، وتصاريف حويله،٧٦ فأحكمها عارفًا بها، وتقدم في الحفظ لها، معتزمًا على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله.
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤل في سرك، أهل الفقه والورع من خاصة أهل بيتك، وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور، وخبطته فصالها بين فراسن٧٧ البزل منها، وقلبته الأمور في فنونها، وركب أطوارها، عارفًا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي وعين المشورة؛ مأمون النصيحة، منطوي الضمير على الطاعة. ثم أحضرهم من نفسك وقارًا يستدعي لك منهم الهيبة، واستئناسًا يعطف إليك منهم المودة، وإنصاتًا يفل إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم. ولا يغلبن عليك هواك فيصرفك عن الرأي ويقتطعك دون الفكر. وتعلم أنك وإن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك، وأغلقت عليه أبوابك، فذلك لا محالة مكشوف للعامة، ظاهر عنك وإن استترت بربما ولعل وما أرى إذاعة ذلك وأعلم، بما يرون من حالات من ينقطع به في تلك المواطن. فتقدم في إحكام ذلك من نفسك، واسدد خلله عنك: فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجو المنتظر فيك. وإياك أن يغمز فيك أحد من حامتك وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغًا إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه، ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرًا أو علن باديًا، ولن يجترئوا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولًا لها وترخيصًا لهم في الإفاضة بها. ثم إياك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يتسخف بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذوو الجهالة؛ ويجد فيها أهل الحسد مقالًا لعيب يذيعونه، وطعنًا في حق يجحدونه؛ مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل الغفلة، وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصلد، فإذا قدح لاح شرره، وتلهب وميضه، ووقد تضرمه. وليست في أحد أقوى سطوة، وأظهر توقدًا، وأعلى كمونًا، وأسرع إليه بالعيب وتطرق الشين منها لمن كان في مثل سنك: من أغفال٧٨ الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم يقع عليهم سمات الأمور، ناطقًا عليهم لائحها، ظاهرًا فيهم وسمها، ولم تمحضهم شهامتها، مظهرة للعامة فضلهم، مذيعة حسن الذكر عنهم؛ ولم يبلغ بهم الصيت في الحنكة مستمعًا يدفعون به عن أنفسهم نواطق ألسن أهل البغي، ومواد أبصار أهل الحسد.
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة: من إبطار٧٩ الذرع ونخوة الشرف والتيه وعيب الصلف؛ فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين عقولهم في مواطن جمة، وأنحاء مصطرفة، منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة: فمن مقلقل شخصه بكثرة الالتفات عن يمينه وشماله، تزدهيه الخفة، ويبطره إجلاب الرجال حوله؛ ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتضاحك إليه، والإيجاف في السير مرحًا، وتحريك الجوارح متسرعًا يخال أن ذلك أسرع له وأحث لمطيته. فلتحسن في ذلك هيئتك، ولتجمل فيه دعتك؛ وليقل على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر، غير ملتفت إلى محدث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والاستنهاض؛ فإن حسن مسايرة الوالي واتداعه في تلك الحالة دليل على كثير من غيوب أمره ومستتر أحواله.
واعلم أن أقوامًا يتسرعون إليك بالسعاية، ويأتونك على وجه النصيحة، ويستميلونك بإظهار الشفقة، ويستدعونك بالإغراء والشبهة، ويوطئونك عشوة الحيرة؛ ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة؛ فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لإيتاغ٨٠ دينك، ويحملك على رعيتك بما لا حقيقة له عندك، ويلحمك٨١ أعراض قوم لا علم لك بدخلهم،٨٢ إلا بما أقدم به عليهم ساعيًا وأظهر لك منهم منتصحًا. وليكن صاحب شرطتك المتولي لإنهاء ذلك هو المنصوب لأولئك، والمستمع لأقاويلهم، والفاحص عن نصائحهم؛ ثم لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة، فإن كان صوابًا نالتك خِيَرته، وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل، أو فرطة سعى بها كاذب، فنالت الساعي منها أو المظلوم عقوبة، أو بدر من واليك إليه عقوبة ونكال، لم يتعصب٨٣ ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط، وخلوت من موضع الذم فيه محضرًا إليه ذهنك وصواب رأيك.
وتقدم إلى من تولى ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه ألا يقدم على شيء ناظرًا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقًا له، ولا يعاقب أحدًا منكلًا به، ولا يخلي سبيل أحد صافحًا عنه لإصحار٨٤ برائته وصحة طريقته، حتى يرفع إليك أمره، وينهي إليك قضيته على جهة الصدق، ومنحى الحق، ويقين الخبر؛ فإن رأيت عليه سبيلًا لمحبس أو مجازًا لعقوبة، أمرته بتولي ذلك من غير إدخاله عليك، ولا مشافهة لك منه؛ فكان المتولي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة. وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلًا، أو كان مما قرف به خليًا، كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله، والصفح عنه بإطلاق أسره؛ فتوليت أجر ذلك واستحققت ذخره، وأنطقت لسانه بشكرك، وطوقت قومه حمدك، وأوجبت عليهم حقك؛ فقرنت بين خصلتين، وأحرزت حظوتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في الدنيا.
ثم إياك أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيًا لها على جهة الصدق عنها، وتكون على معرفة من قدرها: فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها، أذنت له في طلبها، باسطًا له كنفك، مقبلًا عليه بوجهك؛ مع ظهور سرورك بما سألك، وفسحة رأي وبسطة ذرع، وطيب نفس. وإن كرهت قضاء حاجته، وأحببت رده عن طلبته؛ وثقل عليك إجابته إليها وإسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه٨٥ عنها، ومنعه من مواجهتك بها؛ فخفت عليك في ذلك المئونة، وحسن لك الذكر، ولم ينشر عنك تجهم الرد، وينلك سوء القالة في المنع، وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة.

وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل، فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة ما هو مكلمك به، وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في حوائجه، وأجلت فكرك في أمره، واخترت معتزمًا على إرادتك في جوابه، وأنفذت مصدور رويتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك؛ فرفعت عنك مئونة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الروية، وأقدمت على رد جوابه بعد النظر وإجالة الفكر فيه. فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعًا جميلًا، ومنعته جوابك منعًا وديعًا؛ ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة عليه، ومنعه من الوصول إليك؛ فإن ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب، صارفًا عنك مئونتها، ومسهلًا عليك مستصعبها.

احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك، فلا يزدهيك إفراط عجب تستخفك روائعه، ويستهويك منظره، ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه إن حل بك، أو حادث إن طرأ عليك. وليكن من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى، وتستعضده في مهم٨٦ نازل، وتتعقب به أمورك في التدبير. فإن احتجت إلى مادة من عقلك، وروية من فكرك، أو استنباط من منطقك؛ كان انحيازك إلى ظهريك مزدادًا مما أحببت الامتياح منه والامتياز؛ وإن استدبرت٨٧ من أمورك بوادر جهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطل تدبير، كان ما احتجنت إليه من رأيك عذرًا لك عند نفسك، وظهريًّا قويًّا على رد ما كرهت، وتخفيفًا لمئونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر؛ وحصنًا من غلوب الآفات عليك، واستعلائها على أخلاقك.

وامنع أهل بطانتك وخاصة خدمك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرب إليك بالسعاية، والإغراء من بعض ببعض؛ أو النميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة: فإن ذلك أبلغ بك سموًّا إلى منالة الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير.

واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله: فإن ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل، وخروج من انتحال اسم الفضل. وليكن ضحكك تبسمًا أو كشرًا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كل رائع مستخف مطرب، وقطوبك إطراقًا في مواضع ذلك وأحواله، بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة، دون أن تكنفها روية الحلم؛ وتملك عليها بادرة الجهل.

إذا كنت في مجلس ملئك، وحيث حضور العامة مجلسك، فإياك والرمي بنظرك إلى خاص من قوادك، أو ذي أثرة عندك من حشمك. وليكن نظرك مقسومًا في الجميع، وإراعتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مجتمع، وقلة تضجر بالمحدث. ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوادك متوجهًا بنظر ركين، وتفقد محض. وإن وجه إليك أحد منهم نظرة محدقًا، أو رماك ببصره ملحًا، فاخفض عنه إطراقًا جميلًا باتداع وسكون. وإياك والتسرع في الإطراق، والخفة في تصريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقًا بنظره.

واعلم أن تصفحك وجوه جلسائك وتفقدك مجالس قوادك من قوة التدبير، وشهامة القلب، وذكاء الفطنة، وانتباه السنة. فتفقد ذلك عارفًا بمن حضرك وغاب عنك، عالمًا بمواضعهم من مجلسك، ثم اعد بهم عن ذلك سائلًا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك، وعاقتهم بالتخلف عنك.

إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإياك والإقبال عليه في كل حادث يرد عليك، والتوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، وأن تريه أو أحدًا من أهل مجلسك أن بك حاجة إليه موحشة، أو أن ليس بك عنه غنى في التدبير، أو أنك لا تقضي دونه رأيًا، إشراكًا منك له في رويتك، وإدخالًا منك له في مشورتك، واضطرارًا منك إلى رأيه في الأمر يعروك، فإن ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك، فانفها عن نفسك خائفًا لاعتلاقها ذكرك، واحجبها عن رويتك قاطعًا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك، أو غلوبهم عليها منك.

واعلم أن للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر، ولكل أمر غاية تحيط بحدوده، وتجمع معالمه. فابغها محرزًا لها، ورمها طالبًا لنيلها؛ وإياك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها، أو التفريط في طلبها. إن شاء الله تعالى.

إياك والإغرام عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال، أو القطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عما ليس منه: فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها، ولكن أنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أن قد فهمت حديثه، وأحطت معرفة بقوله؛ فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته؛ وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجب من حديثه بالتبسم والإغضاء، فأجزى عنك الجواب، وقطع عنك ألسن العتب.

إياك وأن تظهر منك تبرم بطول مجلسك، أو تضجر ممن حضرك؛ وعليك بالتثبت عند سورة الغضب، وحمية الأنف، وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه؛ فإن ذلك سخف شائن، وخفة مردية، وجهالة بادية. وعليك بثبوت المنطق، ووقار المجلس، وسكون الريح، والرفض لحشو الكلام، والترك لفضوله والإغرام بالزيادات في منطقتك، والترديد للفظك: من نحو اسمع، وافهم عني، ويا هناه، وألا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل، الشائنة لذوي الحجا في المنطق، المنسوبة إليهم بالعي، المردية لهم بالذكر. وخصال من معايب الملوك، والسوقة عنها غبية النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلما حامل لها، مضطلع بها، صابر على ثقلها آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفظ منها، واملك عليها اعتيادك إياها معتنيًا بها، منها كثرة التنخم، والتبصق، والتنخع، والثؤباء، والتمطي، والجشاء، وتحريك القدم، وتنقيض٨٨ الأصابع، والعبث بالوجه واللحية أو الشارب أو المخصرة أو ذؤابة السيف، أو الإيماض بالنظر، أو الإشارة بالطرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته، أو السرار في مجلسك، أو الاستعجال في طعمك أو شربك. وليكن طعمك متدعًا، وشربك أنفاسًا، وجرعك مصًا. وإياك والتسرع إلى الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور، والشتيمة بقول: يابن الهناه؛ أو الغميزة٨٩ لأحد من خاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك: فإن ذلك كله مما يقبح ذكره، ويسوء موقع القول فيه، وتحمل عليك معايبه، وينالك شينه، وينتشر عليك سوء النبإ به. فاعرف ذلك متوقيًا له، واحذره مجانبًا لسوء عاقبته.

استكثر من فوائد الخير: فإنها تنشر المحمدة، وتقيل العثرة؛ واصبر على كظم الغيظ: فإنه يورث الراحة، ويؤمن الساحة؛ وتعهد العامة بمعرفة دخلهم، وتبطن أحوالهم، واستثارة دفائنهم؛ حتى تكون منها على رأى عين، ويقين خبرة؛ فتنعش عديمهم، وتجبر كسيرهم؛ وتقيم أودهم، وتعلم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم: فإن ذلك من فعلك بهم يورثك العزة، ويقدمك في الفضل؛ ويبقي لك لسان الصدق في العاقبة، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويرد عليك عواطفهم المستنفرة منك، وقلوبهم المتنحية عنك.

قس بين منازل أهل الفضل في الدين والحجا والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله، والخمول عند مباهاة النسب؛ وانظر بصحبة أيهم تنال من مودته الجميل، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل؛ وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرفة بك. فاعتمد عليهم مدخلًا لهم في أمرك، وآثرهم بمجالستك لهم مستمعًا منهم؛ وإياك وتضييعهم مفرطًا، وإهمالهم مضيعًا.

هذه جوامع خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين مفسرًا، وجمع لك شواذها مؤلفًا، وأهدها إليك مرشدًا؛ فقف عند أوامرها، وتناه عن زواجرها، وتثبت في مجامعها؛ وخذ بوثائق عراها، تسلم من معاطب الردى، وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشرف؛ وأعلى درج الذكر، وتأثل٩٠ سطر العز. والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد، وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها، وعافية يحلك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها: فإنه الموفق للخير، والمعين على الإرشاد؛ منه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير، وبيده الملك وهو على كل شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي منالة الظفر به وتكتهف٩١ به لمعالق الحذر، تقوى الله مستشعرًا لها بمراقبته، والاعتصام بطاعته متبعًا لأمره، مجتنبًا لسخطه، محتذيًا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، أو تعدي شرائعه؛ متوكلًا عليه فيما صمدت له، واثقًا بنصره فيما توجهت نحوه، متبرئًا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز، راغبًا فيما أهاب٩٢ بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد، ورمى بك إليه محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو المسلمين، أكلبهم٩٣ عليه وأظهره عداوة لهم، وأفدحه ثقلًا لعامتهم، وآخذه بربقهم، وأعلاه عليهم بغيًا، وأظهره عليهم فسقًا وفجورًا، وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم وفتحه عليهم مئونة وكلًّا.٩٤ والله المستعان عليهم، والمستنصر على جماعتهم، عليه يتوكل أمير المؤمنين، وإياه يستصرخ عليهم، وإليه يفوض أمره، وكفى بالله وليًّا وناصرًا ومعينًا، وهو القوي العزيز.

ثم خذ من معك من تباعك وجندك بكف معرتهم، ورد مشتعل جهلهم، وإحكام ضياع عملهم، وضم منتشر قواصيهم، ولم شعث أطرافهم، وتقييدهم عمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة، وعفاف الطعمة، ودعة الوقار، وهدى الدعة، وجمام المستجم، محكمًا ذلك منهم، متفقدًا لهم تفقدك إياه من نفسك. ثم اصمد لعدوك المتسمى بالإسلام، الخارج من جماعة أهله، المنتحل ولاية الدين مستحلًا لدماء أوليائه، طاعنًا عليهم، راغبًا عن سنتهم، مفارقًا لشرائعهم؛ يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكابد؛ أضرم حقدًا عليهم، وأرصد عداوة لهم، وأطلب لغرات فرصهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل؛ يدعو إلى المعصية والفرقة، والمروق من دين الله إلى الفتنة، مخترعًا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خسارًا وتخسيرًا، وضلالًا وتضليلًا، بغير هدى من الله ولا بيان. ساء ما كسبت له يداه وما الله بظلام للعبيد، وساء ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، والله من ورائه بالمرصاد: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.

حصن جندك، واشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه، وارج نصره، وتنجز موعوده، متقدمًا في طلب ثوابه على جهادهم، معتزمًا في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم: فإن طاعتك إياه فيهم، ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهل لك وعوره، وعاصمك من كل سبة، ومنجيك من كل هوة، وناعشك من كل صرعة، ومقيلك من كل كبوة، ودارئ عنك كل شبهة، ومذهب عنك لطخة كل شك، ومقويك بكل أيد٩٥ ومكيدة، ومعزك في كل معترك قتال، ومؤيدك في كل مجمع لقاء، وكالئك عند كل فتنة مغشية،٩٦ وحائطك من كل شبهة مردية؛ والله وليك وولى أمير المؤمنين فيك، والمستخلف على جندك ومن معك.
اعلم أن الظفر ظفران: أحدهما — وهو أعم منفعة، وأبلغ في حسن الذكر قالة، وأحوطه سلامة، وأتمه عافية، وأحسنه في الأمور وأعلاه في الفضل شرفًا، وأصحه في الروية حزمًا، وأسلمه عند العامة مصدرًا — ما نيل بسلامة الجنود، وحسن الحيلة، ولطف المكيدة ويمن النقيبة، واستنزال طاعة ذوي الصدوف بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب، ومبارزة الفرسان في معترك الموت؛ وإن ساعدتك طلوق الظفر، ونالك مزيد السعادة في الشرف، ففي مخاطرة التلف مكروه المصائب، وعضاض السيوف وألم الجراح، وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة٩٧ أبطالها. على أنك لا تدري لأي يكون الظفر في البديهة، ومن المغلوب بالدولة، ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص، فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك، وأشهرهما صيتًا في بدو تدبيرك ورأيك، وأجمعهما لألفة وليك وعدوك، وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل ملتك، وأقواهما شكيمة في حزمك، وأبعدهما من وصم عزمك، وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك، وأجزلهما ثوابًا عند ربك.
وابدأ بالإعذار إلى عدوك، والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعز الألفة، آخذًا بالحجة عليهم، متقدمًا بالإنذار لهم، باسطًا أمانك لمن لجأ إليك منهم، داعيًا لهم إليه بألين لفظك وألطف حيلك، متعطفًا برأفتك عليهم، مترفقًا بهم في دعائك، مشفقًا عليهم من غلبة الغواية لهم وإحاطة الهلكة بهم، منفذًا رسلك إليهم بعد الإنذار: تعدهم إعطاء كل رغبة يهش إليها طمعهم في موافقة الحق، وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم؛ موطنًا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك، والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك؛ قابلًا توبة نازعهم عن الضلالة، ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة؛ مرصدًا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصرته إياه من حقك وطاعتك، بفضل المنزلة، وإكرام المثوى، وتشريف الجاه. وليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب في مثله الصادف عنك، المصر على خلافك ومعصيتك؛ ويدعو٩٨ إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلًا، وأنجى له من العقاب آجلًا، وأحوطه على دينه ومهجته بدءًا وعاقبة؛ فإن ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم، ويعتضد به في تقديمه الحجة إليهم، معذرًا أو منذرًا، إن شاء الله.
ثم أذك عيونك على عدوك متطلعًا لعلم أحوالهم التي يتقلبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها، وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح، وأقودها لرضاهم إلى العافية، وأسهلها لاستنزال طاعتهم، ومن أي الوجوه مأتاهم: أمن قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد، أم الترغيب والإطماع؛ متثبتًا في أمرك، متخيرًا في رويتك، مستمكنًا من رأيك، مستشيرًا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن، وخبطتهم التجربة، ونجذتهم الحروب، متشزنًا٩٩ في حربك، آخذًا بالحزم في سوء الظن، معدًا للحذر، محترسًا من الغرة؛ كأنك في مسيرك كله ونزولك أجمع مواقف لعدوك رأى عين تنتظر حملاتهم، وتتخوف كراتهم، معدًّا أقوى مكايدك، وأرهب عتادك، وأنكأ جدك، وأجد تشميرك؛ معظمًا أمر عدوك لأعظم مما بلغك، حذرًا يكاد يفرط: لتعد له من الاحتراس عظيمًا، ومن المكيدة قويًّا؛ من غير أن يفثأك١٠٠ ذلك عن إحكام أمورك، وتدبير رأيك، وإصدار رويتك، والتأهب لما يحزبك، مصغرًا له بعد استشعار الحذر، واضطمار الحزم، وإعمال الزوية، وإعداد الأهبة. فإن ألفيت عدوك كليل الحد، وقم١٠١ الحزم، نضيض١٠٢ الوفر، لم يضرك ما اعتددت له من قوة وأخذت له من حزم، ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه، وتسرعًا إلى لقائه. وإن ألفيته متوقد الحرب، مستكثف الجمع، قوي التبع، مستعلي سورة الجهل، معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعرًا، ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعًا، كنت لأخذك بالحزم، واستعدادك بالقوة، غير مهين الجند، ولا مفرط في الرأي، ولا متلهف على إضاعة تدبير، ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك، وخوفًا يقلقك. ومتى تغتر بترقيق المرققين، وتأخذ بالهوينا في أمر عدوك لتصغير المصغرين، ينتشر عليك رأيك، ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك، وإهمال للحزم في جندك، وتضييع له وهو ممكن الإصحار، رحب المطلب، قوي العصمة، فسيح المضطرب؛ مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم، وضبط مراكزهم، لما يرون فيه من استنامتك إلى الغرة، وركونك إلى الأمن، وتهاونك بالتدبير؛ فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف، وضياع الأحكام، ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره، ولا يدفع مخوفه.

احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك. وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت به ظنًا وأتاك غيره بخلافه، أو أن تكذبه فيه فترده عليه، ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول، أو خرج جاسوسك الأول متقدمًا قبل وصول هذا من عند عدوك، وقد أبرموا لك أمرًا، وحاولوا لك مكيدة وأرادوا منك غرة فازدلفوا إليك في الأهبة، ثم انتقض بهم رأيهم واختلف عنه جماعتهم، فأرادوا رأيًا، وأحدثوا مكيدة، وأظهروا قوة، وضربوا موعدًا، وأموا مسلكًا لمدد أتاهم، أو قوة حدثت لهم، أو بصيرة في ضلالة شغلتهم؛ فالأحوال بهم متنقلة في الساعات، وطوارق الحادثات. ولكن البسهم جميعًا على الانتصاح، وارضخ لهم بالمطامع، فإنك لن تستعبدهم بمثلها. وعدهم جزالة المثاوب، في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوك، والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم، والاستكثار من العدة. واجعلهم أوثق من تقدر عليه، وآمن من تسكن إلى ناحيته، ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك، فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا، وتأتيهم من حيث أمنوا، وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا، وتستعد لهم مثل ما حذروا.

واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك، وربما كانوا لك وعليك: فنصحوا لك وغشوا عدوك، وغشوك ونصحوا عدوك؛ وكثيرًا ما يصدقونك ويصدقونه. فلا تبدرن منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم، ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك؛ واستنزل نصائحهم بالمياحة١٠٣ والمنالة، وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له، أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه، أو رددته عليه رد المكذب به، المتهم له، المستخف بما أتاك منه، فتفسد بذلك نصيحته، وتستدعي غشه، وتجتر عداوته. واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع. وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك، ويكون هو الموجه لهم، والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم.
واعلم أن لعدوك في عسكرك عيونًا راصدة، وجواسيس متجسسة،١٠٤ وأنه لن يقع١٠٥ رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به، وسيحتال لك كاحتيالك له، ويعد لك كإعدادك فيما تزاوله منه، ويحاولك كمحاولتك إياه فيما تقارعه عنه؛ فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه، فيعد له المراصد، ويحتال له بالمكايد. فإن ظفر به فأظهر عقوبته، كسر ذلك ثقات عيونك، وخذلهم عن تطلب الأخبار من معادنها، واستقصائها من عيونها، واستعذاب اجتنائها من ينابيعها، حتى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثقة ولا المعاينة، لقطًا لها بالأخبار الكاذبة، والأحاديث المرجفة. واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضًا: فإنك لا تأمن تواطؤهم عليك، وممالأتهم عدوك، واجتماعهم على غشك، وتطابقهم على كذبك، وإصفاقهم١٠٦ على خيانتك، وأن يورط بعضهم بعضًا عند عدوك، فأحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك، وقوام تدبيرك، وعليهم مدار حربك، وهو أول ظفرك. فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به، تنل أملك من عدوك، وقوتك على قتاله، واحتيالك لإصابة غراته وانتهاز فرصه، إن شاء الله.
فإذا أحكمت ذلك وتقدمت في إتقانه، واستظهرت بالله وعونه، فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة،١٠٧ وأصدقهم عفافًا، وأجزأهم غناء، وأكفاهم أمانة، وأصحهم ضميرًا، وأرضاهم في العامة دينًا، وأحمدهم عند الجماعة خلقًا، وأعطفهم على كافتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظرًا، وأشدهم في دين الله وحقه صلابة. ثم فوض إليه مقويًّا له، وابسط من أمله مظهرًا عنه الرضا، حامدًا منه الابتلاء. وليكن عالمًا بمراكز الجنود، بصيرًا بتقدم المنازل، مجربًا، ذا رأي وحزم في المكيدة؛ له نباهة في الذكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب. وتقدم إليه في ضبط معسكره، وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره؛ ثم حذره أن يكون منه إذن لجنوده في الانتشار والاضطراب، والتقدم لطلائعك، فتصاب لهم غرة يجترئ بها عدوك عليك، ويسرع إقدامًا إليك، ويكسر من إياد١٠٨ جندك ويوهن من قوتهم؛ فإن الصوت١٠٩ في إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك، مقو لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك، وتوهينهم تدبيرك، فحذره ذلك وتقدم إليه فيه؛ ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم، والحصر لهم، فيعمهم أزله،١١٠ ويشملهم ضنكه؛ وتسوء عليهم حاله، وتشتد به المئونة عليهم، وتخبث له ظنونهم. وليكن موضع إنزاله إياهم ضامًا لجماعتهم، مستديرًا بهم جامعًا لهم؛ ولا يكون منبسطًا منتشرًا متبددًا، فيشق ذلك على أصحاب الأحراس، وتكون فيه النهزة للعدو، والبعد من المادة١١١ إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته. وأوعز إليه في أحراسه، وتقدم إليه فيهم كأشد التقدم وأبلغ الإيعاز. ومره فليول عليهم رجلًا ركينًا مجربًا جريء الإقدام، ذاكي الصرامة، جلد الجوارح، بصيرًا بمواضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهية والسعة، وتقدم العسكر والتأخر عنه، فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه.

واعلم أن مواضع الأحراس من معسكرك، ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرد عليهم، والحفظ لهم، والكلاءة لمن بغتهم طارقًا، أو أرادهم خاتلًا؛ ومراصدها المنسل منها والآبق من أرقائهم وأعبدهم؛ وحفظها من العيون والجواسيس من عدوهم. واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصرامة بمؤامرتك في كل أمر حادث وطارئ إلا في المهم النازل والحدث العام: فإنك إذا فعلت ذلك به، دعوته إلى نصحك، واستوليت على محصول ضميره في طاعتك؛ وأجهد نفسه في ترتيبك، وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك؛ وكان ثقتك وردأك وقوتك ودعامتك، وتفرغت أنت لمكايدة عدوك، مريحًا لنفسك من هم ذلك والعناية به، ملقيًا عنك مئونة باهظة وكلفة فادحة.

واعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا بمثل محله أحد من الولاة؛ لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود. فليكن من توليه القضاء في عسكرك [من ذوي]١١٢ الخير والقناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع، والبصر بوجوه القضايا ومواقعها، قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة، ويجترئ على المحاباة في الحكم، والمداهنة في القضاء، عدل الأمانة، عفيف الطعمة،١١٣ حسن الإنصاف، فهم القلب، ورع الضمير، متخشع السمت، بادي الوقار، محتسبًا للخير. ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه؛ وفرغه لما حملته، وأعنه على ما وليته: فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة، أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة، إن حسنت نيته، وصدقت رويته، وصحت سريرته، وسلط حكم الله على رعيته؛ مطلقًا عنانه، منفذًا قضاء الله في خلقه، عاملًا بسنته في شرائعه، آخذًا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك،١١٤ الجارية أحكامه عليهم، النافذة أقضيته فيهم؛ فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه. ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالًا ذوي نجدة وبأس، وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صلوا بالحرب وذاقوا سجالها، وشربوا مرار كئوسها، وتجرعوا غصص درتها؛ وزبنتهم بتكرار عواطفها، وحملتهم على أصعب مراكبها، وذللتهم بثقاف أودها. ثم انتقهم على عينك، واعرض كراعهم بنفسك؛ وتوخ في انتقائك ظهور الجلد، وشهامة الخلق، وكمال الآلة. وإياك أن تقبل من دوابهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة١١٥ فإنهن أسرع طلبًا، وأنجى مهربًا، وألين معطفًا، وأبعد في اللحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقدامًا.
وخذهم من السلاح بأبدان الدروع، ماذية١١٦ الحديد، شاكة النسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموهة الركب، محكمة الطبع خفيفة الصوغ؛ وسواعد طبعها هندي، وصوغها فارسي؛ رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم. ويلمق١١٧ البيض مذهبة ومجردة، فارسية الصوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطبع، مبهمة السرد، وافية الوزن كتريك١١٨ النعام في الصنعة واستدارة التقبيب، واستواء الصوغ، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ؛ فإنها أهيب لعدوهم، وأفت لأعضاد من لقيهم، والمعلم مخشي محذور، له بديهة رادعة، وهيبة هائلة؛ معهم السيوف الهندية، وذكور البيض اليمانية؛ رقاق الشفرات، مسنونة الشحذ، مشطبة١١٩ الضرائب. معتدلة الجواهر، صافية الصفائح؛ لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت١٢٠ الصوغ، ولا شانها خفة الوزن، ولا فدح حاملها بهور الثقل؛ قد أشرعوا لدن القنا، طوال الهوادي، مقومات الأود، زرق الأسنة، مستوية الثعالب؛١٢١ وميضها متوقد، وسنخها١٢٢ متلهب، معاقص١٢٣ عقدها منحوتة، ووصوم أودها مقومة، وأجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة، وعقدها حبكة؛ شطبة الأسنان، مموهة الأطراف، مستحدة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا بها مسقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية؛ مستحقبي كنائن النبل وقسي الشوحط١٢٤ والنبع؛ أعرابية التعقيب، رومية النصول، مسمومة الصوغ؛ ولتكن سهامها على خمس قبضات سوى النصول، فإنها أبلغ في الغاية، وأنفذ في الدروع، وأشك في الحديد؛ سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفين من الآلة والأمتعة والزاد، [إلا ما لا غناء بهم عنه].١٢٥
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتابك؛ فإنك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم، وفرطت حيث الرأي، ووقفت دون عزم الروية، ودخل عملك ضياع الوهن، وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدة ولا حصنًا يدَّرِئون به، ويكتهفون بموضعه. والطلائع حصون المسلمين وعيونهم، وهم أول مكيدتك، وعروة أمرك، وزمام حربك. فليكن اعتناؤك بهم، وانتقاؤك إياهم بحيث هم من مهم عملك، ومكيدة حربك؛ ثم انتخب للولاية عليهم رجلًا بعيد الصوت، مشهور الاسم، طاهر الفضل، نبيه الذكر؛ له في العدو وقعات معروفات، وأيام طوال وصولات متقدمات؛ قد عرفت نكايته، وحذرت شوكته، وهيب صوته، وتنكب لقاؤه؛ أمين السريرة، ناصح الجيب؛١٢٦ قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته: من لين الطاعة، وخالص المودة، وركانة الصرامة، وغلوب الشهامة، واستجماع القوة، وحصافة التدبير. ثم تقدم إليه في حسن سياستهم، واستنزال طاعتهم، واجتلاب موداتهم واستعذاب ضمائرهم؛ وأجر عليهم وعليه أرزاقًا تسعهم، وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة، فإن ذلك من القوة لك عليهم، والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمن معك، وأقمعها كبتًا لمحادِّك، وأشجاها غيظًا لعدوك. ومن يكن في الثقة، والجلد، والبأس، والطاعة، والقوة، والنصيحة والعدة، والنجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به، يضع عنك مئونة الهم؛ ويرخ من خناقك روع الخوف، وتلتجئ إلى أمر منيع، وظهر قوي، ورأي حازم، تأمن به فجآت عدوك، وغرات بغتاتهم، وطوارق أحداثهم؛ ويصير إليك علم أحوالهم، ومتقدمات خيولهم؛ فانتخبهم رأى عين، وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك، وحصانة كهوفتك، وقوة سيارة عسكرك. وإياك أن تدخل فيهم أحدًا بشفاعة، أو تحتمله على هوادة، أو تقدمه لأثرة؛ أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل،١٢٧ أو فضل من الظهر، أو ثقل١٢٨ فادح، فتشتد عليهم مئونة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به من عدوهم إن دهمهم منه رائع؛ أو فجأهم منه طليعة. فتفقد ذلك محكمًا له، وتقدم فيه آخذًا بالحزم في إمضائه؛ أرشدك الله لإصابة الحظ، ووفقك ليمن التدبير، وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعًا في العاجل والآجل، وأكبته لعدوك وأشجاه لهم، وأردعه لعاديتهم.
ولِّ دراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم ومراكزهم رجلًا من أهل بيوتات الشرف، محمود الخبرة، معروفًا بالنجدة، ذا سن وتجربة، لين الطاعة، قديم النصيحة، مأمون السريرة، له بصيرة بالحق نافذة تقدمه، ونية صادقة عن الإدهان١٢٩ تحجزه. واضمم إليه عدة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه؛ ثم تقدم إليه في إخراج المصاف، وإقامة الأحراس وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف، وشدة الحذر؛ ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم، كل قائد بإزاء مكانه، وحيث منزله، قد سد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة، والترسة موضونة،١٣٠ والرجال راصدة، ذاكية الأحراس، وجلة الروع، خائفة طوارق العدو وبياته. ثم مره فليخرج كل ليلة قائدًا في أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرًا، على غلوة أو اثنتين من عسكرك، منتبذًا عنك محيطًا بمنزلك، ذاكية أحراسه، قلقة التردد، مفرطة الحذر، معدة للروع، متأهبة للقتال، آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه، متفرقين في اختلافهم كردوسًا كردوسًا؛١٣١ يستقبل بعضهم بعضًا [في الاختلاف]١٣٢ ويكسع تال متقدمًا في التردد؛ واجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبًا معروفة، وحصصًا مفروضة، لا تعر منها مزدلفًا منك بمودة، ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة. إن شاء الله تعالى.
فوض إلى أمراء أجنادك وقواد خيلك أمور أصحابهم، والأخذ على قافية أيديهم، رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم، والاتباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم؛ وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم؛ واحذر من قواد عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك، وتقويمهم لطاعتك، وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإن ذلك مفسدة للجند، مفثأة للقواد١٣٣ عن الجد والإيثار للمناصحة، والتقدم في الأحكام.

واعلم أن في استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولًا للضياع على أعمالك، واستخفافًا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي. وأوعز إلى القواد ألا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل، وتثقيف أود، فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة، وإقامة حد في قطع، أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال، أو عقوبة في شعر، فلا يلينَّ ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك؛ ومتى لم تذلل الجند لقوادهم، وتضرعهم لأمرائهم؛ توجب لهم عليك الحجة بتضييع — إن كان منهم — لأمرك، أو خلل — إن تهاونوا به — من عملك، أو عجز — إن فرط منهم — في شيء مما وكلتهم به أو أسندته إليهم؛ ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة عليهم مجازًا تصل به إلى تعنيفهم، بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إياهم عليك وعليهم. فانظر في ذلك نظرًا محكمًا، وتقدم فيه برفقك تقدمًا بليغًا؛ وإياك أن يدخل حزمك وهن، أو يشوب عزمك إيثار، أو يخلط رأيك ضياع؛ والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك.

إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربًا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجز، وخذ اعتداد الحذر، وكتب١٣٤ خيولك، وعب جندك. وإياك والمسير إلا في مقدمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة، ونشروا البنود والأعلام. وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال، واستعدوا للقاء؛ ملتجئين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم. وليكن ترحلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم، قد عرَّف كل قائد منهم أصحابه مواقفهم: من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة، لازمين لها، غير مخلين بما استنجدوا له، ولا متهاونين فيما أهيب بهم إليه؛ حتى تكون عساكرك في منهل تصل إليه، ومسافة تختارها، كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدو، وأخذها بالحزم، ومسيرها على راياتها، ونزولها في مراكزها، ومعرفتها بمواضعها: إن ضلت دابة من موضعها، عرف أهل العسكر من أي المراكز هي، ومن صاحبها، وفي أي المحل حلوله منها، فردت إليه، هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها؛ فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مئونة الطلب، وعناية المعرفة، وابتغاء الضالة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذًا ورضًا في العامة، وإنصافًا من نفسه للرعية، وأخذًا بالحق في المعدلة، مستشعرًا تقوى الله وطاعته؛ آخذًا بهديك وأدبك، واقفًا عند أمرك ونهيك، معتزمًا على مناصحتك وتزيينك، نظيرًا لك في الحال وشبيهًا بك في الشرف، وعديلًا في الموضع، ومقاربًا في النسب؛١٣٥ ثم أكثف معه الجمع، وأيده بالقوة، وقوه بالظهر، وأعنه بالأموال، واعمده بالسلاح، ومره بالتعطف على ذوي الضعف من جندك ومن أزحفت به دابته وأصابته نكبة: من مرض أو رجلة١٣٦ أو آفة، من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره، أو التخلف بعد ترحله، إلا لمجهود سقمًا، أو لمطروق بآفة جائحة. ثم تقدم إليه محذرًا، ومره زاجرًا؛ وانهه مغلظًا في الشدة على من مر به منصرفًا عن معسكرك من جندك بغير جوازك، شادًّا لهم أسرًا، وموقرهم حديدًا، ومعاقبهم موجعًا، وموجههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقًا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه، وصرامة تؤمنك مهانته، ونفاذًا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته — لم يأمن أمير المؤمنين تسلل الجند عنك لواذًا،١٣٧ ورفضهم مراكزهم، وإخلالهم بمواضعهم، وتخلفهم عن أعمالهم، آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدة على من اجترمه منهم، فأوشك ذلك في وهنك، وخذل من قوتك، وقلل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلًا من وجوه قوادك، جليدًا، ماضيًا، عفيفًا، صارمًا، شهم الرأي، شديد الحذر، شكيم القوة، غير مداهن في عقوبة، ولا مهين في قوة، في خمسين فارسًا يحشر إليك جندك، ويلحق بك من تخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم، والنهك لهم، والتنكيل بهم. وليكن بعقوتك١٣٨ في المنزل الذي ترحل عنه، والمنهل الذي تتقوض منه، مفرطًا في النقض له، والتتبع لمن تخلف عنك به؛ مشتدًا في أهل المنزل وساكنه بالتقدم، موعزًا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم عن مكامنهم؛ وإيعاد العقوبة الموجعة والنكال المبسل في الأشعار والأبشار، واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدًا أو ستر موضعه، أو أخفى محله. وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة. ولتكن فرسانه منتخبين في القوة، معروفين بالنجدة؛ عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وجبب الاستجنان؛ متقلدين سيوفهم، سامطين١٣٩ كنائنهم، مستعدين لهيج إن بدههم [أو كمين إن يظهر لهم].١٤٠ وإياك أن تقبل منهم في دوابهم إلا فرسًا قويًّا أو برذونًا وثيجًا؛١٤١ فإن ذلك من أقوى القوة لهم، وأعون الظهري على عدوهم، إن شاء الله.

ليكن رحيلك إبانًا واحدًا، ووقتًا معلومًا: لتخف المئونة بذلك على جندك، ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم، وأعلاف دوابهم، وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئن ذوو الرأي إلى إبان الرحيل. ومتى يكن رحيلك مختلفًا تعظم المئونة عليك وعلى جندك ولا يزال ذوو السفه [والنزق] يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.

إياك أن تظهر استقلالًا، أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك آخذًا بجنبتي فوهته، بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر أو مفاجأة من طليعة للعدو إن رأت منكم نهزة، أو لمحت عندكم غرة. ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة، وأهبتك معدة، وجنتك واقية، حتى إذا استقللتم من معسكركم، وتوجهتم من منزلكم، سرتم على تعبئتكم بسكون ريح، وهدو حملة، وحسن دعة. فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به، فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأهله، والمعرفة بمرافقته؛ ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله، ويستثير لك علم دفينه، ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه؛ لتعلم كيف احتماله لعسكرك، وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه، وهل لك — إن أردت مقامًا به، أو مطاولة عدوك أو مكايدته فيه — قوة تحملك ومدد يأتيه؛١٤٢ فإنك إن لم تفعل ذلك، لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه، وقلة مياهه، وانقطاع مواده، إن أردت بعدوك مكيدة، أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة، فإن ارتحلت منه كنت غرضًا لعدوك، ولم تجد إلى المحاربة والإخطار سبيلًا؛ وإن أقمت به أقمت على مشقة وحصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدم فيه. فإن أردت نزولًا أمرت صاحب الخيل التي وكلت بالناس فوقفت خيله متنحية من معسكرك، عدة لأمر إن غالك، ومفزعًا لبديهة إن راعتك، فقد أمنت بحمد الله وقوته فجأة عدوك، وعرفت موقعها من حزرك، حتى يأخذ الناس منازلهم، وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك، وتخرج دبَّابتك من معسكرك دراجة ودبابًا محيطين بعسكرك، وعدة إن احتجت إليها. ولتكن دبابات جندك أهل جلد وقوة، قائدًا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم، في كل ليلة ويوم نوبًا بينهم. فإذا غربت الشمس ووجب١٤٣ نورها، أخرج إليهم صاحب تعبيتك أبدالهم، عسسًا بالليل في أقرب من مواضع دبابي النهار، يتعاور ذلك قوادك جميعًا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان.
إياك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك. إذا وضعت الأثقال وحطت أبنية أهل العسكر، لم يمدد طنب، ولم يرفع خباء، ولم ينصب بناء حتى نقطع لكل قائد ذرعًا معلومًا من الأرض بقدر أصحابه، فيحفروه عليهم خندقًا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك،١٤٤ طارحين لها دون اشتجار الرماح، ونصب الترسة، لها بابان قد وكلت بحفظ كل باب منهما رجلًا من قوادك في مائة رجل من أصحابه؛ فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز، وموضع تلك الخيل، وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين، قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما.
واعلم أنك إذا كنت في خندق، أمنت بإذن الله وقوته طوارق عدوك وبغتاتهم، فإن راموا تلك منك، كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه، وتقدمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه؛ وإن تكن العافية استحققت حمد الله عليها، وارتبطت شكره بها، ولم يضررك أخذك بالحزم: لأن كل كلفة ونصب ومئونة إنفاق ومشقة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة، إن شاء الله. فإن ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعًا في ليلك، فليلفك حذرًا مشمرًا عن ساقك، حاسرًا عن ذراعك، متشزنًا١٤٥ لحربك؛ قد تقدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين، ودبابتك في أوقاتها التي قدر لك، وطلائعك حيث أمرك، وجندك على ما عبأ لك، قد خطرت عليهم بنفسك؛ وتقدمت إلى جندك، إن طرقهم طارق أو فاجأهم عدو، ألا يتكلم منهم أحد رافعًا صوته بالتكبير مغرقًا في الإجلاب، معلنًا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدو طارقًا، وليشرعوا رماحهم ناشبين بها في وجوههم، ويرشقوهم بالنبل مكتنين بترسهم، لازمين لمراكزهم، غير مزيلي قدم عن موضعها، ولا متجاوزين إلى غير مركزهم، وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون، لتعرف موضع عدوك من معسكرك، فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك، ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد بحضرتك، وتدس إليهم النشاب والرماح.

وإياك وأن يشهروا سيفًا يتجالدون به، وتقدم إليهم ألا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم، والنشاب راشقين به وجوههم؛ قد ألبدوا بالأترسة، واستجنوا بالبيض، وألقوا عليهم سوابغ الدروع وجباب الحشو. فإن صد العدو عنهم حاملين على جهة أخرى، كبر أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى، وبقية العسكر سكوت والناحية التي صد عنها العدو لازمة مراكزهم منتطقة الهدو ساكنة الريح، ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك في إخوانهم.

وإياك أن تخمد نار رواقك؛ وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرًا لها وأوقدها حطبًا جزلًا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك، فيسكن نافر قلوبهم، ويقوى واهي قوتهم، ويشتد منخذل ظهورهم، ولا يرجمون بك الظنون، ويجعلون لك آراء السوء، ويرجفون بك آناء الخوف؛ وذلك من فعلك راد عدوك بغيظه لم يستفلل منك ظفرًا، ولم يبلغ من نكايتك سرورًا. وإن انصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدة وكتيبة منتخبة، [و] قدرت على أن تركب بهم أكساءهم،١٤٦ وتحملهم على سننهم؛ فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك وأولو النجدة من حماتك؛ فإنك ترهق١٤٧ عدوك وقد أمن من بياتك، وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بأبواب معسكره والضبط لمحارسه عليك، موهنة حماتهم لغبة أبطالهم: لما ألفوكم عليه من التشمير والجد، قد عقر الله فيهم، وأصاب منهم، وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أماني ضلالهم، ورد من مستعلي جماحهم.

وتقدم إلى من توجهه في طلبهم، وتتبعه أكساءهم: في سكون الريح، وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله عز وجل بألسنتهم وقلوبهم سرًّا وجهرًا، بلا لجب ضجة، ولا ارتفاع ضوضاء، دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصتهم. ثم ليشهروا السلاح، وينتضوا السيوف، فإن لها هيبة رائعة، وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه إلا البطل المحارب، وذو البصيرة المحامي، والمستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك الحمية وفي ذلك الموضع.

ليكن أول ما تتقدم به في التهيؤ لعدوك، والاستعداد للقائه، انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصرامة، ممن قد اعتاد طراد الكماة، وكشر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفروسية، مجتمع القوة، مستحصد المريرة، صبورًا على هول الليل، عارفًا بمناهزة الفرص؛ لم تمهنه الحنكة ضعفًا، ولا بلغت به السن كلالًا، ولا أسكرته غرة الحداثة جهلًا، ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفًا، جريئًا على مخاطرة التلف، مقدمًا على ادراع الموت، مكابرًا لمهيب الهول، متقحمًا مخشي الحتوف، خائضًا غمرات المهالك؛ برأي يؤيده الحزم، ونية لا يخالجها الشك، وأهواء مجتمعة، وقلوب مؤتلفة؛ عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها، وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين، ثم اعرضهم رأى عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيل، وأسلحتهم سوابغ الدروع وكمال آلة المحارب، متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجوهر وصافي الحديد، المتخيرة من معادن الأجناس، هندية الحديد يمانية الطبع، رقاق المضارب، مسمومة الشحذ، مشطبة الضريبة؛ ملبدين بالترسة الفارسية، صينية التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد، أنحاؤها مربعة، ومخارزها بالتجليد مضاعفة، محملها مستخف؛ وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها، وقسي الشريان١٤٨ والنبع أعرابية الصنعة، مختلفة الأجناس، محكمة العمل، مقومة التثقيف؛ ونصول النبل مسمومة، وعملها مصيصي، وتركيبها عراقي، وترييشها بدوي؛ مختلفة الصوغ في الطبع، شتى الأعمال في التشطيب والتجنيح والاستدارة. ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض، منبسطة السية، سهلة الانعطاف، مقربة الانحناء، ممكنة المرمى، واسعة الأسهم؛ فرضها سهلة الورود، ومعاطفها غير مقتربة المواتاة. ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلًا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، له صيت في الرياسة، وقدم في السابقة، وأولية في المشايعة. وتقدم إليه في ضبطهم، وكف معرتهم، واستنزال نصائحهم، واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعاهد كراعهم وأسلحتهم، معفيًا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامة جندك؛ واجعلهم عدة لأمر إن حزبك، أو طارق إن أتاك؛ ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة، وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم؛ فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك. فليكونوا كرجل واحد في التشمير والترادف وسرعة الإجابة؛ فإنك عسيت ألا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الروعة والمباغتة — إن احتجت إلى ذلك منهم — معونة كافية، ولا أهبة معدة، بل ذلك كذلك فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدتك وقوتك، بعوثًا قد وظفتها على القواد الذين وليتهم أمورهم، فسميت أولًا وثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا وسادسًا؛ فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد، كان معدًّا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك، فقطع البعث عليهم عند ما يرهقك. وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة، وجهت منهم إرادتك أو ما ترى قوتك، إن شاء الله.

وكِّلْ بخزائنك ودواوينك رجلًا ناصحًا أمينًا، ذا ورع حاجز، ودين فاصل، وطاعة خالصة، وأمانة صادقة؛ واجعل معه خيلًا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها مع خزانتك وحولها. وتقدم إليه في حفظها، والترقي عليها، واتهام كل من تسند إليه شيئًا منها على إضاعته والتهاون به، والشدة على من دنا منها في مسير، أو ضامها في منزل، أو خالطها في منهل. وليكن عامة الجند والجيش — إلا من استخلصت للمسير معها — متنحين عنها، مجانبين لها في المسير والمنزل؛ فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة، فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفظ لها وذب عنها، وحياطة دونها، وقوة على من أراد انتهابها، أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها، حتى كاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة؛ فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير، وإنما همتهم الشر؛ فإياك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع، أو يجد سبيلًا إلى اغتيالها ومرزأتها.

واعلم أن أحسن مكيدتك أثرًا في العامة، وأبعدها صيتًا في حسن القالة؛ ما نلت الظفر فيه بحزم الروية، وحسن السيرة، ولطف الحيلة. فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل لا بالقتال وأخطار التلف؛ وادسس إلى عدوك، وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات، ومنهم الولايات، وسوغهم التراث، وضع عنهم الإحن، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب؛ واملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدوائر، وأصارتهم إليك الرواجع؛ وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة؛ ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبًا كأنها جواب كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبًا إليك تدفعها إليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم، وتنزلهم عنده بمنزلة التهمة ومحل الظنة؛ فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم، وإحن قلوبهم، وسوء الظن من واليهم بهم، فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا باتهامه إياهم، فإن بسط يده فقتلهم، وأولغ سيفه في دمائهم، وأسرع الوثوب بهم، أشعرهم جميعًا الخوف، وشملهم الرعب، ودعاهم إليك الهرب، فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأموك بالطلب. وإن كان متأنيًا محتملًا رجوت أن يستميل إليك بعضهم، ويستدعي الطمع ذوي الشره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.

إذا تدانى الصفان، وتواقف الجمعان، واحتضرت الحرب، وعبأت أصحابك لقتال عدوهم؛ فأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والتوكل على الله عز وجل والتفويض إليه، ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرشد المنجي، والعصمة الكالئة، والحياطة الشاملة. ومر جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة، وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم، ولا يظهروا تكبيرًا إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها؛ فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن؛ وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم، وليكثروا من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكته المستحدة، وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين».

وليكن في معسكرك المكبرون في الليل والنهار قبل المواقعة، وقوم موقوفون يحضونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها وسكانها، ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتلبية جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التعبية التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك فافعل، إن شاء الله تعالى.

أيدك الله بالنصر، وغلب لك على القوة، وأعانك على الرشد، وعصمك من الزيغ، وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتب سنة تسع وعشرين ومائة.

(٧) رسالة ثانية لعبد الحميد الكاتب

ومن رسائل عبد الحميد الرسالة التي أوصى فيها الكتاب:١٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد؛ حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم؛ فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء؛ وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة؛ بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها؛ وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلدانهم؛ لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم؛ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون؛ فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه١٥٠ من النعمة عليكم؛ وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم.

أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج في نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الحكم، مقدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام، مؤثرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل؛ يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها؛ قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به؛ يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدروه؛ فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفهموا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربؤا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات.

وإياكم والكبر والسخف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة؛ وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم؛ وإن نبا١٥١ الزمان برجل منكم، فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدًا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه؛ واستظهروا بفضل تجربته، وقديم معرفته؛ وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه، فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه؛ وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء، وهو لكم أفسد منه لها؛ فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه، ما يجب له عليه من حقه؛ فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره، واحتماله ونصيحته، وكتمان سره وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقِّه، ويصدق ذلك فعله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه؛ فاستشعروا ذلك — وفقكم الله — من أنفسكم في حالة الرخاء، والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء؛ فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة؛ وإذا ولى الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر، فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته؛ وليكن على الضعيف رفيقًا، وللمظلوم منصفًا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله؛ ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مكرمًا، وللفيء موفرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألفًا، وعن أذاهم متخلفًا؛ وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه دقيقًا؛ وإذا صحب أحدكم رجلًا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبيح بألطف حيلة وأجمل وسيلة.

وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحًا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبًا اتقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودًا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونًا قمع برفق هواها في طرقها، فإن استمرت عطفها يسيرًا، فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم.

والكاتب لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده، من سائس البهيمة التي لا تحير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها؛ ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر، واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة؛ ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله؛ ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه، وملبسه ومركبه، ومطعمه ومشربه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه؛ فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم، خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير؛ واستعينوا على أفعالكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض؛ فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم، بما سبقت إليه تجربتكم؛ ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، وأحمدها عاقبة.

واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه، عن إنفاذ علمه ورويته؛ فليقصد الرجل منكم في مجلسه، قصد الكافي في منطقه؛ وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه؛ فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل من إكثاره؛ وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده؛ مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه، وعقله وأدبه، فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل: إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره؛ فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف؛ ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لأعباء التدبير؛ من مرافقه في صناعته، ومصاحبه في خدمته؛ فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته؛ وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه؛ ولا يكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره؛ وحمد الله واجب على الجميع.

وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته؛ وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: «من تلزمه النصيحة يلزمه العمل» وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل، فلذلك جعلته آخره وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(٨) رسالة ثالثة لعبد الحميد الكاتب

ومن رسائل عبد الحميد رسالة في الشطرنج:١٥٢
أما بعد، فإن الله شرع دينه بإنهاج سبله، وإيضاح معالمه بإظهار فرائضه، وبعث رسله إلى خلقه دلالة لهم على ربوبيته، واحتجاجًا عليهم برسالاته، ومقدمًا إليهم بإنذاره ووعيده، ليهلك من هلك عن بينة؛ ويحيا من حي عن بينة؛ ثم ختم بنبيه وحيه، وقفى به رسله، وابتعثه لإحياء دينه الدارس مرتضيًا له على حين انطمست الأعلام١٥٣ مختفية، وتشتتت السبل متفرقة، وعفت آثار الدين دارسة، وسطع رهج الفتن، واعتلى قتام الظلم، واستنهد الشرك، وأسدف١٥٤ الكفر، وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق، واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق، واقمطر١٥٥ سلهب الفتنة، واستضرم لقاحها، وطبقت الأرض ظلمة كفر وغياية١٥٦ فساد؛ فصدع بالحق مأمورًا، وأبلغ الرسالة معصومًا، ونصح الإسلام وأهله، دالًّا لهم على المراشد، وقائدًا لهم إلى الهداية، ومنيرًا لهم أعلام الحق ضاحية، مرشدًا لهم إلى استفتاح باب الرحمة وإعلاق١٥٧ عروة النجاة؛ موضحًا لهم سبل الغواية، زاجرًا لهم عن طريق الضلالة، محذرًا لهم الهلكة، موعزًا إليهم في التقدمة، ضاربًا لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخشون، وما إليه يسارعون ويطلبون؛ صابرًا نفسه على الأذى والتكذيب، داعيًا لهم بالترغيب والترهيب؛ حريصًا عليهم، متحننًا على كافتهم، عزيزًا عليه عنتهم، رءوفًا بهم رحيمًا، تقدمه شفقته عليهم وعنايته برشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما فيه بقاء النعمة عليهم، وسلامة أديانهم، وتخفيف آصار١٥٨ الأوزار عنهم، حتى قبضه الله إليه ناصحًا متنصحًا، أمينًا مأمونًا، قد بلغ الرسالة، وأدى النصيحة، وقام بالحق، وعدل عمود الدين، حتى اعتدل ميله، وأذل الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أنبائه١٥٩ في إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سنته فيهم، وظهور شرائعه عليهم. قد أبان لهم موبقات الأعمال، ومفظعات الذنوب، ومهبطات الأوزار، وظلم الشبهات، وما يدعوا إليه نقصان الأديان، وتستهويهم به الغوايات؛ وأوضح لهم أعلام الحق، ومنازل المراشد، وطرق الهدى، وأبواب النجاة، ومعالق العصمة، غير مدخر لهم نصحًا ولا مبتغ في إرشادهم غنمًا. فكان مما قدم إليهم فيه نهيه، وأعلمهم سوء عاقبته، وحذرهم إصره، وأوعز إليهم ناهيًا وواعظًا وزاجرًا، الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج والمواصلة عليها، لما في ذلك من عظم الإثم، وموبق الوزر، مع مشغلتها عن طلب المعاش، وإضرارها بالعقول، ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين.
وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناسًا، ممن قبلك من أهل الإسلام، قد ألهجهم الشيطان بها، وجمعهم عليها، وألف بينهم فيها، فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم، ملهية لهم عن الصلوات، شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم، وافترض عليهم من شرائع أعمالهم، مع مداعبتهم فيها، وسوء لفظهم عليها. وإن ذلك من فعلهم ظاهر في الأندية والمجالس، غير منكر ولا معيب ولا مستفظع عند أهل الفقه، وذوي الورع والأديان والأسنان منهم؛ فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه، وكرهه واستكبره، وعلم أن الشيطان عندما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله عز وجل، بمصر المسلمين ومجمعهم صراحًا وجهارًا، أقدم بهم على شبهة مهلكة، وزين لهم ورطة موبقة، وغرهم بمكيدة حيله، إرادة لاستهوائهم بالخدع، واجتيالهم١٦٠ بالشبه والمراصد الخفية المشكلة. وكل مقيم على معصية الله، صغرت أو كبرت، مستحلًا لها مشيدًا بها، مظهرًا لارتكابه إياها، غير حذر من عقاب الله عز وجل عليها، ولا خائف مكروهًا فيها، ولا راهب من حلول سطوته عليها، حتى تلحقه المنية، فتختلجه وهو مصر عليها، غير تائب إلى الله منها، ولا مستغفر من ارتكابه إياها؛ فكم من أقام على موبقات الآثام وكبائر الذنوب، حتى مدته ومخرم أيامه.
وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم، فيما بلغه عنهم، وأن ينذرهم ويوعز إليهم، ويعلمهم ما في أعناقهم عليها، وما لهم في قبول ذلك من الحظ، وعليهم في تركه من الوزر، فآذن١٦١ بذلك فيهم، وأشده في أسواقهم وجميع أنديتهم، وأوعز إليهم فيه. وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع إليه: من أهل الاعتكاف عليها والإظهار للعب بها، وإطالة حبسه في ضيق وضنك، وطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين. وافطمهم عما لهجوا به من ذلك. والتمس بشدتك عليهم فيه وإنهاكك بالعقوبة عليه، ثواب الله وجزاءه، واتباع أمير المؤمنين ورأيه. ولا يجدن أحد عندك هوادة في التقصير في حق الله عز وجل، والتعدي لأحكامه، فتحل بنفسك ما يسوءك عاقبة مغبته، وتتعرض به لغير الله عز وجل ونكاله. واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك، إن شاء الله والسلام.

(٩) رسالة رابعة لعبد الحميد الكاتب

ومن رسائل عبد الحميد هذه الرسالة التي وصف بها الصيد:١٦٢
أطال الله بقاء أمير المؤمنين مؤيدًا بالعز، مخصوصًا بالكرامة، ممتعًا بالنعمة، إنه لم يلقَّ١٦٣ أحد من المقتنصين، ولا منح متطرف من المتصيدين، إلا دون ما لقَّانا١٦٤ الله به من اليمن والبركة، ومنحنا من الظفر والسعادة في مسيرنا من كثرة الصيد، وحسن المقتنص، وتمكين الجاسة،١٦٥ وقرب الغاية، وسهولة المورد، وعموم القدورة،١٦٦ إلا ما كان من محاولة الطلب، وشدة النصب، لنافر الصيد، وقائد الطريدة التي أمعنا في الطلب لها، وأعجزنا البهر عن اللحاق بها، لتفاوت سبقها، ومنقطع هربها، ومتفرق سبلها، ثم آل بنا ذلك إلى حسن الظفر، وتناول الأرب، ونهاية الطرب.
وإني أخبر أمير المؤمنين أنا خرجنا إلى الصيد بأعدى الجوارح، وأثقف الضواري؛ أكرمها أجناسًا، وأعظمها أجسامًا، وأحسنها ألوانًا، وأحدها أطرافًا، وأطولها أعضاء، قد ثُقفت بحسن الأدب، وعودت شدة الطلب، وسبرت أعلام المواقف، وخبرت المجاثم، مجبولة على ما عودت، ومقصورة على ما أدبت. ومعنا من نفائس الخيل المخبورة الفراهة،١٦٧ من الشهرية١٦٨ الموصوفة بالنجابة، والجري والصلابة. فلم نزل بأخفض سير، وأثقف طلب، وقد أمطرتنا السماء مطرًا متداركًا، فربت منه الأرض، وزهر البقل، وسكن القتام من مثار١٦٩ السنابك، ومتشعبات١٧٠ الأعاصير، مهلة أن سرنا غلوات، ثم برزت الشمس طالعة، وانكشفت [مني] السحاب مسفرة، فتلألأت الأشجار، وضحك النوار، وانجلت الأبصار، فلم نر منظرًا أحسن حسنًا، ولا مرموقًا أشبه شكلًا، من ابتسام نور الشمس عن اخضرار زهرة الرياض. والخيل تمرح بنا نشاطًا، وتجتنبنا أعنتها انبساطًا؛ ثم لم نلبث أن علتنا ضبابة تقصر١٧١ طرف الناظر، وتخفي١٧٢ سبل السلام، تغشانا تارة وتنكشف أخرى، ونحن بأرض دمثة التراب، أشبة١٧٣ الأطراف، مغدقة الفجاج، مملوءة صيدًا من الظباء والثعالب والأرانب؛ فأدانا المسير إلى غاية دونها مألف الصيد، ومجتمع الوحش، ونهاية الطلب، قد جاوزناها ونحن على سبيل الطلب ممعنون، وبكل حرة١٧٤ جونة١٧٥ متفرقون، فرجع بنا العود على البدء، وقد انجلت الضبابة، وامتد البصر، وأمكن النظر، فإذا نحن برعلة١٧٦ من ظباء، وخلفة آرام يرتعن آنسات، قد أحالتهن الضبابة عن شخصنا، وأذهلهن أنيق الرياض عن استماع حسنًا، فلم نعج١٧٧ إلا والضوراي لائحة لهن من بعد الغاية، ومنتهى نظر الشاخص؛ ثم مدت الجوارح أجنحتها، واجتذبت الضوراي مقاودها، فأمرت بإرسالها على الثقة بمحضرها، وسرعة الجوارح في طلبها، فمرت تحف حفيف الريح عند هبوبها، تسف الأرض سفًا، كاشفة عن آثارها، طالبة لخيارها، حارشة بأظفارها، قد مزقتها تمزيق الريح الجراد؛ فمن صائح بها وناعر، وهاتف بها وناعق، يدعو الكلب باسمه، ويفديه بأبيه وأمه؛ وراكض تحت مفره، وخافق يطلبه الرمح، وطامح يمنعه، وسانح قد عارضه بارح، قد حيرتنا الكثرة، وألهجتنا القدرة، حتى امتلأت أيدينا من صنوف الصيد، والله المنعم الوهاب.
ثم ملنا يا أمير المؤمنين بهداية دليل قد أحكمته التجارب، وخبر أعلام المذانب، إلى غدير أفيح، وروضة خضرة، مستأجمة بتلاوين الشجر، ملتفة بصنوف الخمر،١٧٨ مملوءة من أنواع الطير، لم يذعرهن صائد، ولا اقتنصهن قانص، فخفق لها بطبول، وصفر بنفير الحتف، فثار منها ما ملأ الأفق كثرتها، وراعت الجوارح خفقات أجنحتها؛ ثم انبرت البزاة لها صائدة، والصقور كاسرة، والشواهين ضارية، يرفعن الطلب لها، ويخفضن الظفر بها، حتى سئمنا من الذبح، وامتلأنا من النصيح؛١٧٩ كانا كتيبة ظفرت ببغيتها، وسرية نصرت على عدوها، وألحقت ضعيفها بقويها، وغلبت١٨٠ محسنها بمسيئها؛ لا نملك أنفسنا مرحًا، ولا نستفيق من الجذل بها فرحًا، بقية يومنا، والله المنعم الوهاب.
ثم غدونا يا أمير المؤمنين إلى أرض وصف لنا صيدها بالكثرة، ورياضها بالنزهة، فزل واصفها عن الطريقة، واعتمد بنا على غير الحقيقة؛ فأتيناها فلم نر صيدًا ولا عشبًا، ولا نزهة ولا حسنًا، فجعلنا نسلك منها حزونًا ووعورًا، وجدوبًا وقفرًا، حتى قصر بنا اليأس عن الطلب، وقطع بنا عن الطمع النصب. فبينا نحن كذلك، إذ بدا لنا جأب١٨١ قد أوفى بنا على حائل دل على غابة من ورائها حمير وحش كثيرة، فأممناها، فلما تطرفنا مشيًا١٨٢ وتقريبًا١٨٣ إلى عاناته،١٨٤ توالى نهيقه، وكثر شهيقه، فالتفتن إليه، فرمقن بأعينهن منا ما استكثرن شخصه، واستهولن أمره، حتى إذا كنا بمرأى ومسمع انجذبن موليات، وهربن مسيبات، فأجهدنا الركض في طلبهن، نتبع آثارهن، ونستشف بلاء بين أحفار١٨٥ ودكادك١٨٦ وخناذيذ،١٨٧ حتى أشفى بنا الطلب لها على واد هائل سائل، بجنبتيه غابة أشبة قد سبقن إليها، واستخفين فيها، فنظمناها بالخيل نظم الخرز، ثم أوغلت عدة فرسان في نقضها ومعرفة أحوالها، والطبول خافقة، والأصوات شاهقة، فكان وكان؛ والحمد لله على كل حال.

هوامش

(١) انظر كتاب صبح الأعشى ص٢٣٧ ج١.
(٢) هو أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، صاحب رسول الله وأول خليفة له في الإسلام وخطيب يوم السقيفة. ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله في مرة بن كعب. ولد بعد مولد رسول الله بسنتين وبضعة أشهر. ونشأ من أكرم قريش خلقًا، وأرجحهم حلمًا، وأسماهم يدًا، وأشدهم عفة. وكان أعلمهم بالأنساب وأيام العرب ومفاخرها. صحب رسول الله قبل النبوة. وكان أول من آمن به من الرجال وصدقه في كل ما جاء به، ولذلك سمي الصديق، وأنفق أمواله في تأييد دعوته، وهاجر معه إلى المدينة مؤثرًا صحبته على كل أهله وولده، وشهد معه أكثر الغزوات. وما زال ينفق ماله وقوته في معاضدة رسول الله حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. واختلفت العرب، وارتدت عن الإسلام، ومنعت الزكاة إلا أهل المدينة ومكة وثقيف بالطائف، فجرد عليهم الجيوش حتى قمعهم، وجمع العرب على الإسلام، وساقهم توًّا إلى فتح ممالك كسرى وقيصر. وما مات إلا وجيوشه تهزم جيوش الفرس والروم وتستولي على مدائنهم وحصونهم. وكان رحمه الله فصيحًا بليغًا، خطيبًا مفوهًا، حاضر البديهة، قوي الحجة، شديد التأثير، يشهد بذلك خطبته يوم السقيفة، وذلك أنه لما مات رسول الله اختلفت الصحابة فيمن يبايعونه خليفة له عليهم؛ فأبت الأنصار إلا أن يكون الخليفة منهم، وأبى المهاجرون من قريش إلا أن يكون منهم. واشتد النزاع حتى كات تقع الفتنة، فخطبهم خطبة لم يلبث الجميع بعدها أن بايعوه خليفة. وكانت وفاته سنة ١٣ﻫ ومدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.
(٣) الشماس: المعاداة والمعاندة.
(٤) تهمم الشيء: طلبه وتحسسه.
(٥) نافس في الشيء منافسة: رغب فيه على وجه المباراة والمفاخرة.
(٦) تجب: تقطع.
(٧) تأتى فلان للأمر: تهيأ له وأتاه من وجهه.
(٨) الجو أكلف: أسود تعلوه حمرة.
(٩) الليل أغدف: مرخ سدوله مظلم.
(١٠) السماء جلواء: مصحية.
(١١) خالية لا شجر فيها.
(١٢) أي مستعد لأن يعمل عمله من الشر.
(١٣) أفاء: أرجع.
(١٤) يتخاوص: يغض من بصره.
(١٥) الضراء: الاستخفاء. والخمر: ما واراك من شجر، وهو مثل يضرب لمن يخدع صاحبه.
(١٦) الشنان جمع شن وهو القربة الخلق الصغيرة. والقعقعة: الصوت، يريد أنه لا يخوف بمثل هذا.
(١٧) نشرج عيابها: ننضدها ونضم بعضها إلى بعض. والعياب: جمع عيبة، وهي زنبيل من أدم تجعل فيه الثياب.
(١٨) جمع مرس ككتف وهو الحبل.
(١٩) السبد: الشعر. واللبد: الصوف.
(٢٠) يقال: جاءنا فلان فلم يأتنا بهلة ولا بلة أي لم يأتنا بشيء، فالهلة من الفرح والاستهلال، والبلة من البلل والخير.
(٢١) مشهوم (بالشين المعجمة): ذكي متوقد.
(٢٢) عطا: مد إليك عنقه وأقبل نحوك.
(٢٣) حلم الجلد (من باب فرح): فسد وتثقب.
(٢٤) أي يطلبه ويدافع عنه.
(٢٥) يتطلع إليه ويفتخر به.
(٢٦) أي ما كنت عرفته منك شيئًا.
(٢٧) سجرائه: أصدقائه.
(٢٨) عباهل مباهل (بالباء الموحدة في الكلمتين): مهملة.
(٢٩) الصوى: الأعلام.
(٣٠) المهايع: الطرق.
(٣١) اليافوخ (يهمز ولا يهمز) جزء الرأس الذي يتحرك في الطفل.
(٣٢) في صبح الأعشى: «فهذه».
(٣٣) الرفغ: أصل الفخذ من باطن. والعجان: الاست. يريد أن منزلتهم بين الأحياء والعشائر ليست حقيرة مهينة.
(٣٤) الشي بالكسر إتباع للعي.
(٣٥) الخنزوانة: الكبر.
(٣٦) الوحرة (بالتحريك): الحقد والعداوة. والشراسيف: جمع شرسوف، والشرسوف مقط الضلع.
(٣٧) البازل: الجمل القوي الذي دخل في سنته التاسعة. والهبع: الفصيل الذي ينتج في الصيف فيكون ضعيفًا.
(٣٨) يمض إهابك: يحرق جلدك.
(٣٩) يعرك: يدلك.
(٤٠) هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب. وابن عم رسول الله . وزوج ابنته. ورابع الخلفاء الراشدين. وإمام الخطباء من المسلمين. ولد رحمه الله بعد مولد النبي باثنتين وثلاثين سنة. وهو أول من آمن من الصبيان. وكان شجاعًا لا يشق له غبار. أيدًا جليدًا. شهد الغزوات كلها مع النبي إلا غزوة تبوك. وأبلى في نصرة رسول الله ما لم يبله أحد. ولما قتل عثمان بايعه الناس بالحجاز وامتنع عن بيعته معاوية وأهل الشام شيعة بني أمية غضبًا منهم لمقتل عثمان وقلة عنايته بالبحث عن القتلة على حسب اعتقادهم، فحدث من جراء ذلك الفتنة العظمى بين المسلمين وافتراقهم إلى طائفتين فتحاربوا مدة من غير أن يستتب الأمر لعلي أو معاوية حتى قتل أحد الخوارج عليًّا غيلة بمسجد الكوفة. وكان كرم الله وجهه أفصح الناس بعد رسول الله، وأكثرهم علمًا وزهدًا وشدة في الحق: وهو إمام الخطباء من العرب على الإطلاق بعد رسول الله . وكانت وفاته سنة ٤٠ﻫ ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.
(٤١) معلوطة: مقتحمة من غير روية.
(٤٢) مخروطة: مسرعة.
(٤٣) هيسي: سيري أي سير كان.
(٤٤) أي ينطوون على الضغن وهو الحقد.
(٤٥) جلجلان قلبي، أي حبته.
(٤٦) على غرة: أي كما هو وكما قص علي.
(٤٧) زميتًا: حليمًا وقورًا.
(٤٨) يقال: أزم الفرس على فأس اللجام إذا عضها وقبض عليها. وفأس اللجام: الحديدة المعترضة منه في الحنك. يريد أنه ألجم نفسه ثقة إلخ.
(٤٩) لط: جحد.
(٥٠) يتوكف: ينتظر.
(٥١) الأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها، إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت.
(٥٢) الليطة قشرة القصبة التي تليط بها أي تلزق.
(٥٣) اللبان: الصدر.
(٥٤) هي عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة، عقد عليها رسول الله بمكة وهي بنت ست سنين، ودخل بها في المدينة وهي بنت تسع، وكان مولدها سنة أربع من النبوة، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، وكان صداقها أربعمائة درهم، وكانت أحب نسائه إليه، وكنيتها أم عبد الله، كنيت بابن أختها أسماء، ولها خطب ووقائع. وكانت من أكبر العاملات في وقعة الجمل المشهورة في الإسلام صحبة الزبير وطلحة. وكانت أفصح أهل زمانها وأبينهم منطقًا وأحفظهم للحديث وأفقههم. توفيت سنة سبع وخمسين ودفنت ليلًا بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه. راجع ترجمتها في طبقات ابن سعد (ج٨ ص٣٩).
(٥٥) الأزفلة: الجماعة.
(٥٦) لا تعطوه: لا تناله.
(٥٧) على سيسائه: أي على دأبه وعادته.
(٥٨) فنخ: غلب وقهر.
(٥٩) خبأها: ما عاب عنها.
(٦٠) منقولة عن صبح الأعشى ج١ ص٢٤٨.
(٦١) زور الكلام في نفسه: هيأه.
(٦٢) جمل أرمك: لونه لون الرماد.
(٦٣) المركن: الإجانة وهي إناء تغسل فيه الثياب. ويعرك: يحك. والرجيع المردود. أي لا تجعلني كالثوب المصبوغ يحك في الإناء مرة بعد أخرى لإخراج صبغه منه: تشبه محاورة معاوية إياها وسؤاله لها مرة بعد مرة لاستخراج ما في نفسها بما يغسل من الثياب المصبوغة لاستخراج صبغها منها.
(٦٤) هي الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمدانية، كانت من أهل الكوفة، وكانت ذات شجاعة فائقة، وبلاغة نادرة، شهدت مع قومها واقعة صفين، ولها عدة خطب تحرض الناس فيها على القتال ضد معاوية. وبعد أن تم لمعاوية ما أراد كتب إلى عامله بالكوفة باستدعائها، فأحضرت إليه، وبعد محاورة بينه وبينها سألها حاجتها، فقالت: «يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي إلا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا» ثم أنصرفت، وبعد ذلك أرسل لها معاوية جائزة.
(٦٥) خصيف: غليظ.
(٦٦) يقال: قصع البعير بجرته قصعًا: مضغها.
(٦٧) هذه الرسالة منقولة عن صبح الأعشى ج١٠ ص١٩٥.
(٦٨) هو عبد الحميد بن يحيى بن سعيد العامري ولاء، الشامي دارا، شيخ الكتاب الأوائل، وأول من أطال الرسائل. كان عبد الحميد من أهل الشام من موالي بني عامر، وتخرج في البلاغة والكتابة على ختنه أبي العلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك وكاتب دولته وأحد بلغاء العالم والنقلة من اليونانية. وكان عبد الحميد في أول أمره معلم صبيان يتنقل في البلدان حتى فطن له مروان بن محمد أيام توليته أرمينية وانتدابه لتسكين فتنتها، فكتب له مدة ولايته، حتى إذا بلغه مبايعة أهل الشام له بالخلافة سجد مروان لله شكرًا وسجد أصحابه إلا عبد الحميد، فقال له مروان لم لا تسجد؟ فقال: ولم أسجد؟ أعلى أن كنت معنا فطرت عنا! قال: إذا تطير معي؛ قال: الآن طاب لي السجود وسجد، فاتخذه مروان كاتب دولته، فصدر عنه من الرسائل ما صار نموذجًا يحاكيه من بعده من البلغاء.
ولما دهمت مروان جيوش خراسان أنصار الدعوة العباسية وتوالت عليه الهزائم كان عبد الحميد يلازمه في كل هذه الشدة؛ فقال له مروان: قد احتجت أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك، وحاجتهم إلى كتابتك، تحوجهم إلى حسن الظن بك؛ فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي؛ فقال له: إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشد:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
وبقي معه حتى قتل مروان سنة ١٣٢ﻫ ففر واختبأ عند صديقه ابن المقفع ففاجأه الطلب وهو في بيته، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا، خوفًا على صاحبه، وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال: ترفقوا بنا فإن كلًا منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي بعض آخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا وأخذ عبد الحميد إلى السفاح فقتله سنة ١٣٢ﻫ. انظر ترجمته في ابن خلكان (ج١ ص٤٣٦).
(٦٩) هو عبد الله بن مروان أرسله لقتال الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي.
(٧٠) المصاص: خالص كل شيء.
(٧١) كذا في صبح الأعشى وفي مفتاح الأفكار (ص٢٨٢) وغيره «وتزين».
(٧٢) الصعاصع: جمع صعصع وهو طائر يصيد الجنادب، شبه وسوسة الشيطان به. وفي بعض المؤلفات «وسفاسفه».
(٧٣) لا ونية: لا تواني.
(٧٤) أي لا استثناء.
(٧٥) يقال: نافث فلان فلانًا بالكلام: آذاه.
(٧٦) الحويل: الحذق والقدرة على التصرف.
(٧٧) الفراسن: واحدها فرسن وهو طرف خف البعير.
(٧٨) الأغفال جمع غفل وهو الذي لم يجرب الأمور.
(٧٩) يقال: أبطره ذرعه إذا حمله فوق ما يطيق. وفي صبح الأعشى (ج١٠ ص٢٠١) «أبطال الذرع». وقد توقف فيها مصححه.
(٨٠) أوتغ دينه بالإثم: أفسده.
(٨١) ألحمه عرض فلان: أمكنه منه يشتمه.
(٨٢) دخل الرجل (بالفتح والكسر): نيته ومذهبه.
(٨٣) لم يعصب أي لم يلحق.
(٨٤) أي لوضوح براءته، ففي حديث علي: فأصحر لعدوك، أي كن من أمره على أمر واضح.
(٨٥) صفحه عنها، ردّه عنها.
(٨٦) في صبح الأعشى: «وتستعضد في موهم النازل». وفي رسائل البلغاء: «وتستعهده في مهم نازل». واخترنا من العبارتين ما يناسب المقام.
(٨٧) كذا في صبح الأعشى والمفتاح ورسائل البلغاء، ولعله وإن ابتدرت … إلخ.
(٨٨) يقال: أنقض أصابعه: صوت بها وليس في كتب اللغة نقض بالتضعيف.
(٨٩) الغميزة: المطعن.
(٩٠) تأثل: تثبت.
(٩١) اكتهف الكهف: دخله.
(٩٢) أهاب بك: دعاك.
(٩٣) من قولهم كلب الدهر على أهله إذا اشتد وألخ.
(٩٤) الكل: الثقل.
(٩٥) الأيد: القوة.
(٩٦) أي مدلهمة سوداء، من قولهم: أعشى الليل إذا أظلم.
(٩٧) المغاورة: المقاتلة.
(٩٨) كذا في صبح الأعشى ويظهر أن السياق يقتضي معمولًا لهذا الفعل أما ضميرًا أو اسمًا ظاهرًا.
(٩٩) تشزن للأمر: استعد له.
(١٠٠) يفثأك (بالفاء والثاء المثلثة) أي يكسرك ويؤخرك.
(١٠١) كذا في صبح الأعشى. ولعلها موقوم الحزم أي مقهورة أو لعلها محرفة عن كلمة أخرى بمعنى الضعف أو القلة.
(١٠٢) نضيض: قليل. والوفر: المال.
(١٠٣) المياحة: الإعطاء.
(١٠٤) في مفتاح الأفكار ورسائل البلغاء: «كامنة».
(١٠٥) في رسائل البلغاء: «وأن رأيه في مكيدتك مثل ما تكايده به».
(١٠٦) إصفاقهم: اجتماعهم.
(١٠٧) الصريمة: العزيمة.
(١٠٨) في مفتاح الأفكار وغيره: «أفئدة». وإياد كل شيء: ما يقوى به من جانبيه ومنه إيادا العسكر وهما ميمنته وميسرته.
(١٠٩) الصوت: كالصيت والصات: الذكر والشهرة.
(١١٠) الأزل: الضيق والشدة.
(١١١) المادة: كل مدد تستعين به في حرب أو غيره.
(١١٢) الزيادة عن مفتاح الأفكار (ص٢٥٠ وغيره).
(١١٣) الطعمة بالضم والكسر وجه الكسب الطيب أو الخبيث.
(١١٤) في مفتاح الأفكار وغيره: «بحيث ولايتك وفي الموضع الجارية» إلخ.
(١١٥) المهلوبة: المنتوفة الهلب، وهو شعر الذنب أو الشعر كله.
(١١٦) أي خالصة وحيدته.
(١١٧) البلق: القباء المحشو.
(١١٨) التريك: بيضة النعام خاصة، ومنه قوله:
وتلقى بها بيض النعام ترائكًا
(١١٩) سيف شطب: ذو شطب وهي طرائقه التي في متنه.
(١٢٠) الأمت: العوج والاختلاف.
(١٢١) الثعلب: طرف الرمح الداخل في جبة السنان.
(١٢٢) في مفتاح الأفكار وغيره: «وشحذها متلهب» وسنخ النصل: الحديدة التي تدخل في رأس السهم.
(١٢٣) المعاقص: السهام المعوجة.
(١٢٤) الشوحط: شجر تتخذ منه القسي.
(١٢٥) الزيادة عن مفتاح الأفكار (ص٢٥١).
(١٢٦) يقال: فلان ناصح الجيب يراد بذلك قلبه وصدره أي أمين.
(١٢٧) النفل محركة: الغنيمة والهبة.
(١٢٨) الثقل: متاع المسافر.
(١٢٩) الإدهان: المداهنة وهي أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن.
(١٣٠) الترسة موضونة، أي منسوجة حلقتين حلقتين.
(١٣١) أي كتيبة كتيبة.
(١٣٢) الزيادة عن مفتاح الأفكار (ص٢٥٢).
(١٣٣) أي يقعد بهم عن الجد إلخ.
(١٣٤) كتب الجيش أو الخيل: جعلها كتائب.
(١٣٥) في مفتاح الأفكار وغيره: «في الصيت».
(١٣٦) الرجلة بالضم: أن يشكو رجله وقد رجل كفرح أصابه في رجله ما يكره.
(١٣٧) لواذًا: مراوغة أي مستحقين يستتر بعضهم ببعض.
(١٣٨) العقوة: ما حول الدار أو ساحته.
(١٣٩) سامطين: معلقين.
(١٤٠) الزيادة عن مفتاح الأفكار وغيره.
(١٤١) برذونًا وثيجًا: كثير اللحم.
(١٤٢) كذا في صبح الأعشى (ج١٠ ص٢٢٦) ولعل فيه تحريفًا صوابه: قوة تصلك ومدد يأتيك.
(١٤٣) أي ذهب وغاب.
(١٤٤) الحسك: أسلاك كالشوك تعمل من الحديد تلقى حول المعسكر لتنشب في رجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين له، وهي المعروفة الآن: «بالأسلاك الشائكة».
(١٤٥) متشزنًا: متجهزًا.
(١٤٦) الأكساء: الآبار، واحدها كسء.
(١٤٧) ترهق عدوك: تغشاه.
(١٤٨) الشريان بفتح الشين وكسرها: شجر من عضاه الجبال تعمل منه القسي.
(١٤٩) هذه الرسالة من مقدمة ابن خلدون (ص٢٠٦ طبعة بلاق).
(١٥٠) أضفاه: أتمه.
(١٥١) نبا: تجافي وتباعد.
(١٥٢) هذه الرسالة من كتاب «اختيار المنظوم والمنثور» لابن طيفور المحفوظ بدار الكتب المصرية بحث رقم (٥٨١ أدب) ومراجعة على نسخة أخرى منه محفوظة برقم (١٨٦٠ أدب).
(١٥٣) وردت هذه الجملة في رسائل البلغاء هكذا: «على حين انطمست له الأعلام …» بزيادة «له» وليس لها محل من السياق فلعلها من زيادات النساخ.
(١٥٤) أسدف الكفر: أظلم وعم النواحي والأرجاء كالليل.
(١٥٥) اقمطر: اشتد.
(١٥٦) الغياية، ما أظل الإنسان من فوق كالسحابة والغبرة ونحوهما.
(١٥٧) في رسائل البلغاء وإعلان بالنون بدل القاف، وهو تحريف.
(١٥٨) آصار: جمع إصر وهو الثقل. وفي رسائل البلغاء واختيار المنظوم والمنثور لابن طيفور «أواصر» بدل آصار، وهو تحريف.
(١٥٩) في رسائل البلغاء واختيار المنظوم والمنثور لابن طيفور «أسبابه» وهو تحريف.
(١٦٠) اجتالهم: حولهم عن طريق قصدهم ويحتمل أن يكون: واحتبالهم، والاحتبال: الاصطياد.
(١٦١) آذنه الأمر وبه: أعلمه.
(١٦٢) هذه الرسالة من كتاب «اختيار المنظوم والمنثور» لابن طيفور.
(١٦٣) في الأصل: «يلف».
(١٦٤) في الأصل: «الفانا».
(١٦٥) كذا في الأصل ولعلها محرفة عن الحبالة.
(١٦٦) القدورة: القدرة، وفي الأصل «المقدورة».
(١٦٧) الفراهة: النشاط في السير.
(١٦٨) الشهرية: البراذين.
(١٦٩) في الأصل: هكذا «مسا».
(١٧٠) في الأصل: «متسعات».
(١٧١) في الأصل: «تقتصر».
(١٧٢) في الأصل: «ويحيى».
(١٧٣) الأشبة: الملتفة الشجر. وفي الأصل «آسنة».
(١٧٤) الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سود، وفي الأصل «حر».
(١٧٥) الجونة: السوداء، وفي الأصل هكذا: «حومة».
(١٧٦) رعلة: جماعة متفرقة.
(١٧٧) في الأصل: «يفح».
(١٧٨) الخمر: الشجر.
(١٧٩) النضيح: العرق.
(١٨٠) في الأصل: «قلب».
(١٨١) الجأب: الغليظ من حمر الوحش.
(١٨٢) في الأصل: «مسيسا».
(١٨٣) التقربب: ضرب من العدو.
(١٨٤) العانة: القطيع من حمر الوحش.
(١٨٥) الأحفار جمع حفر وهو التراب المخرج من المحفور.
(١٨٦) الدكادك: جمع دكدك ودكداك وهو أرض فيها غلظ.
(١٨٧) الخناذيذ: جمع خنذيذ وهو رأس الجبل المشرف، والذي يتفق والسباق «أخاديد»، وهي جمع أخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤