الفصل السابع

الهادي

قال محمد بن علي بن طباطبا في كتاب «الآداب السلطانية»: كان الهادي متيقظًا غيورًا كريمًا، شديد البطش، جريء القلب، مجتمع الحس، ذا إقدام وعزم وحزم.

ونحن نخشى أن يكون في هذا الثناء إسراف كثير، فلم يطل عهد الهادي بالخلافة ليمكن الحكم له أو عليه، وإنما مر بها مرور الطيف.

ومع ذلك فقد أكثر المؤرخون من التحدث عنه بالخير، وليس يستوقفنا من سيرته كلها إلا ثلاثة أمور:

الأول: ما ذكره عنه عبد الله بن عبد الملك قال: كنت أتولَّى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومُغنيه، ويأمرني بضربهم، وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي، قال: فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إليَّ يومًا، فدخلت عليه متكفنًا متحنطًا، وإذا هو على كرسي والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلَّم الله على الآخر! تذكُرُ يوم بعثت إليك في أمر الحراني وما أمَر أمير المؤمنين به من ضرْبه وحبْسه فلم تُجبني؟ وفي فلان وفلان — وجعل يُعدِّد نُدماءه — فلم تلتفت إلى قولي ولا أمري؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتُك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرُّك أنك وليتني ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر فبعث إليَّ بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني فقبَّلت يديه، فأمر بخِلَع فصُبَّت عليَّ، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدًا. فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره، وقلت: حدَثٌ يشرب والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه فيَّ وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوَّف، قال: فإني لجالس وبين يدي بنية لي في وقتي ذلك، وكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأُسخِّنه وأضعه للصبية، وإذا ضجة عظيمة حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت، فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما رأيته وثبتُ عن مجلسي مبادرًا، فقبَّلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك فقلت: يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأُونِسك وأُعلِمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، فأفعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أني قد تحرَّمتُ بطعامك، وأَنِسْت بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك. فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسكرجة التي فيها الكامخ فأكل منها، ثم قال: هاتوا الزُّلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي، فأدخلت إليَّ أربعمائة بغلة موقرة دراهم، وقال: هذه زلَّتك فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال عندك لعلِّي أحتاج إليها يومًا لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعًا. ونحن وإن كنا نفترض في هذه الرواية وأمثالها المبالغة، نرى أنها تدل في جملتها على بصر بالسياسة، وفطنة في العلم بالناس، والانتفاع بكفاياتهم.

الأمر الثاني: وقوفه موقف حزم نعتقد أنه أنقذ القصر العباسي من شر عظيم أفسد على ملوك الفرس قصورهم، كما أفسد على العباسيين أنفسهم أمور الخلافة بعد عصر المأمون؛ ذلك هو تدخل النساء في أمور الدولة.

فقد ذكر الطبري أن الخيزران والدة الهادي كانت في أول خلافته تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفَر الكفاية إلى بذاذة التبذُّل؛ فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتُّلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرًا ما تُكلِّمه في الحاجات، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، فقال: فكلمته يومًا في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلًا، فاعتلَّ بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، قال: فغضب موسى وقال: ويل على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها له، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدًا، قال: إذن والله لا أبالي. وحمي وغضب، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي، والله — وإلَّا فأنا نفيٌّ من قرابتي من رسول الله — لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوَّادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك! ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يُذكِّرك، أو بيت يصونك؟! إياك ثم إياك ما فتحت بابك لمليٍّ أو لذميٍّ. فانصرفت ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مُرَّة بعدها.

ولم يكتف الهادي بكلامه معها، بل جمع قواده يومًا وقال لهم: أيُّما خير أنا أم أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قال: فأيُّما خير أمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيُّكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقولوا فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشقَّ ذلك عليها فاعتزلته وحلفت لا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.

وقد قالوا: إن الهادي حاول سمَّها فلم يُفلِح، على أن الخيزران أفلحت في القضاء عليه حين مرض؛ فقد ذكروا أنها دسَّت إليه من جواريها من قتلته بالجلوس على وجهه.

لننتقل الآن إلى الأمر الثالث، وهو محاولته الغدر بأخيه الرشيد، ولننظر في حوادث سنة سبعين ومائة؛ لنرى كيف أخلص آل برمك للرشيد، فقد همَّ الهادي بتحويل الخلافة عنه لابنه جعفر، ولكن يحيى بن خالد ثبت في المحافظة على ولاية هارون، محتملًا في ذلك كل مكروه، وكان لبطانة الهادي أثر سيئ في تشجيعه على خلع الرشيد ومبايعة جعفر، وكان فيمن بايعه يزيد بن مزيد، وعبد الله بن مالك، وعلي بن عيسى ومن أشبههم من أصحاب الأغراض.

ولم تزد الحوادث يحيى بن خالد إلا حرصًا على حق الرشيد، فصار يُعلله ويُسري عنه، ولولاه لخلع الرشيد نفسه بعد أن تنقصوه في مجلس الجماعة وقالوا: لا نرضى به، وصعُب أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألَّا يُسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس.

أما الأخبار عن كرمه فكثيرة؛ فمن ذلك ما رواه الطبري في حوادث سنة سبعين ومائة، أنه أمر ذات ليلة بثلاثين ألف دينار لعيسى بن دأبٍ أحد جلاسه، وكان — كما وصفه الطبري — لذيذ الفكاهة، طيب المسامرة، كثير النادرة.

ويقول علي بن صالح: إنه كان يومًا على رأس الهادي وهو غلام، وقد كان جفا المظالم عامَّةً ثلاثة أيام، فدخل عليه الحراني فقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إلي وقال: يا علي، ائذن للناس عليَّ بالجَفَلَى لا بالنَّقَرى. فخرجت من عنده أطير على وجهي، ثم وقفت فلم أدر ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي؟! ثم أدركني ذهني، فبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجَفلَي والنَّقرَي، فقال: الجفلي جفالة، والنَّقري بنقر خواصهم، فأمرتُ بالستور فرُفعتْ، وبالأبواب ففُتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم، فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس مثلثُ بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئًا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا ففسر لي الكلام، فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم، مائة ألف درهم تُحمل إليه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي؛ أجود وتبخل!

•••

وكان الهادي شديد الغيرة، ظاهر الشهامة. وهاك حديثًا لا يخلو من الأدب والفكاهة حدَّث به السندي بن شاهك قال: كنت مع موسى بجرجان فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد ومعه سعيد بن سلم، ووجَّهني إلى خراسان، فحدثني سعيد بن سلم قال: سرنا بين أبيات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتًا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنَّى، فقال لصاحب شرطته: عليَّ بالرجل الساعة، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنَّى، فدعا صاحب شرطته فقال: عليَّ بصاحب الصوت، فأتى به، فلما مثَل بين يديه قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما علمت أن الرِّمَاك١ إذا سمعت صوت الفحل حنَّت إليه؟ يا غلام، جُبَّه، فجُبَّ الرجل، فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المتنزه فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: عليَّ بالرجل الذي كنا جببناه فأحضره، فلما مثَل بين يديه قال له: إما بعتَ فوفيناك، وإما وهبتَ فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة ولكنه قال له: يا سليمان، الله الله، إنك قطعت نسلي فذهبتَ بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله! قال: فقال موسى: يا غلام، رُدَّ صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تَعرِض للرجل.

•••

وأما حبه للنجدة فيحدثنا به عمر بن شبة؛ إذ ذكر أن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يلقب بالجزري، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياكَ النساء إلا امرأة أمير المؤمنين! فقال: ما حرَّم الله على خلقه إلا نساء جدي ، فأما غيرُهن فلا ولا كرامة. فشجَّه بمِخْصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوطٍ فضُرب، وأراده أن يُطلِّقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فأُلقي ناحية، وكان في يده خاتم سري، فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقَّها، فصاح وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي مع استخفافه بأبي وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسَله ومُرْه أن يضع يده على رأسك وليصدُقك. ففعل ذلك موسى فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله! أنا أشهد أنه ابنُ عمي، لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه.

•••

وقد كان الهادي مثل أبيه محبًّا للآداب مُشجعًا للشعراء، وكان على سنته في بغض الزنادقة ومقتهم، مُوفَّقًا في اختيار الوزراء، مصابًا كأبيه ببطانة سوء، همُّها الوقيعة والوشاية وإغراء الخليفة والبيت المالك باجتراح المآثم واقتراف المظالم.

قال الطبري: إن عبد الله بن محمد المنقري حَدَّثَ عن أبيه قال: دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ،٢ فوجده خائفًا يلتمس عذرًا مِن قتْل من قتَل، فقال له: أصلح الله الأمير، أنشدك شعرًا كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنه، قال: أنشدني، فأنشده:
يا أيها الراكب الغادي لطيته
على عُذافرةٍ٣ في سيرها قَحَم
أبلغ قريشًا على شحْط المزار بها
بيني وبين حسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده
عهد الإله وما تُرعَى له الذمم
عنفتُمُ قومكم فخرًا بأمكم
أم حَصانٌ لعمري برَّة كرم
هي التي لا يُداني فضلها أحد
بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم
من قومكم لهم من فضلها قِسَم
إني لأعلم أو ظنًّا كعالمه
والظنُّ يصدق أحيانًا فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها
قتلى تهاداكم العقبان والرخَم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت
ومسِّكوا بحبال السِّلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغى مَصرعةٌ
وإن شارِب كأس البغي يتَّخم
قد جرَّب الحرب مَن قد كان قبلكم
من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخًا
فرُبَّ ذي بذخ زلَّت به القدم

قال: فسُرِّي عن موسى بن عيسى بعضُ ما كان فيه.

وإذا لم يكن بد من اختصار حياة الهادي في كلمة جامعة فلنقل: إنه ورث عن أبيه المهدي كرمه وغيرته وحبه للأدب، وورث عن جده المنصور حزمه وشيئًا من ميله إلى الغدر.

هوامش

(١) الرماك: جمع رمكة — بفتحتين — وهي الأنثى من البراذين.
(٢) فخ — بفتح أوله وتشديد ثانيه: وادي الزاهر. ويوم فخ كان أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج يدعو إلى نفسه في ذي القعدة سنة ١٦٩ﻫ، وبايعه جماعة من العلويين بالخلافة في المدينة، وخرج إلى مكة، فلما كان بفخ لقيته جيوش بني العباس وعليهم العباس بن محمد بن عبد الله بن عباس وغيره، فالتقوا يوم التروية سنة ١٦٩ﻫ، فقتلوا جماعة من عسكره وأهل بيته، ولم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجع من فخ. وفيه دفن عبد الله بن عمر ونفر من الصحابة الكرام. ا.ﻫ. ملخصًا من ياقوت، مادة «فخ».
(٣) العذافرة: الناقة الشديدة الأمينة الوثيقة الظهيرة. انظر: لسان العرب، مادة «عذفر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤