الفصل الرابع

الخليفة المأمون

(١) توطئة

من تحصيل الحاصل أن نقول ما يقوله الفخري وغيره من أن المأمون كان من أفاضل الخلفاء وعلمائهم، وحلمائهم وحكمائهم، أو أنه كان دَيِّنًا، عارفًا بالعلم، فيه دهاء وسياسة، أو أنه كان فَطِنًا ذكيًّا، أو أنه كان كاملًا عالمًا جوادًا، عظيم العفو، ميمون النقيبة، حسن التدبير، جليل الصنائع، لا تخدعه الأماني، ولا تجوز عليه الخدائع، علمه بما بَعُد عنه كعلمه بما حضر، أو أنه كان مُتَّصفًا بالعدل والحلم.

من تحصيل الحاصل أن نقول ذلك لأنه معلوم متعارف من ناحية، ولأن خطتنا في كتابتنا ومنجهنا في بحوثنا أن نترك للحوادث الكلمة الفاصلة في تحليل صفاته اتِّباعًا للطريقة التحليلية التي اتبعناها فيما كتبناه عن سواه.

وقد أسلفنا لك القول في بيان حياة المأمون قبل الخلافة، وفصلنا لك ما كان من أمر النزاع بين الأخوين، ووصلنا بك إلى مأساة تلك الحرب الشعواء والفتنة العمياء، ألا وهي قتل محمد الأمين في ٢٥ محرم سنة ثمان وتسعين ومائة، والآن نتقدم إلى القول بأن المأمون بويع له بالخلافة العامة في ذلك التاريخ، واستمر كذلك إلى أن توفِّي غازيًا في ١٩ رجب سنة ٢١٨ﻫ، فتكون خلافته قد أنافت على عشرين سنة، أقام منها في خراسان حتى منتصف صفر سنة ٢٠٤، حين انتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية.

فيمكننا إذن أن نقسم كلامنا عن حكم المأمون إلى مدتين: المدة الخراسانية، والمدة البغدادية، وفي بيان هاتين المدتين بيان للحالة السياسية الداخلية في عصره، وهو ما سنعالج الكلام فيه الآن.

(٢) السياسة الداخلية

ملخص الحالة العامة في المدة الخراسانية

اطلعنا في دور النزاع بين الأخوين على شيء غير قليل من تصرفات الفضل بن سهل وتدبيراته، ووقفنا على أثره العظيم في الدولة، كما اطلعنا على ما كان من نجاح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين في حروبهما للجيوش الأمينية.

ونتساءل الآن، بعد أن تم الأمر للمأمون وحزبه وخلا الجو إلى حد كبير للفضل بن سهل: أمن المعقول أن تستطيع هذه الشخصية البارزة، الفارسية المنبت والنزعة، ذات البيت الكبير والحُماة والأصدقاء، والعُفاة والأنصار، أن تحتمل أن يكون إلى جانبها شخصيات بارزة من العرب كهرثمة بن أعين، وأبطال من ذوي الفضل العظيم والدور الأول في النجاح كطاهر بن الحسين؟

نحن نعلم ما كان من أبي مسلم الخراساني مع أمثاله من القادة والكُماة، كما نعلم ما كان نصيبه من الخليفة المنصور، نعلم ذلك كما نعلم الكثير من أمثال ذلك، وإنه ليلوح لنا من غير أن نعدو الصواب كثيرًا أنه في مقدورنا أن نجيب عن تساؤلنا هذا. إن المعقول في طبيعة هذه الشخصيات الفذة في تلك الأزمان المطلقة الحكم أنها تعمل على إزالة كل الشخصيات البارزة من طريقها؛ ليكون ذلك لأطماعها ممهدًا، ولخططها معبدًا.

يلوح لنا أنا لا نعدو الصواب إذا قلنا ذلك؛ إذ إن هذا هو ما فعله الفضل بن سهل مع الظاهرين وأصحاب الكلمة في الدولة، فإن التاريخ ينبئنا أنه رأى مستقبله ومستقبل حزبه يكون مهددًا إذا بقى طاهر وهرثمة في العراق، فاستصدر أمرين ملكيين: أولهما بتولية شقيقه الحسن بن سهل جميع ما فُتح بجهود طاهر وقيادته الحكيمة وإخلاصه للقضية المأمونية. ينبئنا بأنه نصَّبه على كور الجبال وفارس وعلى الأهواز والبصرة، وعلى الكوفة والحجاز واليمن، كما ينبئنا بأنه ولَّى طاهرًا الموصل والجزيرة والشام والمغرب. ولكي يتمَّ الأمر بإبعاده كتب إليه أن يُسلم الحسن بن سهل جميع ما بيده من الأعمال، وأن يُبادر في الشخوص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث. وثانيهما إلى هرثمة بن أعين يُكلِّفه به أن يشخص إلى خراسان.

ولنتساءل الآن: هل كان من المصلحة السياسية هذه الصدمة العنيفة لزعيمين قويين أحسنا البلاء في الدولة، ولهما مكانتهما ولهما حزبهما؟

وهل كل من المصلحة السياسية إخلاء العراق وهو مصدر الشقاق والنفاق والعصيان والعدوان من هرثمة وطاهر؟

وهل كان من المصلحة السياسية أن يترك المأمون مسألةً كمسألة تعيين الحسن بن سهل وإقصاء هرثمة وطاهر تمرُّ هكذا؛ فيستغلها الدعاة على ملكه من بني هاشم ممن لم يكن لهم حظ في دولته، ومن غير بني هاشم ممن يودُّون زوال الملك الهاشمي، فيقول — فيما يقولون عنه: إنه غلب على أمره، أو أن الفرس ملكوا زمامه، أو أن الفضل بن سهل أنزله قصرًا فحجبه عن رجالات دولته، وأن السلطان ومقاليد السلطان قد نزعت منه؟

نعود نتساءل: أكان ذلك كله من مصلحته السياسية؟

لم يكن ذلك من المصلحة السياسية طبعًا، لا سيما أنه لم تسكن الفتن والثورات بعدُ في الأقطار المأمونية، ولكنا نميل إلى اعتقاد أن المأمون كان مرغمًا على الوقوع في هذه الغلطة السياسية وهو ذلك السياسي المحنك والداهية القدير، كما رأيت وكما سترى في موضعه؛ لأن لظروف الأحوال نصيبها في ذلك التصرف منه ومن غيره ممَّن يكون في مكانه، ولأنه ربما تحاشى بتصرفه ذلك خطرًا أجسم، وأوسع نطاقًا، وأبعد مدًى؛ وهو خطر إغضاب الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل.

ومهما يكن من شيء، فإن هذه التصرفات التي كانت من الفضل بن سهل وإقرار المأمون لها، وبقاء المأمون بعد أن تم له الأمر في مَرْو دون بغداد عاصمة الخلافة العباسية، كانت لها نتائجها السيئة في شيعة المأمون وأنصاره من جهة، وفي أعدائه والراغبين عن سلطانه من جهة أخرى، ذلك بأن أنصار المأمون وقواده، ونخصُّ بالذكر منهم طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، قد كسَر قلوبهم وفلَّ من عزائمهم، أن يكون جزاؤهم على فوزهم وحسن بلائهم وإخلاصهم تلك التصرفات السيئة التي كانت نصيبهم من المأمون ومن حاشية المأمون.

هذا كان أثرها في شيعته وخاصة أنصاره، وأما غير هؤلاء فقد جعلت هذه التصرفات ألسنتهم تنطلق باتِّهام المأمون بأنه يميل إلى الخراسانيين، وأنه أصبح آلة في أيديهم يُحرِّكونه كما يشاءون، وقد حدث من جراء هذه الإشاعات وفتور همة أنصار المأمون الذين لم يجازوا الجزاء الأوفى أن اضطربت الأمور وكثرت الفتن، ووجد أعداء المأمون الفرصة سانحة لتحقيق أطماعهم، ومن تلك الفتن ما يحدثنا التاريخ عنه من خروج محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا بالكوفة، وقد قام بتدبير أمره رجل من رجالات هرثمة بن أعين وكبار أنصاره، وقد خرج لأنه حبس عنه ما كان يُعطاه من رزق. هذا الرجل هو أبو السرايا السري بن منصور، وكان هو الخارج على المأمون في الواقع لا ابن طباطبا، وقد بلغ من أمره أن ضرب الدراهم وجند الجنود حتى اضطر الحسن بن سهل أن يسترضي هرثمة ويستعينه؛ ليكفيه شرَّ هذا الخارج القوي.

ويظهر أن موت الزعماء كان طلسمًا من الطلاسم أو سرًا من الأسرار، أو صناعة من الصناعات الخفية؛ فإنا نجد أن محمد بن إبراهيم هذا، الذي سمت منزلته بين أتباعه وعظمت طاعتهم له، قد مات بعد أن كُتب النصرُ للقائم بتدبير أموره على سليمان بن جعفر والي الكوفة من قِبَل المأمون، ثم نرى هذا المنتصر يولي مكانه غلامًا أمرد حدثًا هو محمد بن محمد بن زيد العلوي.

وتعال معي لننظر في حوادث سنة تسع وتسعين ومائة؛ ففيها ما يكشف القناع عن أمور جسام تُفيدنا في تفهم الروح الحزبية بين العلويين والعباسيين، وتفيدنا أيضًا في إماطة اللثام عن سبب هامٍّ من الأسباب التي يرجع إليها تبرُّم بعض الوُلاة الكُفاة بدولة الفضل بن سهل، وانفراده هو وجماعته بمراتب الدولة ووظائفها.

تعال ننظر في حوادث تلك السنة، فنجد فيها أن هرثمة جدَّ في طلب أبي السرايا صديقه بالأمس ومُنازِله اليوم، حتى وصل إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينهما وقعة شديدة قُتل فيها من أصحاب أبي السرايا خَلقٌ كثير، أليس في هذا ما يقنعك بأن إيماضة رضًا وابتسامة تشجيع، لرجل من رجالات الدولة، كافية لأن ينهض فيحارب زميله ويقاتل خدنه؟ ثم نجد في تلك السنة فيها أن محمد بن محمد وثَب ومعه الحزب الطالبي على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها، وعملوا في ذلك عملًا قبيحًا، وتجد كذلك فيها أن مسرورًا الكبير، الخادم الرشيدي، قد حج تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، وأنه عُبِّي لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، وأنه قال لعامل مكة داود بن عيسى: أقِمْ لي شخصَك أو شخص بعض ولَدِك وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحلُّ القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجنَّ من الفج الآخر، فقال له مسرور: تُسلِّم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومَن لا تأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حُرَمك ولا مالك؟! قال له: أي ملك لي؟! والله لقد أقمتُ معهم حتى شِخْتُ فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك ولأشباهك، فقاتل إن شئت أو دَعْ.

هذه حالة نفسية لبعض الولاة العرب قد يكون من النفع أن تُلاحظ تبرمها وسخطها من سياسة العصر، أو من الهيمنة الفارسية على شتَّى أمور الدولة عامة، والجسيمات منها خاصة في ذلك العصر، وربما كانت هذه الحالة النفسية تمثل لك حالات كثيرة من نفسيات العرب لذلك العهد.

ثم لننظر في حوادث سنة مائتين، فنجد أن زيد بن موسى الطالبي المعروف ﺑ «زيد النار» كان بالبصرة، وإنما سمي «زيد النار» لكثرة ما حرَّقه من دور العباسيين وأتباعهم في البصرة، وكان إذا أُتِي برجل من المسوِّدة العباسية كانت عقوبته عنده أن يُحرق بالنار، ونجد فيها أن إبراهيم بن موسى الطالبي قد خرج باليمن، ونجد أيضًا أن الكعبة وخزائنها وأحجارها الكريمة لم تسلم من أبي السرايا وأتباعه العلويين، وكم حبس من العباسيين وكم آذى! حتى ندب محمد بن مسلمة الكوفي لتولِّي عذاب العباسيين، فأسرف في ذلك حتى سُميت داره ﺑ «دار العذاب»، ونجد أيضًا أن خارجيًّا آخر وهو حسن بن حسين أراد اقتفاء ما رسمه أبو السرايا، فذهب إلى علوي وداعٍ محبَّبٍ معروف في مكة والمدينة وهو محمد بن جعفر ونصَّبه خليفة اسمًا، وجعل السلطان بيده فعلًا.

ونجد فيها قبائح وفضائح لحسن بن حسين هذا مع زوجة قرشية من بني فهر، وزوجها من بني مخزوم، ولها جمال بارع، فاغتصبها من زوجها، ونجد فيها مثل ذلك الصنيع المعيب من علي بن محمد، الخليفة المنصوب، مع ابن القاضي إسحاق بن محمد، وكان جميلًا بارعًا في الجمال.

نجد ذلك كله ونجد الكثير من أمثاله مما أدى إلى إثارة الرأي العام في مكة، فاحتجوا حتى رد الصبي لأبيه مُكرهًا مُرغمًا! ونجد فيها أمثلة عدة لاستلاب أموال الناس، كما نجد فيها رجلًا عباسيًّا موتورًا من العلويين، وهو محمد بن الحكيم، ممن كان الطالبيون قد انتهبوا داره وعذبوه عذابًا شديدًا، عثَر على محمد بن جعفر الطالبي الخليفة المنصوب، وقد طُرد شر طردة، وكان في مقدوره أن يقتله فلم يفعل، فلنقيد هذه الحادثة فإنها تنفعنا في تفهم السر الذي كان كثيرًا ما يحدو بالمأمون إلى احترام العلويين وتقدير مكانتهم والعمل على إرضائهم؛ لأن لهم حرمة في نفوس حزب غير قليل من الشعب.

ونجد في السنة ذاتها أن الحج قد تولاه أكثر من شخص لتعدد السلطات، فندب المأمون أبا إسحاق بن هارون الرشيد، ووجَّه إبراهيم بن موسى الطالبي الذي خرج باليمن رجلًا من ولد عقيل بن أبي طالب، كما وجه غيره مَن يُمثِّله، مما يدل على الفرقة والانقسام وعلى الفوضى والاضطراب، فلتتعرف ذلك جيدًا.

ويجدر بنا هنا أن نبين نتائج الحالة الحزبية بين الفريقين؛ فقد بلغ أبا إسحاق بن الرشيد أن الجماعة الطالبية التي أتت من اليمن للحج قد مرت بها قافلة من الحاج والتجار، وفيها كسوة الكعبة وطيبها، فاستلبت أموالهم وطيبهم، فندب لهم محمد بن عيسى بن يزيد الجلودي الذي أحدق بهم فأسر أكثرهم، وهرب من هرب منهم، وأخذ منهم الطيب وأموال التجار والحاج فوجَّه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي العلوي فأمر بهم فقنَّع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال لهم: «اعزُبوا يا كلاب النار، فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال» وخلَّى سبيلهم. ولنلاحظ تسميته لهم ﺑ «كلاب النار».

وإنا نلخص لك الحوادث التي وقعت بعد أن قمَع هرثمةُ ثورةَ أبي السرايا التي انتهت بقتله عام ٢٠٠ﻫ وإخماد فتنته، معتمدين في ذلك على الطبري والأستاذ «ميور» خاصة.

لما قمع هرثمة ثورة أبي السرايا عاد إلى نهروان دون أن يعرِّج على والي بغداد، وهناك وافاه أمر الخليفة بتوليه حكم سوريا وبلاد العرب، وكان قد اعتزم الذهاب بعد ذلك إلى «مرو» مباشرة ليكشف للخليفة عن حقيقة الموقف وحرجه الذي يخفيه عنه وزيره الفضل، بسبب بقاء الخليفة في «مرو»، وأن الغرب سينتقض عليه سريعًا ويخرج من يده إذا هو لم يبادر إلى العودة إلى بغداد، فلما أحس الفضل عزم هرثمة على القدوم فطن إلى ما ينويه، فدس له عند المأمون حتى أوغر صدره عليه، وكادت السنة تنتهي قبل أن يذهب هرثمة إلى «مرو»، فلما ذهب خشى أن يكتم الفضل خبر قدومه عن المأمون، فدق الطبول عند دخوله المدينة، فلما علم الخليفة الموغر الصدر بقدومه أمر بإحضاره، فلما مثَل بين يديه بالغ في تقريعه وتأنيبه على توانيه في تسكين ثورة أبي السرايا، وفي مخالفة ما أصدره إليه من أمره بالذهاب إلى ما ولاه من أعمال، وما كاد هذا القائد يهم بالكلام ويشرح لمولاه الحالة حتى هجم عليه الحرس الذين أسَرَّ إليهم الفضل أن يغلظوا في تعذيبه، فانهالوا عليه ضربًا ولكمًا على وجهه وجسمه ثم سحبوه بسرعة إلى السجن حيث مات به بعد زمن قصير متأثرًا بجروحه، ولقد اعتقد عامة الناس أن الذي أماته هو الفضل.

وهكذا انطوت صحيفة هذا الباسل العظيم الذي ذبَّ عن مُلك المأمون، وكافح في توطيد دعائم الدولة من إفريقية إلى خراسان، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في انتصار المأمون على أخيه المخلوع.

ومات هذا القائد العظيم ضحية للسعاية ونكران الجميل كما مات أمثاله من قبل من صناديد هذه الدولة من جراء السعاية والمنافسة، ومن جراء أعمال البطانة ودسائس الحاشية.

ولنتساءل: ماذا كانت نتيجة قتل هرثمة؟

يحدثنا التاريخ أن هرثمة كان محبوبًا في الغرب، وأن موته أحدث فتنًا وقلاقل في بغداد، وثارت الجنود في وجه الحسن بن سهل؛ إذ عدوه آلة في يد أخيه الفضل الذي كانوا ينعتونه بالمجوسي، وبعد قتال دام ثلاثة أيام طردوا الحسن من المدينة، فلجأ إلى «المدائن» ثم ارتد إلى «واسط»، واستمرت الفتن والقلاقل بعد ذلك قائمة ببغداد شهورًا عدة نشطت في خلالها عصابات اللصوص وشراذمة الصعاليك، وشمرت عن ساعدها في أعمال النهب والسلب حتى طغى سيل غاراتهم على تلك المدينة المنكودة التي أصبحت تحت رحمتهم.

ويحدثنا التاريخ أنهم قد أسرفوا في ذلك إسرافًا عظيمًا مما فزع له أعيان المدينة ووجهاؤها، فأجمعوا أمرهم على صد هؤلاء السفلة الأشرار ودفع غائلتهم عن المدينة وأهلها، ولما تم لهم ما أرادوا اختاروا من بينهم رجلين من ذوي الفضل والمكانة فيهم وولوهما تدبير الحكم ريثما تستقر الحال ويعود الأمن إلى نصابه، ثم عرضوا عرش الخلافة على المنصور بن المهدي والبيعة له، فتأبى عليهم ولكنه عاد وقَبِل أن يتولَّى الحكم باسم الخليفة المأمون.

ولم توشك هذه السنة أن تنتهي حتى كان قواد الجند في بغداد قد سئموا القتال، فاتفقوا مع الحسن بن سهل الوالي فعاد إلى بغداد بعد أن أصدر عفوًا عامًّا، ووعد بأنه يدفع للجند رواتبهم عن ستة أشهر، وبأن يدفع كذلك لذوي المعاشات أرزاقهم حسبما هو مدرج بقوائمهم.

•••

ولنتساءل الآن: ماذا حدث بعد ذلك؟

حدث أنه ما كاد الأمر ينتهي على هذه الشروط حتى عادت الفتنة والاضطراب أشد مما كانا عليه؛ ذلك بأن المأمون لغرض سياسي أو لنزعة شيعية أو لتقدير كفاية خاصة استدعى واحدًا من سلالة سيدنا علي، وهو «علي الرضا» رضي الله عنه، وهو ثامن أئمة الشيعة أو حزب العلويين إلى «مرو»، واختاره وليًّا لعهد الخلافة مع أنه يكبره باثنتين وعشرين سنة.

وربما كان المأمون في رأيه هذا صادرًا عن رأي وزيره الفضل الذي زين له أن هذه أنجح وسيلة لتسكين ثورة العلويين في الغرب، وربما كانت تنجح هذه الوسيلة في التوفيق بين البيتين العلوي والعباسي قبل استفحال الخلف بينهما.

أما وقد استطار الشر بينهم، وقلب بعضهم لبعض ظهر المِجَنِّ، ولبسوا جلد النمر وتحفزوا للقتال وتداعوا للجلاد، فإن أمر الوفاق بينهم صار حلمًا، وعاد الإقدام عليه سخفًا وحماقة مُهلِكة.

وماذا ترتب على إسناد ولاية العهد لفرد من العلويين؟

إن التاريخ يحدثنا أنه ترتب على إسناد ولاية العهد لعلي الرضا أن أمر الخليفة ولاته في جميع أنحاء الدولة بأخذ البيعة لولي عهده، ولكي يجعل المأمون الدولة تصطبغ بصبغة العلويين خلع الشعار الأسود، شعار العباسيين، وارتدى الشعار الأخضر، شعار الشيعة، وأمر عماله بالاقتداء به.

وفي أواخر هذه السنة تلقَّى الحسن بن سهل من أخيه الفضل أمرًا بإعلان ذلك وتنفيذه، فكان لذلك الأمر أسوأ أثر في أهل بغداد؛ إذ وقع عليهم كالصاعقة لأن أهلها كانوا يخافون الشيعة ويمقتونهم، وكذلك شعر العباسيون بأن الضربة موجهة للقضاء على خلافتهم، فشقوا عصا الطاعة وهموا بخلع المأمون واختيار خليفة سواه، ولم يعارض زعماء البيت الملكي من العباسيين في ذلك، فلم تأت آخر جمعة من هذه السنة حتى دُعي لإبراهيم بن المهدي على المنابر خليفة بدلًا من المأمون، وسرعان ما بويع له بالخلافة، وكان إبراهيم بارعًا في الموسيقى والغناء والشعر، ولكن كانت تنقصه المؤهلات التي يستطيع بها أن يضطلع بأعباء الملك التي ألقيت على عاتقه، والتي ناء بحملها مدة سنتين.

ثم ماذا كان بعد ذلك؟

نشب القتال بين جنود المأمون وجنود إبراهيم المُغتصِب للخلافة، فاضطر الحسن بن سهل نائب المأمون أن يرتد إلى واسط مرة أخرى، وخيل إليه أنه إذا جارى أهل الكوفة في ميولهم الشيعية يستطيع أن يضمها إليه، وبدأ ذلك بأن ولَّى عليها أحد إخوة علي الرضا، ولم يدر أن التوفيق بين عائلتي علي والعباس في مدينة كهذه متقلبة الأهواء ضرب من المستحيل؛ فإن أهلها كانوا على استعداد في أول أمرهم للقاء الحسن كقائد من صميم العلويين، ولكنهم انتقضوا عليه باعتباره الوالي الفارسي من قبل المأمون؛ وعلى ذلك قامت الثورات في هذه المدينة أيضًا كما قامت في غيرها.

ثم ماذا حدث بعد ذلك؟

إن التاريخ يحدثنا أنه بينما كان الغرب غارقًا في لجج هذه الفوضى حدث في مرو تغيير جديد ذو شأن؛ ذلك أن المأمون قد تنبه في آخر الأمر لحرج الموقف وخطورة الحالة، ومن الغريب أن أول من نبَّه الخليفة إلى هذا الخطر المحدق به وبعرش آبائه وأجداده هو علي الرضا نفسه، فتبين المأمون أن ولايته للعهد كانت شؤمًا على الدولة؛ إذ سارت الأمور فيها من سيئ إلى أسوأ زهاء عام منذ توليه.

ويحدثنا التاريخ أن عليًّا الرضا خلا بالخليفة وكاشفه أن الفضل وزيره يكاتمه حقيقة الحال ويخفي عنه أمور الدولة، وأن أهل العراق يقولون عنه، أي الخليفة: إنه مجنون أو مسحور، وأن الخلافة توشك أن تُفلتَ من يده بين إبراهيم والعلويين، وأن الحسين أخا الفضل يعمل في القضاء على الغرب، بينما طاهر ذلك القائد الباسل الذي يستطيع أن يقود سفينة الدولة إلى شاطئ النجاة منبوذ في سوريا.

وقد أيد هذه الحقائق للمأمون جماعة من قواد الدولة وزعمائها بعد أن أمنهم المأمون من غضب وزيره، ونصحوا إليه بأن خير علاج لسلامة الدولة أن يعجل بالعودة إلى بغداد، وقالوا له: إن هذه كانت نصيحة هرثمة التي جاء من أجلها منذ سنتين ليُسرَّها إليه لو أنه أمهله واستمع له.

فأيقن المأمون أخيرًا أن استسلامه للفضل وانقياده له كانا سببًا لكل ما حدث من الفتن والثورات، فأمر بانتقال بيت الخلافة إلى بغداد، وما كادوا يحُلُّون بسرخس وهم في طريقهم إلى بغداد حتى وجدوا الفضل قتيلًا في حمامه — وكان الفضل قبل ذلك قد اضطهد جماعة القواد والزعماء الذين كشفوا أمره عند الخليفة — فوعد الخليفة بمكافأة لمن يأتيه بالقتَلة، ولما قُبض عليهم دافعوا عن أنفسهم بأنهم إنما قتلوه بأمر مولاهم الخليفة، ولكن لم يُغنهم دفاعهم شيئًا وضربت أعناقهم، وبعث الخليفة برءوسهم إلى الحسن بن سهل مشفوعةً بكتاب تعزيةٍ منه، ووعده فيه بأنه سيستوزره خلفًا من أخيه، وبلغ من عطف الخليفة عليه، أو من سياسته وحكيم تدبيره أن عقَد زواجَه من ابنته بُوران التي كانت إذ ذاك، فيما قيل، طفلة في الحول العاشر من عمرها، ولم يدخل بها إلا بعد ثمان سنين بعد ذلك، وفي الوقت نفسه زوَّج إحدى بناته لعلي الرضا الذي كان في ذلك الوقت قد بلغ الرابعة والخمسين من عمره، كما زوَّج بنتًا له أخرى من ابن علي الرضا، وكذلك ولَّى أحد إخوة علي الرضا إمرة الحج، وبهذه المصاهرة تمت مظاهر حسن العلاقات وتوثيق العُرَا بينه وبين الحزب العلوي، وكانت هذه المصاهرة في ذاتها تصرفًا سياسيًّا آية في الحكمة والسداد.

لم يمض بعد ذلك غير قليل حتى حدث حادث آخر لم يكن متوقعًا؛ ذلك أنه في أثناء سفر الخليفة إلى بغداد نزل بطوس في فصل الخريف، وهناك مات علي الرضا فجأةً وقيل: إن موته كان بسبب إفراطه في أكلة عنب، فدفنه المأمون بجوار قبر أبيه الرشيد، فاهتزت الدولة لموته الفجائي الذي جاء عقب مقتل الفضل، وإنه لمن المعقول في مثل هذه الأحوال أن تنتشر الإشاعات، وتكثر الأراجيف في سبب موته، كما أنه من المعقول أيضًا في مثل هذه الأحوال أن يصعب الوقوف على الحقيقة لتضارب الإشاعات وتناقض الأراجيف واختلاف وجهات النظر، وقد قيل فيما قيل: إن المأمون دسَّ له السم في العنب، بيد أن الرعاية التي أظهرها المأمون لعلي الرضا خصوصًا بعد توثيق عُرا العلاقات بعد المصاهرة قد تدفع هذه الشبهة عن الخليفة.

إنا لا نمنعك من أن تفترض من جهة أخرى أن الفضل وعليًّا كانا عقبة كأداء في سبيل المأمون لا يزيلها من سبيله إلا موتهما، ويجوز لك أن تذهب في التدليل على أن المأمون كان يعدُّ عليًّا عقبة في سبيل إرضاء أهالي بغداد، إلى أنه في الوقت الذي كتب فيه كتاب تعزية إلى الحسن بن سهل ينعى فيه موت عليٍّ أرسل كتابًا آخر إلى أهل بغداد يقول لهم فيه: إن عليًّا الذي أظهروا سخطهم وتبرمهم من إسناد ولاية العهد له قد قضى، فلا شيء إذن يمنعهم الآن من العودة إلى طاعته وموالاته.

على أنا لا نجاريك في هذا الافتراض لما بيناه لك من ناحية، ولأن نفسية المأمون وخلقه، مما ستقف عليه قريبًا، لمما يجعل هذا الافتراض واهنًا ضعيفًا.

أما فيما يختص بكتاب المأمون إلى البغداديين بشأن موت علي الرضا فنقول لك: إنه وإن لم يحدث أثره المطلوب تمامًا في نفوس البغداديين لأنهم أجابوا عنه بكتاب جاف فاتر، إلا أنه قد خطا به خطوة ما في سبيل استمالة أهل بغداد، وفي هذا الوقت أخذ أنصار إبراهيم القلائل ينفضون من حوله لضعفه وسوء تدبيره في إدارة الحكم، وتخلَّى عنه جنوده ولم يتقدموا لمدافعة جنود المأمون، وسقطت المدائن التي كان فيها مقر خلافته في أيدي جنود المأمون وساءت أحواله واضطرب نظام ملكه في فصل الشتاء، ولما دنا قواد المأمون وجنوده للعاصمة لمهاجمتها خرج إليهم قواد المدينة وزعماؤها يظهرون ولاءهم وطاعتهم للمأمون.

وما كادت تنتصف السنة حتى استولى قواد المأمون على المدينة، وحتى اختفى إبراهيم كما اختفى غيره ممن كانوا قد خرجوا على المأمون، وذلك بعد أن عانت ما عانت من ضروب الفوضى واختلال الأمن وسقم الحال مدة سنتين تقريبًا، وبقى مختفيًا فيما يقال ثماني سنين ثم قبض عليه مُتنكرًا في زي امرأة، ثم عفا عنه المأمون. وسنذكر ذلك في موضعه.

ملخص الحالة العامة في المدة البغدادية – دخول المأمون بغداد (في صفر سنة ٢٠٤ﻫ/أغسطس سنة ٨١٩م)

لما خمدت ثورة بغداد وفرَّ إبراهيم بن المهدي مختفيًا، واستقر النظام وعاد أهلوها إلى الطاعة والولاء لخليفتهم تقدم إليها المأمون مُتَّئدًا في سيره، إذ كان يقف في أثناء سفره بالمدائن التي يمر بها كي يعيد إليها الأمن ويقر فيها النظام، فأقام في جُرجان شهرًا كما أقام في النهروان ثمانية أيام، فخرج لاستقباله أهل بغداد يتقدمهم أهل بيته وقواده ووجوه المدينة احتفاءً بقدومه إليهم.

وكان المأمون قد كتب في أثناء سفره إلى طاهر وهو في الرقة أن يوافيه في النهروان، فوافاه بها، ثم تقدم بعد ذلك ودخل بغداد في صفر سنة ٢٠٤ﻫ/أغسطس سنة ٨١٩م.

وكان لا يزال الشعارُ الأخضر شعارُ العلويين الذي اتخذه المأمون وهو في مرو شعارَ الدولة، فما زال به كبار قواده وأهل بيته حتى طرحه واستبدل به الشعار الأسود شعار العباسيين.

ويحدثنا يحيى بن الحسن أن المأمون لبس الخُضرة بعد دخوله بغداد تسعة وعشرين يومًا ثم مُزِّقت، ثم خلع الخلع السنية على من حضر من القواد والأشراف ورجالات الدولة، وعفا عن الفضل بن الربيع وزير الأمين الذي كان اختفى بعد مقتله ثم ظهر مساعدًا لإبراهيم بن المهدي في ثورته، وكذلك عفا عن عيسى وزير إبراهيم مع أنهما كانا رأسي الفتن والقلاقل التي أثيرت على حكم المأمون، فكان موقف المأمون معهما غاية في التسامح والكرم.

ولم يكن قد استقر الأمر والنظام في جميع أنحاء الدولة بدخول المأمون بغداد، فقد كان لا يزال نصر بن شبث خارجًا في سوريا، وكانت لا تزال مصر مسرحًا للفتن والقلاقل، وبابُك الخرمي يعظُم خطره في شمال فارس، والزُّط لا يزالون يعيثون في الأرض فسادًا على الخليج الفارسي. وسنقص عليك في موضعه ما وصلت إليه هذه الثورات وكيف أخمدت.

ثم ولَّي المأمون طاهرًا حاكمًا على بغداد، وأقام ابنه عبد الله واليًا على الرقة خلفًا من أبيه، غير أن المأمون لم يلبث أن تنكر لطاهر وأظهر له الجفوة، ثم نرى بعد قليل أن طاهرًا ولِّي حاكمًا على خراسان.

وقد كنا نكون في حيرة من أمر هذا التنكر الفجائي من الخليفة على رجله العظيم من غير سبب ظاهر، ثم ينتهي ذلك بأن يكون حاكمًا على خراسان، لولا أن ابن طيفور يروي لنا أسباب كل هذا في قصة ممتعة ملخصها: أن طاهرًا دخل على المأمون ذات يوم في حاجة، وكان المأمون فيما قيل في مجلس شراب، فأمر له برطلين من النبيذ، ثم بكى المأمون وتغرغرت عيناه فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين، لمَ تبكي، لا أبكي الله عينك؟! فوالله لقد دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك، فقال: أبكى لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجَن؛ فتكلَّمْ بحاجة إن كانت لك. فما زال طاهر بعد ذلك يتخذ الوسائل إلى معرفة السبب حتى وفِّق بالمال إلى إغراء ساقي المأمون أن يتعرف كنه ذلك السبب، فلما تغدى المأمون ذات يوم قال لساقيه: يا حسين، اسقني، قال: لا والله لا أسقيك أو تقول لمَ بكيت حين دخل عليك طاهر! قال: يا حسين، وكيف عُنيت بهذا حتى سألتني عنه؟ قال: لغمِّي بذلك، قال: هو أمر إن خرَج من رأسك قتلتُك، قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرًّا؟! قال: إني ذكرت محمدًا أخي وما ناله من الذلة فخنقتني العَبرة، فاسترحتُ إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره! قال: فأخبر حسين طاهرًا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد وهو وزير المأمون فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيِّبني عن عينه، فقال له: سأفعل؛ فبكِّرْ عليَّ غدًا.

قال وركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال له: ما نمت الليلة، فقال له: ولمَ ويحك! قال: لأنك ولَّيتَ غسان خراسان وهو ومن معه أكَلة رأسٍ،١ فأخاف أن يخرج عليك خارجة من الترك فيصطلمه؛ قال: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قال: فمَن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، قال: ويلك يا أحمد! أهو والله خالع؟ قال: أنا الضامن له، قال له: فأنفذه، قال: فدعا بطاهر من ساعته.

ويظهر أن المأمون، فيما ذكر الرواة، لم يكن مُطمئنًا مع ضمان وزيره لطاهر إلى تعيينه حاكمًا على خراسان، فإن بعض الرواة يقول: إن المأمون أسرَّ إلى خصيٍّ له أمينٍ بمرافقة طاهر حتى إذا رأى منه خروجًا دسَّ له السم.

ثم لم يلبث طاهر بعد أن تولى شئون خراسان وأدارها بحزم وسداد رأي حتى ظهر منه ما كان يخشاه المأمون من خروج وعصيان، فقد أسقط اسم المأمون من خطبة الجمعة، وذكر دعاء مُبهمًا لنصرة الدين، فأنفذ عينُ المأمون عامل البريد فورًا بكتاب إلى المأمون يخبره فيه بما وقع من طاهر، ثم نرى المأمون يتوقع مجيء كتاب آخر وينتظره بفارغ الصبر في اليوم التالي لورود الكتاب الأول، وقد جاءه هذا الكتاب فعلًا ينعى طاهرًا الذي وجد ميتًا في فراشه.

ونحن نرى بعد أن ذكرنا ما ذكرنا أنه لم يبق شيء من الغموض في هذه الناحية من عصر المأمون، وأن تصرفات المأمون مع طاهر ثم خروج طاهر عليه ثم موت طاهر بعد ذلك كلها حوادث واضحة الأسباب معقولة النتائج، ولا نستطيع أن نماشي الأستاذ «ميور» الذي يرى أن على هذه الحوادث جميعها غِشاءً من الغموض كثيفًا.

ثم رأى المأمون بعد موت طاهر أن يولي مكانة ابنه طلحة، وأن يستبقي ابنه عبد الله واليًا على الجانب الغربي من الخلافة، ليقمع ما فيه من ثورات ويسكن ما به من اضطراب، ثم أرسل وزيره مع طلحة ليقوي دعائم سلطانه في ولايته، فشخص الوزير إلى ما وراء النهر وقام بحملة موفقة على بعض العصاة ثم قفل راجعًا إلى بغداد مزودًا، فيما يقول الرواة، بهدية نفيسة له من طلحة مقدارها ثلاث آلاف ألف درهم، ولكاتبه بأخرى مقدارها خمسمائة ألف درهم.

أما طاهر الذي توفي في فراشه، وربما كان الذي يعلم سر وفاته قبل سواه هو المأمون وبطانته؛ فقد قدمنا لك شيئًا في كلمتنا عن النزاع بين الأخوين عن عظيم خطره، وحسن بلائه وخبرته بالحروب، ولا يقل خطره في تدبير الحكم وشئون السياسة عن خطره في الحرب، وكان مع ذلك مشغوفًا بالعلم والأدب مشجعًا لأربابهما، حاثًّا على تعلمهما، وليس أدل على تبريزه في العلم والأدب وخبرته بشئون السياسة وبصره بتصرف الأيام من عهده الذي كتبه إلى ابنه عبد الله. ولسنا نرى ما نقدم به إليك هذا العهد خيرًا من وصف المأمون له حين بلغه، وتقديره له واحتفائه به واستنساخه ثم إرساله إلى عماله في الولايات، قال ابن طيفور: لما عهد طاهر بن الحسين إلى عبد الله ابنه هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه وقال: ما بقَّى أبو الطيب شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة، وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيعة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا أحكمه وأوصى به وتقدم فيه. وأمر أن يُكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.

وكانت كتابة هذا العهد من طاهر لابنه عبد الله حين اختار المأمونُ عبدَ الله لولاية مصر ولمحاربة نصر بن شبث؛ لما رآه فيه من حزم وفطنة وكفاية وحسن بلاء، وكان عهد أبيه إليه قانونًا يُطبقه على نفسه أحزم تطبيق، وكان لا يورد شيئًا في شأن من شئونه أو يصدره إلا على منهجه وفي حدود إرشاداته.

ولما كان هذا العهد من الوثائق التاريخية التي لها قيمتها العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية آثرنا ذكره، وقد أثبتناه في باب المنثور من الكتاب الثالث في المجلد الثالث فراجِعْه.

ثورة نصر بن شبث

أما نصر بن شبث الذي وُجِّه عبد الله بن طاهر لمحاربته بعد أن وُجِّه إليه أبوه، فقد كان ممن خرجوا حين اضطرب نظام الدولة وكثرت الأراجيف ونشط أعداء المأمون خاصة والعباسيين عامة؛ لبقاء المأمون في مرو بعيدًا عن عاصمة الملك وحاضرة الخلافة.

وكان من الممكن أن يكون مصير ثورة نصر مصير غيرها من الثورات التي خمدت بسرعة لولا أن طاهرًا لم يَجدَّ في محاربته، وقد ذُكر أنه قال للحسن بن سهل حينما ندبه للخروج إلى محاربة نصر بن شبث: حاربت خليفة، وسُقْت الخلافة إلى خليفة، وأؤمر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن تُوجِّه لهذا قائدًا من قوادي! وذكر بعض المؤرخين أن طاهرًا فرَّ كالمنهزم أمام نصر بعد معارك حامية بين جنديهما، ولكنه حرص بعد ذلك على ما بقي في يده من البلاد أن يُغير نصر عليها.

ويظهر أن ما يقوله بعض المؤرخين من أن فتور طاهر في محاربة نصر بن شبث يرجع إلى الصدمة التي صدمه بها آل سهل حين حرموه من ثمار فتوحه في العراق له حظ كبير من الحق؛ فإننا لا نسيغ عجز طاهر عن مناهدة نصر وإخضاعه مع ما هو معروف عنه من الدهاء والبصر بالحرب وحسن تعبئته للجيوش، ووضع أدق الخطط لحملاتها، ومع أن وراءه الدولة تُمدُّه بما يحتاج إليه من جند وسلاح ومال.

ومهما يكن من شيء فقد كثُف أنصار نصر وعظُم خطره حتى ذهب إليه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا له: قد وَتَرْت بني العباس وقتلت رجالهم، فلو بايعت لخليفة لكان ذلك أقوى لأمرك! فقال: من أي الناس؟ فقالوا: تبايع لبعض آل علي بن أبي طالب، فقال: أُبايع بعض أولاد السوداوات فيقول: إنه خلقني ورزقني! قالوا: فتبايع لبعض بني أمية، قال: أولئك قوم قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يُقبل أبدًا، ولو سلم عليَّ رجلٌ مدبر لأعداني إدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يُقدِّمون عليهم العجم. فتأمل قوله هذا طويلًا؛ فهو يميط لنا اللثام عن حقائق يجب أن نقف عليها.

يروى لنا التاريخ أن عبد الله بن طاهر الذي نهد لمحاربة نصر بن شبث كتب إلى المأمون يُعلمه أنه حصَره وضيَّق عليه وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه أمانًا نسخته: «أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المُعْذر بالحق المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير المُمكِّنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورًا يطلب الغلبة ظلمًا؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع فأوضِحْ ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقًّا، فلعمري ما همته الكبرى ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد فأعْلِمْ أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك؛ فلعمري ما يستجيز منْع خَلْق ما يستحقه وإن عظُم، وإن كنت متهورًا فسيكفي اللهُ أميرَ المؤمنين مُؤنتك، ويُعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدًا، وأكثف جندًا، وأكثر جمعًا وعددًا ونصرًا منك، فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين.

وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أنبْتَ وراجعت إن شاء الله. والسلام».

وقد ذهب عبد الله بن طاهر إلى وجهه في محاربة نصر ولبث في مناهدته حتى اضطره إلى التسليم نحو خمس سنين، وفي أثناء هذه المدة سعى المأمون إلى إخماد الثورة من طريق الصلح، فندب جعفر بن محمد العامري ليؤدي رسالة منه إلى نصر يطلب منه فيها ترك الحرب والجنوح إلى السلم.

وقد كاد يتم الصلح بين الفريقين وتحقن الدماء ويَذهب عن الناس في تلك النواحي ما أصابهم من فزع وهلع، لولا خُنْزُوانة٢ في رأس نصر قابلتها أخرى، فيما يقول الرواة، في رأس المأمون، حالتا دون هذه الغاية السامية؛ ذلك بأن نصرًا قَبِل ما اقترحه المأمون، لكنه شرط ألا يطأ بساطه، فلما بلغ المأمون هذا الشرط قال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدًا ولو أفضيتُ إلى بيع قميصي حتى يطأ بساطي! ثم كتب إليه المأمون بعد ذلك كتابًا هذه نسخته:
أما بعد، فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها، وبرد ظلها وطيب مرتعها، وما في خلافها من الندم والخَسار وإن طالت مدة الله بك؛ فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرةَ الحجة عليه، لتقع عِبَره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم، وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقعٌ منك، فإن الصدق صدق والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يُعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك ولا أحرص على استنقاذك والانتياش٣ لك من خِطائك مني، فبأي أول أو آخر أو سِطَة أو إمْرة إقدامُك يا نصر على أمير المؤمنين تأخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنًا أو مطمئنًا أو وادعًا أو ساكنًا أو هادئًا؟ فوَعالمِ السرِّ والجهر، لئن لم تكن للطاعة مُراجِعًا، وبها خانعًا لتَستوبلنَّ وَخَم العاقبة، ثم لأبدأَنَّ بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادًا كبيرًا، ولأطأنَّ بمن معي من أنصار الدولة كواهل رِعاع أصحابك، ومَن تأشَّب٤ إليك من أداني البلدان وأقاصيها، وطغامها٥ وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خُرَّاب٦ الناس، ومَن لفظه بلده ونفته عشيرته لسوء موضعه فيهم، وقد أعذر من أنذر. والسلام.

ثم أخذ عبد الله يَجِدُّ في محاربته وحصره حتى ضيَّق عليه واضطره إلى طلب الأمان، وقد احتُفي بنصر وهو ذاهب إلى بغداد خاضعًا للخليفة احتفاء عظيمًا، بيد أن جماعة ممن كانوا ناقمين على المأمون لم يرقهم أن ينتهي الخلاف بينه وبين ثائر قوي، فأرادوا أن يكدروا صفاء السرور فدبروا مؤامرة، وهي أن يقطعوا جسر الزوارق عند اقتراب نصر بموكبه الحافل، فقبض عليهم، ولأمرٍ ما كان المأمون على غير عادته قاسيًا في عقابهم، فقد جاء بزعيمهم ابن عائشة، فيما قال الرواة، وهو من بني العباس، ووضعه على باب داره في أشعة الشمس المحرقة ثلاثة أيام، ثم أمر بضربه بالسياط، ثم أمر بضرب عنقه مع كثير ممن كانوا معه.

نقول لأمرٍ ما كان المأمون قاسيًا في عقابهم لأن الرجل الذي يصل به عفوه وحلمه إلى أن يعفو عن إبراهيم بن المهدي والفضل بن الربيع وغيرهما من أصحاب الكبائر وممن كادوا له حقًّا، وسعوا في ضياع ملكه واستلاب عرشه، لا بد أن يكون الدافع له إلى القسوة في عقاب هؤلاء الأشخاص حاجة في نفسه عمِّيت علينا، ونحن نعترف بأن المصادر التي بين أيدينا لم تفسر لنا تفسيرًا مقنعًا السر في هذا الاشتطاط وهذه المبالغة في العقوبة من المأمون الوديع الحليم.

على أن هذه الحادثة تحتاج إلى تحقيق دقيق، ولم تُتِح لنا المصادر الحاضرة القيام بتعرف وجه الحق فيها، ولا يستبعد البتة أن يكون المأمون منها براء. وليت أعضاء المجمع العلمي العربي وغيرهم من رجال العلم والتاريخ والأدب يعنون بتمحيص مثل هذه النقط المهمة في تاريخ أزهى عصورنا الإسلامية.

الزط

أما الزُّطُّ فهم المعروفون بالنَّوَرة،٧ وقد قال ابن خلدون عنهم: إنهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد.

أما نحن فلا نستطيع من ناحيتنا أن نسلك هؤلاء القوم في سلك أصحاب الثورات، أو الخارجين على الخليفة لنحلة دينية أو مذهب سياسي، وإنما هم طائفة من هنود آسيا كانوا يسكنون شواطئ الخليج الفارسي، قد وُجدوا به حين اضطراب الأمن في أطراف الدولة وضعف سلطان الحكومة، وانصراف القائمين بتدبير الشئون العامة إلى أمر الفتنة القائمة بين الأمين والمأمون التي انتهزها الزط وأمثال الزط فرصة للسلب والنهب والعيث في الأرض فسادًا، فتجمعوا واستولوا على طريق البصرة، فهم بقُرْصان البحر وقطَّاع الطرق أشبه منهم بالثائرين وأصحاب المبادئ.

ويظهر أنهم كما يقول الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك: كانوا إذا أخرجهم الجند تفرقوا في تلك الفيافي، فإننا نرى المأمون يكلِّف غير مرة أكثر من قائد أمر القضاء عليهم، ثم نراهم لا يزالون يعيثون في الأرض فسادًا حتى السنة الأولى من عهد المعتصم الذي كلف أحد قواده، عجيف بن عنبسة، القضاء عليهم، فاهتم عجيف بحربهم وضيق عليهم طريق البر والبحر وحصرهم من كل وجه، ثم حاربهم وأسر منهم نحو خمسمائة رجل، وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع رءوس الأسرى وبعث بالرءوس جميعًا إلى المعتصم، وجدَّ في حربهم حتى اضطرهم إلى التسليم، فإذا عِدَّتُهم سبعة وعشرون ألف شخص بين رجل وامرأة وصبي، وكان من هذا العدد اثنا عشر ألف مقاتل، ثم حملهم في السفن إلى بغداد، فمروا على المعتصم بأبواقهم وهيئتهم الحربية ثم نقلوا آخر الأمر إلى قرية تُسمى عين زَرْبة.٨

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٢٤١ﻫ في عهد المتوكل أن الروم أغارت على عين زربة هذه فأخذت من كان فيها أسيرًا من الزط مع نسائهم وذراريهم وذويهم.

ثورة مصر

أما مصر فقد كانت مسرحًا للقلاقل والفتن، وكان رأس الفتنة وزعيمها عبيد الله بن السري بن الحكم الذي عظم خطره باشتغال عبد الله بن طاهر بمحاربة نصر بن شبث وإخضاعه، ومما زاد في اضطراب النظام في مصر قدوم جماعة من أفَّاقي الأندلس إلى الإسكندرية يحدثنا عنهم الطبري بقوله: حدَّثني غير واحد من أهل مصر أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قِبَل الأندلس فيها جماعة كبيرة أيام شُغل الناس قبلهم بفتنة الجَرَويِّ وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ يدعى أبا حفص، فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله مصر.

ويحدثنا عن الفتنة التي كانت بمصر بقوله: قال لي يونس بن عبد الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتًى حدَث، يعني عبد الله بن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا وأمَّن البريء وأخاف السقيم واستوثقت له الرعية بالطاعة.

أما ما كان من أمر عبد الله بن طاهر في مصر، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما انتهى أمر نصر بن شبث، كما قدمنا، كتب المأمون إلى عبد الله يأمره بالتوجه إلى مصر لإخماد ما فيها من فتنة، فذهب إليها وجادَّ الثائرين القتال حتى اضطرهم جميعًا إلى طلب الأمان فأجابهم إليه.

وأما الأندلسيون الذين حضرت جماعة كبيرة منهم إلى الإسكندرية فقد طلبوا الأمان على أن يرتحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم، فرحلوا إلى جزيرة إقريطش «كريت» فاستوطنوها وأقاموا بها.

وأما ما كان من ابن السري فإنه طلب الأمان إلى عبد الله، وذلك بعد قتال عنيف وانهزامه شر هزيمة.

ولما أخمدت الفتنة في مصر وبلغ المأمون الخبر كتب إلى عبد الله يهنئه، وجعل في أسفل كتابه أبياتًا من الشعر إن ثبت صدورها من المأمون حقًّا ولم تكن من وضع القُصاص والرواة، فإنها تعتبر آية في كرم أخلاق المأمون. وقد ذكرناها في علاقة المأمون مع عماله.

وقد كتب إليه أحمد بن يوسف وزير المأمون يهنئه بهذا الفوز كتابًا بليغ اللفظ رشيق الأسلوب هذه نسخته:
بلغني، أعزَّ الله الأمير، ما فتح الله عليك وخروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عَنَدَ٩ عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يُظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وَلِيَك مُذ ظَعَنتَ لوجهك، فإنا ومَن قِبَلنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونُكثر التعجب لما وفِّقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جند ورعية عدَل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمَّن آسفه١٠ وأضغنه عفوك، ولقلما رأينا ابن شَرَف لم يُلقِ بيده مُتَّكلًا على ما قدَّمت له أبوته، ومن أُوتِي حظًّا وكفاية وسلطانًا وولاية لم يُخلِد إلى ما عفا له حتى يُخِلَّ بمُساماة ما أمامه، ثم لا نعلم سائسًا استحق النُّجح لحسن السيرة وكفِّ معرَّة الأتباع استحقاقك، وما يستجيز أحد ممن قِبَلنا أن يقدِّم عليك أحدًا يَهوِي عند الحاقة والنازلة المُعضلة، فليَهْنِكَ منة الله ومزيده، ويُسوِّغك الله هذه النعمة التي حواها لك، بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه، وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرمًا مقدمًا معظمًا، وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويُعدُّونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابِّه كما وفق لك صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تُطْغِك ولم تزدد إلا تذلُّلًا وتواضعًا، فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك وأودع فيك. والسلام.

وقد خرج المأمون إلى مصر في ١٦ من ذي الحجة سنة ٢١٦ هجرية أثر شخوصه إلى دمشق للمرة الثانية، وكان خروجه إلى مصر، فيما يقول الرواة، لإخماد ما قام فيها من فتن واضطرابات، وذلك أن أهالي الوجه البحري خرجوا ومعهم أقباط البلاد على عيسى بن منصور عامل مصر؛ لسوء سيرته فيهم ولقبح صنيعه معهم.

ويحدثنا التاريخ أن عيسى هذا قد بذل ما في مقدوره لإخماد الفتنة والقضاء على الثورة، فلم يحالفه الظفر، وأخرجه الثوار أقبح مُخْرج من البلاد، فقدم القائد التركي المعروف بالأفشين وعمل على قمع الفتنة وإخماد الثورة، وقتل مقتلة ذريعة من الأهلين فسكنت الفتنة إلى حين.

ثم عادت الفتنة ثانية واندلع لهيبها واستدعت خطورتها قدوم المأمون إلى مصر، فجاء إليها ونظر في شكاة الأهلين وعمل على إنصافهم، وسخط على عيسى بن منصور ونسب إليه وإلي سيئ أعماله كل ما حدث في طول البلاد وعرضها من فتن وثورات.

ويظهر أن الثورة المصرية لم تُخمَد تمامًا، وأنها تطلَّبت من المأمون إلى جانب ما أظهره من رغبة في إحقاق الحق وإجراء العدل شيئًا من الحزم واستعمال القوة، فجادَّ الثائرين القتال حتى أذعنوا أخيرًا، ويقول المؤرخون: إنه لبث في مصر أربعين يومًا أو يزيد؛ إذ قدمها في الخامس من محرم سنة ٢١٧ﻫ وبقي بها إلى الثامن عشر من صفر.

ويظهر أنه قضى هذه المدة إلى جانب اشتغاله بحرب أهلها بالتنقل بين العاصمة وبعض الأعمال مثل سِنْجار وحُلوان وغيرهما.

ومن أعماله في مصر تعمير مقياس النيل وبعض إصلاحات أخرى بالجزيرة تجاه الفسطاط. وعاد المأمون أخيرًا إلى دمشق بعد أن شَهِد المصريين وخربهم وعدم احتمالهم ظلم الحكام والولاة.

بابك الخُرَّمِي

يخبرنا المؤرخون أن بابك الخرمي قد ظهر من كورة في شمال بلاد فارس تسمى «البذ»، وقد كان خروجه للدعوة إلى مذهبه الإباحي سنة ٢٠١ﻫ، وكان المأمون لا يزال في «مرو» قبل أن ينتقل إلى عاصمة ملكه بغداد، وقد امتدت فتنة بابك عنيفةً طوال عهد المأمون وصدرًا من عهد المعتصم.

وقال أبو سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي في كتاب الإنساب: «الخرمي»١١ هذه النسبة إلى طائفة من الباطنية يقال لهم الخرمدينية، قوم يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر اللذات ونكاح ذوات المحارم وفعْل ما يتلذذون به، فلما شابهوا في هذه الإباحة المَزْدَكية من المجوس الذين خرجوا في أيام قُباذ وأباحوا النساء كلهنَّ وأباحوا سائر المحرمات إلى أن قتلهم أنوشروان بن قباذ، قيل لهم بهذه المشابهة خرمدينية كما قيل للمزدكية.

وقبل أن نخوض في تفصيل حوادث هذا الرجل وما بذله المأمون ثم المعتصم في قتاله، ثم ما كان من مصيره بعد ذلك على يد الأفشين قائد المعتصم التركي سنة ٢٢١ﻫ، قبل كل هذا نحب أن نورد لك ما ذكره ابن النديم في فهرسته عن مذهب الخُرَّمِية البابكية وما يتعلق به؛ لتكون على بصيرة من مذهب الرجل وما كان يدعو إليه من نِحْلة وبِدعة.

قال محمد بن إسحاق: «الخُرَّمية صنفان: الخُرَّمية الأوَّلون ويُسمون المُحمِّرة، وهم منتشرون بنواحي الجبال فيما بين أذربيجان وأرمينية، وبلاد الديلم وهمذان ودِينَور، وفيما بين أصفهان وبلاد الأهواز، وهؤلاء أهل مجوس في الأصل ثم حدث مذهبهم، وهم ممن يعرف باللقطة، وصاحبهم مزدك القديم أمرهم بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات، والأكل والشرب والمواساة والاختلاط، وترك الاستبداد بعضهم على بعض، ولهم مشاركة في الحُرَم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، ومع هذه الحال فيرون أفعال الخير وترك القتل وإدخال الآلام على النفوس، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم؛ إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنًا ما كان، وعلى هذا المذهب مزدك الأخير الذي ظهر في أيام قباذ بن فيروز وقتَله أنوشروان وقتَل أصحابَه، وخبرُه مشهور معروف. وقد استقصى البلخي أخبار الخرمية ومذاهبهم وأفعالهم في شربهم ولذاتهم وعبادتهم في كتاب «عيون المسائل والجوابات» ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قد سبقنا إليه غيرنا».

«فأما الخرمية البابكية فإن صاحبهم بابك الخرمي، وكان يقول لمن استغواه: إنه إله، وأحدث في مذاهب الخرمية القتل والغصب والحروب والمثلة، ولم يكن الخرمية يعرفون ذلك.»

ثم ذكر صاحب الفهرست بعد ذلك نشأته وما وقع له في بدء أمره حتى صار إمام هذه النحلة التي تنسب إليه، نقلًا عن واقد بن عمرو التميمي الذي عمل أخبار بابك، فقال: وكان أبوه رجلًا من أهل المدائن دهَّانًا، نزع إلى ثغر أذربيجان فسكن قرية تدعى «بلال أباد» من رستاق «ميمند»، وكان يحمل دهنه في وعاء على ظهره ويطوف في قرى الرستاق، فهوى امرأة عوراء، وهي أم بابك، وكان يفجُر بها برهة من دهره، فبينما هي وهو منتبذان عن القرية متوحدان في غيضة ومعهم شراب يعتكفان عليه، إذ خرج من القرية نسوة يستقين الماء من عين في الغيضة، فسمعن صوتًا نبطيًّا يُترنَّم به فقصدن إليه، فهجمنَ عليهما فهرب عبد الله وأخذنَ بشعر أم بابك، وجئن بها إلى القرية وفضحنها فيها، قال واقد: ثم إن ذلك الدهان رغب إلى أبيها فزوجه منها فأولدها «بابكًا»، ثم خرج في بعض سفراته إلى جبل سيلان واعتراضه من استقفاه وجرحه فقتله، فمات بعد مُدَيدة، وأقبلت أم بابك ترضع للناس بأجرة إلى أن صار لبابك عشر سنين، فيقال: إنها خرجت في يوم من الأيام تلتمس بابكًا وكان يرعى بقرًا لقوم، فوجدته تحت شجرة قائلًا وهو عريان، وإنها رأت تحت كل شعرة من صدره ورأسه دمًا، فانتبه من نومه فاستوى قائمًا وحال ما رأت من الدم فلم تجده، قالت: فعلمت أنه سيكون لابني نبأ جليل.

قال واقد: وكان أيضًا بابك مع الشبل بن المنقى الأزدي برستاق سراة يعمل في سياسة دوابه، وتعلَّم ضرب الطُّنبور من غلمانه ثم صار إلى تبريز من عمل أذربيجان، فاشتغل مع محمد بن الرواد الأزدي نحو سنتين ثم رجع إلى أمه وله ثمان عشرة سنة، فأقام عندها، قال واقد بن عمرو: وكان بجبل البذ وما يليه من جباله رجلان من العلوج متحرمين ولهما جِدةٌ وثروة، وكان متشاجرين في التملك على من بجبال البذ من الخرمية ليتوحد أحدهما بالرياسة، يقال لأحدهما: «جاويدان بن سهرك»، والآخر غلبت عليه الكنية يعرف ﺑ «أبي عمران»، وكانت تقوم بينهما الحرب في الصيف وتحول بينهما الثلوج في الشتاء لانسداد العقاب، فإن جاويدان، وهو أستاذ بابك، خرج من مدينته بألف شاة يريد بها مدينة رنجان من مدائن ثغور قزوين، فدخلها وباع غنمه وانصرف إلى جبل البذ، فأدركه الثلج والليل برستاق ميمند، فعاج إلى قرية «بلال أباد» فسأل جريرها إنزاله، فمضى به بالاستخفاف منه بجاويدان فأنزله على أم بابك وما تستبيت من ضَنْك وعُدم، فقامت إلى نار فأججتها ولم تقدر على غيرها، وقام بابك إلى غلمانه ودوابه فخدمهم وأسقى لهم الماء، وبعث به جاويدان فابتاع له طعامًا وشرابًا وعلفًا وأتاه به، وخاطبه وناطقه فوجده على رداءة حاله وتعقد لسانه بالأعجمية فَهِمًا، ورآه خبيثًا شهمًا، فقال لأمه: أيتها المرأة، أنا رجل من جبل البذ ولي به حال ويسار، وأنا محتاج إلى ابنك هذا؛ فادفعيه إليَّ لأمضي به معي فأوكله بضياعي وأموالي وأبعث بأجرته إليك في كل شهر خمسين درهمًا، فقالت له: إنك لشبيه بالخير، وإن آثار السعة عليك ظاهرة، وقد سكن قلبي إليك، فأنهِضه معك إذا نهضت. ثم إن أبا عمران نهض من جبله إلى جاويدان فحاربه فهُزم، فقتل جاويدانُ أبا عمران ورجع إلى جبله وبه طعنة أخافته، فأقام في منزله ثلاثة أيام ثم مات — وكانت امرأة جاويدان تتعشق بابكًا، وكان يفجر بها — فلما مات جاويدان قالت له: إنك جلد شهم! وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغدٍ، فإني جامعتهم إليك، ومُعلِمتهم أن جاويدان قال: إني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني وتدخل في بدن بابك وتشترك مع روحه، وإنه سيبلغ بنفسه وبكم أمرًا لم يبلغه أحد ولا يبلغه بعده أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة ويرد المزدكية، ويعزُّ به ذليلُكم ويرتفع به وضيعكم، فطمع بابك فيما قالت له واستبشر به وتهيأ له.

فلما أصبحت تجمَّع إليها جيش جاويدان فقالوا: كيف لم يدعُ بنا ويوصِ إلينا؟! قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث وجمعكم انتشر خبره، فلم يأمن عليكم شرة العرب، فعهد إليَّ بما أنا أؤديه إليكم إن قبلتموه وعملتم به، فقالوا لها: قولي ما عهد إليك؛ فإنه لم تكن منا مخالفة لأمره أيام حياته، وليس منا مخالفة له بعد موته، قالت: قال لي: إني أموت في ليلتي هذه، وإن روحي تخرج من جسدي وتدخل بدن هذا الغلام خادمي، وقد رأيت أن أملِّكه على أصحابي، فإذا متُّ فأعلميهم ذلك، وإنه لا دين لمن خالفني فيه واختار لنفسه خلاف اختياري، قالوا: قد قبلنا عهده إليك في هذا الغلام! فدعت ببقرة فأمرت بقتلها وسلخها وبسط جلدها، وصيَّرت على الجلد طستًا مملوءًا خمرًا وكسرت فيه خبزًا، فصيرته حوالي الطست، ثم دعت برجل رجل فقالت: طَأ الجلدَ برجلك، وخذ كسرة واغمسها في الخمر وكُلْها وقُل: آمنت بك يا روح بابك كما آمنت بروح جاويدان، ثم خذ بيد بابك فكفِّر عليها وقبِّلها، ففعلوا ذلك إلى وقت ما تهيأ لها فيه طعام، ثم أحضرتهم الطعام والشراب وأقعدته على فراشها، وقعدت معه ظاهرة لهم، فلما شربوا ثلاثًا ثلاثًا أخذت طاقة ريحان فدفعتها إلى بابك، فتناولها من يدها، وذلك تزويجهم، فنهضوا وكفَّروا لهما رضًا بالتزويج، والمسلمون غريبهم ومواليهم.

•••

وبعد، فإنا نستطيع أن نقول مستندين إلى ما ذكره ابن النديم وغيره عن نشأة بابك ومذهبه وتعاليمه: إن الباعث الذي دفعه إلى الخروج غير البواعث التي دفعت نصر بن شبث في الشام، وإبراهيم بن المهدي في بغداد، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا في الكوفة، وغيرهم ممن كانوا منقادين بفكرة سياسية أو عامل جنسي، وإنما كان خارجًا على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك العصر، وكذلك كانت وجهة نظر بغداد في قتاله ومطاردته.

أجل! لم تكن الغاية في نظر بغداد من قتاله إخضاعه لسلطان الخلافة، حتى إذا أتيح لها إخضاعه رضيت عنه وكفت القتال دونه، وإنما كانت الغاية التي ترمي إليها القضاء على مذهبه وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع.

وربما جاز لنا أن نقول: إن موقفه من الخلافة الإسلامية في ذلك العصر أشبه شيء بموقف البلاشفة من الأمم المتحضرة في عصرنا الحاضر.

وهاك ما فعله الخليفة المأمون مع بابك والبابكيين بعد ما عاثوا في الأرض فسادًا وأخافوا السبل وأثاروا الاضطراب، بعث المأمون لمحاربتهم بعد أن انتقل إلى بغداد يحيى بن معاذ، فكانت بينهما وقعة لم يتح الفوز فيها لأحدهما على الآخر، ثم اختار المأمون قائدًا آخر هو عيسى بن محمد، فولاه أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، فنُكب وفشل، ثم وجه إليه صدقة بن علي المعروف بزريق، وندب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي، فأسره بابك، ثم بعث إليه محمد بن حميد الطوسي فقتله بابك سنة ٢١٤ﻫ بهشتادسر وفضَّ عسكره وقتل جمعًا كثيرًا ممن كان معه.

وهكذا كان أمر بابك؛ كلما وُجِّهت إليه حملة هزمها؛ لمكانه الحصين وقوته الكبيرة وشدة تأثيره في قلوب أتباعه وأنصاره، وأخيرًا انصرف عنه المأمون لانشغاله بمناوأة الروم، حتى إذا شعر بدنو منيته كتب في وصيته إلى المعتصم بشأن بابك يقول:

والخُرَّمية فأغْزِهم ذا حزامة وصرامة وجلد، واكنُفه بالأموال والسلاح والجنود، من الفرسان والرَّجَّالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك مقدم النية فيه راجيًا ثواب الله عليه.

وقد عظم خطر بابك وكثر الداخلون في مذهبه في أول عهد المعتصم سنة ٢١٨ﻫ، وما زال به المعتصم يُجرِّد إليه الحملات تلو الحملات حتى انتهى أمره في سنة ٢٢١ﻫ بأسْره، وقتْله ﺑ «سُرَّ مَن رأى»، هو ورهط من أتباعه، على يد قائد المعتصم التركي العظيم حيدر بن كاوس الأشروستي المعروف بالأفشين.

مذاهب ونحل

ويحسن بنا أن نشير هنا إلى أن هذا العصر من العصور الإسلامية قد كثر فيه الاختلاط بين أمم الشرق والغرب، فظهرت في العالم الإسلامي مقالات دينية وفلسفية كثيرة غريبة، أشار إليها مؤرخو الآراء والمذاهب، تجد طرفًا منها في فهرست ابن النديم، وطرفًا في كتب «الملل والنحل»، وطرفًا في كتاب الأستاذ «برون» الذي وضعه عن «تاريخ الفرس الأدبي»، ففيه شيء عن المانيَّة١٢ وغيرها، وقد وقف أبو العلاء المعري عند هذه الآراء والمذاهب في «رسالة الغفران» وقفة ممتعة.

على أنا لا نحب أن نعرض لهذه المقالات بشرح أو تفصيل؛ لأنا نحس إحساسًا صادقًا، وربما كنا فيه على حق، أن الكثير من هذه الآراء والمذاهب لا يزال غامضًا لقلة النصوص وعدم غناء المصادر وكفايتها، ونظن أن الاحتياط في مثل هذا الموقف أسلم وأبقى، وكل ما نأمله هنا ونرجوه حقًّا أن يتجرد لمثل هذا البحث الممتع النافع بعض الذين يُعنون بتاريخ الآراء والمذاهب الفلسفية والدينية في الإسلام.

افتراضات

أما وقد انتهينا من كلمتنا الموجزة عن السياسة الداخلية في عصر المأمون، فقد حق علينا أن نتساءل: لماذا مكث المأمون شطرًا طويلًا من سِنيِّ حكمه في خراسان دون بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية؟

أما أن نزعم لك أنا سنجيبك إجابة دقيقة مقنعة، فهذا ما لا نقبله لك ولا لأنفسنا؛ لأن المصادر التي بين أيدينا لم تكشف لنا القناع عن وجه الصواب في ذلك.

إذن فسنقدم لك آراء لنا في هذا الصدد يجدر بنا أن نعتبرها بمثابة افتراضات لا أكثر ولا أقل.

نفترض أن الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل، وحولهم حولهم وسلطانهم سلطانهم، آثروا بقاء المأمون في «مرو» عاصمة خراسان حيث تُجبى أموال الدولة إليه؛ ليكون نصيب البقاع الفارسية والشيعة الفارسية من هذه الأموال أوفر.

ونفترض أن المأمون وجماعته كانوا يحسون إحساسًا، ربما كان صادقًا، أن كبار رجالات الدولة من العرب القاطنين بغداد لم يكن هواهم مع دولته الفارسية الطابع والميول، وأنهم كانوا لذلك يخشون النزوح إلى بغداد قبل لمِّ شعثهم وتقوية سلطانهم.

ونفترض أنهم آثروا القُرب من الولايات التي تمدُّهم بجندها ورجالها، كما آثروا أن يكونوا في أوساطهم الفارسية التي من مصلحتها نصرة المأمون وتوطيد دعائم ملكه، والعمل على خذلان مناوئيه.

هذه افتراضات رأينا أن نقيدها لك لتتأمل فيها، فربما كان بعضها سائغًا معقولًا، على أن تكون حذرًا كل الحذر فلا تتورط في اعتبار كل فرض سائغ معقول لازم الوقوع في التاريخ، فكثيرًا ما يقع في التاريخ غير المعقول من الحوادث.

(٣) السياسة الخارجية

نعتقد أن الوقت لم يَأْن بعدُ لدرس السياسة الخارجية في أيام المأمون وغيره من خلفاء المسلمين دراسة علمية محققة؛ ذلك لأن كل ما نعرف من أمر هذه السياسة إنما هو الروايات العربية التي تناقلها المؤرخون متأثرين بأشياء كثيرة.

فقد كان الكثيرون من هؤلاء الرواة يجهلون لغات الأمم الأجنبية التي كانت العلاقات متصلة بينها وبين المسلمين، كما كانوا متأثرين بالحرص على رفع شأن الدولة الإسلامية والتنويه بمجدها وسلطانها؛ فاضطرها هذا كله إلى الغلو حينًا، وإلى التقصير حينًا آخر.

ولم يظفر البحث بعدُ بنصوص تاريخية واضحة معاصرة كتبت في غير اللغة العربية، ومع أن الباحثين في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية «الروم» جادون في التنقيب على النصوص والآثار التي تجلو تاريخ هذه الدولة في القرون الوسطى، فهم لم يصلوا بعدُ إلى شيء ذي غناء فيما يَمسُّ علاقتها بالدول الإسلامية، فأما الأمم الشرقية الأُخَر التي كانت على اتصال بالمسلمين فلم تترك لنا شيئًا، أو لم نظفر من آثارها التاريخية بشيء ذي قيمة، وإذن فنحن مضطرون إلى أن نعتمد اعتمادًا مؤقتًا ملؤه الاحتياط والتحفظ على ما كتبه العرب.

ونحن نعلم أن السياسة الخارجية في عصر المأمون كانت تنقسم إلى قسمين متمايزين: الأول سياسته مع دول إسلامية مستقلة عن الخلافة. والثاني سياسته مع دول أجنبية غير إسلامية.

وليس هناك شكٌّ في أن سياسة المأمون مع الدول الإسلامية المستقلة كانت واضحة بينة الأسلوب؛ فقد اعتقدت الخلافة العباسية دائمًا أن المسلمين جميعًا يجب أن يذعنوا لسلطانها، وإذن فلم تعترف في وقت من الأوقات باستقلال الأمويين في الأندلس، ولا الأدارسة في المغرب الأقصى، وإنما اعتبرتهم بغاةً وعجزت مع ذلك عن إخضاعهم لسلطانها فعلًا أو اسمًا، فاضطرت إلى أن تتقيهم من ناحية، وتؤلب عليهم من ناحية أخرى.

على ذلك نستطيع أن نفهم تشجيعها دولة بني الأغلب في إفريقية وعطفها عليها؛ فقد كانت هذه الدولة تستمتع بشيء من الاستقلال غير قليل، وتظفر بحماية الحلافة؛ لأنها كانت بمثابة الحرس الأمامي الذي يرد عن الخلافة غارات هؤلاء البُغاة، ويحول بينهم وبين التوسع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

نستطيع أن نفهم هذا، وأن نفهم أيضًا ما نلمحه لمحًا في القصص من اتصال علاقات ودية بين بغداد وملوك الفرنج الذين كانوا يُناوئون بني أمية في الأندلس.

أما القسم الثاني من السياسة الخارجية فينقسم أيضًا إلى قسمين: أحدهما سياسة الخلافة مع أهل الشرق الذين لم يخضعوا لسلطان المسلمين كالترك والديلم، وهذه السياسة واضحة أيضًا — على قلة النصوص — فقد كانت سياسة توسع وبسط للسلطان، ولكن في احتياط وتحفظ ومصانعة، وكانت بغداد تعتبر كل هذه الناحية من الشرق منطقة نفوذ تسلك في استغلالها واتقائها عند الحاجة طريقًا كلها حكمة وفطنة، فبينما نراها تهاجم فتفتح وتأسر نراها مرة أخرى مُوادِعة مُحالفة مُستخدمة، وهي تستفيد في الحالين، ولكنك تعلم حق العلم ما أنتجته هذه السياسة آخر الأمر حين ضعف الخلفاء، من تسلُّط أهل هذه المنطقة على أمور الدولة وعبثهم بعظمة الخلافة.

والقسم الثاني هو سياسة الخلافة مع قياصرة «قسطنطينية»، وهذا القسم هو الذي نستطيع أن نقول في غير تردد: إنه احتاج حقًّا إلى جهود الخلفاء وكفاياتهم؛ فقد كانت العلاقة بين «قسطنطينية» و«دمشق» أيام الأمويين، وبينها وبين «بغداد» أيام العباسيين شديدة الاضطراب والتعقد لا تكاد تستقر على حال، وإنما هي حرب حينًا، وسلم حينًا آخر.

ومهما يكن من شيء فقد كانت القاعدة الأساسية لهذه السياسة أن الحرب هي الحال الطبيعية بين الدولتين، فأما السلم فحال عارضة؛ ولذلك كانت تسمى دائمًا هدنة، وربما كان من المعقول أن نقول: إن أصحاب «قسطنطينية» و«بغداد» كانوا يضطرون إليها اضطرارًا.

غزو المأمون للروم

قدمنا لك في الكلام عن بابك الخرمي أن المأمون أرسل إليه آخر حملة بقيادة محمد بن حميد الطوسي سنة ٢١٢ﻫ، وأن هذه الحملة باءت بالهزيمة والفشل كما باء غيرها مما سبقها من حملات، وأن المأمون انصرف عن بابك مؤقتًا لاشتغاله بغزو الروم الذين يعلل بعضُهم سبب تحفُّز المأمون إلى غزوهم، بعد أن ظل السلم المسلح بينه وبينهم زهاء ست عشرة سنة، بما تأكده المأمون من مشايعتهم لبابك وإمدادهم إياه بالمعونة.

ويقول الأستاذ «ميور» في بيان سبب هذه المهادنة الطويلة بين الخلافة والروم، وعدم انتهاز المسلمين فرصة الثورة التي نشبت في بلاد الروم بين «توماس» و«ميخائيل» لغزو آسيا الصغرى: «إنه لا شك أن تريث العرب عن اقتحام بلاد الروم في ذلك الوقت يرجع إلى أن بطريق أنطاكية ببلاد سوريا كان قد توج توماس إمبراطورًا، ولو نجح في تأميره وسلطانه لكفى العرب مئونة القتال، ولكان توماس هذا تابعًا للخليفة المأمون».

على أن المأمون قد شخص سنة ٢١٥ﻫ إلى بلاد الروم ليغزوها سالكًا إليها طريق الموصل، ثم منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة، ومنها خرج إلى طرسوس، وهي الثغر الإسلامي، ومن طرسوس دخل بلاد الروم في منتصف جمادى الأولى (يوليو سنة ٨٣٠م) ففتح وغنم كثيرًا من الحصون ثم شخص إلى الشام، وورد عليه في دمشق الخبر بأن ملك الروم قتل قومًا من أهل طرسوس والمصيصة، فأعاد الكرة إلى بلاد الروم، وكان الظفر والتوفيق حليفه في هذه الكرة أيضًا.

وفي المدة التي قضاها المأمون بين مصر ودمشق بدأت المناوشات بين عماله وملك الروم، ثم اشتدت حتى اضطُرَّ إلى أن يشخص إلى بلاد الروم للمرَّة الثالثة، وهي المرة التي توفِّي فيها.

وفيما هو سائر إليها معتزمًا تحقيق خطة رسمها لنفسه؛ إذ يقول: أُوجِّه إلى العرب فآتي بهم من البوادي ثم أُنزلهم كل مدينة افتتحها حتى أضرب إلى القسطنطينية، إذ جاءه رسول ملك الروم يحمل إليه كتاب مولاه يطلب فيه الصلح والمهادنة، وهذه نسخته فيما يقول الرواة العرب: «أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولستَ حريًّا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظًّا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كافٍ عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليًّا وحزبًا، مع اتصال المرافق والفسْح في المتاجر وفك المستأسر وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدِبُّ لك في الخمر،١٣ ولا أزخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شانٌّ خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدَّمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علَم الحجة. والسلام».

أما رد المأمون عليه، فيقول المؤرخون العرب إن نسخته كانت: «أما بعد، فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة مما استعطفت به من شرح المتاجر واتصال المرافق وفك الأسارى ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعتُ إليه من إعمال التؤدة، والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبلة إلا في استصلاح ما أوثر في مُعتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلًا تحمل رجالًا من أهل البأس والنجدة والبصيرة، ينازعونكم عن ثُكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلُّون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أُوصل إليهم من الأمداد، وأُبلغ لهم كافيًا من العدة والعتاد؛ هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرَّتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نَظِرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول والإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى».

(٤) كلمة ختامية عن وفاة المأمون ورجالاته ومعاصريه ووصيته

لقد عاجلت المنية المأمون دون تحقيق خطته بموضع يقال له «البدندون» بين «لؤلؤة» و«طرسوس»، وكانت وفاته لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ٢١٨ﻫ وسِنُّه ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر.

أما عن كبار رجالات المأمون وولاته فيقول اليعقوبي: وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطته العباس بن المسيب بن زهير، ثم عزله وولَّى طاهر بن الحسين ثم عبد الله بن طاهر الذي استخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجَّه إسحاق بأخيه خليفة له على شرطته.

وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلاوي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام ثم قتله وولَّى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد بن هشام وعلي بن صالح صاحب المُصلَّى، قال: وخلَّف من الولد الذكور ستة عشر ذكرًا؛ وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر — وهو ابن معللة وتوفي في حياته — ومحمد الأصغر وعبيد الله أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.

أما صاحب «نهاية الأرب» فقد ذكر في الجزء العشرين من كتابه أن حجابه هم: عبد الحميد بن شبث، ثم محمد وعلي ابنا صالح مولى المنصور، ثم إسماعيل بن محمد بن صالح.

وذكر أن قضاته هم: محمد بن عمر الواقدي، ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومي، ثم بشر بن الوليد. وكان نقش خاتمه فيما ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف: «الله معه عبد الله به نؤمن».

•••

وقد يكون من المفيد لنا من وجهة نظر التاريخ المصري أن نقف على ولاة مصر وقضاتها في عهد المأمون؛ وذلك ييسره لنا كتابان ممتعان وافيان في هذا الموضوع، وهما: كتاب «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي، وكتاب «الولاة والقضاة» الذين ولوا أمر مصر وقضاءها للكندي. ونحن ذاكرون لك هؤلاء الولاة والقضاة على وجه الاختصار:

أما الولاة فهم: مالك بن دلهم، وحاتم بن هرثمة، وجابر بن الأشعث، وعبَّاد بن محمد، والمطلب بن عبد الله، والعباس بن موسى، والسري بن الحكم، وسليمان بن غالب، ومحمد بن السري، وعبيد الله بن السري، وعبد الله بن طاهر، وعيسى بن يزيد، وعمير بن الوليد، وعبدويه بن جبلة.

ولقد حدثنا المؤرخون في أيامه عمَّا سُمِّي في مصر بالبدع المأمونية الأربع: فالبدعة الأولى منها هي لبس الخُضْرة وتقريب العلوية وإبعاد بني العباس. والثانية: القول بخلق القرآن، والثالثة: ما كتبه المأمون إلى نائبه ببغداد أن يأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا الجمعة وبعد الصلوات الخمس.

ثم أباح المأمون في هذه السنة — وهي سنة ٢١٥ﻫ — «المُتْعة»، فقال الناس: هذه بدعة رابعة. وبعد ولاية ابن جبلة هذا ولاية عيسى بن منصور ونصر بن عبد الله، وشهرته كيدر، والمظفر بن كيدر.

أما قضاة مصر في عهده فهم: عبد الرحمن العمري، وهاشم بن أبي بكر البكري، وإبراهيم بن البكاء، ولهيعة بن عيسى الحضرمي، والفضل بن غانم، وإبراهيم بن إسحاق العاري، وعطاف بن غزوان، وجعله عبد الله بن طاهر على المظالم، وبعدئذٍ ولي القضاء من قبله عيسى بن المنكدر، وأخيرًا هارون بن عبد الله.

أما معاصروه فقد كان يعاصره في الأندلس الحكم بن هشام ثالث أمراء بني أمية، ثم ابنه عبد الرحمن، وفي عهدهما سمعنا رأي الأندلس في القول بخلق القرآن؛ فقد قال أبو خلف المعافِري:

لا والذي رفع السما
ء بلا عماد للنظرْ
ما قال خلقٌ في القُرا
ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل
من عند خلَّاق البشر

وكان يعاصر المأمون في بلاد المغرب الأقصى إدريس بن إدريس بن عبد الله ثم ابنه محمد بن إدريس، ويعاصره في إفريقيا من بني الأغلب عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب ثم ابنه زيادة الله بن إبراهيم فاتح صقلية، ويعاصره في فرنسا «شارلمان» صديق أبيه، ثم «لويز الأول» المُلقَّب باللين، ويعاصره في القسطنطينية «ليون الأرمني» و«ميخائيل» المُلقَّب بالتمتام، ثم ابنه «توفيل».

أما صفته فهي كما ذكرها صاحب «نهاية الأرب»: «كان المأمون ربعة أبيض طويل اللحية رقيقها قد وخطه الشيب، وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أجنى أعين ضيق الجبهة، بخده خال أسود» وكذلك وصفه الطبري وغيره.

ولما حضرته الوفاة أوصى لأخيه المعتصم من بعده، وعلل بعضهم أن الوصية كانت للمعتصم دون ابنه العباس بأن الثاني كان متغيبًا عنه ساعة وفاته.

ولقد أثبتنا لك في باب المنثور من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث وصيته التي أوصى بها حين مماته؛ لقيمتها التاريخية، ولأنها توضح بعض آرائه وتفصح عن السر في بعض تصرفاته، فراجعها ثمة.

هوامش

(١) يريد أنهم قليل عددهم يشبعهم رأس واحد.
(٢) الخنزوانة: الكبر.
(٣) استنقاذك من الهلكة.
(٤) أي اختلط بك وانضم إليك.
(٥) الطغام: أوغاد الناس.
(٦) جمع خارب وهو: اللص، وخصَّه الأصمعيُّ بسارق الإبل.
(٧) يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار: «إن النور قبيلة من القبائل الآسيوية كالقاجار الذين نسميهم الغجر والتاتار أو التتر، وهم يعرفون بالشلخت في النمسا والمانيا، وفي بلاد الإنكليز أسمهم جبسون، ويسميهم الترك باسم «قبط»، وفريق منهم يسمى سنجانه وهم سكان تراقيا، وفي مصر يسمون تارة غجرًا وتارة حلبًا.»
(٨) ضبطها ياقوت بفتح الزاي وسكون الراء وباء موحدة وألف مقصورة، وقال: إنها بلد بالثغر من نواحي المصيصة بناها الرشيد سنة ١٨٠ﻫ، وندب إليها ندبة من أهل خراسان وغيرهم وأقطعهم إياها.
(٩) عند عن الشيء: مال عنه وعدل.
(١٠) آسفه: أغضبه.
(١١) جاء في القاموس وشرحه: «خُرَّمة» كسُكَّرة: قرية بفارس منها بابك الخرمي الطاغية الذي كاد أن يستولي على الممالك زمن المعتصم، ثم قال: وتخرَّم الرجل دان بدين الخُرَّمِية أصحاب التناسُخ والحُلُول والإباحة.
(١٢) المانية، وأتباعها يقال لهم المانوية، هي النحلة التي أتى بها ماني من وجود إلهين: إله الخير وإله الشر، وكان وجوده قبل الإسلام بمدة طويلة، وقد اعتبر زنديقًا وقُتل وسُلخ وحُشس جلده وعُلِّق على أحد أبواب نيسابور، ويُعرف بباب ماني، ولكن نحلته لم تكن تعدم أنصارًا بعد موته، فكانت تظهر ويتبعها أناس في فترات مختلفة:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تحقق أن المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب
(١٣) الخمر «بالتحريك»: ما وارى الشخص من شجر وغيره، يقال: دبَّ له في الخمر إذا تخفَّى له ليختله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤