خاتمة: التفسيرات الجوهرية

كوبلستون: … لكن ما تعنيه إجمالًا، لورد راسل، أنه من غير المنطقي حتى التساؤل عن أصل العالم، أليس كذلك؟
راسل: بلى، هذا رأيي.
كوبلستون: إذا كان السؤال ليس له معنى من وجهة نظرك فبالطبع من الصعب للغاية مناقشته، أليس كذلك؟
راسل: بلى، من الصعب للغاية. ما رأيك لو تحدثنا عن موضوع آخر؟
مناظرة بين الأب إف سي كوبلستون وبرتراند راسل1

من البديهي لأي مناقشة تتناول أسئلة الوجود المطلقة أن تكون مزعجة لأغلب العلماء، وأن تدخل عالم التخمين غير المألوف. وقد رأيت أنه من المفيد أن أختم الكتاب بتلخيص لمزايا وعيوب وجهات النظر المتباينة التي عرضتها في هذا الكتاب. وهناك من العلماء والفلاسفة البارزين من هم مستعدون للدفاع عن كل وجهة نظر منها.

(١) الكون العبثي

هذا، على الأرجح، موقف أغلب العلماء. وفق وجهة النظر هذه فالكون لسبب غامض هو ما هو عليه، ومن قبيل المصادفة أنه يسمح بالحياة. كان يمكن للأمر أن يكون خلاف ذلك، لكن هذا هو ما نراه. ولو كان حال الكون مختلفًا، فلم نكن لنوجد كي نتجادل بشأنه. قد يكون للكون وحدة كامنة عميقة، وقد لا يكون الأمر كذلك، لكن لا يوجد تصميم أو غرض أو هدف من ورائه على الإطلاق، على الأقل ما يمكن لنا أن نتفهمه. لا يؤمن أنصار هذه النظرة بوجود إله أو مصمم أو مبدأ غائي أو مصير محتوم، فالحياة بوجه عام، والبشر بوجه خاص، ليسوا إلا زينة لا هدف منها موجودة في كون شاسع لا معنى له، ووجودها لغز يستحيل فهمه.

ميزة هذا الرأي أنه من السهل اعتناقه، سهل حتى إنه يعد تهربًا من القضية. فإذا لم يكن هناك معنى أو نظام أعمق فلا جدوى للبحث عن أي منهما. وبوجه خاص، لا معنى وراء البحث عن علاقة بين الحياة والعقل والكون؛ إذ إنه وفقًا لهذه النظرة لا توجد علاقة، باستثناء تلك العلاقة الواهية لظهور الحياة من الكون وظهور العقل من الحياة بمحض الصدفة. عيب فكرة الكون العبثي أنه لا يمكن أن نتوقع من العلم الكشف عن طبقات جديدة أعمق من النظام أو المزيد من العلاقات بين الظواهر الطبيعية. وما دام لا يوجد نظام متسق تسير وفقه الأشياء فهذا يعني أن نجاح البحث العلمي إلى الآن لغز مبهم، ولا يوجد ما يضمن أن الوسائل المستخدمة إلى الآن في البحث العلمي ستواصل الكشف عن المزيد من الأنظمة الموجودة دون مبرر منطقي أسفل السطح الظاهر للأمور. إن وجود الحياة، ضد احتمالات كثيرة معاكسة، يُعزى لمصادفة استثنائية. والاعتماد على الحظ، مثل الاعتماد على المعجزات، ليس بالتفسير المُرضي. أيضًا يجب قبول حقيقة أن الحياة أدت لظهور العقل في مصادفة تاريخية أخرى. وبالمثل، يجب التعامل مع حقيقة أن العقول قادرة على تفهم الكون بوصفها إما مصادفة أخرى أو ربطها بفكرة مبهمة مفادها أن العقول تطورت بحيث تميز الأنماط، وأن الأنماط العميقة للفيزياء وعلم الكونيات — دون أي سبب مجددًا — تشبه أنماط العالم اليومي المعتاد على كوكبنا (وهو في الحقيقة أمر غير صحيح في معظمه).

(٢) الكون المتفرد

تقضي هذه النظرة بأن هناك وحدة كامنة عميقة في الفيزياء، وأن هناك نظرية رياضية «في مكان ما» ستفسر الأمر بأكمله، فقط لو كنا بالذكاء الكافي لصياغتها. قد تكون هذه النظرية هي نظرية الأوتار أو النظرية M أو غيرها. ومهما تكن النظرية ذاتها فإنها ستكون مبنية على مبادئ رياضية عميقة لا تترك مساحة لأي تعديل. وجميع قوانين الفيزياء، وكل المتغيرات الموجودة في النموذج المعياري، وثوابت الطبيعة المتعددة، ووجود الفضاء بأبعاده الثلاثة والزمان ببعده الواحد، ونشأة الكون، وميكانيكا الكم، والزمكان النسبوي وسماته السببية — النظام بأكمله — سيتدفق بشكل ثابت حتمي من هذه النظرية النهائية. وستكون هذه بحق نظرية لكل شيء.

في النسخة المتطرفة لهذه النظرة، ولنسمِّها (٢أ)، يجب أن يوجد الكون على النحو الذي هو عليه، ويستحيل أن يوجد على أي نحو آخر. هناك نوع فريد متسق ذاتيًّا من الواقع المادي. ومن هنا فإن كان هناك إله، فلن يجد هذا الكيان شيئًا يفعله أكثر من أنه ربما «ينفث النار في المعادلات»، وهذا لأنه ليس أمامه اختيار، ولا توجد أي متغيرات حرة أو مساحة للتصميم. وفي النسخة الأقل تطرفًا من هذه النظرة، (٢ب)، يمكن أن يوجد الكون على نحو مغاير؛ فقد تكون هناك نظريات موحدة عديدة تصف أكثر من واقع واحد، وجميعها متسق ذاتيًّا، إلا أن هذا الواقع محل البحث هو الوحيد الصالح للحياة، دون سبب لهذا. وعلى هذا يكون وجود هذا الكون تحديدًا إما أمرًا غامضًا أو عبثيًّا؛ لأنه لا يوجد سبب يجعل هذا الواقع المتسق ذاتيًّا هو «المنشود». هذه النظرة (٢ب) يبدو أن أغلب الفيزيائيين العاملين على برامج التوحيد والجوانب الأخرى للفيزياء الأساسية، على غرار فيزياء الطاقات العالية، يعتنقونها.

ميزة فكرة الكون المتفرد أنها تحافظ على حلم الوصول لفهم كامل للوجود المادي. لا شيء يُترك دون تفسير، ولا شيء ذا طبيعة جوهرية يتم بصورة عشوائية أو بمحض الصدفة، أو يحتاج أن يصلحه مصمم مجهول. إذا كان هناك كون واحد (٢أ)، فستمثل النظرية النهائية أعظم انتصار للفكر البشري. وأخيرًا سنعرف سبب الوجود، الذي كان من الضروري أن يكون على هذه الصورة (وإلا لم يكن الوجود ليظهر على الإطلاق). عيب النظرة (٢ب) هو أنه رغم أن النظرية الموحدة الناجحة الخالية من المتغيرات ستكون بين يدينا، فإن السؤال الأساسي «لماذا هذه النظرية تحديدًا؟» سيظل دون جواب. ومعظم العلماء، في اعتقادي، سيرضون بهذا، بعدم معرفة إجابة سؤال الوجود الأساسي هذا. عيب آخر لكل من وجهتي النظر (٢أ) و(٢ب) هو أن ملاءمة الكون للحياة تُنَحَّى جانبًا بوصفها مصادفة غير ذات مغزى. ولأن النظرية تضبط كل شيء من حسن حظنا أن يكون هذا الضبط متسقًا مع الحياة والعقل (ناهيك عن الفهم أيضًا).

(٣) الكون المتعدد

قلة من العلماء، رغم أن عددهم في تزايد، يدعمون الآن نظرية الكون المتعدد بإحدى صورها أو بأخرى. تشير أغلب النماذج الكونية بقوة إلى وجود وفرة من النطاقات الكونية (على سبيل المثال، الأكوان الفقاعية، الأكوان الجيبية، المناطق الكونية المتنوعة) كملمح طبيعي عام يكون فيه الانفجار العظيم الذي تسبب في مولد كوننا ليس إلا واحدًا من انفجارات عديدة (عددها لانهائي على الأرجح) تسببت في توليد وفرة من «الأكوان». إضافة إلى ذلك تتنبأ العديد من النظريات التي تسعى لتوحيد الفيزياء بنوع من التفاوت في بعض ثوابت الطبيعة على الأقل — المتغيرات التي تدخل في النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات — وفي بعض هذه النظريات يوجد تفاوت في شكل قوانين فيزياء الطاقات المنخفضة أيضًا، وهذا يفتح الباب لتباينها من منطقة كونية إلى أخرى مع برود الأكوان من نشأتها المتقدة. نموذج، أو نماذج، التوحيد المفضلة، المعروفة بنظرية الأوتار/النظرية M، يبدو أنها تتضمن نوعًا من «المشهد العام» للعديد من أكوان الطاقات المنخفضة الممكنة، دون أن يوجد شيء واضح يميز كونًا بعينه.
ميزة نظرية الكون المتعدد هي أنها تقدم تفسيرًا طبيعيًّا بسيطًا لملاءمة الكون ملاءمة عجيبة للحياة؛ إذ إن المراقبين لا يتواجدون إلا في الأكوان التي، على غرار عصيدة جولديلوكس، تكون «مناسبة تمامًا» بمحض الصدفة. أما الأكوان غير الملائمة للحياة فعددها مهول، بيد أنها بطبيعة الحال غير مسكونة بالحياة، لذا تمضي دون ملاحظة. عيب نظرية الكون المتعدد هو اعتمادها على الوفرة المهولة للكيانات الكونية، أغلبها لا يمكن حتى رصده، ولو بشكل نظري. يرى الكثيرون أن تلك الوفرة الزائدة وسيلة مبالغ فيها لتفسير ملاءمة الكون للحياة. أيضًا من العسير للغاية اختبار هذه النظرية. أما المراقبون فيُنظر إليهم بوصفهم عامل اختيار، وبهذا تُترك إمكانية الفهم الغامضة للكون (للعقل البشري على الأقل) دون تفسير. لا تقدم نظرية الكون المتعدد تفسيرًا كاملًا للوجود؛ لأنها تتطلب قدرًا كبيرًا من الفيزياء «المواتية» وغير المفسرة كي تنجح. على سبيل المثال، لا بد من وجود آلية لتوليد الأكوان، وأن تصف ميكانيكا الكم كل شيء، وأن تُقبَل قوانين موحدة من نوع ما (على غرار تلك التي تنشأ عن نظرية الأوتار/النظرية M) بوصفها قوانين «مسلمًا بها». وبهذا يفتقد الكون، على الأقل في هذه الصورة «المعتدلة»، قوة النظرة (٢أ) (الكون المتفرد)، مع أنه ليس أسوأ حالًا من النظرة (٢ب). لا يزال قدر من الانتقاء البارع يجب عمله، ليس لكون واحد، بل لأكوان متعددة. وبهذا لم تُحل مشكلة الوجود، وإنما أزيحت لمستوى واحد أعلى.
يتفادى النموذج المتطرف للكون المتعدد، الذي اقترحه ماكس تجمارك، الانتقاد الأخير؛ إذ إنه يقضي بأن جميع الأكوان الممكنة — أيًّا كان نوعها — موجودة بالفعل، وليس فقط تلك الأكوان التي تنبثق من نموذج رياضي محدد على غرار نظرية الأوتار/النظرية M ونظرية التضخم. ميزة هذه النظرة هي أنها تفسر كل شيء، وذلك لأنها تحتوي على كل شيء. هذا يجعلها تتسم بالبساطة و«الطبيعية»، لكنه في الوقت ذاته يجعلها نظرية فارغة من المعنى؛ فالنظرية التي تفسر كل شيء هي في الواقع لا تفسر شيئًا. ومع ذلك فالكون المتعدد الذي يحوي أقل من كل شيء يعني ضمنًا وجود قاعدة تفصل بين ما يوجد بالفعل، وما يمكن أن يوجد لكنه ليس موجودًا. وهذه القاعدة تظل دون تفسير. من العيوب الأخرى لنظريات الكون المتعدد هو أنها قد تقود إلى التنبؤ بالأكوان الوهمية التي (على الأقل وفق عملية حسابية بسيطة) تفوق الأكوان الحقيقية عددًا، وهو ما قد يفضي بنا إلى نتيجة عجيبة مفادها أن الكون المرصود قد يكون وهميًّا، وبهذا لا يمكننا أخذ الفيزياء الخاصة به على محمل الجد على أي حال.
يتعرض أنصار فكرة الكون المتعدد للهجوم من جميع الجهات؛ فالمتدينون يعتبرون النظرية محاولة جنونية للتملص من فكرة الإله، ويعتبرونها: «الملجأ الأخير للملاحدة اليائسين» حسب كلمات الفيلسوف نيل مانسون.2 وعلى الجانب الآخر ينظر العلماء الملتزمون بشدة بنظرية الأوتار/النظرية M لها بوصفها تنازلًا جبانًا عن المسئولية المهنية في مواجهة الصعوبات الرياضية.

(٤) التصميم الذكي

تقضي نظرة الديانات التوحيدية التقليدية بأن الكون من خلق الله، وأنه صُمم كي يلائم الحياة، وذلك لأن ظهور كائنات عاقلة جزء من الترتيب الإلهي. ميزة هذه النظرة أنها تقدم تفسيرًا بسيطًا للضبط الدقيق في الكون وملاءمته للحياة، إلى جانب كونها تفسيرًا «طبيعيًّا» لهؤلاء الذين قرروا لأسباب أخرى أن الله موجود. كما أنها تنسب السمات الكونية التي يغلب عليها طابع التصميم إلى مصمم، وهو أمر يبدو معقولًا بدرجة كافية. ولكن العيب الواضح في هذه النظرة أنها تنهي النقاش عند هذا الحد؛ فمجرد إعلان أن «الرب هو الذي فعلها» لا يقدم تفسيرًا فعليًّا لأي شيء؛ إلا إذا كان في استطاعتنا أيضًا أن نحدد «كيف» و«لماذا» فعلها. كما تصطدم هذه النظرية بمعضلة من الذي صمم المصمم، إلا إذا أمكن ترسيخ فكرة الكيان الضروري الذي يجب أن يوجد، وإثبات اختلافها، وتفوقها، على فكرة الكون الضروري الذي يجب أن يوجد، وعلى النحو الذي هو عليه (كما في النظرية (٢أ)).

المشكلة الرئيسية الأخرى في نظرية التصميم الذكي أن طبيعة المصمم تختلف تمام الاختلاف عن الرب في الديانات التوحيدية التقليدية؛ على سبيل المثال، من الممكن وفق هذه النظرية أن تضم «وكالة التصميم»، إذا جاز التعبير، لجنة من الآلهة. من الممكن أيضًا أن يكون المصمم كيانًا أو كيانات طبيعية، عقلًا فائقًا متطورًا مثلًا أو حضارة فائقة في كون سابق أو في منطقة أخرى من كوننا، جعلت كوننا هذا يستخدم تكنولوجيا فائقة. وقد يكون المصمم حاسوبًا فائقًا يحاكي هذا الكون. ومن هنا فإن فكرة اللجوء إلى أن هناك «ذكاءً خارقًا» من نوع ما يمثل السلحفاة العملاقة الطافية في الهواء مليئة بالمشكلات.

(٥) مبدأ الحياة

في هذه النظرية تنشأ ملاءمة الكون للحياة من قانون أو مبدأ عام يحتم على الكون المتفرد/المتعدد أن يتطور نحو الحياة والعقل. ميزة هذه النظرة أنها «تأخذ الحياة بجدية»، بحيث لا تعاملها على أنها مكسب إضافي فقط لا تفسير له، مثلما هو الحال في النظرتين (١) و(٢)، ولا على أنها عامل انتقاء سلبي فقط، كما هو الحال في النظرة (٣). هي شبيهة نوعًا بالنظرة (٤)، لكن مع إضافة مبدأ غائي. باختصار، هذه النظرة تضع الغرض في نسيج الكون على مستوى جوهري (وليس عرضيًا)، دون افتراض وجود عامل سابق على الكون.

عيب هذه النظرة هو أن الغائية تتعارض بشدة مع التفكير العلمي التقليدي، الذي يُرى فيه التطور الموجه نحو هدف بعينه على أنه أمر غير علمي. يتساءل منتقدو هذه النظرية عن الطريقة التي «سيعرف» بها الكون عن وجود الحياة حتى يهيئ نفسه لظهورها المحتوم في المستقبل، وهذا يعود بنا لمشكلة السببية، سواء من ناحية كيفية إضافة مبدأ للحياة إلى نظام للقوانين المادية من المفترض أنها تفسر بالفعل كل شيء، وأيضًا من ناحية غرابة فكرة السببية العكسية، التي تسير عبر الزمن سيرًا معكوسًا. وكما أوضحت، قد لا تكون هذه العيوب قاتلة، لكنها بالتأكيد تثير ضيق العلماء. ينظر العلماء الملحدون إلى أي حديث عن مبدأ توجيهي على أنه غطاء يسمح بعودة فكرة التدخل الإلهي في العلم، حتى لو كان مفهوم التدخل هنا مختلفًا عن مفهومه التقليدي. يعاني مبدأ الحياة أيضًا مشكلة اختيار الحياة والعقل تحديدًا وجعلهما «هدفًا» للتطور الكوني، دون توضيح سبب ذلك. يستطيع المرء أن يرشح أي حالة متميزة معقدة للمادة ويقدس ظهورها في مبدأ غائي. لذا يجب أن يُقبل مبدأ الحياة ذاته كحقيقة، راسخة، إلى جانب قوانين الفيزياء الموجودة دون أي تفسير. يمكن الخلاص من هذا الاعتراض إذا دمجنا المبدأ الغائي مع فكرة الكون المتعدد؛ لأن وقتها فقط الأكوان التي بها مبدأ «الحياة» مغروس في قوانينها ستحصل على فرصة الملاحظة. ومع هذا فإن اللجوء لفكرة الكون المتعدد لن يساعد إلا في نقل المشكلة من «من أين أتى مبدأ الحياة؟» إلى «من أين أتى الكون المتعدد؟» وحسب.

(٦) الكون المفسر لذاته

جميع الخيارات السابقة تصطدم بمعضلة برج السلاحف، باستثناء النظرة (٢أ)، ونسخة تجمارك من الكون المتعدد (تحت النظرة (٣)) والتصميم الإلهي (٤). ثمة شيء لا يمكن تفسيره يجب القبول به بوصفه أمرًا مسلمًا به، ثم تُبنى بقية النظام التفسيري استنادًا على هذا الأساس. من طرق تجنب هذا الفخ اللجوء لفكرة الحلقة التفسيرية المغلقة أو الحلقة السببية. هنا يفسر الكون (المتفرد أو المتعدد — إذ إن الفكرة تصلح لكلا النوعين) نفسه. بل إن هناك نماذج تتضمن حلقات سببية أو سببية تسير عبر الزمن سيرًا عكسيًّا، يخلق فيها الكون نفسه. ميزة هذا النظام هو أنه مستقل بذاته، ويجنبنا معضلة برج السلاحف ومن ثم الاضطرار للإيمان بوجود سلحفاة عملاقة في نهاية المطاف. لكن عيبه هو أنه لا يوضح لنا لماذا هذا الكون — هذا الكون المؤلف لذاته والمفسر لذاته تحديدًا — هو الكون الموجود، وليس أيَّ نظام آخر مفسرًا لذاته. ربما جميع الأنظمة المفسرة لذاتها موجودة وفقط تلك التي تشبه نظامنا هي التي تُلاحظ لأنها تلائم الحياة، وهنا نكون بصدد تنويع آخر على مفهوم الكون المتعدد. أو ربما، وهي الفكرة الأفضل، لا يكون الوجود شيئًا يُمنح من الخارج عن طريق عامل خارجي «ينفث نار الحياة»، بل ربما يكون شيئًا مولدًا لذاته. لقد اقترحت أن الحلقات ذات الاتساق الذاتي القادرة على تفهم نفسها هي القادرة وحدها على خلق ذاتها، وبهذا فقط الأكوان التي بها حياة وعقل (أو إمكانية ظهورهما) هي التي توجد حقًّا.

(٧) الكون الوهمي

نحن نعيش في عالم من المحاكاة الحاسوبية، وما نظنه عالمًا حقيقيًّا ليس إلا واقعًا افتراضيًّا مصاغًا ببراعة. هذا تنويع على سيناريو التصميم لكنه مُحسَّن بحيث يلائم عصر المعلومات. تتمتع هذه النظرة بميزة البساطة التي تتمتع بها فكرة التصميم، لكن عيبها هو أنها تقوض البحث العلمي. إذا كان الكون صوريًّا فما الداعي لمحاولة تفهم كيفية عمله إذن؟

(٨) لا شيء مما سبق

هل تغافلت عن أي سيناريو آخر؟3

•••

أنا عن نفسي أميل إلى التفسيرين (٥) و(٦)، رغم أن العديد من التفاصيل لا تزال بحاجة للعمل عليها. إنني آخذ الحياة والعقل والغرض مأخذ الجد، وأقر بأن الكون على الأقل «يبدو» كأنه مصمم بدرجة عالية من البراعة. لا يمكنني قبول هذه الملامح كحزمة أعاجيب تصادف وقوعها، وأنها موجودة دون تفسير منطقي. يتراءى لي أن هناك نظامًا شاملًا ومخططًا حقيقيًّا تسير الأمور عليهما، فللكون «هدف» ما. لكنني أيضًا غير مرتاح لفكرة الركون لتفسير الصدفة العشوائية والتخلي عن أي محاولات تفكير إضافية والتسليم بأن الوجود سيظل لغزًا أبديًّا.

كثيرًا ما يقال إن العلم خالٍ من التحيزات، أو على الأقل ينبغي أن يكون كذلك. لا شك أن العلم، حين يمارس بالشكل السليم، هو أقل المساعي الإنسانية تأثرًا بالأهواء والمعتقدات المسبقة. لكن في نهاية المطاف لا مفر من أن يكوّن العلماء (وأنا منهم) آراءً خاصة بهم تقوم على نظرة أكثر عمومية عن العالم، تتخللها عناصر شخصية وثقافية بل حتى دينية. كثير من العلماء قد ينتقدون ميلي للتفسيرين (٥) و(٦) قائلين إنهما يخفيان منظورًا دينيًّا. وقد يزعمون أن نظرتي للعقل البشري وقدرتنا الاستثنائية على فهم العالم من خلال العلم والرياضيات بوصفهما حقيقة ذات مغزى جوهري تفضح ميلي لتلك النظرة الدينية العامة التي تضع الإنسان في موضع خاص في الوجود. وهذا رغم إيماني بأن الإنسان العاقل ليس أكثر من نتاج جانبي عرضي لعمليات طبيعية عشوائية. ومع ذلك فإنني مؤمن بأن الحياة والعقل متغلغلان في أعماق نسيج الكون، ربما من خلال مبدأ ضبابي غير مدرك بالكامل للحياة، وإذا أردت أن أكون أمينًا فسيكون علي أن أقر بأني أستشعر هذا في قلبي أكثر من عقلي. لذا ربما يعد اقتناعي هذا دينيًّا بشكل ما.

أما أصحاب القناعات الدينية فسيعتبرون التفسير (٤) صحيحًا بما لا يدع مجالًا للشك، وسيرفضون محاولتي لبحث ما وراء مفهوم التصميم ويدينونها بوصفها علامة على أنني استسلمت بالكامل لعقيدة المذهب العلمي. على النقيض من ذلك، فالعلماء الذين يأملون من قلوبهم في صحة التفسير (٢) لا يحاولون إخفاء التزامهم بنوع من الأيديولوجية. لا أنكر حق أنصار مبدأ توحيد الفيزياء في ذلك؛ فهم إذا استطاعوا التوصل إلى نظرية التوحيد الخالص فلن تعد هذه أعظم نظرية علمية على مر الزمان فقط، بل ستكون النظرية التي ستنهي جميع النظريات. ومع ذلك فإن عداوة بعضهم للتفسيرات (٣) و(٤) و(٥) و(٦) تشي بما هو أكثر من مجرد رأي علمي. هناك أيضًا مجموعة كبيرة من العلماء تتمنى — ربما ردًّا على التركيز على الإنسان الشائع في الفكر الديني التقليدي، أو مدفوعة بالفزع من قسوة البشر وتدميرهم للبيئة — أن تقلل من أهمية البشر أو حتى تحقر منهم، وما يستتبعه ذلك من تحقير لسمات بشرية مثل الذكاء والفهم. مع هؤلاء العلماء أي محاولة لاقتراح نزعة غائية أو تطور تدريجي نحو الوعي، أو حتى صوب درجة أعلى من التعقيد، هو أمر محرم. وحججهم في ذلك تشي بوجود أجندات أيديولوجية خفية. ومن هذا المنطلق هم لا يختلفون كثيرًا عمن استقروا مقدمًا على تفسير ديني ما للطبيعة، ثم يطوعون الحقائق العلمية كي تناسب معتقداتهم المكتسبة سلفًا. في الوقت ذاته يجب الاعتراف بأن أغلب العلماء يلتزمون بالتفسير (١)، ويواصلون عملهم تاركين الأسئلة الكبيرة للفلاسفة ورجال الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤