الفصل الثالث

كيف بدأ الكون؟

(١) بقايا الكون المبكر

أذكر أنني حضرت دورة تعليمية في علم الفلك في جامعة لندن عام ١٩٦٧ كان المحاضر فيها يتحدث عن موضوع إشعاع الخلفية الكوني، الذي كان يعد أحد الاكتشافات الحديثة وقتها. وقد أخبرنا أنه بالاستناد إلى ما يمكن استقاؤه من هذا الاكتشاف بشأن الحالة المبكرة الكثيفة الحارة للكون، من الممكن التوصل إلى التغيرات الفيزيائية التي وقعت في الدقائق القليلة الأولى التي أعقبت الانفجار العظيم. انفجر جميع الحاضرين في الضحك؛ ففي تلك الأيام كان من الصعب أخذ أي تحليل تفصيلي لما كان الكون عليه بعد دقائق من نشوئه بمحمل الجد. وحتى الإنجيل لا يخبرنا عن الأمر إلا بالكلمات «في اليوم الأول». ومع هذا، في غضون سنوات قليلة صار «الكون المبكر» — الذي حدده علماء الكونيات على أنه المرحلة الممتدة ما بين واحد ميكروثانية بعد الانفجار العظيم ووقت التقاط صور المسبار WMAP (٣٨٠ ألف عام) — موضوع دراسة روتينيًّا في المحاضرات ومشاريع رسائل الدكتوراه. وحتى كتاب ستيفن واينبرج الذي حقق أعلى المبيعات بعنوان «الدقائق الثلاث الأولى» كان يعد بالفعل من المراجعات التقليدية حين نُشر عام ١٩٧٧.

دعوني أبدأ بذكر بعض الإنجازات المباشرة لنظرية الانفجار العظيم. إن أكبر نجاحاتها يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالموضوع الرئيسي لهذا الكتاب؛ ملاءمة الكون للحياة. في الفصل الأول تحدثت عن بعض متطلبات الحياة، وعلى رأسها وجود مخزون من العناصر الكيميائية المتعددة التي تستخدمها الكائنات الحية. هذه العناصر لم توجد لحظة الانفجار العظيم؛ إذ كانت الحرارة شديدة بما يمنع تكونها. وبعد عقود من الأبحاث صار من الممكن إعادة بناء كيفية تكون العناصر بنوع من التفصيل. تبدأ القصة بعد الانفجار العظيم بثانية واحدة. في ذلك الوقت، كانت الحرارة تزيد عن ١٠ مليار درجة مئوية، أي أشد حرارة من أشد النجوم حرارة. في ظل هذه الظروف لا تستطيع الذرات التواجد، وحتى أنوية الذرات ستتهشم تمامًا. على هذا لم تكن حالة الكون وهو في عمر ثانية واحدة إلا حساء (أو بلازما على نحو أدق) من المكونات الذرية الحرة؛ بروتونات ونيوترونات وإلكترونات.

الهيدروجين هو أبسط العناصر الكيميائية؛ إذ تحتوي نواته على بروتون وحيد. إن أغلب البروتونات التي خرجت من الانفجار العظيم ظلت حرة، وقُدر لها أن تكون ذرات هيدروجين فور أن هدأت حرارة الكون بما يكفي كي يقتنص كل بروتون إلكترونًا. (هذه الخطوة الأخيرة لم تحدث لقرابة ٤٠٠ ألف عام.) في الوقت ذاته لم تكن جميع البروتونات منعزلة؛ إذ اصطدم بعضها بنيوترونات والتصق بها مكونًا الدويتيريوم، وهو أحد النظائر النادرة للهيدروجين يحمل بروتونًا ونيوترونًا في كل نواة. واندمجت بروتونات أخرى مكونة الهليوم، ثاني أبسط العناصر الكيميائية، وتحتوي نواته على بروتونَيْن ونيوترونين. إن ما أصفه يطلق عليه الاندماج النووي، وهي عملية معروفة بشكل كبير. بإمكان البروتونات والنيوترونات أن تندمج معًا مكونة أنوية مركبة فور أن تهبط درجة الحرارة بقدر معين حتى لا تتحطم النواة المكونة حديثًا ثانية بسبب الحرارة الشديدة. إلا أن نافذة الفرص أمام الاندماج النووي كانت محدودة؛ حيث فُتحت والكون يبلغ من العمر ١٠٠ ثانية أو نحو ذلك، وأغلقت مجددًا بعد دقائق قليلة. وفور هبوط الحرارة ما دون حوالي المائة مليون درجة، يتوقف الاندماج النووي لافتقار البروتونات الطاقة التي تمكنها من التغلب على قوى التنافر الكهربي المتبادلة.

من الممكن احتساب مقدار الهليوم المتكون وعدد البروتونات التي تركت حرة لتكون الهيدروجين، على افتراض صحة الفكرة الأساسية للانفجار العظيم الحار. تبلغ الإجابة حوالي ثلاث ذرات هيدروجين في مقابل كل ذرة هليوم، ولا شيء آخر دون ذلك (خلا كميات ضئيلة من الدويتيريوم والليثيوم). هذا تقريبًا ما قدره علماء الفلك فيما يخص الوفرة النسبية لأبسط العناصر. كيف عرفوا؟ إن كل العناصر الكيميائية تَحْمِل، على الضوء الذي ينبعث منها، «كودًا شريطيًّا» على صورة خطوط مرئية في أطيافها، وبتحليل الضوء الصادر عن النجوم يستطيع علماء الفلك قراءة هذه الأكواد الشريطية ومعرفة ما يتكون منه النجم. يستخدم نفس الأسلوب مع أي مصدر فلكي يطلق (أو يمتص) الضوء، بما في ذلك سحب الغاز المنتشرة. وعن طريق هذه القياسات بتنا نعرف أن الكون مكون بالكامل تقريبًا من الهيدروجين والهليوم بنسبة تقارب الثلاثة إلى واحد. إن الهليوم، إذن، هو الأثر الباقي للدقائق الأولى القليلة للكون.1

ذكرت للتو أن الاندماج النووي أمر معروف. في حقيقة الأمر أغلب العمليات الفيزيائية التي جرت خلال الفترة بين واحد على مليون من الثانية وعدة دقائق من الانفجار العظيم تعتبر من الأشياء العادية الآن. ولا أعني ذلك من الناحية النظرية وحسب؛ إذ صار من الممكن اختبار العمليات الفيزيائية التي جرت في الكون المبكر بطريقة مباشرة في المختبرات. في لونج أيلاند توجد آلة عملاقة تسمى مصادم الأيونات الثقيلة والمصممة بغرض دفع أنوية الذهب وغيره من الذرات الثقيلة للارتطام بعضها ببعض مباشرة، بقوة كافية تحاكي ظروف الكون المبكر بعد جزء من المليون من الثانية من بدايته، حين كانت درجة الحرارة تربو على التريليون درجة. هذه التصادمات عالية الطاقة تمكن العلماء في مختبر بروكهافن الوطني، الذي ابتكر المعجل، من رؤية ما كان يحدث حين كان الكون الذي نشاهده اليوم مضغوطًا إلى حجم لا يتجاوز حجم نظامنا الشمسي، في درجة حرارة تزيد بمليون ضعف عن حرارة قلب الشمس. وقد اتضح أنه في ظل هذه الظروف القاسية، حتى البروتونات والنيوترونات لا يمكنها التواجد ككيانات مستقلة، بل كانت منصهرة في خليط غير منتظم الشكل من الشظايا دون النووية.

(٢) سرعان ما افتقد الانفجار العظيم الزخم

جرت العمليات التي كنت أناقشها في كون كان يتمدد ويبرد بسرعة كبيرة للغاية. وكتوضيح للأمر، فإن حجم الكون القابل للرصد تضاعف تقريبًا ما بين الميكروثانية (واحد على مليون من الثانية) الأولى والثانية بعد الانفجار العظيم. إن معدل التمدد هذا يفوق معدل التمدد الذي يشهده الكون اليوم بتريليون تريليون مرة. إلا أن هذه السرعة المحمومة لم تدم طويلًا؛ فبحلول الثانية الأولى بعد الانفجار انخفض معدل التمدد إلى واحد على تريليون مما كان عليه في الميكروثانية الأولى. من السهل فهم سبب هذا التباطؤ الكبير؛ إن الجاذبية، قوة الجذب العامة بين جميع أشكال المادة، عملت عمل المكابح التي تهدئ من سرعة تمدد الكون، وذلك بفضل الحالة المضغوطة ضغطًا استثنائيًّا للمادة في ذلك الوقت. استمر الأثر المبطئ على مدار الدقائق والساعات والسنوات وآلاف السنوات التالية، لكن «معدل»، أو حجم، التباطؤ بدأ يقل مع الوقت مع اتساع الكون وضعف تأثير قوة الجاذبية. يبين الشكل ٣-١ المنحى العام الذي اتخذه تمدد الكون، وفيما بعد سأبين كيف أن هذا التباطؤ ربما يكون قد انعكس وتحول إلى تمدد متسارع، بعد انقضاء مليارات قليلة من الأعوام. لكن في الوقت الحالي نحن مهتمون فقط بالكون المبكر، حين كان معدل التمدد يتباطأ بقوة.

إن فكرة التمدد السريع لكن المتباطئ تثير قضية مهمة، وهي المقارنة بين معدل التمدد وسرعة تغير العمليات الفيزيائية الجارية، على سبيل المثال، التفاعلات النووية. إذا وقع تفاعل من هذا النوع بعد عشر ثوان من حدوث الانفجار العظيم واستغرق، لنقل، جزءًا على ألف من الثانية، في هذه الحالة لن يكون لحقيقة تضاعف الكون في الحجم كل بضع ثوان أي أهمية؛ إذ إن معدل التمدد سيكون بطيئًا للغاية مقارنة بمعدل التفاعل بحيث لا يؤثر عليه مطلقًا. لكن إذا وقعت العملية التي تستغرق جزءًا على ألف من الثانية في كون يتمدد بمعدل، لنقل، «نصف» جزء على ألف من الثانية سيكون الأمر مختلفًا تمامًا، ففي هذه الحالة سيكون التمدد غير مستقر، ويفشل التفاعل في ملاحقة سرعة التمدد. إن قصة الكون المبكر تحمل تقلبات عديدة في هذا الجانب؛ ففي بعض الأحيان تواكب المادة الكونية معدل التمدد في السرعة، وفي حالات أخرى تتجمد في حالة محددة من لحظة سابقة. وسنرى في الفصول الأخيرة كيف أن هذه الأحداث «المجمِّدة» لعبت دورًا محوريًّا في جعل الكون ملائمًا للحياة.

fig12
شكل ٣-١: تبطئ الجاذبية معدل تمدد الكون. ينبغي أن يزيد حجم الكون مع مرور الوقت، وذلك وفق نظرية النسبية العامة. وقد بدأ الكون في التمدد بشكل متسارع مع حدوث الانفجار العظيم، لكن مع الوقت تباطأ معدل التمدد بفعل قوة الجاذبية التي عملت عمل المكابح.

(٣) الكون المبكر «للغاية»

رغم نجاح قصة الكون المبكر في تفسير العديد من الحقائق الكونية، فإنها تترك الكثير من الحقائق دون تفسير. هناك دائمًا إغراء للتساؤل: «حسن، وماذا حدث قبل هذا؟» لقد ذكرت كيف أن تجارب مصادمة الأيونات الثقيلة يمكنها محاكاة حالة الكون بعد مرور ميكروثانية على الانفجار العظيم. لكن هل يمكن العودة بالزمن أكثر إلى الوراء، لنستكشف طاقات أكبر والاقتراب أكثر من اللحظة الأولى الغامضة التي وقع فيها الانفجار العظيم؟ تستطيع أكبر معجلات الجسيمات في العالم الوصول إلى طاقات أعظم من تلك التي تصل إليها آلة بروكهافن. ومع أن المعجلات مقصورة في الغالب على تصادم جسيمين فحسب، فإنها تمكن علماء الفيزياء من اختلاس النظر إلى العمليات التي كانت تقع في الكون بعد واحد على التريليون من الثانية من الانفجار العظيم.

ليس السبب وراء الرغبة في تقسيم الخط الزمني لنشوء الكون إلى أجزاء أصغر وأصغر هو هوس علماء الكونيات بالتفاصيل بقدر ما هو الطبيعة الحسابية للتدرج الزمني نفسه، فمع عرض الفيلم الكوني العظيم إلى الوراء عودة إلى نقطة البدء، تتصاعد وتيرة التغير. إن ما حدث في الفترة ما بين الميكرو ثانية والملي ثانية الأولى من عمر الكون يساوي تقريبًا ما حدث بين الملي ثانية والثانية، أو ما بين الثانية الواحدة وعدة دقائق. سبب ذلك هو أن ضغط الكون وحرارته يرتفعان دون حدود كلما اقتربنا من نقطة الصفر. وهذا، إلى جانب حقيقة أن أعمق البنى الكونية قد صيغت في الأوقات المبكرة لتكونه، يدفعنا لا محالة إلى الاستمرار في التساؤل: «ما الذي حدث قبل هذا؟»

بدأ علماء الكونيات في السبعينيات — منتشين بنجاح نظريتهم عن الكون المبكر — في الاهتمام بما يطلقون عليه الكون المبكر «للغاية». قد تكون فترة الميكروثانية قصيرة بالمعايير البشرية، لكن في عالم فيزياء الجسيمات دون الذرية تعد هذه الفترة طويلة للغاية. إن العديد من التفاعلات المرصودة، على غرار تحلل بعض المكونات دون النووية، تحدث في واحد على تريليون التريليون من الثانية. هذه الفترة الوجيزة ترسي إطارًا زمنيًّا أساسيًّا لفيزياء الجسيمات، وقد انجذب علماء الكونيات، على نحو مفهوم، لتخمين ما يكون قد حدث في الكون في مثل هذه الفترة الوجيزة أو حتى قبلها.

لم يكن الدافع هو الفضول وحسب؛ إذ صار واضحًا في السبعينيات أن بعض الملامح الأساسية للكون ظلت دون تفسير، بل في الواقع كانت تمثل لغزًا كبيرًا؛ أولها وأوضحها كانت مشكلة ما تسبب بالفعل في حدوث الانفجار العظيم. يرتبط بهذه القضية سؤال بديهي هو لماذا كان الانفجار العظيم بهذا الحجم تحديدًا، وليس أكبر أو أصغر؟ ما الذي حدد مقدار قوته؟ ثم هناك اللغز الخاص بالسبب وراء كون الهندسة واسعة النطاق للكون مستوية، واللغز المرتبط بهذا والمتمثل في السبب وراء كون الكتلة/الطاقة الكلية للكون تساوي صفرًا. لكن أكبر الألغاز قاطبة يتعلق بذلك التطابق العجيب الذي يتسم به الكون على النطاق العريض، وهو الأمر المتجسد من خلال التوزيع المتجانس لإشعاع الخلفية الكوني. فكما أوضحت، على نطاق مليارات السنوات الضوئية، يبدو الكون متماثلًا في كل مكان. أيضًا نفس الملحوظة تنطبق على التمدد؛ فمعدل التمدد متماثل، حسبما يبدو لنا، في جميع أرجاء الكون. كل هذه الخصائص كانت مثيرة للحيرة في السبعينيات، ومع ذلك فهي جميعًا أساسية لخلق كون ملائم للحياة. على سبيل المثال، لو كان الانفجار أكبر من ذلك لتسبب في تشتيت الغازات الكونية لدرجة لا يمكن معها أن تتجمع لتكوين المجرات. وعلى العكس، لو كان أضعف من ذلك لانهار الكون على نفسه قبل ظهور الحياة. لقد توصل كوننا إلى تسوية سعيدة؛ حيث يتمدد ببطء يكفي لتكون المجرات والنجوم والكواكب، لكن ليس ببطء كافٍ يخاطر بانهياره على نفسه.2

(٤) لِمَ يتسم الكون بهذا التجانس؟

من الظاهر لا يعد الانفجار الطريقة المثلى لخلق تمدد متناغم منظم؛ إذ إن الانفجارات عادة ما تكون فوضوية. إذا كان الانفجار العظيم غير منتظم، بحيث يفوق معدل التمدد في أحد الاتجاهات نظيره في اتجاه آخر، عندئذٍ مع الوقت سيتسم الكون بعدم التطابق في الشكل كلما زاد ابتعاد المجرات بعضها عن بعض، لكن ليس هذا ما نراه. فمن الجلي أن الانفجار العظيم كان بنفس القوة في جميع الاتجاهات، وفي جميع أنحاء الفضاء، ومتناغمًا بدرجة دقة هائلة. كان هذا سيعد لغزًا قائمًا في حد ذاته، إلا أننا حين نتذكر وجود أفق سيبدو لنا أن هذا أمر مقصود. تخيل أن هناك منطقتين في الفضاء يقعان في جهتين متعاكستين من السماء، (أ) و(ب)، وكل منهما تبعد عن كوكب الأرض ١٠ مليارات سنة ضوئية. تبدو المنطقتان متماثلتين، وتحتويان على توزيعات متشابهة للمجرات مع إزاحات حمراء متشابهة. لكن بفعل وجودهما في أقصى طرفي الكون، يبدو لنا أن هاتين المنطقتين اللتين نراهما اليوم تفصلهما مسافة قدرها ٢٠ مليار سنة ضوئية. لكن بما أن عمر الكون أقل من ١٤ مليار سنة ضوئية، من المؤكد أن الضوء لم يملك الوقت الكافي منذ الانفجار العظيم للانتقال من إحدى المنطقتين إلى الأخرى. إن قاطن المنطقة (أ) يعجز عن رؤية المنطقة (ب)، أو حتى يعلم بوجودها، رغم أن البشر، الموجودين في منتصف المسافة بين المنطقتين، يمكنهم رؤية كلا المنطقتين (انظر الشكل ٣-٢). إن الأفق المحيط بالمنطقة (أ) لم يتمدد بالقدر الكافي كي يصل إلى المنطقة (ب). ومن البديهي أن المنطقتين (أ) و(ب) تعجز إحداهما عن معرفة وجود الأخرى. يعني هذا أنهما ذات «وجود عرضي مستقل»، فلأنه لا يمكن لشيء أو قوة السفر بسرعة تفوق سرعة الضوء (انظر الإطار [لماذا يعد الضوء حد السرعة الأقصى في الكون؟])، فلن يمكن لأي تأثير فيزيائي أن يربط بين هاتين المنطقتين. إن ما حدث في المنطقة (أ) لا يمكنه (في هذه الصورة البسيطة) التأثير على ما حدث في المنطقة (ب)، والعكس صحيح. لماذا، إذن، تبدو المنطقتان (أ) و(ب) متماثلتين؟ كيف تمكن الكون من ضبط مَوْلِده الْمُتَفَجّر بمثل هذه الدقة بحيث لا تكون هناك أي فوارق يمكن تمييزها بين أرجاء السماء، حتى بين المناطق التي لم يحدث بينها أي تواصل عرضي؟ يبدو الأمر كما لو أن فرقة مسرحية من راقصات الباليه العمياوات والصماوات يقدمن رقصة مثالية. ولتوضيح المشكلة بشكل أكبر نقول إنه في وقت انبعاث إشعاع الخلفية الكوني، كان الكون المرصود يحتوي على ملايين النطاقات المستقلة استقلالًا عرضيًّا، ومع ذلك، كما أكدت، يتسم الإشعاع بقدر يثير الدهشة من الاتساق. كيف تعاون الكون بأكمله لتحقيق هذا الأمر؟ هل تم الأمر بمحض الصدفة؟ أم هل عملت قوة فيزيائية معينة في الكون المبكر للغاية على إحداث مثل هذه الظروف الخاصة؟
fig13
شكل ٣-٢: أفق من؟ تبحر ثلاث سفن على خط واحد. يستطيع المراقب على السفينة ﺟ أن يرى السفينة أ (إلى الأمام) والسفينة ب (في الخلف). بيد أن الناظر من السفينة أ يعجز عن رؤية السفينة ب، والعكس بالعكس؛ إذ إن إحداهما تقع وراء أفق الأخرى. وبالمثل، في حالة الأفق الكوني، نستطيع من الأرض أن نرى المناطق البعيدة في الكون في أقصى طرفي السماء التي يبعد بعضها عن بعض بمسافات لم يتسن للضوء بعد أن يقطعها منذ الانفجار العظيم. لذا ينبغي اعتبار هذه المناطق «منفصلة انفصالًا عرضيًّا».

(٥) نظرية التضخم تفسر كل شيء دفعة واحدة

عثر آلان جوث، الفيزيائي النظري الذي يعمل حاليًّا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على تفسير محتمل لهذا الأمر في أوائل الثمانينيات. هذا التفسير مبني على فكرة بسيطة للغاية تسمى «تضخم» الكون (ويستخدم هذا المصطلح للتمييز عن التمدد الكوني الطبيعي). في نسخة جوث الأصلية كان التضخم يسير على النحو الآتي؛ أولًا: كان هناك الانفجار العظيم التقليدي، الذي لم يحتج أن يتسم بالاتساق أو التناغم، بل كان انفجارًا فوضويًّا فقط، الغرض منه بدء الدراما الكونية. بعد ذلك، بجزء من الثانية، قفز حجم الكون بمقدار هائل للغاية (انظر الشكل ٣-٣). هائل بأي قدر؟ اقترح جوث أن تضخم الحجم بلغ على أقل تقدير ١٠٢٥ (عشرة تريليون تريليون) ضعف، وهو ما يعني أن الكون القابل للرصد قفز من حجم البروتون إلى حجم ثمرة الجريب فروت في نفس اللحظة تقريبًا. لا يهم معدل التضخم نفسه ما دام كبيرًا بما يكفي. وفي النهاية توقف هذا التضخم واستؤنف التمدد الطبيعي، مستكملًا القصة المعروفة للكون المبكر التي وصفتها مسبقًا.3
fig14
شكل ٣-٣: التضخم. في نظرية آلان جوث الأصلية مر الكون المبكر للغاية بفترة قصيرة من التمدد المتسارع الهائل، بحيث قفز حجمه بمعدل هائل في كسر من الثانية (الشكل التوضيحي لا يوضح النسب بدقة). وحين توقف التضخم استؤنف التمدد الطبيعي المتناقص، بما يتوافق مع النحو الموضح بالشكل ٣-١. في هذه الصورة المبسطة يبدأ الكون بانفجار تقليدي كبير، تتبعه فترة قصيرة من التباطؤ السابقة على مرحلة التضخم. ومع هذا فقد تسبب التضخم في إزالة آثار المرحلة السابقة عليه، لذا لا ينبغي أخذ هذا الجزء من المنحنى على محمل الجد.
قريبًا سأتناول بالشرح ما يمكن أن يكون قد سبب هذا المسلك الكوني الاستثنائي، لكن دعوني أولًا أوضح كيف تحل فكرة التضخم هذه مشكلة الاتساق الكوني. إن أي موطن شذوذ أولي «سُوِّيَ» تمامًا بفعل التمدد المفاجئ، بنفس الصورة التي تختفي بها التغضنات من فوق سطح البالون المنفوخ. ومن ثم يطمس التضخم آثار أي تعقيدات سابقة ويولد كونًا متطابقًا تطابقًا طبيعيًّا. وهناك مزية إضافية؛ فمثلما يقل انحناء سطح البالون كلما انتفخ، يصير الفضاء المتضخم أقل انحناءً مع تضخمه. وإذا تضخم الفضاء بالدرجة الكافية (ومعدل ١٠٢٥ كافٍ بالفعل) فسيكون من المحال تمييزه عن الاستواء. وبهذا يفسر التضخم كلًّا من تطابق شكل الكون وهندسته المستوية أيضًا.

(٦) الجاذبية المضادة

بالصورة التي وصفت بها تضخم جوث يبدو كأنه من أعمال السحر. كان من الممكن ألا تلقى نظريته هذه أي اهتمام لو لم يقدم جوث آلية فيزيائية محل ثقة يفسر بها كيف حدث التضخم. ولحسن الحظ كان لديه مثل هذه الآلية، وقد تضمنت تعديل الدور الطبيعي الذي تلعبه الجاذبية في علم الكونيات. إن قوة الجذب الكونية تعمل على تقليل معدل تمدد الكون بشكل تصاعدي. لكن التضخم يفعل عكس ذلك تمامًا؛ إذ إنه فترة وجيزة يتصاعد فيها معدل التمدد تصاعدًا هائلًا، مما يجعل الكون يتضخم بشكل سريع للغاية. اقترح جوث أن نوعًا من الجاذبية المضادة هو المسئول عن هذا. ليست الفكرة خيالية كما تبدو؛ إذ يتصادف أن الجاذبية المضادة جزء طبيعي من نظرية النسبية العامة لأينشتاين (انظر الإطار [أكبر أخطاء أينشتاين]). وفي الحقيقة تعد الجاذبية المضادة مكونًا أساسيًّا في نظرية النسبية العامة.

أكبر أخطاء أينشتاين

اقترح أينشتاين نموذجه للكون المتناهي غير المحدود عام ١٩١٧، قبل أن يعلن إدوين هابل أن الكون يتمدد. على هذا فإن أينشتاين افترض أن الكون ثابت الحجم، وهو ما مثل مشكلة؛ نظرًا لأنه بدا أن الكون إذا كان ثابت الحجم فمن شأنه أن ينهار على نفسه بفعل ثقل وزنه. ما الذي سيدعم الكون أمام قوة الجاذبية العامة الموجودة بين جميع الأجسام؟ كان لدى أينشتاين إجابة عبقرية؛ إذ اقترح وجود جاذبية مضادة، أو قوى طرد كونية، تعمل على معادلة أثر قوى الجاذبية. وقد تفحص نظرية النسبية العامة بحثًا عما يثبت هذا، وبالفعل وجد أنه لو أضاف شرطًا إضافيًّا لمعادلته التي أعلنها عام ١٩١٥، فستصف النظرية «نوعين» من الجاذبية؛ قوة الجذب الطبيعية وقوة طرد، أو جاذبية مضادة. (يمكن اعتبار الجاذبية المضادة نتاجًا لطاقة الفضاء الخاوي، انظر عنوان «الجاذبية المضادة» السابق.)

لقوة الجاذبية المضادة خاصية غير عادية وهي أنها «تزيد» مع المسافة، عكس قوة الجاذبية العادية. إلا أن هذه الخاصية تحديدًا هي التي أفادت أينشتاين؛ إذ رأى أن قوة الطرد لا بد أن تكون ضعيفة للغاية في إطار النظام الشمسي، وإلا أخلت بالتوافق المبهر بين معادلته الأصلية والملاحظات الفلكية لمدار كوكب عطارد مثلًا (انظر الإطار [اختبارات لنظرية النسبية العامة لأينشتاين]). لكن على مستوى المجرات ستصير قوة الطرد مؤثرة ويمكنها مضاهاة قوة الجاذبية. لم تشر نظرية النسبية العامة إلى مقدار قوة الطرد (يطلق عليها علماء الفيزياء «المتغير الحر»)، لذا تمكن أينشتاين من اقتراح قيمة تعادل تمامًا وزن الكون، وهذا يمنع انهياره على نفسه.

كان هذا هو الموقف عام ١٩١٧، حين نشر أينشتاين معادلته المعدلة، متضمنة الشرط الإضافي. وقد تمكن من أن يجد حلًّا للأمر يتوافق مع فكرة الكون ثابت الحجم، وذلك استنادًا إلى التوازن بين قوى الجاذبية وقوى الطرد الكونية، وكان هذا الحل هو نموذج الكرة الفائقة (انظر الفصل الثاني). في عام ١٩٣٠ سافر أينشتاين إلى الولايات المتحدة وقابل هابل، وعرف بشأن ملاحظاته التي تشير إلى تمدد الكون. أدرك أينشتاين على الفور أنه من الخطأ أن يشغل نفسه بنموذج للكون ثابت الحجم. لكن لو أنه تمسك بموقفه وعمل على معادلته الأصلية — دون شرط الجاذبية المضادة الإضافي — لكان مجبرًا على أن يستنتج أن الكون إما يتمدد أو ينكمش، وبالتأكيد كان سيفضل الخيار الأول.

في الحقيقة حل أحد العلماء الروس، ويدعى ألكسندر فريدمان، معادلة أينشتاين الأصلية عام ١٩٢١، واستقى منها عدة نماذج متمددة ومنكمشة للكون. وقد أرسل الحلول إلى أينشتاين ليعرف رأيه، إلا أن العالم العظيم لم يتحمس تجاهها، مفضلًا نموذجه للكون ثابت الحجم. ونتيجة ضيق الأفق هذا فوت أينشتاين فرصة التنبؤ بواحد من أعظم الاكتشافات في القرن العشرين، الذي كان سيقدم اختبارًا ناجحًا آخر لنظرية النسبية العامة الأثيرة لديه. وبعد أن أدرك خطأه أخيرًا، تخلى أينشتاين عن إدراج شرط الجاذبية المضادة في نظريته مسميًّا إياها «أكبر أخطاء» حياته. ونتيجة لذلك ظلت فكرة الجاذبية المضادة مهجورة لعقود. وحين كنت طالبًا في الستينيات لم يكن سوى قلة من علماء الكونيات مستعدين للتحدث عنها.

لكن من عادة التاريخ أن يفاجئنا بأمور غريبة. بالطبع لم تعد هناك حاجة، بعد اكتشاف هابل، إلى الاستعانة بالجاذبية المضادة في وصف الكون ثابت الحجم، إلا أن هذا لا يعني منطقيًّا أن هذه القوة ليست موجودة من الأساس، ففي أواخر التسعينيات أعلن علماء الفلك أن سرعة تمدد الكون تتزايد، وهو التأثير الذي يعزونه إلى قوة جاذبية مضادة كونية، لا يمكن تفريقها في الوقت الحالي عما اقترحه أينشتاين عام ١٩١٧. وبهذا قد يتحول خطأ أينشتاين الأكبر إلى انتصار آخر!

تخيل منطقة من الفضاء الخاوي النقي البسيط، وفق نظرية النسبية العامة يكون المسلك الطبيعي لهذه المنطقة هو التمدد أسرع وأسرع. (هناك احتمال طبيعي آخر أقل، وهو أن تنكمش.) الاستثناء الوحيد هو أن تبلغ طاقة هذه المنطقة من الفضاء «صفرًا بالضبط»؛ فوقتها ستظل خاملة. قد تتخيل أنه لو كان الفضاء خاويًا فسيبلغ مقدار الطاقة به صفرًا بالضبط، لأنه لا يوجد شيء فيه! وهو الأمر الصحيح، بشكل ما. إلا أن هذا يغفل احتمال تغلغل مجالات غير مرئية في الفضاء، مثل هذه المجالات تحتوي على طاقة. ويعتمد تأثير الجاذبية الخاص بهذه المجالات بطبيعة كل مجال منها؛ فبعض المجالات (الكهربية على سبيل المثال) ستجعل الكون ينكمش، وسيولد غيرها جاذبية مضادة تجعل الكون يتمدد. من النوع الأخير ما يسمى «المجالات القياسية» scalar fields وهذه المجالات هي ما جذبت انتباه جوث.4 للأمانة، لم يَرصد أحد بعد أي من المجالات القياسية، لكن علماء الفيزياء لديهم أسباب منطقية وجيهة تدعم وجود مثل هذه المجالات. (يعكف القائمون على التجارب بنشاط على تتبع أحد هذه المجالات، المسمى مجال هيجز، وسوف أناقشه في الفصل الرابع.) لم يقلق جوث بشأن عدم وجود دليل تجريبي على هذه المجالات القياسية، فقد افترض وحسب أن هناك مجالًا مناسبًا موجودًا بالفعل وأنه هو الذي تسبب في حدوث التضخم، وأطلق على هذا الكيان الافتراضي اسم «مجال التضخم» Inflation field.
لم أوضح بعد لماذا يتسبب مجال التضخم في إحداث جاذبية مضادة، وذلك لأسباب فنية نسبيًّا، لكني سأحاول توصيل الخلاصة. في نظرية نيوتن تتولد الجاذبية بفعل الكتلة، وفي نظرية النسبية العامة لأينشتاين تعد الكتلة هي الأخرى من مصادر الجاذبية، ونفس الحال ينطبق على الطاقة (تذكر أن معادلة أينشتاين «الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء» تخبرنا بأن الطاقة لها كتلة). بيد أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فالضغط أيضًا يعد من مصادر الجاذبية في نظرية النسبية العامة. إننا عامة لا نفكر في أن الضغط يمكنه خلق مجال للجاذبية، لكن هذا يرجع إلى أن تأثيره ضئيل في معظم الظروف. وحتى الضغط الهائل الموجود داخل الكرة الأرضية، على سبيل المثال، لا يسهم بأكثر من ميكروجرام من وزن جسمك.5 لكن لو صار الضغط مهولًا يمكنه مقارعة الطاقة من حيث قوة الجاذبية. بكلمة «مهول» هنا نعني نوعية الضغط الموجودة داخل نجم منهار، لا بداخل أحد الكواكب. مثال آخر على هذا الأمر هو المجال القياسي؛ إذ يتمتع بضغط يساوي ما يتمتع به من طاقة.6
لكن لِمَ تنتج المجالات القياسية جاذبية «مضادة»؟ العامل المحوري في الأمر هو الضغط؛ إذ يكون الضغط داخل المجال القياسي سالبًا. ليس الضغط السالب بالأمر المدهش؛ فهو لا يختلف عما ندعوه في المعتاد التوتر، ومن أمثلته المألوفة الشريط المطاطي المشدود. في الفضاء ثلاثي الأبعاد سيكون لكتلة المطاط المشدودة في جميع الاتجاهات ضغط سالب. وعلى هذا يعني الضغط السالب وجود جاذبية سالبة، أي قوة جاذبية مضادة طاردة. تولد المجالات القياسية الجاذبية إذن بفضل طاقتها، لكنها جاذبية مضادة بفضل الضغط (السالب) الموجود فيها. تبين الحسابات أن الجاذبية المضادة تفوق الجاذبية العادية بثلاثة أضعاف، وبهذا يكون الأثر الصافي للمجالات القياسية هو الجاذبية المضادة.7

(٧) أصل المادة

بالعودة إلى قصة التضخم، اقترح جوث أنه إبان الجزء الأول الضئيل من الثانية بعد مولد الكون اخترق مجال قياسي الفضاء، مولدًا قدرًا كبيرًا من الجاذبية المضادة وجاعلًا الكون يندفع في مرحلة من التمدد الخاطف، المتسارع أكثر وأكثر. وبعد تحديد المجال القياسي بأنه هو المتسبب في الأمر، كانت مهمته التالية هي تحديد ما إذا كان تأثير الجاذبية المضادة سيكون من الكبر بما يكفي للتغلب على الجاذبية الهائلة التي أوجدها مجموع الكتلة الطبيعية الموجود في الكون. استلهم جوث هذه الفكرة من النظريات الكبرى الموحدة Grand Unified Theories (GUTs)، وهي محاولات جرت للجمع بين ثلاث من قوى الطبيعة الأساسية. (هذا هو الموضوع الذي سأناقشه بتفصيل أكبر في الفصل الرابع، لكن يكفينا هنا أن نقول إن المجالات القياسية تلعب دورًا مهمًّا في نظريات الفيزياء الموحدة.) افترض جوث أن المجال المتضخم سيكون واحدًا من المجالات القياسية الشائعة في نظريات الفيزياء الموحدة، وهو ما أعطاه مقدارًا مهمًّا للغاية؛ قوة المجال. وبدمج قيمته في حساباته لقدر التضخم اكتشف جوث أن الجاذبية المضادة لن تعم الكون بسهولة وحسب، بل ستكون من القوة بحيث تجعل الكون يتضاعف في الحجم كل ١٠−٣٤ ثانية (أي كل واحد على المائة تريليون التريليون التريليون من الثانية). لم يُرصد شيء في الطبيعة يحدث بمثل هذه السرعة. ولتقريب الأمر فإنه في الوقت الذي تستغرقه رقعة من الكون لتضاعف قطرها سيكون الضوء قد قطع ما لا يزيد عن تريليون التريليون من السنتيمتر، وهي مسافة لا تكفي حتى لاجتياز نواة إحدى الذرات. لقد كان تمددًا سريعًا بحق.
التضخم فكرة جذابة للغاية، وأغلب علماء الكونيات مقتنعون بها، إلا أن الجانب الأهم بها هو كيف انتهى هذا التضخم. كيف حرر الكون نفسه من ذلك التمدد السريع المهول؟ اقترح جوث أن مجال التضخم كان غير مستقر بطبيعته، وكان محكومًا عليه بالانقضاء السريع منذ البداية. وقد اقترح أنه انتهى بعد حوالي ١٠−٣٤ ثانية، بعدها استأنف الكون تمدده المتناقص الطبيعي. لا تبدو هذه كفترة طويلة، لكنها تشبه نسبة التضخم البالغة ١٠−٣٢ التي انتفخ الكون بموجبها بهذا الشكل الهائل. إن أي مادة كانت موجودة قبل التضخم خفّت كثافتها بشكل كبير للغاية، مما ترك الكون خاويًا من المادة خواءً فعليًّا، فهو ليس إلا فراغًا. من الواضح أن الفراغ ليس بالوصف الملائم للكون اليوم، أو حتى في عمر ثانية واحدة. من أين، إذن، أتت المادة — الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات وغيرها — فور انقضاء التضخم؟
تملك النظرية إجابة جاهزة؛ لا بد أن تجد الطاقة الهائلة المخزونة داخل مجال التضخم إبان مرحلة التضخم متنفسًا لها عند تحلل المجال، وهذا المتنفس كان في صورة حرارة. إن إشعاع الكوني الخلفي المنتشر في الكون اليوم — الوهج المتبقي من مولد الكون — يمثل بقايا طاقة مجال التضخم. وعلى هذا تحولت طاقة التمدد الهائلة إبان التضخم إلى طاقة حرارية للانفجار العظيم، طاقة لا تزال تغمر الكون في وقتنا الحالي. الخطوة الثانية هي تحويل الحرارة إلى مادة. إن معادلة أينشتاين «الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء» تخبرنا أنه ما دام يوجد ما يكفي من الطاقة التي تكافئ كتلة أحد الجسيمات، فالباب يصير مفتوحًا لتكوّن المادة. وبالتعويض عن قيمة سرعة الضوء في المعادلة، مع ترجمة الطاقة إلى حرارة، سنجد أن الحرارة البالغة مليار درجة مئوية — وهي حرارة الكون في عمر حوالي ثانية واحدة — كبيرة بما يكفي لتكوين الإلكترونات. وفي أوقات سابقة، حين كانت الحرارة أعلى، تكونت الجسيمات الأثقل كالبروتونات. وفي نهاية التضخم تسببت الحرارة الشديدة المنبعثة في رفع حرارة الكون إلى حوالي ألف تريليون تريليون درجة، وهو أكثر مما هو مطلوب لتكوين اﻟ ١٠٥٠ طن من المادة التي يحويها الكون المرصود.8

(٨) مشكلة الخروج بسلاسة من التضخم

كانت نظرية التضخم مثالية كالحلم، وهو نوع يندر وجوده بصفة عامة في العلم، فبضربة واحدة حلت النظرية ألغازًا عديدة عن بنية الكون، وقدمت تنبؤات محددة للغاية قابلة للاختبار. أبرز هذه التنبؤات — أن الكون ينبغي أن يكون ذا هندسة مستوية — خرج في وقت كانت الأدلة الفلكية تشير فيه إلى عكس ذلك. لكن سرعان ما أكدت مجموعة من المشاهدات، على صورة نتائج آتية من المسبار WMAP، على صحة تنبؤ استواء الكون، مقدمة دعمًا كبيرًا لنظرية التضخم.
فور أن دخلت الفكرة العامة للتضخم علم الكونيات صارت جزءًا أصيلًا منه. إلا أن نظرية جوث الأصلية احتوت على عيب خطير؛ ما يسمى بمشكلة الخروج السلس. إن تحلل مجال التضخم عملية كمية، وبهذا يكون حدوثها رهنًا للتفاوتات الكمية Quantum fluctuations التي لا يمكن التنبؤ بها عادة. ونتيجة لذلك سيحدث التحلل في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة، على صورة فقاعات موزعة توزيعًا عشوائيًّا — فقاعات من الفضاء يتحلل فيها مجال التضخم — محاطة بنطاقات من الفضاء لم يحدث فيها التحلل بعد. ستظل الطاقة المحررة من مجال التضخم المتحلل حبيسة جدران هذه الفقاعات، وعند اصطدام الفقاعات بعضها ببعض ستتحرر هذه الطاقة، على صورة حرارة، إلا أن هذه العملية ستكون فوضوية بالكامل وستولد مقدارًا من عدم التجانس مماثلًا للذي عمل التضخم على إزالته سابقًا. عمل كثير من علماء الكونيات، الذين رأوا أن فكرة التضخم لا بديل عنها، على حل هذه النقائص.9 وكان الحل هو إيجاد نظام نظري يجنب الفقاعات الاصطدام بعضها ببعض ويمكنها من أن تنمو إلى حجم أكبر بكثير من الكون القابل للرصد. أحد طرق عمل ذلك، وهو ما يطلق عليه آلية التضخم الأبدي Eternal Inflation، له علاقة مهمة بموضوع ملاءمة الكون للحياة، وسوف أتعرض له بالشرح المفصل.

(٩) تموجات من حافة الزمان

إذا تسبب التضخم في تمدد الفضاء بمعدل هائل فقد نتوقع أن يكون الكون فائق التجانس في النهاية. لكن لو كان الحال كذلك لما باتت هناك إمكانية لظهور الحياة؛ فبدون المجرات والنجوم ستكون الحياة مستحيلة. إن التموجات الحارة والباردة التي تظهر في إشعاع الخلفية الكوني في الشكل ٢-١ هي بذور بنية عظيمة الحجم. لكن من أين أتت هذه التفاوتات؟ كيف أنتج التضخم كونًا متجانسًا تجانسًا شبه مثالي، لكن ليس متجانسًا بالكامل؟

كانت هناك إجابة مقنعة — رغم أنها قد لا تكون الإجابة الصحيحة — تفرض نفسها بالفعل وقت ظهور نظرية التضخم. بل في حقيقة الأمر ظهرت الإجابة قبل ظهور النظرية إلى النور. يبدو أن سبب هذه التموجات الكونية يكمن في ثنايا ميكانيكا الكم. إن القراء الذين يملكون فكرة أساسية عن ميكانيكا الكم سيدركون أن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يرشدنا إلى وجود تفاوتات غير قابلة للخفض في جميع الكميات المادية (أما القراء الذين لا يملكون فكرة عن ميكانيكا الكم فسيجدون ملخصًا سريعًا عن هذا العلم في الإطار [غرابة ميكانيكا الكم]). وبتطبيق مبادئ ميكانيكا الكم على التضخم يمكننا التنبؤ بأن بعض مناطق الكون ستتضخم تضخمًا أكبر أو أصغر بقليل من غيرها من المناطق، وبهذا تنتج بنية متماوجة مطبوعة على التجانس الكلي للكون. عادة ما تقتصر تفاوتات ميكانيكا الكم الواضحة على المستوى الذري. لكن إذا كان تفسير التموجات الكونية صحيحًا، فإن التفاوتات التي تحدث على المستوى الذري تعرضت لتضخم هائل وامتدت لتشمل السماء بأسرها.

غرابة ميكانيكا الكم

إن فيزياء القرن العشرين مبنية على نظريتين ثوريتين؛ النسبية وميكانيكا الكم. وهما تشكلان ركيزتين أساسيتين يستند عليهما وصفنا للكون. بدأت ميكانيكا الكم كنظرية للمادة على المستويين الذري ودون الذري، لكن أغلب الفيزيائيين يؤمنون أنها تنطبق على كل شيء، بما في ذلك الفضاء والزمان، على جميع المستويات. ومع ذلك فإن الآثار الجلية لميكانيكا الكم تتبدى بالأساس على المستوى الميكروسكوبي. (الاستثناء الملحوظ لهذا هو البنية الضخمة للكون، الظاهرة للعيان دون شك!)

بدأت نظرية الكم عام ١٩٠٠ حين اقترح ماكس بلانك أنه حين ينبعث الإشعاع الحراري من جسم ساخن، فسيخرج فقط على صورة حزم منفصلة صغيرة، أو «كموم». توسع أينشتاين في هذه الفكرة بحيث تشمل فوتونات الضوء، التي عاملها كما لو كانت جسيمات ضئيلة. ومع ذلك، فإن الإشعاع الكهرومغناطيسي كالحرارة والضوء معروف عنه أيضًا أنه يتصرف كالموجات، وعلى هذا ألمحت تلك الأفكار الكمية المبكرة، على نحو مستغرب، إلى أن الضوء يمكن أن يتصرف كالجسيمات وكالموجات في الوقت ذاته، وهو ما سبب الكثير من الارتباك. في العشرينيات وُجد أن جسيمات المادة على غرار الإلكترونات يمكنها أن تظهر هي الأخرى خصائص موجية. وقد صار جليًّا أن الطبيعة الفعلية للمادة على المستوى الذري تتسم بالغرابة وأن ازدواجية الجسيم/الموجة كانت ملمحًا أساسيًّا للمادة. إن الجانب الذي تظهره المادة — الموجي أو الجسيمي — كان يعتمد على التجربة المجراة أو الملاحظة المرصودة. ليس من الممكن أن نحدد بشكل عام هل الفوتون أو الإلكترون (أو البروتون أو النيوترون …) هو في «حقيقته» موجة أو جسيم؛ لأنه قادر على التصرف كالاثنين.

يرتبط بهذا الإبهام أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها ميكانيكا الكم ويسمى «مبدأ عدم اليقين» لهايزنبرج  Heisenberg’s Uncertainty Principle. يمنع هذا المبدأ أي جسم كمي من امتلاك مجموعة كاملة من الخصائص الفيزيائية في أي وقت بعينه. في الحياة العادية يمكننا أن نعزو لأي جسم، كرة مثلًا، عددًا من الخصائص على غرار الموضع والسرعة ومعدل الدوران والطاقة. تحمل الجسيمات دون الذرية، كالإلكترونات، خصائص مماثلة، لكن لا يمكنها جميعًا أن تأخذ قيمًا محددة في الوقت ذاته. قد نستطيع تحديد موضع أحد الإلكترونات في نقطة محددة من المكان، وبهذا ننسب له موضعًا محددًا، لكن وقتها، وفق مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، لا يمكننا أيضًا أن نحدد حركته تحديدًا قاطعًا. وبالمثل، قد نحدد سرعة الإلكترون، لكن لن نستطيع وقتها تحديد موضعه بدقة. إن مقدار هذا التفاوت ليس اعتباطيًّا، بل هو محدد بدقة وفق مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج. إن مقدار عدم اليقين الكمي هذا واضح بصورة جلية على المستويات الذرية ودون الذرية للجسيمات، بيد أنه يصير أقل أهمية بكثير في أنظمة أكبر حجمًا أو أكثر تعقيدًا. إن التأثيرات الكمية محددة وفق معامل ثابت يعرف ﺑ «ثابت بلانك»، ويرمز له بالحرف (h). وهو أحد ثوابت الفيزياء إلى جوار سرعة الضوء (c) وثابت الجاذبية لنيوتن (G) (انظر الإطار [ما هو ثابت الجاذبية العام G؟]).

أغلب الفيزيائيين يرون أن عدم اليقين الكمي سمة متأصلة في المادة وليس راجعًا إلى الجهل البشري أو الخطأ في القياس. يمكن التعبير عن ذلك بأن نقول إنه حتى الإلكترون نفسه غير متيقن من خصائصه. وعلى هذا لا يمكن تحسين عدم اليقين الكمي عن طرق «النظر بجدية أكبر»، وهو في هذا الصدد يعد على النقيض من الصدفة العشوائية الموجودة في لعبة الروليت مثلًا أو حركة أسهم سوق المال، فأسعار الأسهم المتقلبة لها أسبابها الكامنة، وإذا بدا لنا أنها تتحرك حركة عشوائية لا يمكن التنبؤ به فهذا يرجع إلى أن البشر لا يملكون كل المعلومات التي يحتاجونها لحساب كيفية تقلبها. على العكس، لا يمكن تفتيت العشوائية الكمية، بمعنى أن العمليات الكمية عفوية بصورة ما؛ أي تحدث دون سبب محدد.

من الممكن أحيانًا تصور عدم اليقين الكمي، من خلال خاصية التفاوتات. يمكن أن يفكر المرء في إحدى الخصائص، مثل موضع الإلكترون، على أنها تتسم بالتفاوت؛ حيث يتذبذب الإلكترون بحرية بصورة غير متوقعة. جميع الكميات القابلة للقياس عرضة للتفاوتات الكمية، وذلك حتى الحد الذي قرره مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج. من تبعات ذلك أنه يمكن لموقفين متماثلين أن يأتيا بنتائج مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، تخيل إطلاق أحد الإلكترونات مباشرة صوب إحدى الذرات، قد يرتد عنها إلى اليمين أو اليسار باحتمالات متساوية. فإذا أجريت التجربة اليوم فقد يرتد إلى اليسار، لكن من الممكن أن تجري التجربة غدًا، تحت ظروف مماثلة، ويرتد الإلكترون وقتها إلى اليمين.

مع أن نظرية ميكانيكا الكم يمكنها تقديم الاحتمالات الأكثر ترجيحًا، فإنه على وجه العموم لا يمكن للمرء أن يعرف مقدمًا ما سيحدث في كل حالة بعينها. من الأمثلة الشهيرة لذلك النشاط الإشعاعي. إن ذرة اليورانيوم غير مستقرة وتتحلل عبر فترة تقدر بمليارات السنوات. كل ذرة لها احتمال للتحلل في إطار فترة زمنية معينة، من خلال عملية كمية عشوائية، إلا أنه من المحال أن نعرف مقدمًا متى تتحلل ذرة بعينها. وبالمثل، عندما تطلق ذرة غير مستقرة فوتونًا، يكون للعملية إجمالًا احتمالية معينة، ومع ذلك يستحيل التنبؤ بأي حدث بعينه بشكل محدد. ينطبق عدم اليقين الكمي ليس فقط على الجسيمات، بل على المجالات أيضًا، وبذلك نجد أن المجال الكهرومغناطيسي، مثلًا، عرضة للتفاوتات في شدته، حتى في الفراغ التام الذي تكون فيه قوة المجال «بالتقريب» صفرًا. يمكن وصف تفاوتات الفراغ هذه من خلال «الفوتونات الافتراضية» التي تظهر بصورة عفوية ثم تختفي في الفضاء الفارغ (انظر مناقشة الجسيمات الافتراضية في الفصل الرابع). يتضح لنا أن تفاوتات الفراغ ضرورية لفهمنا للطاقة المظلمة والجاذبية المضادة، التي يعتمد عليها مصير الكون بأكمله. إن عدم الحتمية المتأصلة في الطبيعة هي التي دعت أينشتاين — الذي كان يكره ميكانيكا الكم — لأن يقول (وقد جانبه الصواب): «إن الله لا يلعب النرد بالكون».10

لميكانيكا الكم العديد من الخصائص الغريبة، على سبيل المثال، هي تتنبأ بأن الجسيمات لها لف مغزلي ذاتي، وهذا اللف المغزلي يكون له عدد ثابت من الوحدات الأساسية ويمكنه أن يتم فقط في اتجاهات بعينها. أيضًا بإمكان الجسيمات الكمية النفاذ من حواجز القوة، أو الالتفاف حول الزوايا، أو الوجود في أكثر من مكان في نفس الوقت. بعض من هذه الخصائص لها أهمية في قصة الكون، خاصة الكون المبكر للغاية.

في الواقع قمت ببعض الأبحاث على هذا الموضوع بنفسي في السبعينيات عندما كنت في قسم الرياضيات بكلية كينجز كوليدج بجامعة لندن محاولًا فهم التأثيرات الكمية في بيئات كونية متباينة. كان هناك إحساس عام بأنه رغم أن ميكانيكا الكم لا تتصل اتصالًا مباشرًا بديناميات الكون اليوم، فإنه من المؤكد أنها لعبت دورًا مهمًّا قرب نشأة الكون، حين كان الكون في حالة مضغوطة. ساعدني في عملي هذا طالب يدعى تيم بانش، وقد قررنا أن ننظر إلى التأثيرات الكمية في كون يتمدد بنسبة أسّية، بمعنى أنه يتضاعف في الحجم على مدار فترات زمنية ثابتة. وقد اخترنا هذا النموذج للكون، والمعروف لعلماء الفلك باسم فضاء دي سيتر، على اسم أول من وصفه على هذا النحو ويليام دي سيتر عام ١٩١٧، ليس لأننا رأينا أن الكون يشبهه، بل لأنه باستخدام هذا النموذج سنتمكن من حل المعادلات بدقة تامة. وفي الفيزياء النظرية يساوي الحل الدقيق الواحد مئات من التقريبات العددية.

لذا قررنا تطبيق النظرية الكمية في فضاء دي سيتر. وجدنا أنها لا تؤثر مطلقًا في كثير من الجوانب، وهو ما لم يمثل لنا أي مفاجأة وقتها لأن أغلب الحسابات بينت أن تمدد الكون يجعل الجسيمات (أو الكموم) مثل الفوتونات توجد عمومًا في فضاء خاو، أي توجد من الفراغ.11 يحدث هذا لأن التمدد يقلقل أو يستثير أي مجالات، كالمجالات الكهرومغناطيسية، تنتشر في الفضاء. عادة ما يكون هذا التأثير ضئيلًا، مع أنه ربما كان مهمًّا بعد الانفجار العظيم مباشرة. على أي حال، وجدنا أنه في فضاء دي سيتر لم يكن هناك مثل هذا الإنتاج للجسيمات، وهي نتيجة عجيبة يمكن إرجاعها إلى الطبيعة الأسّية للتمدد وما تتضمنه من تماثل في الزمكان. لكن هذا لا يعني أن تمدد الفضاء في نموذج دي سيتر ليس له تأثيرات كمية على الإطلاق؛ إذ إن له تأثيرات بالفعل. وعلى وجه الخصوص كانت حالة الفراغ لفضاء دي سيتر لا تزال عرضة للتفاوتات الكمية التي يمكن النظر إليها عمومًا على أنها جسيمات تُخلق لكن سرعان ما تُدمَّر ثانية، تظهر للوجود ثم تزول في رقصة خاطفة (يُطلق عليها الجسيمات الافتراضية، انظر الفصل الرابع). لا توجد بعد زيادة أو نقصان في الجسيمات، لكن يوجد الكثير من النشاط الكمي العابر.

حين كنا نقوم بهذا العمل في أواخر السبعينيات، لم تكن لدينا فكرة أنه في غضون سنوات قلائل سيكون هذا هو المطلوب تحديدًا لوصف تفاوتات الكثافة في الفضاء المتضخم. ولحسن الحظ اتضح أن النموذج الذي اخترناه — فضاء دي سيتر — هو الوصف الدقيق للصورة التي يسير عليها الكون وهو يتضخم. كنا قد اخترنا نموذج دي سيتر لسبب آخر أقل أهمية؛ لمساعدة تيم على الحصول على درجة الدكتوراه دون الحاجة لاستخدام الحاسب الآلي لإتمام الحسابات! وهذه هي الصورة التي تسلكها مسيرة العلم.

(١٠) ماذا حدث قبل الانفجار العظيم؟

أغلب الناس مستعدون للقبول بفكرة أن الكون الذي نعرفه بدأ بصورة مفاجئة بانفجار هائل، إلا أنهم في نهاية المطاف يسألون سؤالين مرتبطين بالموضوع، وإن كانا صعبي الإجابة، وهما: ما الذي سبب الانفجار العظيم؟ وما الذي كان موجودًا قبله؟ دائمًا ما تأسر الأسئلة الخاصة بنشأة الأشياء الألباب، وفي هذا الصدد لا يوجد ما قد يضاهي نشأة الكون نفسه. إن التفكر في نشأة الأشياء يشبه التأمل في فلسفات الزن البوذية؛ فكيف يأتي شيء للوجود وهو لم يكن موجودًا من قبل؟ هنا يبدو نوع واحد من التفسيرات هو المرضي؛ أن الكيان الجديد لا بد أنه قد نتج بشكل ما عن تغير في كيان آخر مختلف سابق عليه. وكما قال لوكريتوس:12 «لا شيء يأتي من العدم.» وربما يكون المكافئ الحديث لهذه العبارة هو «لا يوجد ما يسمى بالغداء المجاني». ربما يكون هذا صحيحًا، لكن حين يكون الكيان المعني هو الكون بأكمله، ربما لا تصف هذه المقولة الحكيمة الأمر بدقة؛ إذ إن بعض علماء الكونيات، على الأقل، يؤمنون بأن الكون قد يكون أكبر غداء مجاني وُجِدَ على الإطلاق.

هل يمكن لنظرية التضخم الكوني أن تساعدنا على فهم أسباب الانفجار العظيم؟ الإجابة بنعم ولا. التضخم بطبيعته يمحو كل ما كان موجودًا قبله، وهذه نقطة محورية. اعتاد فريد هويل، الذي ذكرت من قبل أنه كان ينتقد فكرة الانفجار العظيم بأسرها، أن يقول ساخرًا إن نظرية الانفجار العظيم تخبرنا وحسب أن الكون على النحو الذي هو عليه لأنه كان على النحو الذي كان عليه. في أيام النظرية الأولى ربما كان هذا صحيحًا؛ إذ كان الانفجار العظيم نفسه دون تفسير: ليس إلا حدثًا مُفترضًا لتفسير الحقائق، لكن ليس له مسببات واضحة ويبدو واقعًا خارج نطاق العلم تمامًا. لتفسير الكون الذي نرصده كان من الضروري أن نضع في هذه النظرية الظروف الأولية التي من شأنها أن تقودنا لما نراه اليوم، دون أي تبريرات. ويمكن للمرء أن يضع أي ظروف أولية بحيث يحصل على توصيف لأي كون يختاره. إلا أن التضخم يعالج تلك المشكلة بتمكيننا من تفسير الكثير من الملامح الأساسية للكون بوصفها نتاجًا لعمليات فيزيائية وقعت إبان التضخم بدلًا من عزوها إلى ظروف الحالة الأولية للكون. لكن رغم وجاهة هذا المنطق فإن به عيبًا خطيرًا؛ إذ يبدو كأنه يضع المنشأ «الْأَوَّلِي» للكون بعيدًا عن متناول يدنا. من ناحية أخرى، فإن نفس النظرية التي تصف التضخم يمكنها أن تعطينا تلميحات عن الكيفية التي بدأ بها التضخم في المقام الأول، ويمكنها أن تقدم لنا إشارات بشأن الحالة الفيزيائية التي سبقته.

دعني أتعامل مع هذا الموضوع خطوة بخطوة. إن النقاشات عن منشأ الكون معروف عنها الصعوبة بالفعل، لذا أود التوغل في هذا الأمر بحرص كيلا أزيد الأمر حيرة. وسأبدأ بتجاهل التضخم لحظة وتبني نموذج من الواضح أنه غير صحيح للكون؛ الكون ككرة تامة الاستدارة من المادة والمحاطة بفراغ لانهائي. نحن نعلم أن الكون يتمدد، لذا ينبغي أن تكبر الكرة في الحجم مع الوقت. في الماضي كانت الكرة أصغر حجمًا. وإذا عكسنا التمدد لفترة ١٣٫٧ مليار عام فستنكمش الكرة إلى نقطة وحيدة، نقطة وحيدة لا حجم لها. وبعد ذلك …؟ لا شيء، تختفي الكرة! أعد عرض الشريط إلى الأمام، وسيظهر الكون من لا شيء في نقطة وحيدة، ثم ينتفخ، وفي النهاية يتمدد ليأخذ أبعاده الكونية. لنتدبر الآن ما تعنيه كلمة «لا شيء» في الوصف السابق. من الجلي أنها تعني الفضاء الخاوي. إذا كان التوصيف السابق بشأن نشأة الكون صحيحًا فسنواجه معضلة كبيرة. ما الذي يجعل كرة من المادة تظهر بغتة من العدم، في لحظة معينة من الزمن وفي موضع محدد من الفضاء الموجود سلفًا، في حين لم يحدث هذا على طول الزمن حتى تلك اللحظة؟ ما الذي جعل هذا يحدث؟ وفي هذا الوقت والمكان؟ لا توجد إجابة مرضية.

واجه علم اللاهوت المسيحي معضلة شبيهة بهذه؛ إذ كان غير المؤمنين يقولون: «ما الذي كان الإله يفعله قبل أن يخلق الكون؟» فإذا كان الإله موجودًا طوال الأزل، كما رأى علماء اللاهوت، فلا شيء يميز تلك النقطة المحددة التي خلق فيها الكون عن غيرها. بالطبع كانت هناك إجابة بارعة لمثل هذا السؤال تقول: «كان منشغلًا بخلق الجحيم لأمثالكم!» إلا أن للفكرة وجاهتها؛ إذ إنها تمس فكرة التناقض بين الزمن المحدود والخالق غير المحدود بزمن. قدم أوجستين إجابة ذكية لهذه المعضلة، وذلك حين أوضح أن المشكلة لا تكمن في طبيعة الذات الإلهية، بل في طبيعة الزمن نفسه.

(١١) الخلق من العدم

سأعطيك إجابة أوجستين بعد قليل، لكن دعني أولًا أتدبر نموذجًا أكثر واقعية للانفجار العظيم. ليس الكون كرة من المادة محاطة بفضاء خاوٍ، كما أسهبت في الشرح في الفصل الثاني، بل إن «سطح» الكرة يبدو كأنه التمثيل الأصلح للفضاء نفسه. تذكر التنبيه المهم هنا: الفضاء ثلاثي الأبعاد، لكن سطح الكرة ثنائي الأبعاد. وعلى هذا يكون سطح الكرة تشبيهًا ضمنيًّا، وليس توصيفًا دقيقًا؛ فالجزء الداخلي من الكرة والفضاء المحيط بها ليسا جزءًا من الكون المادي الذي نناقشه هنا، بل هما يستخدمان فقط لتسهيل عملية التصور. بعض الناس يستسلمون عند هذه النقطة لأنهم يعجزون عن تصور السطح الكروي (الكرة الفائقة) ثلاثي الأبعاد، لكني أحثك على أن تبقى معي.

مجددًا، دعونا نعد عرض الفيلم إلى الوراء: ينكمش سطح الكرة نحو مركزه إلى أن تلتقي جميع النقاط في نقطة واحدة، ثم بعد ذلك … لا شيء. لكن في هذه الحالة ليس اﻟ «لا شيء» فراغًا محيطًا؛ لأن الفضاء الوحيد الموجود — الفضاء المادي — ممثل في «سطح» الكرة، وهذا بدوره اختفى تمامًا. إذن في هذه الحالة فإن اﻟ «لا شيء» الموجود قبل الانفجار العظيم هو في الواقع «لا شيء» بالفعل، لا مادة ولا فضاء؛ عدم تام.

يتكون الكون الحقيقي، بالطبع، مما هو أكثر من الفضاء المتمدد؛ فهناك المادة أيضًا. ينضغط الكون إلى حجم يبلغ الصفر، وتصير كثافة المادة لانهائية، ويكون هذا هو الحال سواء كان الفضاء متناهيًا أو غير متناهٍ؛ ففي كلتا الحالتين يوجد انضغاط لانهائي للمادة إلى كثافة لانهائية. في نظرية النسبية لأينشتاين، المبني عليها هذه المناقشة بأسرها، تحدد كثافة المادة (إلى جانب الضغط) مدى تقوس أو تشوه شكل الزمكان. وإذا طبقنا نظرية النسبية بحذافيرها، وصولًا إلى حالة الكثافة اللانهائية، فستتنبأ النظرية بأن تقوس الزمكان ينبغي هو الآخر أن يكون لانهائيًّا. يطلق الرياضيون على حد تقوس الزمكان اللانهائي هذا نقطة «التفرد» Singularity. في هذه الصورة، إذن، ينشأ الانفجار العظيم من نقطة تفرد. إن أفضل سبيل لتصور نقاط التفرد الزمكانية هو بوصفها تخومًا أو حوافَّ للزمكان. ومن هذا المنطلق لا تعد نقاط التفرد هذه جزءًا من الزمكان نفسه، تمامًا مثلما لا تعد حافة هذه الصفحة جزءًا منها.

وعلى هذا تكون اللحظة الأولى للكون — في هذه الصورة مفرطة التبسيط — ليست لحظة أو مكانًا على الإطلاق، بل «حدًّا» للحظات والأماكن. قد يبدو حديثي هذا مغرقًا في التفلسف، إلا أن من الخصائص المهمة لهذا الحد هو أنه إشارة تحذير على أنه «لا يوجد ما وراء ذلك!» إن حد الزمكان يقول إنه من المحال اجتيازه. هذا أمر متوقع؛ فحين تشتمل نظرية فيزيائية على كمية لانهائية تتحلل المعادلة ولا يصير بمقدورنا الاستمرار في تطبيقها، فالتفرد في نظرية الانفجار العظيم هو إذن الحد الذي تقول فيه نظرية النسبية: «اللانهاية؟ سُحقًا! أنا أستسلم!» ومن ثم يتوقف كل من الزمان والمكان. ليس التفرد الزمكاني مفهومًا تقنيًّا غير معروف. لقد صنع كل من روجر بنروز وستيفن هوكينج اسميهما في عالم الفيزياء النظرية عن طريق إثبات عدد من نظريات التفرد الزمكاني في الستينيات باستخدام أساليب رياضية بارعة. وكرس بعض زملائي حياتهم المهنية بالكامل لدراسة التفرد الزمكاني، بل وصل الأمر إلى أن هذا الموضوع وجد طريقه إلى حلقة مبكرة من حلقات مسلسل الخيال العلمي البريطاني الشهير «دكتور هو».

قلت إنه لا يمكن الاستمرار في الزمكان «ما وراء» إحدى نقاط التفرد. على وجه الدقة، لا يوجد ما يمنع الزمكان من أن يوجد على الجانب الآخر من نقطة التفرد، بمعنى أنه يمكننا تخيل الانضمام إلى زمكان آخر عند نقطة التفرد الخاصة بالانفجار العظيم من الجانب الآخر. إلا أن هذا لن يكون له مبرر؛ فلأن نقطة التفرد تمثل الذروة اللانهائية للتقوس والكثافة، ونهاية للنظرية الفيزيائية الأساسية التي تصف كل هذا، لا يمكننا الافتراض بأنه بمقدور أي جسم أو تأثير مادي أن يخترق إحدى نقاط التفرد، وبهذا لا يوجد سبيل لمعرفة هل يوجد أي شيء على الجانب المقابل أم لا. أيضًا لا يمكننا أن نولي فكرة وجود شيء ما على الجهة المقابلة أهمية كبيرة، فعلى أي حال لن يكون الزمان أو المكان الموجودان هناك «زماننا ومكاننا»، وبهذا يكون القول إن الزمكان «الآخر» وُجِدَ «قبل» الانفجار العظيم أمرًا غير ذي أهمية. وإذا كان ذلك «الزمكان السابق» لا يحمل أي تأثير فيزيائي على كوننا، فلا جدوى إذن من افتراض وجوده من الأساس.

(١٢) الانفجار العظيم كمنشأ للزمن ذاته

للمناقشة السابقة علاقة بمفهوم مغلوط شائع آخر. لقد وصفت نقطة التفرد في الشرح السابق الذي أعدنا فيه الفيلم الكوني إلى الخلف بوصفها «نقطة زوال» الكون. لكن لِمَ يجب على الكون أن يزول؟ ألم يمكن لنقطة التفرد أن تظل ساكنة في موضعها؟ عند عرض الفيلم للأمام ثانية سنجد نقطة التفرد — فكر فيها بوصفها نقطة من الكثافة اللانهائية لو أحببت، نواة كونية لا حجم لها أو بنية — موجودة على طول الزمان، و«انفجرت» فجأة! في هذه الحالة لا يمكننا أن نسمي ما كان موجودًا قبل الانفجار العظيم بأنه «لا شيء»، بل هو في الواقع «نقطة تفرد». تتبنى بعض التفسيرات الشائعة لنشأة الكون هذه الفكرة المثيرة للجدل. ومع ذلك فهي لن تفيدنا. إن نظرية النسبية تربط المكان بالزمان معًا كي يكونا الزمكان، فلا يمكن أن يكون لدينا زمان دون مكان، أو مكان دون زمان، لذا، إذا لم يكن بالإمكان استمرار المكان وصولًا إلى نقطة التفرد السابقة على الانفجار العظيم فلن يستطيع الزمان ذلك بدوره. لهذه النتيجة معنى ضمني خطير للغاية؛ فإذا كان الكون محدودًا بنقطة تفرد سابقة فالانفجار العظيم إذن لم يكن أصل المكان وحسب، بل «أصل الزمان» أيضًا. أكرر: الزمان نفسه بدأ مع الانفجار العظيم. تخلصنا هذه النتيجة من ذلك التساؤل المربك عما حدث قبل الانفجار العظيم. فإذا لم يكن هناك زمان قبل الانفجار العظيم يصير هذا السؤال بلا معنى. وبنفس الصورة، لن تكون التخمينات بشأن ما «سبب» الانفجار العظيم منطقية؛ لأن المسببات عادة ما تسبق الآثار في الترتيب الزمني. وإذا لم يكن هناك زمان (أو مكان) قبل الانفجار العظيم توجد فيه القوة المسببة فلا يمكننا إذن تحديد مسبب «مادي» للانفجار العظيم.13
عادة ما يشعر الناس بالانخداع حين يقال لهم هذا، وأحيانًا ما تثور ثائرتهم حيال هذا الأمر، كما لو أن المناقشة بأكملها ما هي إلا لعب ماكر بالكلمات يجري على يد علماء مخادعين لا يهدفون إلا لإثارة حيرة من ينتقصون من قدرهم. يقول الساخرون: إن علماء الكونيات يتجنبون إعطاء إجابة صريحة بشأن ما حدث قبل الانفجار العظيم لأنهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يقروا بذلك. صحيح أن علماء الكونيات لا يعرفون الإجابة، لكن هذا ليس لأنهم عاجزون عن التفكير في احتمالات ممكنة. عادة تسير حجة المنتقدين على النحو الآتي: كيف يمكن أن يبدأ الزمان بهذه الصورة المباغتة؟ لا بد أن شيئًا ما سبق وجود الانفجار العظيم. من الصحيح أننا نجد صعوبة في تتبع تاريخ الكون إلى نقطة أبعد وأبعد يتوقف فيها الزمان وحسب، إلا أن هذه الفكرة ليست بفكرة سخيفة أو جديدة. لقد توصل أوجستين إليها في القرن الخامس الميلادي. لقد كانت إجابته على التساؤل الخاص بماذا كان الله يفعل قبل خلق الكون هي: «لقد خُلق العالم مع الزمان، لا في الزمان.»14 إن أوجستين يرى أن الله يسمو فوق الزمان، وأنه هو الذي خلق الزمان مثلما خلق المكان والمادة. بهذه الصورة تجنب أوجستين بمهارة مشكلة سبب حدوث الخلق في تلك اللحظة وليس في لحظة أخرى سابقة عليها؛ إذ إنه لم تكن هناك لحظات سابقة من الأساس. نفس التفكير المنطقي ينطبق على المشكلة العلمية؛ فإذا نشأ الكون «في الزمان» فلا يمكن أن تكون قد تسببت فيه أي عملية فيزيائية محدودة، لأنه لو حدث هذا لكان الانفجار قد حدث منذ زمن بعيد لانهائي. من ناحية أخرى، إذا نشأ الكون «مع الزمان» فلن يكون لهذه المعضلة وجود.

أحيانًا ما أُسأل عما إذا كانت عبارة أوجستين المتبصرة تعني أنه تلقى وحيًا إلهيًّا بشأن نشأة الكون. حسن، لو كان قد كتب معادلات أينشتاين بدلًا من الاكتفاء بهذه العبارة الدرامية، كنت سأصدق ذلك. في الحقيقة، لم يكن هو حتى أول شخص فطن لفكرة أن الزمان خُلق مع الكون؛ إذ تحدث أفلاطون بفكرة مشابهة قبله بمئات الأعوام. إن تاريخ الفلسفة غني ومتنوع حتى إنه سيكون من المثير للدهشة لو ظهرت نظريات علمية لم يكن أحدهم قد تفكر فيها بشكل مبهم من قبل. إن أهم ما في عمل أينشتاين هو أنه أوضح بطريقة محددة قابلة للاختبار، باستخدام نظرية رياضية مفصلة، كيف أن الزمان والمكان «جزءان من» الطبيعة، وليسا مجرد ساحة تُعرض فيها دراما الطبيعة العظيمة. يعني هذا أننا لو حاولنا تفسير نشأة الكون المادي فلن يكون لدينا خيار سوى تفسير نشأة الزمان والمكان أيضًا. وبهذا يكون جليًّا أن الزعم بأن الزمان بدأ مع الانفجار العظيم هو نقطة البدء الصحيحة.

(١٣) هل كان الانفجار العظيم في حقيقته ارتدادًا عظيمًا؟

هناك اعتراض أكثر جدية على الوصف الذي قدمته إلى الآن، وهو يتلخص في أنني افترضت أن الكون ذو شكل منتظم مثالي وأنه مليء بمادة متجانسة الكثافة. من الواضح أن هذا افتراض مبالغ في المثالية. تخيل أن كرة مشوهة الشكل تنكمش دون حدود. هذه المرة لن تتجمع النقاط المختلفة المنتشرة على سطح الكرة بصورة أنيقة منظمة في نقطة واحدة، ما لم تتحرك بمعدلات متباينة وتتفق على أن تلتقي في المركز في نفس اللحظة. هل من المرجح حدوث هذا؟ كلا، إن الجزيئات غير المنتظمة المتحركة وفق معادلات النسبية العامة لن تتجمع في العموم في نقطة واحدة، بل الأرجح أن يخطئ بعضها بعضًا. ماذا سنرى إذن حين نعرض الفيلم الكوني بشكل معكوس، ونشاهد أجزاءه وهي تفشل في الالتقاء معًا ثم نواصل العرض؟ ما سنجده هو أن المكونات المتجمعة ستدخل في حالة من الهرج ثم تبدأ في التباعد بعضها عن بعض مجددًا. إن عرض الفيلم الكوني للأمام من نقطة بعيدة في الماضي سيكشف لنا عن وجود كون ينكمش من حجم كبير، ثم ينهار بعنف إلى كثافة مرتفعة للغاية، ثم يفور مرة ثانية. لقد حل الارتداد العظيم Big Bounce محل الانفجار العظيم.

هل يمكن أن يكون الكون الفعلي على هذا النحو؟ من الناحية المنطقية لا يوجد ما يمنع ذلك، إلا أن هذا سيثير عددًا من المشكلات العلمية. أول هذه المشكلات هي أننا بدلًا من مشكلة: لماذا حدث الانفجار العظيم؟ جئنا بمشكلة أخرى هي: لماذا كان هناك كون منكمش، جميع أجزائه في أماكنها الصحيحة، وتتحرك معًا بصورة سليمة كي تلتقي في تجمعات كثيفة وتحاكي الانفجار العظيم؟ كيف أتى هذا الكون المنكمش إلى الوجود من الأساس؟ إن الرد بأنه «كان موجودًا على الدوام» ليس بالجواب الوافي. إننا لا نفسر وجود الشيء بقولنا إنه كان موجودًا على الدوام. من التنويعات على هذه الفكرة نماذج الكون الدوري أو ذي الارتدادت المتعددة، الذي فيه يتمدد الفضاء نتيجة انفجار عظيم، ويصل إلى نقطة قصوى، ثم ينكمش ثانية في ارتداد عظيم، ويطلق موجة ثانية من التمدد، ثم الانكماش، وهكذا، بلا نهاية. ومجددًا، لا يمكن تفسير وجود مثل هذا الكون فقط بقولنا إنه كان موجودًا ويواصل الارتداد على الدوام.

هناك اعتراض آخر يتعلق بما يُدعى القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية. في أكثر صور هذا القانون شمولًا يركز على العمليات غير القابلة للانعكاس، أي شيء يمكنه السير في اتجاه ما وليس أي اتجاه آخر. مثال على ذلك انهيار أحد النجوم إلى ثقب أسود؛ إذ يستحيل الحصول على النجم مجددًا. إن أي عملية غير قابلة للانعكاس في الكون وتجري بمعدل محدد (على سبيل المثال، احتراق أحد النجوم أو انهياره) ستصل إلى حالتها النهائية بمعدل محدد. وفي هذه الحالة، إذا كان عمر الكون كبيرًا بشكل لانهائي فينبغي أن يكون في حالته الأخيرة الآن. فمثل الساعة التي تستنفد بطاريتها كان من المفترض بساعة الكون العظيمة أن تكون قد توقفت بالفعل عن التحرك، لكن من الواضح أن هذا لم يحدث بعد (انظر الإطار [لماذا لا يمكن أن يكون الكون قد وُجد على هذه الصورة على الدوام؟]).15

لماذا لا يمكن أن يكون الكون قد وُجد على هذه الصورة على الدوام؟

بحلول خمسينيات القرن التاسع عشر كان علماء الفيزياء على معرفة بالقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، الذي يمنع الحركة السرمدية للآلات، فلا يوجد محرك، على سبيل المثال، يستطيع العمل بشكل لانهائي دون أن يعاد تزويده بالوقود. أما الشمس وغيرها من النجوم فإن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يحكم عليها بالفناء الحتمي. إن الشمس، التي تدعم أغلب أشكال الحياة على الأرض، ظلت تسطع بثبات (في الحقيقة تزداد سطوعًا بدرجة طفيفة) لمدة ٤٫٥ مليار عام. اليوم نحن نعرف أن الشمس تستمد طاقتها من التفاعلات النووية التي تحدث في جوفها. لم يعرف أحد هذا في خمسينيات القرن التاسع عشر، لكن كان من البديهي وجود مصدر للطاقة من نوع ما، ولا يوجد أي مصدر للطاقة غير قابل للنفاد. لا تستطيع الشمس مواصلة السطوع للأبد؛ إذ إن مخزون طاقتها سينفد إن عاجلًا أو آجلًا. بعملية حسابية سريعة نكتشف أن الشمس بلغت بالفعل منتصف دورة حياتها. وفي غضون من ٤ إلى ٥ مليارات عام ستقع في مشكلة عظيمة وسينتهي بها الحال وهي تنهار على نفسها إلى ما يسمى بالقزم الأبيض.

والقصة لا تختلف مع النجوم الأخرى؛ إذ إنها ليست خالدة. إن النجوم تولد، ثم تموت. وبما أنه يوجد مخزون محدود من المواد الخام (غاز الهيدروجين بالأساس) في مجرتنا وغيرها من المجرات، فسيأتي الوقت الذي لن تتكون فيه نجوم جديدة، وتنطفئ النجوم الموجودة، لينتهي بها المطاف كثقوب سوداء أو نجوم نيوترونية، أو أقزام سوداء. كان هذا السيناريو العام معروفًا بالفعل في القرن التاسع عشر، وكان يشار إليه بأنه الموت الحراري للكون. لكن في ذلك الوقت لم يبد أن أحدًا فطن إلى النتيجة المنطقية الحتمية: أن الكون لا يمكن أن يكون قد وُجِدَ طوال الوقت على هذه الصورة دون تغيير، على الأقل ليس في صورته الحالية، وإلا لم يكن إلا مقبرة نجمية لا أكثر. كان على هذا الاستنتاج أن ينتظر القرن العشرين واكتشاف تمدد الكون على يد سليفر وهابل، وهو التطور الذي قاد إلى نظرية الانفجار العظيم المفسرة لنشأة الكون.

مشكلة أخيرة بشأن نظرية الارتداد العظيم هي أنه، في ظل نطاق عريض من الظروف، سيتكون نوع ما من نقاط التفرد (وذلك وفق نظرية النسبية العامة). من الصحيح أن نقطة التفرد لن يمكنها هنا إعاقة الكون بالكامل؛ بمعنى أن بعض المادة المنجذبة قد تخطئها، لكن هذا يعني أننا لا يمكننا تجنب مواجهة قضية أن الزمكان كان له حد في الماضي فقط بأن نجعل الكون يفتقر للتجانس. وإذا كان من الحتمي أن نواجه نقطة التفرد على أية حال فحري بنا أن نجعلها نقطة تفرد شاملة لانفجار عظيم بدلًا من نقطة تفرد مراوغة لارتداد عظيم.

كان الوصف السابق هو الوصف المقبول حين كنت أدرس بالجامعة في الستينيات. قيل وقتها إن الانفجار العظيم كان حدثًا بدون سبب؛ لأن تفرد الزمكان الذي كان يحيط به يشير إلى انهيار كل من الزمكان والنظريات الفيزيائية، وهذا يجعل أي تفكير عن الأسباب والنتائج لا معنى له. بدا أن هذا التفسير يضع نشأة الكون خارج نطاق العلم إلى الأبد. إلا أن علماء الكونيات كانوا في بداية سعيهم وحسب، وعزمت بعض النظريات العلمية على إيجاد تفسير علمي لمولد الكون. وقد تحقق التقدم من ناحية غير متوقعة.

(١٤) إلى أي مدى في الماضي يمكننا دفع نظرياتنا؟

حين نحاول بناء قصة الكون المبكر سيكون علينا أن نطبق أفضل فهمنا للفيزياء على الظروف القاسية التي وُجِدَت بعد الانفجار العظيم على الفور. تقدم فيزياء الجسيمات عالية الطاقة بعض البيانات التجريبية التي يمكنها إرشادنا، لكن ونحن نفكر في لحظات مبكرة أكثر وأكثر سيكون علينا الاعتماد أكثر على نظريات تخمينية؛ فالتضخم، مثلًا، يعتمد على نظريات الفيزياء العظيمة الموحدة للفيزياء الجزيئية، التي لا يوجد عليها تأكيدات تجريبية إلى الآن.

وحتى نظريات الفيزياء الراسخة قد لا تنطبق على طول الطريق وصولًا إلى لحظة الصفر. يستخدم بعض العلماء مصطلح «التعميم» حين يأخذون فكرة أو نظرية أو قانونًا فيزيائيًّا ويطبقونه على نطاق مختلف تمامًا من حيث الحجم أو الطاقة. السؤال هنا هو: إلى أي مدى يمكن تعميم النظريات الفيزيائية مع العودة بالزمن صوب لحظة نشأة الكون قبل أن تصبح الظروف متطرفة للغاية لدرجة تمنع الوثوق بإمكانية تطبيقها كما هي دون تعديل؟ المدهش في العلوم الفيزيائية هو مدى اتساع تطبيق بعض النظريات. على سبيل المثال، تمدنا نظرية ماكسويل للكهرومغناطيسية بتوصيف ممتاز للخصائص الكهرومغناطيسية داخل الذرة، إلا أنها تنطبق أيضًا على المجالات المغناطيسية للمجرات ذات القطر الأكبر حجمًا ﺑ ١٠٣٢ مرة. إن هذه النظرية تصف تأثيرات المجالات المغناطيسية الدقيقة الموجودة على الأشعة الكونية في الفضاء بين المجرات إلى جانب سلوك النجوم المنهارة التي يطلق عليها النجوم المغناطيسية، والتي تدعم مجالات مغناطيسية أقوى ﺑ ١٠٢٠ مرة.

ما مدى نجاح نظرية النسبية لأينشتاين في هذا الجانب؟ من الصحيح أن نظرية النسبية تُطبَّق في سياقات متعددة، سواء على مستوى النظام الشمسي أو الكون بأكمله، لكن كيف نعرف هل تصلح حين كان الكون منكمشًا في حجم كرة تنس أو ذرة؟ هل من قبيل المبالغة أن نحاول تطبيق النظرية «عينها» على جميع المستويات وصولًا إلى الصفر؟

يتبع الفيزيائيون قاعدة أساسية بشأن عملية تدرج المقاييس؛ فإذا كانت النظرية لا تشتمل على وحدة للطول — شيء يصحح المقياس الذي تجري العمليات الفيزيائية وفقًا له — فما من سبيل لمعرفة متى ستنهار النظرية، هذا إن انهارت من الأساس. لا تحوي نظرية ماكسويل للكهرومغناطيسية وحدة طول أساسية كهذه، حتى عند جمعها مع ميكانيكا الكم. لكن مع الجاذبية يختلف الحال. لا تحوي نظرية النسبية العامة وحدة طول ثابتة، ولهذا يمكن أن تنطبق على أكبر الأحجام الكونية وصولًا إلى أصغر فترات الزمان والمكان دون إشارة إلى أين يمكن أن تفشل، إن فشلت من الأساس. لكن عند الجمع بين الجاذبية وميكانيكا الكم يظهر لنا موقف جديد تمامًا. أوضح ماكس بلانك، مبتدع نظرية الكم عام ١٩٠٠، أن الثابت الأساسي الجديد في الفيزياء — الذي نطلق عليه الآن ثابت بلانك أو h، وهو الرقم الذي يحدد نطاق الظواهر الكمية — يمكن جمعه مع سرعة الضوء c وثابت الجاذبية العام لنيوتن G (انظر الإطار [ما هو ثابت الجاذبية العام G؟]) للخروج بكمية ذات وحدة طول.16 يعرف هذا باسم طول بلانك، تكريمًا لماكس بلانك، وتبلغ قيمته حوالي ١٠−٣٣ سنتيمتر، أو ١٠٢٠ مرة أصغر من نواة الذرة. إن وجود وحدة الطول الأساسية هذه يعني أنه إذا تعاملنا مع الجاذبية بمفاهيم ميكانيكا الكم فسيحدث شيء مهم حين ينكمش حجم النظام إلى طول بلانك. وتحديدًا، نحن نتوقع أن نظرية النسبية العامة لأينشتاين، التي لا تشير إلى الظواهر الكمية، لا يمكن تعميمها دون تعديل على هذا الموقف، وهو ما يعني إمكانية توقع انحرافات متطرفة عن تنبؤات النسبية العامة على مستوى طول بلانك أو أدنى منه.17

ما هو ثابت الجاذبية العام G؟

كما أوضحت في الفصل الأول فإن نيوتن خمن، محقًّا، أن قوة الجذب بين أي جسمين تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينهما. يوضح الشكل ١-١ رسمًا بيانيًّا لقوة الجاذبية مع الابتعاد. لكن ليست هذه القصة بالكامل. لاحظ أنه لم تكن هناك وحدات محددة على الرسم. يخبرنا قانون نيوتن بمقدار تفاوت قوة الجاذبية بما يتناسب مع المسافة (حيث تصير أقوى بأربع مرات مع نصف المسافة وهكذا)، بيد أنه لا يخبرنا نهائيًّا عن القيمة «المطلقة» لقوة الجاذبية. استنتج نيوتن، مصيبًا، أن قوة الجذب تعتمد على مقدار المادة التي يحتوي عليها الجسمان، أي كتلتيهما، لكن هذا وحده لم يكن كافيًا؛ فإذا سألنا عن مقدار قوى الجاذبية بين جسمين كتلة الواحد منهما كيلوجرام واحد وتفصلهما مسافة قدرها متر واحد، فلن تستطيع نظرية نيوتن أن تعطينا الإجابة وحدها. السبيل الوحيد لمعرفة الجواب هو قياس هذه القوة لنرى ما حددته الطبيعة. وعند عمل ذلك، وافتراض أن قانون الجاذبية عام (وهو ما فعله نيوتن) عندها يتحدد المقياس وتتحدد هذه القوة المطلقة لكل الكتل والمسافات في كل مكان في أرجاء الكون. (للفضوليين منكم نقول إن الإجابة هي ٦٫٦٧٣ × ١٠−١١ م٣ كجم−١ ف−٢.) في الحقيقة من العسير قياس قوة الجذب بين الكتل المعروفة، إلا أن هذا ممكن عمله. من الطرق المبكرة لعمل ذلك رؤية القدر الذي سيجذب به جبل ثقلًا متدليًا من وضع عمودي ثم تحديد مقدار القوة، مع المعرفة (التقريبية) لكتلة الجبل. في أيامنا هذه يمكن الحصول على جواب دقيق في المعامل باستخدام كُرَتين من المعدن. إن قوة الجذب بينهما ضئيلة، لكن يمكن قياسها باستخدام المعدات الحساسة. على كلٍّ، الشاهد هنا هو أنه يوجد ثابت متأصل في الطبيعة — ثابت الجاذبية العام لنيوتن الذي يرمز له بالحرف G — والذي تُضرب فيه القيم المتغيرة في القانون ويحدد القيمة الفعلية لقوة الجاذبية. إذا كان ثابت الجاذبية ضعف قيمته فستكون جميع قوى الجذب في الكون ضعف قوتها (في ظل تساوي كافة الظروف الأخرى). دعني أؤكد ثانية على أن ثابت الجاذبية لا يمكن استنتاجه من نظرية نيوتن، بل يقاس بصورة معملية تجريبية. يؤمن أغلب علماء الفيزياء، التالين على نيوتن، بأن ثابت الجاذبية ثابت كوني، وأنه واحد في كل مكان، مع أنهم لا يملكون أدنى فكرة عن السبب وراء حمله هذه القيمة تحديدًا. لكل قوى الطبيعة نفس الخاصية؛ فمهما تكن الصورة الرياضية لقوانين القوى فهناك ثوابت كلية غير محددة (عادة تسمى «مؤشرات»؛ لأن قيمها يمكن أن تتفاوت) تضبط القيم المطلقة للقوى ولا بد أن تقاس تجريبيًّا كي تتحدد قيمها.
من الطرق الأخرى التي تهيمن بها التأثيرات الكمية على الجاذبية هي إنشاء وحدة طبيعية للزمن، التي يمكن الحصول عليها بقسمة طول بلانك على سرعة الضوء. يطلق على الناتج زمن بلانك، ويبلغ حوالي ١٠−٤٣ ثانية. بصورة عامة، من المتوقع أن تفشل نظرية أينشتاين في مثل هذا الإطار الزمني الضئيل، وأن تحل محلها نظرية للجاذبية الكمية. وفي سياق نشأة الكون والانفجار العظيم والوجود المحتمل لنقطة تفرد مبدئية، يطلق زمن بلانك جرس إنذار: إذ لا ينبغي علينا الوثوق بالنسبية العامة حين تُطبق في إطار زمن بلانك واحد في نشأة الكون. لن يؤثر هذا على التضخم، على الأقل على النحو الذي وصفته إلى الآن، إذ إنه حدث بعد ذلك (في عمر حوالي ١٠−٣٤، أي مليار زمن بلانك)، بيد أن التأثيرات الكمية للجاذبية من شأنها أن تغير كل ما يتعلق بنقاط التفرد ونشأة الكون. كان هذا الإدراك هو ما قاد إلى إيجاد مجال دراسة جديد: إنه علم الكونيات الكمي.

(١٥) علم الكونيات الكمي

يعد الجمع بين أقصى طرفي النقيض في الفيزياء — علم الكونيات الذي يدرس الكون، وميكانيكا الكم التي تدرس النظم الذرية ودون الذرية — محاولة طموحة وفق أي معيار. إلا أن هذا لم يمنع بعض الفيزيائيين المتميزين من العمل على هذا الموضوع. أول هؤلاء كان جون ويلر في الستينيات، الذي زعم أن عدم اليقين الكمي سيضفي الغموض على نقطة التفرد، مستبدلًا التقوس اللانهائي للزمكان بشيء آخر أكثر اعتدالًا وتعقيدًا. من سبل رؤية ذلك تشبيه نقطة التفرد برأس دبوس حاد بصورة لانهائية. عند تطبيق ميكانيكا الكم على الدبوس الحقيقي سنجد أن موضع رأس الدبوس لن يكون دقيقًا بقدر طفيف، وهو ما يؤدي إلى أن يكون الرأس غير حاد. هل ستتسبب ميكانيكا الكم في جعل نقطة التفرد الزمكاني «غير محددة»؟ حسنًا، الدبوس شيء، ونقطة التفرد الكوني شيء آخر. بداية، عند التعامل مع الجاذبية الكمية لا بد أن تُطبق ميكانيكا الكم على الزمكان، لا على المادة، الأمر الذي يثير عددًا من المشكلات الفنية والمفاهيمية.

وحتى لو استطعنا التغلب على هذه المشكلات تتبقى لنا مسألة: أي حالة كمية يكون الكون عليها؟ لرؤية المشكلة فكر في نظام بسيط للغاية يحتاج ميكانيكا الكم لتفسيره، ذرة الهيدروجين. تصف ميكانيكا الكم بدقة كيف أن الإلكترون الذي يدور حول البروتون يملك فقط قدرًا يسيرًا من الطاقة المنفصلة الخاصة به وحده. تبدأ مستويات هذه الطاقة مما يطلق عليه «الحالة الأرضية»، وهي أقل حالة طاقة في النظام الكمي، وتستمر في التصاعد وفق «حالات إثارة» أعلى من الطاقة. لذا، لنحدد سلوك أي ذرة هيدروجين، من الضروري أن نحدد بالضبط الحالة التي هي عليها في البداية. على سبيل المثال، إذا كانت الذرة في الحالة الأرضية فسيستقر الإلكترون على هذا الوضع، أما لو كانت في حالة أعلى من حالات الإثارة فسيقفز الإلكترون نحو الحالة الأرضية مطلقًا واحدًا أو أكثر من الفوتونات. إن احتمالات الحالة الكمية لذرة الهيدروجين غير محدودة (فقد يكون الإلكترون، مثلًا، في أي مستوى من مستويات الطاقة المتراكبة، انظر الإطار [ما هو ثابت الجاذبية العام G؟]). وبالمثل، فإن الكون بأكمله قد يكون في أي حالة من الحالات الكمية غير المحدودة، وتتباين النتائج وفق اختلاف الحالات، وهو ما لن يفيدنا كثيرًا. أي حالة كمية إذن يكون فيها الكون؟ في أوائل الثمانينيات اقترح ستيفن هوكينج، من جامعة كامبريدج، بالتعاون مع جيمس هارتل، من جامعة كاليفورنيا بسانتا باربرا، أنه قد توجد حالة كمية خاصة «طبيعية» للكون — أشبه بالحالة الأرضية — وعبرا عنها عن طريق بنية رياضية خاصة.18

(١٦) كيف يمكن أن ينشأ الكون من لا شيء حرفيًّا؟

رغم أن الفهم الملائم لحالة هارتل-هوكينج يتطلب الإلمام بالرياضيات المتقدمة، فإنه يمكن توصيل الفكرة العامة عن طريق إحدى الصور. من الخصائص الأساسية للحالة المختارة هي الطريقة التي «يشوه» بها عدم اليقين الكمي الزمان والمكان، فبتطبيق عدم اليقين الكمي على جسيم كالإلكترون سنجد أن هذا يعني أن موضعه وحركته يتعذر تحديدهما بدقة (انظر الإطار [ما هو ثابت الجاذبية العام G؟]). وعند تطبيق عدم اليقين الكمي على الزمكان ينبئنا بأن المكان والزمان نفسيهما سيتعذر تحديدهما بدقة؛ أي إن النقاط المكانية والزمانية ستتشوه. لكن الأدهى من ذلك هو أن ذلك التشوه الكمي سيؤثر على الهوية المستقلة لكل من الزمان والمكان. دعني أوضح لك ما أعنيه بهذا: في الحياة اليومية الزمان زمان والمكان مكان — فلا يوجد خلط بينهما — حتى رغم أن المكان والزمان يعنيان نفس الشيء «تقريبًا»؛ لكونهما الجزأين المكونين للزمكان. لكن في العالم الكمي لن تكون هوية أي منهما مستقلة بهذا الشكل؛ إذ ستتصرف بعض الفترات الزمانية مثل المسافات المكانية، والعكس بالعكس؛ فيصير الزمان أشبه بالمكان والمكان أشبه بالزمان. إن أزمة الهوية الناجمة عن هذا الأمر — التقلبات الكمية للزمان والمكان — طفيفة للغاية، بل في الواقع هي منحصرة فقط في إطار أطوال بلانك وأزمانه. لكن في سياق نشأة الكون سيكون لها أهمية عظيمة.
لفهم كيف تشتمل الحالة الكمية لهارتل-هوكينج على تشوه زماني ومكاني، انظر إلى الشكل ٣-٤. هذا تمثيل تخطيطي مبسط لتمدد الكون يُمثل فيه الزمان عموديًّا والمكان أفقيًّا. تخلصت في الشكل من بُعدين مكانيين، تاركًا بعدًا واحدًا فقط مبينًا على صورة دائرة (أي فضاء مغلق). يمكننا أن نرى على الفور أن الكون يتمدد لأن قطر الدائرة يزداد مع مرور الوقت. وعلى العكس، في الماضي كان ينقص، وصولًا إلى لحظة بداية الزمان، المشار لها بالقيمة ز = صفر، حيث يصل إلى لا شيء، وهذه هي نقطة التفرد الكوني الخاصة بالانفجار العظيم. في هذه الصورة يبدو الزمكان كالمخروط المقلوب، وباستثناء الرأس المستدق الحاد لقاعدته، لا ينبغي وضع أهمية كبيرة على الشكل نفسه. يعمل عدم اليقين الكمي على تغيير بنية المخروط قرب قاعدته، بحيث تبدو الرأس أشبه بالنحو المبين في الشكل ٣-٥. إن النقطة الحادة اللانهائية، التي تمثل نقطة التفرد الزمكاني، تُستبدل بقاعدة كقاعدة الإناء. يبلغ قطر هذه الدائرة حوالي واحد طول بلانك، وهو طول دقيق للغاية بالمعايير البشرية، لكن ليس صفرًا، وهذا أمر شديد الأهمية. وعلى هذا لم تعد هناك نقطة تفرد في هذا الوصف.
fig15
شكل ٣-٤: نقطة التفرد عند مولد الكون. في نموذج الانفجار العظيم القياسي، والمبني على نظرية النسبية العامة لأينشتاين المصحوبة بافتراض التطابق التام، ينشأ الكون في حالة متفردة ذات كثافة لانهائية وتقوس زمكاني لانهائي، والمبين هنا من خلال رأس المخروط المقلوب. ولتسهيل عملية التخيل أظهرت المكان هنا بشكل أحادي البعد ومغلق على شكل دائرة (تمثل كرة فائقة ثلاثية الأبعاد). المنطقة أسفل المخروط، والمشار إليها بكلمة «لا شيء»، التي تبدو أنها تقع «قبل» الانفجار العظيم، لا توجد كمكان فعلي في هذا النموذج. إن المكان والزمان يبدآن في نقطة التفرد.
بترجمة هذا إلى لغة الزمكان، مع استخدام تقنيتنا المألوفة لعرض الفيلم الكوني للخلف، نجد أن هذا الشكل يصف كونًا ينكمش بشكل حثيث صوب قطر يبلغ الصفر، وهو القطر المقدر الوصول إليه في وقت محدد متوقع، لكن قبيل وقوع هذا الحدث النهائي مباشرة (حوالي واحد زمن بلانك قبله)، يبدأ الزمن نفسه في التشوه، ويمر بأزمة هوية، ويبدأ في اكتساب سمات أشبه بالمكانية. لا يتحول الزمان إلى مكان على حين غرة، إذ يحرص نموذج هارتل-هوكينج الرياضي المقترح على هذا، بل يذوي تدريجيًّا بصورة مستمرة. في «قاعدة الإناء» يصير الزمان شبيهًا بالمكان تمامًا. بالنظر للأمر من الخلف للأمام نقول إنه في البداية كانت هناك في الواقع أربعة أبعاد للمكان، تحول أحدها إلى الزمن. لم يكن هذا التحول «مفاجئًا»، كما اقترح أوجستين، مع أنه بالمعايير البشرية قد يبدو سريعًا بما يكفي، حيث استمر فقط مدة زمن بلانك واحد (أو بالأحرى كان سيستغرق هذه الفترة لو كان للزمن وجود). لكن أهم ما في الأمر هو أنه لم يكن لحظيًّا. فبدلًا من المنشأ المتفرد للكون، الحدث الذي وقع دون سبب والذي يضع نشأة الكون خارج إطار العلم، أصبح في هذه النظرية منشأ آخر سلس، يتوافق مع قوانين الفيزياء في كل مكان.19
fig16
شكل ٣-٥: المنشأ الكمي للكون. في هذه الصورة المبسطة للغاية، والمبنية على النموذج الذي اقترحه هارتل وهوكينج، فإن الكون كان له حد في الماضي، لكن لا توجد نقطة منشأ ظهر الزمن فيها «بشكل مفاجئ»، بل يصير الزمن أكثر شبهًا بالمكان بالقرب من البداية، وذلك نتيجة تأثيرات ميكانيكا الكم.
إلى أي مدى يمكننا أن نأخذ توصيف هارتل-هوكينج لنشأة الكون بجدية؟ ليس بجدية كبيرة، في رأيي. إن قيمته تكمن بالأساس في توضيحه لنا كيف يمكن وضع نظرية فيزيائية عن مولد الكون من لا شيء حرفيًّا. وسواء كانت هذه النظرية بصورتها هذه صحيحة أم لا، فإنها تبين لنا كيف يمكننا أن نجتاز برشاقة ما يبدو كأنه معضلة مستحيلة الحل. قبل إسهام هارتل وهوكينج كان يُفترض إما أن الكون كان موجودًا للأبد بصورة أو بأخرى، أو أنه كانت هناك لحظة محددة من الوقت؛ نقطة معينة «بدأ» فيها الزمن دون سبب. إلا أن كون هارتل-هوكينج تشوبه مشكلة عويصة؛ لأنه يحتوي على خاصيتين متعارضتين بشكل واضح؛ فمن ناحية، هذا الكون محدود بزمن معين في الماضي — أي إن الزمن لا يمتد للوراء إلى الأبد — ومن ناحية أخرى لا توجد لحظة محددة بدقة بدأ فيها الكون أيضًا. إن قاعدة الإناء في الشكل ٣-٥ تمثل بشكل ما الحد الماضي للزمن، بيد أنها ليست اللحظة الأولى له.

دعني أكرر أن اقتراح هارتل-هوكينج «لا يصف» كونًا موجودًا على الدوام؛ فهناك انفجار عظيم، ولم يوجد أي كون قبله، ولو حتى بميكروثانية واحد. إن محاولات تحديد اللحظة الأولى محكوم عليها بالفشل؛ حيث تضيع في عدم اليقين العام لميكانيكا الكم. إن التساؤل عما وُجد قبل الانفجار العظيم — ماذا يقع أسفل الإناء؟ — لا جدوى منه، وعلى حسب تعبير هوكينج هو أشبه بالتساؤل عما يوجد شمال القطب الشمالي. إن الإجابة هي لا شيء، ليس لأن هناك أرضًا غامضة من «اللاشيء» هناك، بل لأن الفترة الزمنية «السابقة على الانفجار العظيم» تشبه المنطقة الواقعة «شمال القطب الشمالي»، أي إنها ببساطة غير موجودة من الأساس.

لكن رغم أن هذا التقدم كان محل ترحاب لأنه أبطل فكرة المنشأ السحري للكون دون الوقوع في مشكلة الكون السرمدي، فإن نظرية هارتل-هوكينج، شأن غيرها من المحاولات العديدة لوصف الكون استنادًا إلى ميكانيكا الكم، تواجه مشكلة أخرى عويصة من حيث المبدأ، وهي: إما أن نشأة الكون حدث طبيعي، أو أنه حدث خارق للطبيعة. (وأعني بخارق للطبيعة أنه لا يمكن تفسيره في نطاق العلم وحده.) لكن كيف لنا أن نبرر الزعم بأنه حدث طبيعي رغم أنه لم يقع سوى مرة واحدة وحسب؟ إن الحدث الطبيعي يقع بالاتفاق مع قوانين الطبيعة في ظل احتمالية أكبر من الصفر. يعني هذا أنه يمكننا القول إنه إذا ظهر الكون للوجود من لا شيء، وفق قوانين الطبيعة، فبالإمكان حدوث ذلك مرة أخرى … وأخرى. وكما أوضح الفيلسوف الكندي جون ليزلي فإنه سيكون من المستغرب بشدة أن تحمل العمليات الفيزيائية التي أفضت إلى وجود كوننا ملصقًا يقول: «هذه الآلية نجحت في عملها مرة واحدة فقط.»20 بعبارة أخرى، مهما تكن النظرية الفيزيائية التي يمكن أن يخرج بها الشخص لوصف نشأة الكون، فإن نفس النظرية تصف نشأة «العديد من» الأكوان، في الحقيقة عدد لا محدود من الأكوان. وفي حقيقة الأمر يمكن أن تنشأ مثل هذه النظرية من سيناريو الكون المتضخم.

(١٧) التضخم الأبدي

من نقاط الضعف في نموذج جوث الأولي عن الكون المتضخم الحاجة لافتراض أن مجال التضخم بدأ بالضرورة في حالة استثارة غير مستقرة، وهي الحالة التي ستدفع التمدد الأسّي للكون. أشارت الحسابات إلى أنه لو كان الانفجار العظيم الذي سبق التضخم بجزء من الثانية حارًّا بما يكفي فبمقدور مجال التضخم أن يبرد بشكل تلقائي إلى الحالة المطلوبة. إلا أن العديد من المنظرين لم يؤمنوا بهذا أو اعتقدوا أنه أمر ملفق. وجد عالمان روسيان للكونيات — وهما أندريه ليند الموجود الآن في جامعة ستانفورد، وأليكس فيلنكين الموجود الآن في جامعة تافت — وسيلة أفضل لجعل التضخم يبدأ بصورة لا تجعله يحتاج لظروف نشأة خاصة. إن الفكرة الأساسية هي أنه فور أن يبدأ التضخم، سيكون من العسير للغاية إيقاف حدوثه في كل مكان. إن سبب ذلك يرجع إلى نفس فكرة التفاوتات الكمية التي ناقشتها من قبل عند الحديث عن البنية واسعة النطاق للكون. إن مجال التضخم الواقف وراء تضخم الكون يخضع لمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، لذا ستتفاوت قوته عشوائيًّا وتلقائيًّا من مكان لآخر ومن وقت لآخر. إن هذا المجال، الذي بدأ في حالة استثارة غير مستقرة، يريد في معظمه أن يذوي وينهي عملية التضخم، كان هذا هو اقتراح جوث المبدئي. لكن في النقاط المتفرقة التي يعاني فيها المجال تفاوتات «مقوّية» بمعدل أكبر من معدل تحلله، سيزداد التضخم فعليًّا في القوة (حيث ستزيد نسبة التضخم مع قوة مجال التضخم). ومع أن هذه النقاط «المخالفة للتيار العام» موجودة في مواضع متفرقة (أغلب التفاوتات صغيرة للغاية بما لا يجعلها تتغلب على تحلل مجال التضخم)، فإنها تولد مساحة كبيرة من الفضاء. تذكر أن السمة الأساسية للتضخم هي أن الفضاء يتضاعف في الحجم على فترات متلاحقة ثابتة. ومن ناحية الحجم المادي، إذن، تهيمن تلك المناطق المتضخمة على الكون بالكامل. وهكذا، بالنظر إلى الكون من أعلى سنجد أن الكون تكون في أغلبه من فضاء متضخم أوجدته مناطق نادرة ذات تفاوتات «مقوّية»، تتخللها مناطق توقفت عن التضخم وتحولت إلى أكوان متمددة بالطريقة المتعارف عليها (أي التمدد بمعدل متناقص).

ولأن التفاوتات الكمية لا يمكن إيقافها فستظل هناك على الدوام مناطق من الفضاء تستمر في التضخم، وهذه المناطق تمثل الحيز الأكبر من الفضاء. هكذا يستمر هذا النظام في توليد أكوان جيبية بصورة لا نهاية لها. وكل كون جيبي سيرث نفس تجانس المنطقة المتضخمة التي جاء منها، مصحوبًا ببعض التفاوتات الكمية الصغيرة التي ستكون بنيته واسعة النطاق. (التفاوتات داخل الكون الجيبي عادة ما تكون أصغر من التفاوتات الواقعة بين كل كون جيبي وآخر.)21 يتبقى سؤال واحد دون جواب، وهو: هل النظام المتضخم بحاجة لنقطة بداية؟ كما في نظرية جوث الأصلية، قد يكون المنشأ الأساسي انفجارًا عظيمًا محاطًا بنقطة تفرد. بيد أنه من الممكن أيضًا تصور أنه لا توجد بداية؛ بمعنى أن الفضاء المتضخم الذي يولد الأكوان الجيبية موجود على الدوام.22 هذا الاقتراح الأخير محل تفصيل من جانب ليند، الذي يشير لهذا النموذج بالتضخم الأبدي الفوضوي، وهو فوضوي بسبب التفاوتات العشوائية، وأبدي لأن التضخم ليس له بداية أو نهاية. وقد كتب: «العملية كلها يمكن اعتبارها تفاعلًا متسلسلًا مطلقًا للخلق والإنتاج الذاتي ليس له نهاية، وقد لا تكون له بداية أيضًا.»23

(١٨) الكون المتعدد

تغير نظرية التضخم الأبدي تغيرًا جذريًّا من طبيعة علم الكونيات، فمع أنها تفسر نفس الأشياء التي تفسرها النسخ الأخرى من نظرية التضخم، فإنها تقدم أساسًا مفاهيميًّا مختلفًا تمامًا. إن ما كنا نطلق عليه طوال الوقت مسمى «الكون» لم يصبح، في هذه النظرية، إلا جزءًا متناهي الصغر من «فقاعة» واحدة، أو كونًا جيبيًّا، ضمن عدد لانهائي من الأكوان الأخرى «المتعددة»، التي يحويها جميعًا فضاء متضخم موجود بشكل سرمدي. يشير ليونارد ساسكيند، عالم الفيزياء النظرية بجامعة ستانفورد، إلى فكرة الكون المتعدد على أنها «كون حمام الفقاقيع».24 وعلى هذا يقدم التضخم الأبدي آلية لا تنضب لتوليد الأكوان، لا يعدو كوننا — فقاعتنا — إلا أحد منتجاتها. إن كل كون جيبي سيولد في دفقة من الحرارة المحررة في تلك الفقاعة حين يتوقف التضخم، وسيمضي ليستمتع بدورة حياة من التطور، وقد ينتهي به الحال في النهاية بالموت، إلا أن نظام إنتاج الفقاعات نفسه أبدي.
أين توجد الأكوان الأخرى؟ الإجابة المختصرة هي «على مبعدة كبيرة عنا». تتنبأ نظرية التضخم بأن حجم الفقاعة التقليدية أكبر بشكل لا يصدق من الكون المرصود. وبوصف «لا يصدق» هذا أعني أكبر حجمًا بصورة مهولة. إن كوننا المرصود يقع على الأرجح في أعماق منطقة يبلغ عرضها ١٠١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ كيلومتر! قارن هذا بحجم الكون القابل للرصد والبالغ ١٠٢٣ كيلومتر وحسب.25 وحتى لو استطعنا بصورة سحرية الوصول لحافة فقاعتنا فلن نتمكن من رؤية الكون المجاور لنا. بدلًا من ذلك سنجد منطقة من الفضاء الخاوي المستمر في التضخم، الذي يتضاعف حجمه كل ١٠−٣٤ ثانية أو أسرع. لذا، رغم أن الأكوان الجيبية لا تزال تتمدد، فإنها لن تتداخل لأن التضخم الموجود في الفجوات بينها يبعدها بعضها عن بعض بسرعة أكبر بكثير من سرعة نمو حدودها. وعلى هذا يصير من المستحيل فعليًّا، حتى للضوء، أن يعبر الهوة الواسعة الموجودة بينها.

يمثل التضخم الأبدي نقلة هائلة، ليس فقط في علم الكونيات ذاته، بل في الأساس الفلسفي الذي يقوم عليه أيضًا، فعلى حين غرة صار الكون أكبر حجمًا بصورة مهولة. منذ خمسمائة عام لا أكثر تصور الناس أن الكون، المتمركز حول كوكب الأرض، يبلغ عرضه بضعة آلاف من الكيلومترات. ثم كشف مولد علم الفلك عن أن النجوم تقع على بعد الكثير من السنوات الضوئية عن الأرض، وفي القرن العشرين صار من الجلي أن مجرات أخرى موجودة على بعد مليارات السنوات الضوئية من الأرض. والآن يأخذنا هذا التوسع المهول في الحجم في قفزة هائلة أخرى.

شأن العديد من القفزات العلمية فإن مفهوم الكون المتعدد ليس بالفكرة الجديدة، ففي القرن السابع عشر اقترح عالم الفيزياء والرياضي والفيلسوف متعدد المعارف جوتفريد لايبنيز أن عالمنا ليس إلا عضوًا واحدًا (الأفضل في الواقع) في مجموعة من العوالم، التي لم يقصد بها فقط مجموعات من الكواكب، بل من الأكوان، لكل واحد منها زمانه ومكانه الخاص وسماته ونظم مادته الفريدة. وفي القرن الثامن عشر تدبر الفيلسوف ديفيد هيوم فكرة أن كوننا قد يكون نتاجًا لعملية طويلة من المحاولة والخطأ:
إذا عاينا سفينة، أية فكرة رائعة سنحصل عليها بشأن مدى عبقرية النجار، الذي ابتكر مثل هذه الآلة المعقدة المفيدة الجميلة؟ لكن كم سنندهش حين نجد أنه ليس إلا حرفيًّا عاديًّا حاكى غيره ونسخ فنًّا تحسن تدريجيًّا على مدار سلسلة من العصور، بعد كثير من المحاولات والأخطاء والتصحيحات والمداولات والخلافات. قد تكون هناك عوالم عديدة غير متقنة وُجِدَت على مر الزمن، قبل أن يصيب عالمنا النجاح، عوالم بُذل فيها الكثير من الجهد، لكن تحقق فيها تحسن مستمر على مدار عصور لانهائية.26

إن الزيادة الكبيرة في الأبعاد الكونية الممثلة من خلال مفهوم الكون المتعدد ليست سوى جانب واحد من جوانب تغير الفكر الفلسفي، فمنذ كوبرنيكوس افترض العلماء أنه لا يوجد شيء خاص أو مميز بشأن موقعنا في الكون. وكما ناقشت في الفصل الثاني، عادة ما يشار لهذا بمبدأ عدم التميز، الذي يعني أن الأرض ليست إلا كوكبًا تقليديًّا يدور حول نجم تقليدي في مجرة تقليدية. وبتطبيقه على توزيع المادة في الكون يطلق على افتراض عدم التميز اسم المبدأ الكوني، الذي يعني أنه في غياب أي دليل على العكس، فإنه ينبغي علينا افتراض أن الكون متطابق (على النطاق الواسع) في كل مكان. تُدَعِّم المبدأ الكوني حقيقة تطابق الكون على مدى ما تستطيع معداتنا قياسه. إلا أن التضخم الأبدي يعارض معارضة صريحة مبدأ عدم التميز، وذلك من خلال تصوير كوننا على أنه جزء من فقاعة محاطة بشيء مختلف تمامًا (منطقة متضخمة). صحيح أنه قد يوجد عدد لا حصر له من الأكوان الجيبية الأخرى، إلا أن كوننا لن يكون في هذه الحالة كونًا آخر تقليديًّا فقط، فهو أبعد ما يكون عن ذلك. وكما سنرى في الفصول التالية فهناك أسباب كثيرة تدعونا لافتراض أن كوننا مميز للغاية في واقع الأمر.

النقاط الأساسية

  • بدأ الكون كما نعرفه منذ ١٣٫٧ مليار عام بانفجار عظيم. لا يزال الكون يتمدد إلى اليوم، مع أن هذا يتم بمعدل متناقص، ولا يزال يغمره إشعاع حراري يعرف بإشعاع الخلفية الميكروني الكوني، الذي يمثل الوهج المتبقي عن الانفجار العظيم. يقدم إشعاع الخلفية صورة عما كان الكون عليه بعد مرور ٣٨٠ ألف عام على الانفجار العظيم.

  • على نطاق واسع للغاية يتسم الكون بالتطابق، لكن على مستوى مجموعات المجرات وما دون ذلك نجد أن المادة المرئية تتجمع بعضها مع بعض. تنعكس هذه التركيبة في إشعاع الخلفية الكوني، الذي يتسم بالتجانس إجمالًا لكن مع وجود «تفاوتات» يمكن قياسها.

  • يمكن تفسير البنية الأساسية للكون من خلال ما يسمى بنظرية التضخم، التي تقول إن الكون قفز، بعد مرور جزء من الثانية على وجوده، في الحجم بمعدل مهول سببته دفعة قوية من الجاذبية المضادة.

  • حين توقف التضخم كان الفضاء خاويًا بالأساس. تحولت طاقة التمدد إلى حرارة، تسببت في تكون المادة.

  • حددت التفاوتات الكمية التي وقعت أثناء التضخم البنية واسعة النطاق للكون.

  • ربما كان الانفجار العظيم هو المنشئ المطلق للكون، وربما لم يكن كذلك. إذا كان كذلك فهذا يعني أن الزمان والمكان لم يوجدا قبل الانفجار العظيم. حاول علماء الكونيات أن يفسروا بطريقة علمية نشأة الكون من العدم (لا زمان، لا مكان، لا مادة) بالاستعانة بميكانيكا الكم. نتج عن ذلك مجال يسمى بعلم الكونيات الكمي، وهو مجال مثير، لكن ليس دقيقًا.

  • إذا لم يكن الانفجار العظيم هو المنشئ المطلق للكون، يثار التساؤل عما كان موجودًا قبله. وفق النظرية الرائجة حاليًّا المسماة بنظرية التضخم الأبدي، فليس كوننا إلا «فقاعة» من الفضاء المتمدد ضمن كثير من الفقاعات، وهناك انفجارات عظيمة تحدث عبر الزمن في «البنية الفائقة» الأوسع. من منظور أشمل سنرى أن أغلب الفضاء يتضخم بمعدل مهول، وأن «الفقاعات»، أو الأكوان الجيبية، تظهر ظهورًا تلقائيًّا من هذا التضخم نتيجة للعمليات الكمية.

  • التضخم الأبدي هو إحدى الآليات التي تولد وفرة، أو تجميعة، من الأكوان، المعروفة باسم الكون المتعدد. يمكن لكل كون منفرد أن يختلف بشدة عن غيره من الأكوان، وعدد ضئيل للغاية من هذه الأكوان قد يصلح للحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤