الفصل الرابع

ولاية العهد

(١) نظام ولاية العهد وابن خلدون

قال ابن خلدون في مقدمته: «إن معاوية عهد إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه.» ثم زاد هذا توضيحًا في مكان آخر من مقدمته فقال: «إن الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء.»

لسنا هنا في موقف الراغب في تحليل أقوال مؤرخنا الكبير، وهل أصاب محجة الصواب في تعليله ما دفع معاوية إلى عقد البيعة ليزيد، ولكنا صدرنا هذا الباب بكلمة ابن خلدون لنصور سر قبول العرب، لأول عهدهم، نظام ولاية العهد عامة، والوراثي خاصة، وما قبولهم إياه إلا لأن شوكة يزيد يومئذ مستمدة من عصابة بني أمية كلها، وجمهور أهل الحل والعقد من قريش، وبذلك تستتبع عصبية مُضر أجمع، وعصبيتهم أعظم من كل شوكة؛ إذ لا تطاق مقاومتهم، ومن هنا أقصى العرب عن يزيد، وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه. ولعل هذا يكشف عن سبب فشل الحسين بن علي وابن الزبير في مطالبتهما بالخلافة كما بيَّن ذلك ابن خلدون مما لا حاجة بنا للتعرض له الآن.

على أن التاريخ يقنعنا أن نظام ولاية العهد لم تقبله العقلية العربية بسهولة، مع اعتقادنا صحة ما ذهب إليه ابن خلدون من سبب انتصرت به فكرة ولاية العهد، وهو اعتمادها على العصبية، وربما جاز لنا أن نعزو سقوطها من بعض النواحي إلى هذه العصبية أيضًا مما لا نعرض له هنا الآن.

أجل، يخبرنا التاريخ بتلك الأدوار العِدَّة التي مرت بها مسألة البيعة ليزيد، وأن السياسة نهضت بنصيب غير قليل في سبيل تذليل الصعوبات التي قامت بادئ ذي بدء دون أن تجعل البيعة ليزيد سهلة ميسورة تؤتي ثمرها بغير عناء كبير.

يخبرنا التاريخ بما فعله المغيرة بن شعبة وغيرُ المغيرة بن شعبة، وإيفادهم الوفود إلى معاوية، ويخبرنا بمبلغ ما أنفق معاوية من المال وما أبداه من احتمال وحزم، وما بذله ابنه يزيد من شدة وعسف، وكل هذه العوامل تستدعي دراسة دقيقة لا نعرض لها لأنها لا تعنينا في هذه المقدمة كثيرًا.

نريد أن نقول شيئًا واحدًا ميسورًا فهمه؛ ذلك أن نظام ولاية العهد — الذي ربما كان ضروريًّا لا مندوحة عنه في أول عهد الدولة لما بيَّنه لنا ابن خلدون — كان في نفسه سببًا يعتد به من أسباب سقوط الدولة الأموية، أو على أقل تقدير كان لنظام ولاية العهد أخيرًا أثره الكبير في ضعف سلطان بني أمية وذهاب ريحهم.

(٢) خطر نظام ولاية العهد وأثر البطانات

لننظر نظرة عجلى في تاريخ هذا النظام لنقنع بما وصلت إليه بحوثنا، فنرى مثلًا أن مروان بن الحكم جعل ولاية العهد من بعده لابنه عبد الملك بن مروان، ثم من بعده لابنه عبد العزيز بن مروان، ومهما يكن الباعث لمروان على أن يجعل ولاية العهد لولدين من أولاده، فإن جُلَّ خلفاء بني أمية من بعده اتخذوا صنيعه سنة متبعة. سنرى في كلامنا عن العصر العباسي إلى أي مدًى كان خطر هذا النظام على حياة الدولة، أو على الأقل مبلغ ما فيه من ضعف لها، وإيذان باضمحلالها، واضطراب لحبلها.

لم يكن هذا النظام شرًّا مستطيرًا وعاملًا كبيرًا من عوامل الضعف؛ إلاَّ لما يستلزمه من نكث العهد، ثم من انشقاق البيت المالك على نفسه، وترك المجال واسعًا لوشايات تسعى بها بطانات السوء ممن نرجو أن نصوِّر مثَلهم ومثَل صنيعهم السيئ ومثَل خطرهم على الدولة، حين نعرض للكلام عن عصر المأمون وما شجر بين الأخوين من خلاف، أو ما أذكته البطانة بينهما من خلاف — هذه البطانة ترقب دائمًا انشقاق البيت المالك، أو ما هو مُركَّب في الطبيعة البشرية وولاة العهد من ترقُّب لتسلُّم مقاليد الأمور، وتعجل للذة الحكم والسلطان، فتستغله لتقضي مآربها، وتستمتع بأطماعها، وسرعان ما تجد الفرصة سانحة لها، ومواتية لأطماعها إذا صار الأمر إلى ولي العهد الأول الذي حاول ما هو طبعي من خلْع من أُشرك معه في ولاية العهد؛ إما كراهية له، أو إيثارًا لغيره عليه ممن هم أمسُّ منه رحمًا، وأقرب مودة.

نعم، قد يجد ولي العهد كثيرين من الناصحين الذين يستنكرون الخلع، بيد أنه لا يعدم أيضًا كثيرين ممن هواهم مع غير هذا الذي يراد خلعه يُزيِّنون له ما يحاول، حتى إذا صار الأمر إلى مَن أريد خلعه كافأ كلًّا من الفريقين بما يستحق — وكان أحيانًا يُفتَك بكثير من ذوي البلاء الحسن في تشييد الملك؛ وهذا الفتك على ما فيه من خسارة قوم من ذوي الرأي والتجارب قد كان يبذر في قلوب أنصارهم وعشائرهم بذور الحقد وحب الانتقام — وبذلك صار بنو أمية يفقدون العشائر عشيرة بعد عشيرة، وأخذ ظلُّ سلطانهم على النفوس ينحسر شيئًا فشيئًا، حتى إذا قام لهم منافس عظيم لم يجدوا لديهم من القوة والكفايات والأنصار ما يستطيعون به التغلب عليه.

قد تطلب إليَّ توضيح ما قدمته لك من المقدمات من حوادث التاريخ؛ لأنك تعتبر الوشائج والصلات التي بين ما نحن بصدده وبين عصرنا المأموني قوية من حيث ما وقع فيه الرشيد وغيره من خطأ في نظام ولاية العهد، وقد تطلب مني أن أمر مسرعًا بجسام الحوادث التي لها آثارها ونتائجها، وأن أكون مجملًا لا مفصلًا، وموجزًا لا مُسهبًا.

على أنني سأترك الأدلة التي أفعم به الطبري وابن الأثير كل سنة من سنيهما تُحدِّث وحدها بصدق ما ذهبت إليه، وأسمح لنفسي بأن أتساءل مليَّا: ماذا فعل عبد الملك لما وصل الحكم إلى يده؟ لقد حاول ما هو طبعي من عزل أخيه عبد العزيز وتحويل عهده إلى الوليد، ولولا وفاة عبد العزيز لوقعت الأزمة، وشجر الخلاف، وعمد كلٌّ إلى سلاحه وحزبه.

ثم ماذا فعل عبد الملك؟ لقد ولَّى الوليد وسليمان، فحاول الوليد ما هو طبعي من عزل سليمان وتولية ابنه لولا أن عاجله القضاء.

ثم ماذا فعل سليمان؟ لقد ولَّى عهده عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك.

ثم ماذا فعل عمرُ بن عبد العزيز، وماذا فعل يزيد، وماذا فعل هشام؟ إن التاريخ وختام عهد كلٍّ ليؤيدان، بقوة ووضوح ليس بعدهما من مزيد، صحة ما ذهبنا إليه مما يبيح لنا أن نختصر الحوادث والأدلة اختصارًا.

على أنه قد يطلب منا إثبات تلك الحال المؤلمة التي تنتج عن المبايعة لاثنين بولاية العهد، ومبلغ خسارة الدولة من رجالها المعدودين وأقطابها النادرين في هذا السبيل؛ سبيل اصطدام صاحبي ولاية العهد. وسنجمل ذلك إجمالًا يستدعيه مقامنا.

إنه من الميسور أن يقرأ القارئ أن ولاية العهد كتبت لهشام ثم للوليد من بعده مثلًا، وربما فاته أن لكلٍّ حزبًا يناصره، وبطانة تنشر دعوته، وربما تطرفت في منهجها السياسي تطرفًا يؤكد العداوة في القلوب، ويستثير السخائم في النفوس، ولماذا نذهب بعيدًا وأمامنا ما وقع بين هشام والوليد، فإنَّ هشامًا مات قبل أن يكلل بالنجاح مسعاه، فسرعان ما نمَّت أقوال الوليد عن شديد مقته لهشام؛ فقال مثلًا:

هلك الأحوال المشو
م وقد أُرسل المطر
وملَكنا من بعد ذا
ك فقد أورق الشجر
فاشكر الله إنه
زائد كلَّ من شكر

ولم يكتف الوليد بالقول دون الفعل، بل اندفع — فيما يخبرنا المؤرخون — مع تيار بطانته ومشايعيه، وشمر عن ساعد الانتقام ممَّن ناصر عمه هشامًا، مثل محمد وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل؛ حيث عذبهما يوسف بن محمد الثقفي، والي المدينة، ويوسف بن عمر، حاكم العراق، حتى ماتا.

ولم يكتف الوليد بن يزيد بذلك، بل قبض على سليمان بن هشام فضربه مائة سوط ومثَّل به؛ إذ حلق رأسه ولحيته، كما حبس يزيد بن هشام والكثيرين من البيت المالك.

لم يكتف الوليد بن يزيد، بل أحرج خالدًا القسري، وهو من زعماء اليمن ورؤسائها، بأن يبايع لابنه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده، فلما أبى عليه ذلك بعث به إلى والي العراق يوسف بن عمر الثقفي، فنزع ثيابه وعذبه عذابًا مبرحًا، وهو يحتمل ذلك كله بصمت وإباء، ثم حمله إلى الكوفة إلى من أنزلوا به كل لون من ألوان العذاب حتى مات، وما مات إلا بثمن باهظ دفعه الوليد؛ ذلك أنه كتب على نفسه عداوة قضاعة واليمن، وجل جند الشام من قضاعة واليمن، وهم هم الذين مثلوا دورهم الخطير أخيرًا مع الوليد؛ إذ بايعوا يزيد وثاروا معه، فكانت خاتمة الوليد ما قد علمناه من احتمائه بقصره وتقحُّمهم عليه داره، وفعلهم به ما أصاب عثمان من مأساة؛ إذ حزوا رأسه وهو يتلو القرآن ثم نصبوه على رمح وطيف به في دمشق.

على أنا نفترض المبالغة فيما ينسبه الرواة إلى هذا الخليفة المغلوب على أمره، ولكنا نؤمن مع ذلك إيمانًا صادقًا بالنتائج السيئة لنظام ولاية العهد الثنائي أو الثلاثي.

وإنا نظن أن فيما قدمناه لك غنية وكفاية، وإن أردت منا مزيدًا فانظر ما نال به سليمان قادة الدولة أمثال: محمد بن القاسم بن محمد الثقفي، وقتيبة بن مسلم الباهلي، وموسى بن نصير، وما كان يعدُّ للحجاج وغيره ممن قل أن يجتمع أمثالهم في عصر واحد. وإنا نحيل القارئ إلى ابن الأثير ليقدر معنا الأسس التي بنينا عليها رأينا فيهم، وليقف بنفسه على كبريات فتوحهم وجسام أعمالهم التي كانت غرة في جبين عصرهم، بل في جبين تاريخ الدولة الأموية.

وبعد، أفليس من العدل أن يستنبط القارئ معنا ما يصيب الدولة من المنازعات والشقاق، ومن الضعف والإفلاس السياسي من جراء ذلك النظام الممقوت، نظام ولاية العهد على هذا النحو في غير قانون ولا سنة، وأن يَعُدَّه معنا سببًا لا يستهان به من أسباب سقوط البيت الأموي.

(٣) العصبية العربية

الذي يهمنا الآن هو أن نوجِّه النظر إلى تأثير نظام ولاية العهد في صورته التي صورناها لك من حيث مساسه بالعصبية العربية التي كانت، كما تعلم، عنيفة محتدمة بين المضرية واليمنية، وأنت تعلم أن الخلفاء من بني أمية كانوا يصهرون إلى قبائل مضر كما كانوا يصهرون إلى قبائل اليمن، فكانت هذه القبائل تَجدُّ في تأييد الأمير الذي يتصل بها نسبه. وهذه الفكرة نفسها تعيننا على أن نفهم، بنوع خاص، موقف العرب أيام يزيد بن معاوية، كما أنها تعيننا على أن نفهم ما ثار حول هشام والوليد بن يزيد من الخصومات التي قدمنا لك طرفًا منها، ولم يكد ينتهي الأمر إلى مروان بن محمد حتى كانت الخصومة بين المضرية واليمنية قد انتهت إلى أقصاها، بحيث عجز هذان الفريقان من العرب عن أن يكونا وحدة قوية تثبت للطوارئ، فلم يظهر أمر الموالي حتى كان العرب مفترقين متخاذلين، لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعًا، وسنتكلم على العصبية وآثارها ببسطة في القول أكثر مما تكلمنا هنا في موضعها الطبيعي من الكتاب الثاني.

ولما كانت الدولة العباسية قد قامت بالموالي وبأسنتهم، ومحاولتهم الانتقام لأنفسهم وكرامتهم من بني أمية الذين ساموهم سوء العذاب، وساسوهم شر سياسة، فإنا نرجئ كلامنا عن هذا العنصر القوي من أسباب اعتلاء الدولة الأموية سلطان الحكم وأسباب سقوطها إلى موضعه الطبيعي من تنظيم كتابنا، وحين ذاك يحق لنا أن نبين تحول العصبية العربية إلى تلك النواحي الشائكة الوعرة التي قضت على الدولة الأموية، وأقامت دولة بني العباس، والتي أدالت منها هي أيضًا، وحين ذاك أيضًا يحق لنا أن ندرس نظر العربي إلى غير العربي في العصر الأموي وفي غير العصر الأموي، مما كانت له نتائجه الخطيرة في حياة العرب، وفي تحول مدنيات العرب.

فلنتريث إذن، وخير لنا وللتاريخ أن يكون موضع هذا الباب في كلامنا على الدولة العباسية، وخير لنا أيضًا أن ننتقل الآن إلى تصوير الحياة الأدبية من نثر وشعر وخطابة، وإلى تصوير الحياة العلمية بضروبها لذلك العصر الأموي الذي كان بحق نواة طيبة للعصر العباسي، مُتوخِّين في ذلك الإيجاز والإجمال، ولعلنا نوفق إلى حسن الإصابة فيما نريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤