الفصل الأول

محمد الأمين

(١) توطئة

في التاريخ الأموي مأساة مروعة، وهي أن جند الوليد بن يزيد عبد الملك قتلوا خليفتهم وحزُّوا رأسه، وذهبوا به إلى يزيد فنصبه على رمح وطِيف به في دمشق!

كانت تلك المأساة المروعة نتيجة دعوة سياسية حادة على الخليفة الوليد الذي تُشبه حالته السياسية من جلِّ وجوهها حالة الأمين، فقد كان من ضحايا نظام ولاية العهد الثنائي؛ ذلك بأن والده يزيد بن عبد الملك أراد أن يجعله خليفة بعده، فاضطر إلى تولية أخيه هشام، ثم ابنه الصغير الوليد بعد هشام.

فحاول هشام أن يولي ابنه مسلمة بدل الوليد، كما حاول يزيد من قبل تولية ابنه الوليد، فلم يفلح هذا ولا ذاك، وكانت النتيجة المعقولة لخطتهما السياسية من محاولة كليهما خلع ولي العهد والبيعة لولده، أن انضم إلى كلٍّ بعض القواد والزعماء والأنصار تأييدًا له فيما يريد.

وكان هؤلاء القواد والزعماء والأنصار يصبحون موضع المقت والاضطهاد من ولي العهد المضطهد متى ولي الخلافة وصار الأمر إليه، فإذا ما اضطُهد الخليفة نفسه وحبطت خطته كان نصيب سيرته من الرواة نصيب الوليد بن يزيد، وهو نصيب محمد الأمين.

نريد أن نقول إرضاءً للعلم والتاريخ والمنطق أن الرواة إذا قالوا مثلًا: إن الوليد كان كافرًا أو كان مجموعة قبائح، أو أنه سلَّم يوسف الثقفي كلًّا من محمد وإبراهيم ابني إسماعيل المخزومي مُوثقين في عباءتين، وأن يوسف أقامهما للناس وجلدهما وعذبهما وأماتهما، أو قالوا: إنه حبس يزيد بن هشام، وفرق بين رَوْح بن الوليد وبين امرأته، أو ذكروا أنه عذب خالد بن عبد الله القسري سيد اليمن، وأنه سلمه للثقفي فنزع ثيابه وعذبه مرَّ العذاب حتى أماته، أو وصفوا منافسه يزيد بالنسك والورع، فإن من واجب المؤرخ المنصف المتحري للحقائق التاريخية، والراغب في النصفة العلمية، والمتمشي في أناة وتروٍّ وحكمة مع الافتراضات التحليلية، والخاضع لأحكام المنطق والحيدة والتعقل، أن ينظر بتحفظ وتحرز كبير إلى مثل تلك الروايات التي يوصف بها الخليفة المضطهد والمغلوب على أمره، وكل من انثلَّ عرشه وضاع ملكه، وختمت بالقتل أو الحرمان حياته.

على أنه يجدر بنا أن نتساءل قبل أن نقتحم موضوعنا في هدوء وسكون: ما هو الروح الذي يغلب على الرواة المعاصرين، والشعراء المعاصرين، والكتاب المعاصرين والمُحدِّثين المعاصرين؟ وما النهج الذي تسلكه الصحافة المعاصرة؟ أليس هو إلى حد غير قليل مُناصرة الحزب القوي أو الزعيم القوي مناصرة حارة قوية حادة، وقد لا تخلو من مبالغة في تمدُّحها بمحاسنه، وإغراق في زرايتها على خصمه بنقائصه.

فمهمة المؤرخ إذن — حين يعرض لحياة خليفة مضطهَدٍ انتهت حياته بحزِّ رأسه، مثل حياة الوليد بن يزيد الأموي، ومحمد الأمين العباسي، وحين يعرض لتحليل حياة خليفة منتصر، مثل حياة يزيد خصم الوليد في العصر الأموي، وحياة عبد الله المأمون خصم محمد الأمين في العصر العباسي — ليست ميسورة مُعبَّدة؛ بل هي جد شائكة.

وقد يكون من الحصافة والنصفة العلمية أن يُعرض ما يرويه الرواة المعاصرون من مدح للغالب وانتقاص للمغلوب على بساط البحث التحليلي، ولسنا نرمى بذلك إلى أن تُرفض مقولاتهم، وتُنتقص — بلا حق — وجاهة رواياتهم، وإنما نوصي بالحيطة والاحتراس لا أكثر ولا أقل.

(٢) مولده

بعد هذه التوطئة الوجيزة التي لم نر نُدْحة عن إثباتها في هذا الموضع، نبدأ كلمتنا عن محمد الأمين من الناحية التحليلية لأخلاقه، أما ناحية النزاع الذي شجر بينه وبين أخيه المأمون، فلها موضعها التاريخي من كتابنا.

هو محمد الأمين بن هارون الرشيد، ولد سنة سبعين ومائة هجرية، وهي السنة التي استُخلف فيها والده الرشيد، وكان مولده بعد مولد أخيه عبد الله المأمون بستة أشهر، وولد المأمون في الليلة التي استُخلف فيها والده.

وأم الأمين أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور؛ فهو هاشمي الأب والأم، وقيل: إن ذلك لم يتفق لخليفة عباسي غيره.

وإذ كان أخواله هاشميين ولهم في الدولة نفوذ قوي وكلمة مسموعة، فقد سعوا، فيما يحدثنا التاريخ، حين مدَّ جماعة من بني العباس أعناقهم إلى الخلافة، إلى أن يكون الأمر إلى ابن أختهم، وقد نجحوا.

سعى خال الأمين عيسى بن جعفر بن المنصور إلى الفضل بن يحيى الذي بعثه الرشيد على رأس جيش إلى خراسان، لمحاربة بعض الخارجين على الخلافة، وتسكين الاضطراب في تلك النواحي، وقد كان التوفيق حليفه في ذلك الوجه، فقال عيسى للفضل: «أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي، فإنه ولدُك وخلافتُه لك»، فوعده الفضل أن يفعل، فلما كان الفضل بخراسان يُدِلُّ بما واتاه فيها من ظهور على الخارجين، وهو بعدُ من آل برمك وزراء الرشيد، وأصحاب السلطان العظيم في الدولة، بايَع لمحمد الأمين هو ومن معه من القواد والجند بعد أن فرق أموالًا عظيمة، وأعطى أعطيات كثيرة، وتغني بذلك شعراء العصر، أمثال أبان بن عبد الحميد اللاحقي والنمري وسلم الخاسر وغيرهم. ولبيان وجهة نظرهم في البيعة نقتطف لك شيئًا مما قاله سلم والنمري؛ قال سلم:

قد وفَّق الله الخليفة إذ بنى
بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده
شهدا عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى
لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر

وقال النمري:

أمسَت بمرو على التوفيق قد صفَقتْ
على يد الفضل أيدي العُجم والعرب
ببيعة لولي العهد أحكمها
بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
قد وكَّد الفضل عقدًا لا انتقاض له
لمصطفى من بني العباس منتخب

فلما تناهى أمر البيعة إلى الرشيد ووجد نفسه أمام «الأمر الواقع»؛ إذ قد بايع لمحمد أهل المشرق، بايع له بولاية العهد، وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار.

ومن هذا تعلم ما يصح أن يعتبر سرًّا في أن الأمين كان ولي عهد الرشيد دون أن يكون أكبر ولده سنًّا.

(٣) نشأته وأخلاقه

تقرأ ما سطره أمثال «كارليل» عن «كرومول» و«فردريك الأكبر»، وما كتبه «ترڤيان» عن «ماكولي» و«بُزْول» عن «جونسون» و«اللورد مورلي» عن «جلادستون»، وغيرهم من الكُتَّاب الذين يعرضون لكتابة تاريخ حياة الملوك أو الساسة أو العبقريين، فتلاحظ في جل كتبهم، وفي الدقيق المستوفَى منها على الأخص، أنهم يحفلون أيَّما احتفالٍ، بقيد ملاحظاتهم عن تاريخ بطلهم في طفولته، وكيف كانت ثقافته في ميعة شبابه وطراوة إهابه، وما هي الأوابد والغرائب أيام كان حدثًا صغيرًا.

وقد لا تدهشك متانة «ماكولي» وقوة سبكه وارتفاعه إلى ذروة البلاغة في أساليبه، ولا يهولك كثرة ما حفظ ووفرة ما اطَّلع، إذا علمتَ، مثلًا، أنه وهو لم يعدُ السادسة أو السابعة كانت محفوظاته في طفولته تبشر بعبقريته في رجوليته، وكذلك يقال عن «شارلس دكنز» وسيع الاطلاع في صباه على جلِّ ما سُطِّر وكُتب، حتى صار في مقتبل حياته وقد ملك ناصية البلاغة، وتسنَّم الذروة في تعرُّف النفسيات وتحليل روح الطبقات كافة من بائسين مُعوِزين إلى أشراف مُترفين، وكذلك يقال عن «سپنسر» الفيلسوف العظيم والمربي النابه الذي كان يحفل في مبدأ نشأته، وهو لم يعدُ العاشرة مثلًا، بالدويبات وغريب الهوام التي كانت على شاطئ النهر، فعكف على دراستها، فتولدت في نفسه صفات الجلد والأناة والمواظبة حتى أصبحنا نراه وهو في شيخوخته يُخرج للناسِ المعجزَ المطربَ في علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم التربية، وهكذا مما لا حد له ولا حصر.

كذلك يقال عن «جونسون» في صباه، وكيف كان يغالب المرض والمرض يغالبه، وكيف كانت أحاديثه في مطامعه، وكيف كان سحر بيانه وتدفقه في مجالسه، وكيف كان أبيًّا عيوفًا مُترفِّعًا أنوفًا، فرفض في شمم وإباء حذاءً جديدًا اشتراه له من لاحَظ تخرُّق حذائه وقِصَر يده عن جديد … إلى آخر ما يقيده كتاب العصر عن نشأة أبطالهم، ممَّا نُمسك القلم عن الاسترسال في إثبات شبيهه ومثيله، مما يُفيد في تعرُّف أحوالهم، ويساعد على تفهم حقيقة أمورهم؛ لأن القارئ إذا زامل الزعيم في طفولته وصباه، ووقف على عبثه وجده، وجلده أو تبرمه، وتعلمه أو تعرُّمه، ونشاطه أو خموله، ورزانته أو تبذله، ووقف كذلك على نقائصه وفضائله، وهو حدَثٌ بعدُ، يستطيع أن يفهم فهمًا صحيحًا حكمة تصرفاته في مقتبل حياته، كما يفهم الصديق صديقه والخدن خدنه.

ولنتساءلْ الآن: هل سجَّل لنا التاريخ شيئًا قيمًا عن نشأة الأمين وطفولته؟

أظن أنني لا أعدو الحق كثيرًا إذا قلت: لا؛ إذ قلما يعرض المؤرخون القدماء لشيء من طفولة العظماء ورجال التاريخ.

على أنا قد وقفنا من طفولة الأمين على شذرات ليست بذات غناء كبير، نثبتها لك وندرسها معك؛ فربما ساعدتنا بعض المساعدة على تفهم حداثة الأمين، واستخلاص بعض الحقائق عنه.

يحدثنا البيهقي في «المحاسن والمساوي» بما سنلخصه لك خاصًّا بنشأة الأمين التعلُّمية؛ لتقف على البيئة التي كان فيها الأمين، ولأن روايته — خصوصًا ما جاء عن حُلم زبيدة وفزعها منه، مما رواه المسعودي في «مروجه» أيضًا — قد تجعلنا نعلل بحق أثر الوسط والوراثة في خَلْق ما كان بالأمين من استعداد لحب الاستخارة، مما كانت له نتائجه السيئة، ولأنه يفهمنا بوجه عامٍّ لِمَ كان الأمين فصيحًا أديبًا بليغًا، ولمَ كان عابثًا مستهترًا، ولَمِ كان وادعًا متهيبًا من الدماء، ولأنه يفسر نشأته في ترف الخلافة ونعيمها، ومَرَح الحداثة ونهزِها، والاستمتاع بمال زبيدة والإدلال بهاشميتها.

•••

أنت جِدُّ عالِم أن الرشيد جعل الأمين في حِجْر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر بن يحيى، وأنت جد عالم أن الفضل بن يحيى قال لهشيم بن بشر الواسطي: «ليكن أكثر ما تأخذ به ولي العهد الأمين تعظيم الدماء، فإني أُحب أن يُشرِب الله قلبه الهيبة لها، والعفاف عن سفكها»، وأنت جد عالم بوصية الرشيد للأحمر النحوي بأخذ الأمين بالشدة إن لم تنفع الملاينة في تقويمه، وقد آن لنا أن نترك للأحمر فرصة التكلم، فيروي لك ما كان من أمره مع تلميذه الأمين.

يقول الأحمر: «كنت كثيرًا ما أشدد على الأمين في التأديب، وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب، فشكا ذلك إلى خالصة — ولعلها كانت كبيرة وصيفات أو أمينات القصر الزبيدي — فأتتني برسالة من أم جعفر تعزم عليَّ بالكفِّ عنه، وأن أجعل له وقتًا أُجمُّه فيه لتوديع بدنه، فقلت: الأمير قد عظُم قدره، وبَعُد صوتُه، وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير، ولا يقبل منه الخطل، ولا يُرضى منه بالزلل في المنطق، والجهل بالشرائع، والعمى عن الأمور التي فيها قِوام السلطان وإحكام السياسة، قالت: صدقت، غير أنها والدة لا تملك نفسها، ولا تقدر على كفِّ إشفاقها، ومع حذَرِها أمرٌ إن شئتَ حدَّثتُك به، فقلتُ: وما ذاك؟ قالت: حدثتني السيدة أنها رأت في الليلة التي حملت فيها به كأن ثلاث نسوة دخلن عليها، فقعدت منهن ثنتان، واحدة عن يمينها، وواحدة عن يسارها، فأمرَّتْ إحدى الثلاث يدها على بطنها، ثم قالت: ملكٌ رِبَحْلٌ، عظيم البذل، ثقيل الحمل، سريع الأمر! وقالت الثانية: ملك قصير العمر، سليم الصدر، منهتك الستر! وقالت الثالثة: ملك قَصاف، عظيم الإتلاف، يسير الخلاف، قليل الإنصاف! فانتبهت وأنا فزعة فلم أحس لهنَّ أثرًا، حتى كانت الليلة التي وضعتُه فيها أتينني في الخَلْق الذي رأيتهنَّ فيه، فقَعدْنَ عند رأسه واطَّلعْنَ جميعًا في وجهه، ثم قالت واحدة منهن: شجرة نضرة، وريحانة جنية، وروضة زاهرة، وعين غدقة قليل لبْثُها، عَجِل ذهابها! وقالت الثانية: سفيهٌ غارم، طالب للمغارم، جسور على المخاصم! وقالت الثالثة: احفروا قبره، وشقوا لحده، وقربوا أكفانه، وأعدوا جهازه، فإن موته خير له من حياته! قالت: فبقيتُ متحيرة، وبعثتُ إلى المنجمين والمُعبرين ومن يزجر الطير، فكل يُبشِّرني بطول عمره، ويعدني بقاءه وسعادته، وقلبي يأبى إلا الحذر عليه والتهمة لما رأيت في منامي. وبكَتْ خالصةُ وقالت: يا أحمر، وهل يدفع الإشفاق والحذر والاحتراق واقع القدر، أو يقدر أحد على أن يدفع عن أحبائه الأجل؟ قلتُ: صدقتِ، إن القضاء لا يدفعه شيء.»

ويحدثنا التاريخ أن الرشيد اتخذ فيمن اتخد لتربية الأمين وتعليمه قطربًا النحوي، وكان حماد عجرد يتعشق الأمين، ويطمع أن يتخذه الرشيد عليه مؤدبًا، فلم يتهيأ له ذلك لتهتكه وقبيح ذكره في الناس، وقد كان رام ذلك فلم يُجَب إليه، فلما سمع أن قطربًا قد استوى أمره وأجيب إلى ذلك لستره وعفافه، أخذ حمادًا المقيمُ المقعدُ حسدًا على ما ناله قطرب من ذلك وبلغه من المنزلة الرفيعة والدرجة السنية، فأخذ رقعة وكتب فيها أبياتًا ودفعها إلى بعض الخدم الذين يقومون على رأس الرشيد، وجعل له على ذلك جُعلًا، وسأله أن يُودع الرقعة دواة أمير المؤمنين، ففعل، فما كان بأسرع من أن دعا الرشيد بالدواة، فإذا فيها رقعة فيها هذه الأبيات:

قل للإمام جزاك الله مغفرة
لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
السخل غرٌّ وهمُّ الذيب غفلته
والذيب يعلم ما بالسَّخل من طيب

فلما قرأ الرشيد الرقعة قال: انظُروا ألا يكون هذا المعلم لوطيًّا، أنفوه من الدار؛ فأخرجوه عن تأديب الأمين. قيل: ثم جعل الرشيد على الأمين حراسًا، واتخذ عليه حمادًا وكان عليه رقباء سبعين أو ثمانين.

ربما كان من الحق أن نقول: إن هذه النشأة كانت لها آثارها السيئة، خصوصًا أنَّا نلاحظ أن الأمين تنقصه الدربة السياسية، وأنت تعلم أن الدربة السياسية هي ناحية يُؤبَه لها كثيرًا في تنمية روح الحكم، وتقوية المواهب الإدارية، وتنظيم ملكات السلطان في ولي العهد، خصوصًا ذلك العصر الذي لم تكن فيه وسائل الثقافة الملكية متوافرة توافرها اليوم؛ من سياحة لولي العهد إلى الممالك المتمدينة، ووقوف على مبلغ الحضارة العالمية، كما هي حال ولي عهد إنجلترا ونظرائه مثلًا، مع أن الحاجة إلى الثقافة السياسية في ذلك العصر كانت أشد منها اليوم؛ لأن الملك حين ذاك كان صاحب سلطان فعليٍّ مُطلق غير مقيد بقانون أو دستور إلا ما يرجع إلى دينه وورعه.

نريد أن نقول: إنه إذا كان نَدْب الهادي للرشيد حين ولاه قيادة الجند لحرب الروم، قد أوجد الرشيد في مركز القيادة العامة، وفيها من الشيوخ المحنكين والقادة المدربين والزعماء المنظمين مجموعةٌ صالحة للثقافة السياسية، وفرص تسنح في الفينة بعد الفينة للمرانة السياسية، ولتخريج خليفة مُدرَّب في فنون الملك، وإذا كان المأمون قد نُدب للحكم في خراسان وغير خراسان حتى نكَّبت به ظروف الأحوال عن مفاسد مال الخلافة ونعمة ابن زبيدة ودلال الهاشميين، نريد أن نقول: إنه إذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه هي نتائج الدربة السياسية، فمن الميسور أن نفهم مغبة افتقادها، كما أنه من الميسور أن نستنبط أن عنصرًا هامًّا من عناصر تكوين رجال السياسة والحكم كان ينقص الأمين الذي لم تستطع غاشيته من الخدم، وبطانته من الموالي، وأخواله من الهاشميين، وأساتيذه من المربين أن يحولوا بينه وبين ما تشتهيه نفسه وتهوَى طفولته.

وهل تظن أنهم يستطيعون أن يُكرهوه على أن يأخذ نفسه بحزم في أموره، وبسداد في تصرفه، وقمع لميوله، وتقويم لاعوجاجه، وبما يجعله رجلًا كاملًا، أظن لا، وأظن أنك محق في نفيك هذا عمَّن كان في ظروفه وبيئته.

على أنه من العدل والحق أن نقرر أن الأمين لم يكن بليد الذهن أو ثقيل الظل، بل كان نقيض ذلك على حظٍّ من توقُّد الذهن وفصاحة اللسان، وخفة الروح والظل، وحسبك أن ترى شيئًا مما كان ينضح به في مجالس اللهو والمنادمة من سرعة البديهة، وظرافة النكتة، وحلاوة التندر، ورقة الدعابة، وعذوبة الفكاهة؛ لتؤمن بما نقول.

وكل ما أجمع عليه المؤرخون الفرنجة ﮐ «ميور» وكُتَّاب دائرة المعارف الإسلامية، واتفقت عليه كلمة المؤرخين العرب جميعًا أنه كان مستهترًا مسرفًا، مع خَوَر خُلُقي، وعدم تبصر في العواقب ولا تروٍّ في مهمات الأمور — مما يرجع في الواقع إلى عدم العناية بثقافته السياسية، كما أسلفنا.

وإنا محقون إذا ما قررنا أنه لو وجد الأمين يدًا حكيمة تقسو عليه أحيانًا فتفلُّ من شباة نفسه العابثة المرحة، وتقوِّم اعوجاج خلقه الرخو، وتقوِّي سجاياه المنحلة، وتبعث به إلى الحروب، ليصهر بلظى أُوارها، ويصقل من جلادها وسجالها، ويفيد نفسه من خبرة كُماتها، ودُربة شيوخها، وخِدع مديريها، وخُطط مُشيريها، وتُوليه حُكم صُقع من الأصقاع للمرانة فيه على معضلات الحكم ومشكلاته، والاحتكاك بقادته وقضاته؛ إذن لكان للمأمون منه خصم لا يستهان به ولا تلين قناته لغامز.

على أنَّا وإن قلنا: إن الأمين كان مستهترًا، لا نستطيع مع ذلك أن نستسيغ الخبر الذي رواه الطبري وغيره، والذي ضربه الفخري مثلًا على إهمال الأمين وغفلته وجهله، إلا بشيء من التحفظ كثير، وهاك خلاصة الخبر لكي تُقدِّر معنا ما لهذه الملاحظة من وجاهة وقيمة:

لما اشتد الخلاف بين الأمين والمأمون حتى انتهى إلى غايته، أرسل الأمين لمحاربة أخيه جيشًا لم يُرَ في بغداد قبلَ ذلك أكثف منه، قوامُه أربعون ألفًا، وقيل خمسون، وزوَّده بالسلاح الكثير والأموال الوافرة، وعلى رأسه شيخ من شيوخ الدولة جليل القدر، مهيب الجانب، هو علي بن عيسى بن ماهان. وقد خرج معه الأمين إلى ظاهر المدينة مشيعًا مودعًا، وكان في حكم اليقين أن الظفر سيكون حليفه؛ لكثرة عدده، ووفرة سلاحه وذخيرته، فلما التقى بجيش طاهر بن الحسين قائد المأمون، وعسكره في حدود أربعة آلاف، ثم كانت الغلبة لطاهر، وورد الخبر بنعي علي بن عيسى إلى الأمين وهو يصيد، قال للذي أخبره بذلك: دعني فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئًا! وكان كوثرُ هذا خادمًا من الخصيان قيل: إن الأمين كان يحبه كثيرًا.

نقول، ولعلك توافقنا فيما نذهب إليه: إنا لا نستطيع أن نقبل هذا الخبر وأمثاله إلا بشيء من التحفظ كثير، فإن خليفة يسمع مثل هذا النبأ العظيم ويعلم أن وراءه الفصل في مصير سلطانه ثم لا يأبه له، لا يكفي أن يوصف بالإهمال والجهل، بل هو جدير بما فوق ذلك؛ بالسفه والبلاهة، والسفية الأبله أولى بالحجر عليه منه بأن يكون ذا سلطان مطلق في دولة بعيدة الأطراف والنواحي، ومُحالٌ على الرشيد الذي عُرف بالحزم وجودة الحدس والتأني في الأمور أن يسند هذا السلطان العظيم من بَعدِه لسفيهٍ أبله.

لهذا نميل إلى الافتراض كثيرًا، بل إلى الترجيح بأن هذا الخبر والكثير من أمثاله ليس إلا أثرًا من آثار الدعوة المأمونية التي كان لها من الأثر في ثل عرش الأمين، وتثبيت سلطان المأمون، ما لا يقل عن أثر عساكر المأمون وحَزْم قُوَّاده وحِكْمة مُشيريه.

ويقول «ميور»: إن أهل بغداد قد ندموا وأسقط في أيدي جنودها لفتورهم في الدفاع عن الأمين، وعدم استبسالهم في الذود عنه. ويعزو مؤرخه الأستاذ «ويل» أسباب ندمهم هذا إلى سخاء الأمين وإسرافه فيما كان يغدق عليهم من الأموال والخيرات.

أما أنه كان سخيًّا بل مسرفًا في السخاء فمما لا ريب فيه، ومهما افترضت المبالغة فيما سنرويه لك نقلًا عن المظان الأدبية والمصادر التاريخية، فإن الصورة التي ستقع من نفسك مهما جعلتها متواضعة مقتصدة — وهذا ما نوصيك به دائمًا — كافية للاقتناع بأنه كان سخيًّا، بل مسرفًا في السخاء.

يقول الأصفهاني في أغانيه: غنَّى إبراهيم بن المهدي ليلةً محمدًا الأمين صوتًا في شعر أبي نواس:

يا كثير النوح في الدِّمَن
لا عليها بل على السكن
سُنَّة العشاق واحدة
فإذا أحببت فاستكن
ظن بي مَن قد كَلفتُ به
فهو يجفوني على الظنن
رشأٌ لولا ملاحته
خلت الدنيا من الفتن

فأمر له بثلاثمائة ألف دينار، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم، فقال الأمين: هل هي الإ خراج بعض الكُور؟! هكذا ذكر إسحاق.

أما محمد بن الحارث فقد روى لنا هذه الحكاية عن إبراهيم فقال: لما أردت الانصراف قال: أوقروا زورق عمي دنانير، فانصرفت بمال جزيل.

ثم تعال، أرشدك الله، لننظر معًا فيما يرويه أحد المعاصرين، وهو سعيد بن حميد، فإنه يقول: لما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فُرهِ الدواب، وأحدِّ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخفَّ بهم، وقسَّم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحُمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى، ورقة كَلْواذَى، وباب الأنبار، وتبارى والهوب، وأمر بعمل خمس حرَّاقات في دجلة على خِلْقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالًا عظيمًا.

فقال أبو نواس يمدحه:

سخر الله للأمين مطايا
لم تُسخَّر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سِرنَ برًّا
سار في الماء راكبًا ليث غاب
أسدًا باسطًا ذراعيه يهوِى
أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يُعانيه باللجام ولا السَّو
ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صُو
رةِ ليثٍ تمرُّ مرَّ السحاب
سبَّحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب؟!
ذات زور ومنسر وجناحيـْ
ـن تشق العُباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما اسـْ
ـتعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقا
ه وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه
هاشمي موفق للصواب

على أنه يصح التساؤل: من أين للخليفة ما يكفيه من الأموال الطائلة والثروات الوفيرة لسد مطامعه، ولإجابته إلى شتَّى مناعمه؟

وإنا نظن أنه يكفيك أن تنظر أيضًا فيما تنظر إليه من مختلف مصادر المال، من خَراج — ربما كان ظالمًا — وجبايا هائلة مروعة، وموازين غنية، وضرائب مبالغ في فرضها، إلى باب الاستصفاء وحده وما ينجم عنه وعن نكبة الوزراء والكبراء. وحبذا لو وُفِّق لدراسته بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي؛ فهو هامٌّ وهو خطير.

ثم انظر ما ذكره الحسين بن الضحاك، وهو شاعر الأمين كما تعلم، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خِلْقة شيء يكون في البحر يقال له: «الدلفين»، فقال في ذلك أبو نواس:

قد ركب الدلفين بدرُ الدجى
مقتحمًا في الماء قد لججا
فأشرقت دجلة في حسنه
وأشرق السكان واستبهجا
لم تر عيني مثله مركبًا
أحسن إن سار وإن أحنجَا
إذا استحثته مجاذيفه
أعنق فوق الماء أو هَمْلَجا
خص به الله الأمين الذي
أضحى بتاج الملك قد تُوِّجا

ثم لتتدبر معي ما يرويه لنا أحد الأمناء بقصر الرشيد، وهو حسين خادم الرشيد، فإنه يقول: إن الخلافة لما صارت إلى محمد هُيِّئ له منزل من منازله على الشط بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يَرِدون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببتَ أن يُفرش لي في أول خلافتي المردراج! قال: مزِّقوه! قال: فرأيت والله الخدم الفراشين قد صيروه ممزقًا وفرقوه.

وهناك مئات من الشواهد التي يرويها المعاصرون، أمثال مخارق المغني، وأبي عبادة البحتري عن مشيخته، والعباس بن الفضل بن الربيع، وكوثر وغيرهم، عن سَرَف الأمين وبذخه ولهوه وعبثه، يصحُّ أن ترجع إليها في مظانِّها، وكلها تؤيد صدق اللباب والجوهر.

فمن ذلك ما يرويه لنا حميد بن سعيد، من أن محمدًا الأمين لما ملَك وكاتَبه عبد الله المأمون وأعطاه بيعته؛ طلب الخصيان وابتاعهم وغالَى بهم وصيَّرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضًا سماهم الجرادية، وفرضًا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهم، وحتى قال في ذلك بعض شعراء العصر وقد ذكر أسماء بعضهم وحال الأمين معهم:

ألا يا مزمن المثوى بطوس
غريبًا ما يفادَى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلًا
تحمَّل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه
وفي بدر فيا لك من جليس
وما العُصميُّ بشَّارٌ لديه
إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالًا
لديه عند مخترق الكئوس
لهم من عمره شطر وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيمًا
فكيف صلاحنا بعد الرئيس
فلو علم المقيم بدار طوس
لعزَّ على المقيم بدار طوس

وفي الحق أن قصف الأمين وانهماكه في لهوه وغلوُّه في عبثه، واستهتاره في مرحه، واشتغاله بوجه خاص بخدمه، قد جرَّ عليه وبالًا كثيرًا، وشرًّا مستطيرًا، ونفَّر منه قلوب العقلاء من مشايعيه ومناصريه، والأقوياء من مؤيديه وذويه.

من أمثال ذلك ما ذكروه عن العباس بن عبد الله بن جعفر، وهو من رجالات بني هاشم جلدًا وعقلًا وصنيعًا، وكان يتخذ الخدم كطبيعة حياة المترفين في ذلك العصر، قالوا: كان له خادم من آثَرِ خدَمه عنده يقال له منصور، فوجَد الخادم عليه فهرَب إلى محمد وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة، فركب الخادم يومًا في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمرَّ بباب العباس بن عبد الله، يريد بذلك أن يُري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها، وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج إليه وقامت معركة، وكادوا يُحرقون دار العباس، وقبض الأمين على العباس وهمَّ أن يقتله لولا وساطة أم جعفر من ناحية، واشتغاله بخروج الحسين بن علي بن ماهان عليه وانضمامه إلى المأمون من ناحية أخرى.

ولموضوع خدم الخليفة وغاشيته ذوي السلطان من المقربين والزعماء والقادة والوزراء، بل الخدم والأمناء أسوأُ أثرٍ في تاريخ المدنية الإسلامية.

•••

وهناك ظاهرة خُلُقية في أخلاق الأمين، وهي حبه للاستخارة، واحتفاله بالبحث عن أمر طالعه، وركونه حتى في آخر لحظة من حياته، وهي لحظة التقرير في مصيره، أيُسلِّم نفسه إلى طاهر أم إلى هرثمة إلى منام رآه.

وربما كانت هذه الخلة فيه من أثر البيئة، كما أسلفنا، أو من روح العصر نفسه، وإن كان ابن ماهان قائده يحتقرها، وسنرى أن المأمون كان على عكس الأمين لا يحفل في مهام أموره بالاستخارة ووحي الأحلام، بل كان يجعل جل اعتماده على مشورة رجالاته وذوي النصيحة من أنصاره.

على أنه ليس معنى ذلك أن الأمين لم يكن يستشير، ولكنه كان في كل شئونه يغلبه هواه على وجه الصواب من أمره، وكان لرياء حاشيته وتأثير بطانته فيه النتيجة السيئة، فكان لا يعمل بما يُدلَى به إليه من نصح.

وحسبك دليلًا على ظهور هذه الخلة فيه ما رواه عمرو بن حفص مولى محمد إذ يقول: دخلت على محمد في جوف الليل، وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل أحد من مواليه وحشمه، فوجدته والشمع بين يديه وهو يفكر، فسلَّمت عليه فلم يرد عليَّ، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفًا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخفَّ بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله»، فقال: «اسكت، لله أبوك، فعبد الله كان أفضل منك رأيًا وأكمل نظرًا؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة»، ثم جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدًا واحدًا ما اعتزمه فيأبونه، وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فشاوره في ذلك فقال: «يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تُجرِّئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تَحمِلهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول.»

ولكن الأمين، كما قلنا، كان هواه يُعمِّي عليه وجه الصواب من أمره، وكان واقعًا تحت سلطان الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى بن ماهان وغيرهما من بطانته، وهم الذين كان رياؤهم سمًّا زُعافًا، ونفاقهم وباء فتَّاكًا، ولين كلامهم حسكًا وقتادًا، والذين لم يُخلصوا لمليكهم أو بلادهم فيما يدلون به من الآراء، وما يقدمونه من النصائح، وإنما يُخلصون لعاجل مصلحتهم، فزينوا له نكث العهد، وسهلوا له أمره، حتى أقدم عليه، وكان ما كان من النزاع على ما سنصفه لك في بابه.

على أنا لا نعني بما ذكرناه لك الآن أن الأمين كان بليد الذهن، وإنما نعني أنه كان ضعيف الإرادة، عديم الدُّرْبة، ونكرر لك هنا ما أسلفنا قوله لك من اعتقادنا بتوقد ذهنه، وفصاحة لسانه، ونقرر أيضًا، إحقاقًا للحق وإنصافًا للتاريخ، أنه كان بليغًا متعهدًا، إلى حدٍّ غير قليل، قوادَّه بالنصح والرأي، فقد ذكر أحد معاصريه، وهو عمرو بن سعيد، أن محمدًا الأمين لما جاز باب خراسان ترجَّل وأقبل يوصي علي بن عيسى بن ماهان: «امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وولِّ الريَّ يحيى بن علي، واضمم إليه جندًا كثيفًا، ومُره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وولِّ كلَّ كورة ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومَن خرَج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهِر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تُعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خراسان رُبع الخراج، ولا تُؤمِّن أحدًا رماك بسهم أو طعن في أصحابك برمح.»

ولم تكن هذه الوصية هي الوصية الوحيدة للأمين فنقول: فلتةٌ من عابث؛ فإن هناك ثانية وثالثة وهلمَّ جرًّا، وها هو ذا أحمد بن مزيد أحد قواده يخبرنا أنه لما أراد الشخوص في مهمته دخل على محمد الأمين فقال: أوصني، أكرم الله أمير المؤمنين، فقال: «أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي؛ فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلًا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفًا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عليه باللين فلا تتعده إلى الخرق والشر، وأحسن صحابة مَن معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تُخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، ولا تَستَقْها فيما تخاف رجوعه عليَّ …» إلى آخر نصيحته.

ومن العدل أن نقرر أيضًا أنه كان إلى آخر لحظة من حياته محاولًا الانتصار، باذلًا مقدوره في الحرب، ولكن عبثه ولهوه كانا يقعدان به.

وكان طيب القلب يعفو حتى عن الخارجين عليه والمسيئين إليه، وإن موقفه مع حسين بن علي بن ماهان لمعروفٌ مشهور، وكذلك موقفه مع أسد بن يزيد أحد قادته حينما طلب إليه أن يدفع له ولدي عبد الله المأمون ليكونا أسيرين في يديه، فإن أعطاه المأمون الطاعة فبها، وإلا عمل فيهما بحكمه، وأنفذ فيهما أمره، فقال له الأمين: «أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولديَّ، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخَرقُ والتخليط!»

هذا الموقف النبيل دليل على سلامة طويته وطهر سجيته، ولكن حظه الحالك ونجمه الآفل، ورياء مشيريه، وضعف إرادته، وخور عزيمته، ولهوه وعبثه، ونصيب المغلوب من الدعوة عليه، والحملة الموجهة إليه قد ضربت بجِرانها على سيرته؛ فإذا بها شوهاء مُزْرية، وإذا بها مقبحة منفرة، حتى قيل فيه ما قيل مما يجدر بنا ألا نخلي كتابنا من إثبات بعضه.

جاء في الجزء السادس من كتاب بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور: «قال المأمون لطاهر بن الحسين: يا أبا الطيب، صف لي أخلاق المخلوع، قال: كان، يا أمير المؤمنين، واسع الطرب، ضيق الأدب، يبيح نفسه ما تعافه همم ذوي الأقدار، قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب ويفضها بسوء التدبير، قال: فكيف كنتم له؟ قال: كنا أسدًا تبيت وفي أشداقها أعناق الناكثين، وتصبح في صدورها قلوب المارقين، قال: أما إنه أول من يؤخذ بدمه يوم القيامة ثلاثة — لست أنا ولا أنت رابعهم ولا خامسهم — وهم: الفضل بن الربيع، وبكر بن المُعتمر، والسِّنْدي بن شاهَك، هم والله ثارُ أخي وعندهم دمه …»

وقال المسعودي في التنبيه والإشراف: «إن الأمين كات باسطًا يده بالعطاء، قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكًا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه، واستوزر الفضل بن الربيع إلى أن استتر الفضل لما تبيَّن من اختلال أمر محمد، ووهي أمره، فقام بوزارته من حضر من كتابه كإسماعيل بن صبيح، وغلب عليه عدة من الأولياء؛ منهم: علي بن عيسى، والسندي بن شاهك، وسليمان بي أبي جعفر المنصور»، وقال غيره: «إنه كان كثير اللهو واللعب، منقطعًا إلى ذلك مشتغلًا به عن تدبير مملكته.»

ويقول ابن الأثير: «لم نجد للأمين شيئًا من سيرته نستحسنه فنذكره»، وهذا حق في جملته عن الأمين كمدبر مملكة وخليفة، فإن فتًى غرًّا لم يُثقَّف الثقافة السياسية اللازمة، ثم يصبح ذا سلطان مطلق في ملك كبير يشبع ذوي المطامع النهمة، ثم تحوطه حاشية من الدهاة ذوي المطامع الواسعة، والأغراض الكبيرة كالفضل بن الربيع الذي أفسد ما بينه وبين أخيه، وبكر بن المعتمر الذي زيَّن له خلعه، ثم هو فوق ذلك ينصرف إلى حد كبير عن معالجة تدبير الملك إلى اللهو، وإلى اللهو بكل ألوانه وضروبه، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة عن علي بن إسحاق أحد معاصريه، أنه لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت، بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

بنى أمينُ الله ميدانًا
وصيَّر الساحة بستانًا
وكانت الغزلان فيه بانا
يُهدَى إليه فيه غزلانا

نقول: إن مثل هذا الفتى الذي يولِّي وجهه منذ الساعة الأولى إلى مثل هذه الشئون التي كان يجدر به ومن كان في مكانه ألا تكون صاحبة النصيب الأول من عنايته واهتمامه، خليقٌ ألا يجد المؤرخ له عملًا صالحًا في شأن من شئون الدولة، وقمينٌ على ذلك أن يكون موضع استغلال كبير للدعوة المأمونية.

وقال غير ابن الأثير: «كان الأمين فصيحًا بليغًا كريمًا»، وكيف لا يكون تلميذ الأحمر والكسائي وقطرب وحماد وغيرهم من فحول اللغة، وجهابذة البيان، وأساتذة الأدب من منثور ومنظوم فصيحًا بليغًا؟

على أنه من الحق والعدل أن نقرر أيضًا، أن هذه الصفات تكاد تكون من سجايا كل ناجم من هذه الأسرة الباسقة الفينانة، ومن أجل هذا ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن الأمين لم يكن كما صوَّروه لنا من البلَهِ والسُّخف، ومن الخمول والبلادة، ومحال أن يكون كذلك وتصرفاته في بعض شئون الدولة على ما وصفنا، ومحال أن يكون بليدًا بفطرته واستعداده، أو جاهلًا غبيًّا؛ لأنه في الذروة من الهاشمية، وأنت تعلم مقدار اهتمام الخلفاء العباسيين والأمراء الهاشميين بالثقافة الأدبية، كما بينا لك ذلك في كلمتنا عن الحياة الأدبية والعلمية في العصر العباسي، وإنما ظروف حياة الأمين والبيئة التي أحاطت به وما إلى ذلك مما فصلناه لك، جعلت صورة الأمين كما أراناها التاريخ، ثم هي في الوقت نفسه جنحت به إلى الاستهتار، وإلى العبث والمجانة.

وقد يكون أحسن ما نختم به كلمتنا عن تحليل الأمين وسيرته، وأصدق وصف له ما ذكره الفضل بن الربيع، وزيره ووزير أبيه من قبله، والذي سنعرض لشيء من دقيق تصرفاته، وحكيم تدبيراته عندما نعرض لتفصيل النزاع بين الأمين والمأمون، فهذا الوصف ربما كان أقل تحاملًا من غيره على الأمين، وربما كان خيرًا من سواه في تصوير الأمين وتحليل أخلاقه ونفسيته.

ذكر الطبري أن أسد بن يزيد بن مزيد حدَّثه أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري، قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدًا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها واحمرَّت عيناه واشتدَّ غضبه وهو يقول: ينام نوم الظربان، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يتروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدَحُه، فهو يجري في لهوه والأيام تسرع في هلاكه، قد شمَّر عبد الله له عن ساقه، وفوَّق له أَصيبَ أسْهُمِه، يرميه على بُعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبَّى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشِفار السيوف. ثم استرجَع وتمثَّل بشعر البعيث:

ومجدولةٍ جدْل العنان خريدة
لها شعر جَعْد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه
تضيء له الظلماء ساعة يبسم
وثديان كالحُقين والبطن ضامر
خميصٌ وجُهر ناره تتضرَّم
لهوتُ بها ليل التمام ابنَ خالد
عليَّ بمرو الرُّوذ غيظًا تجرم
أظلُّ أناغيها وتحت ابن خالد
أميةَ نَهدُ المَرْكلين عَثَمْثم
طواها طراد الخيل في كل غارة
لها عارض فيه الأسنة تُرزِم
يُقارع أتراك ابن خاقان ليلَه
إلى أن يُرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه
نحيل وأُضحي في النعيم أصمِّم
فشتَّانَ ما بيني وبين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله قاسِم

ثم التفت إليَّ فقال: «يا أبا الحارث، إنا وإياك لنجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذُممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا، وإن ضعُف ضعفنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد أمكن بمسامعه ما معه من أهل اللهو والجسارة، فهو يعدونه الظفر ويمنونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤