الفصل الثامن

هل تحل نظرية الكون المتعدد لغز جولديلوكس؟

(١) قد نكون الفائزين بالجائزة الكونية الكبرى

منذ وقت طويل والعلماء يدركون أن الكون يبدو ملائمًا بشكل مستغرب للحياة، بيد أنهم اختاروا في الغالب تجاهل هذا الأمر. كان الأمر مصدرًا للإحراج؛ إذ بدا كأنه يدعم فكرة التصميم المتعمد للكون. كانت المناقشات الخاصة بالمبدأ الإنساني محل استنكار بوصفها لغوًا غير علمي. يقول أندريه ليند إنه في الاتحاد السوفييتي لم يجرؤ سوى شخص واحد على العمل على هذه الفكرة.1 لكن اليوم تغير الحال. ما صنع الاختلاف هو فكرة «الكون المتعدد»، التي تقدم فرصة تفسير تلك الملاءمة العجيبة للحياة بوصفها نتاجًا لعملية انتخاب مباشرة، دون الحاجة لأي تفسير آخر غير علمي.

تقول نظرية الكون المتعدد: إن ما ظللنا لفترة طويلة نطلق عليه مسمى «الكون» هو في الواقع ليس كذلك، بل هو مجرد قطعة متناهية الصغر من نظام أكبر وأكثر تعقيدًا بكثير؛ تجميعة من «الأكوان»، أو من مناطق كونية متمايزة (على غرار فكرة «الأكوان الجيبية» التي تعد أحد ملامح نظرية التضخم الأبدي). تخيل أن هذه الأكوان، أو المناطق، تتباين في بعض الخصائص المهمة للحياة. عندئذٍ، من البديهي أن تظهر الحياة فقط في الأكوان، أو المناطق، التي تشجع فيها الظروف على الحياة. أما الأكوان التي لا تشجع على الحياة فستمضي حياتها دون أن تُلاحَظ. ولهذا ليس مدعاة للدهشة أن نجد أنفسنا في كون مناسب لاستضافة الحياة؛ إذ لم يكن بمقدور المراقبين أمثالنا التواجد في كون لا يشجع على الحياة. إذا كانت الأكوان تتباين بشكل عشوائي فمعنى هذا أننا الفائزون بجائزة اليانصيب الكونية الكبرى، وهذا ما خلق وهم فكرة التصميم. وشأن العديد من الفائزين بجوائز اليانصيب، قد نعزو، عن خطأ، فوزنا لأمور خاصة (كابتسام آلهة الحظ لنا أو ما شابه ذلك)، في حين جاء فوزنا نتيجة الصدفة وحدها.

دعني أعطك مثالًا يبدو فيه أن هذا النوع من الحجج يعمل بنجاح. انس أمر التضخم للحظة، وافترض أن الكون بدأ بانفجار عظيم تقليدي. تخيل أنه بدلًا من اتصافه بالتناسق والتطابق، تنوعت شدة الانفجار بشكل عشوائي من مكان لآخر (على الإطار الواسع جدًّا). في بعض المناطق سيفتقد الانفجار للقوة التي تنشر المادة، ومن ثم تنهار هذه المناطق على نفسها مخلفة ثقوبًا سوداء عملاقة. لا توجد حياة هناك. وفي مناطق أخرى كان الانفجار عنيفًا حتى إن المادة انتشرت بسرعة كبيرة منعت المجرات أو النجوم من التكون. لا توجد حياة هناك أيضًا. لكن في بعض المناطق المتفرقة، بفعل الصدفة وحدها، تظهر أماكن ملائمة للحياة مثل كوننا يكون فيها معدل التمدد مناسبًا تمامًا؛ فهو بطيء بما يسمح بقدر محدود من التجمع القائم على قوى الجاذبية (لتكوين المجرات والنجوم) لكن ليس بطيئًا جدًّا بحيث تتعرض تلك المناطق لانهيار كارثي (على شكل ثقوب سوداء). لن تكون هناك حاجة للاندهاش حين نجد أنفسنا في مثل هذه المنطقة الكونية حسنة التنظيم، حتى لو كان هذا أمرًا استثنائيًّا، وحتى لو كانت احتمالات نشوء هذه المنطقة ضعيفة؛ إذ إن الظروف الموجودة بها هي تمامًا نفس الظروف التي تساعد على الحياة.

منذ ثلاثين عامًا لجأ بعض علماء الكونيات لهذا النوع من الانتخاب الإنساني كي يفسروا لماذا يبدو التمدد الكوني ملائمًا لظهور الحياة بشكل تام، سواء من ناحية المعدل أو التجانس. لكن لأن سيناريو التضخم يفسر بشكل تلقائي هذه السمات المشجعة على الحياة في ضوء نظرية فيزيائية، هُجر التفسير الإنساني. إلا أن المشكلة لم تُحل بالكامل بعد لأننا لا نزال بحاجة لافتراض وجود مستوى مناسب تمامًا من الاضطرابات في كثافة المادة الأولية لتكوين المجرات؛ تلك الاضطرابات التي نتجت على الأرجح من التفاوتات الكمية إبان مرحلة التضخم. ليس معروفًا بعد سبب امتلاك التفاوتات الموجودة في كوننا لمقدار القوة التي هي عليه. ربما نكتشف أنها نتاج حتمي لنظرية أخرى، وربما تتباين قوة التفاوتات من منطقة لأخرى، وفي هذه الحالة سيظل هناك قدر من الانتخاب الإنساني.

(٢) اختلاف البنية الكونية قد يكون مقبولًا، لكن هل يمكن أن تتباين قوانين الفيزياء؟

كل هذا قد يكون مقبولًا عند الحديث عن بنية الكون، لكن ماذا عن الأمثلة الأخرى للضبط الدقيق التي ناقشتها في الفصل السابق، مثل مصادفة رنين نواة الكربون الشهيرة لهويل؛ سمات يبدو كأنها تحتاج لقيم دقيقة للقوة النسبية بين القوة النووية الشديدة والقوة الكهرومغناطيسية؟ وماذا عن كتلة الجسيمات دون الذرية العديدة؟ لتفسير هذه الأخيرة من واقع «الصدفة» الإنسانية، أي من واقع انتخاب المراقب، سيكون على قوى الفيزياء نفسها أن تتباين من منطقة كونية إلى أخرى. هل يمكن ذلك؟ وإن كان ممكنًا فكيف يحدث؟

يمكننا الحصول على بعض الرؤى عن هذا الموضوع من التاريخ، فبعد أن أرسى كوبرنيكوس مبدأ دوران الكواكب حول الشمس حاول كبلر وآخرون التوصل إلى العلاقات العددية الموجودة في النظام الشمسي. في تلك الأيام كانت ستة كواكب وحسب هي المعروفة، وكانت المسافات بينها وبين الشمس مقاسة بدقة معقولة. كان من الطبيعي التساؤل، لماذا ستة كواكب؟ ولماذا تقع على هذه المسافات؟ هل يوجد مبدأ عميق للطبيعة، كنظام رياضي أشبه بالقانون، يمكن أن يمدنا بالأرقام المرصودة؟ توصل كبلر إلى فكرة عبقرية مبنية على الأشكال الهندسية القديمة؛ إذ تخيل أن مدارات الكواكب مرتبطة بكرة تقع داخل شكل مثالي متعدد السطوح، بحيث تكون مدمجة بعضها في بعض، متبعًا في ذلك تقليد فيثاغورث، الذي حاول قبله بألفي عام تفسير الكون من خلال التناغم الموسيقي والهندسي. بعد ذلك، في القرن الثامن عشر، نشر عالم الفلك الألماني يوهان بودي معادلة رياضية بسيطة (تعرف باسم قانون بودي) يمكن بها حساب المسافة بين أي من الكواكب الستة والشمس، إضافة إلى كوكب آخر «مفقود»، في المكان الذي اكتُشف فيه لاحقًا حزام الكويكبات.

أما اليوم فإن محاولات حصر النظام الشمسي في نمط رياضي أنيق تبدو سخيفة، واكتُشف أن التوافق السطحي بين معادلة بودي ومسافات الكواكب المقاسة ليس إلا مصادفة. نحن نعرف الآن أن تكون الكواكب هو بالأساس حدث تاريخي، فالكواكب تكونت من سدم دوامة من الغازات والغبار المحيطة بالشمس في بداية حياتها. في البداية كانت المجموعة الشمسية تحتوي على أكثر من التسعة كواكب المعروفة اليوم، لكن بعضها ارتطم واندمج بعضه ببعض، والبعض الآخر طار بعيدًا خارج النظام الشمسي. وقد تغيرت جميع مدارات الكواكب بشكل ما على مدار اﻟ ٤٫٥ مليار عام التي انقضت منذ تكون النظام الشمسي. المغزى هنا هو أن ما انتهينا إليه من نظام جاء محصلة ظروف فوضوية؛ كمية المادة الموجودة في السديم الشمسي، والقوى المعقدة التي جعلت الكواكب تتكون على الشكل الذي هي عليه الآن، والاضطرابات الآتية من النجوم وسحب الغازات القريبة. من الواضح أنه لا يوجد شيء «جوهري» بشأن الكواكب وبُعدها عن الشمس؛ فهذه الملامح «تصادفية» بالكامل. نحن الآن نعرف نظمًا أخرى من الكواكب، التي تدور حول نجوم أخرى لها ترتيبات دوران مختلفة بشكل كلي عما لدينا. ومن ثم فإن ما كان يُظن ذات يوم بأنه قانون أساسي من قوانين الطبيعة، اتضح أنه ليس أكثر من مصادفة تاريخية، رغم أهميته الشديدة لنا (فإذا لم يكن للأرض نفس المدار التي تدور فيه لكانت غير قابلة لاستضافة الحياة).

بالنظر لهذا الدرس المأخوذ من النظام الشمسي، من المنطقي التساؤل عما إذا كانت الملامح الأخرى للعالم التي نعتبرها أشبه بالقوانين الراسخة قد يتضح أنها مجرد مصادفات تاريخية. هل يمكن أن تكون بعض أوجه النظام في الطبيعة التي نبجلها بوصفها «قوانين للفيزياء» هي في حقيقتها آثار متخلفة عن عملية تكون الكون؟ إذا كان الحال كذلك فسيبدو من المنطقي الافتراض بأن مناطق أخرى من الكون، أو أكوانًا جيبية أخرى، لها قوانين مختلفة بنفس الصورة التي تملك بها نظم نجمية أخرى ترتيبات كوكبية مختلفة.

(٣) «ثوابت» الطبيعة، على الأقل، قد تتباين

دعني أوضح لك باختصار نقطة مهمة: لقوانين الفيزياء جانبان يمكن، بشكل نظري، أن يتغيرا عما هما عليه من كون إلى آخر؛ أولًا: هناك الصيغة الرياضية للقانون، وثانيًا: هناك «الثوابت» المتعددة التي تحتوي عليها معادلات القانون. مثال على ذلك قانون التربيع العكسي للجاذبية لنيوتن؛ فالصيغة الرياضية تربط قوة الجذب بين أي جسمين بالمسافة بينهما. لكن المعادلة تستخدم أيضًا ثابت الجاذبية لنيوتن G؛ فهو الذي يحدد مقدار القوة الفعلي (انظر الإطارين [لماذا يعد الضوء حد السرعة الأقصى في الكون؟] و[ما هو ثابت الجاذبية العام G؟]). مثال آخر هو معادلة ديراك للإلكترون. للمعادلة صيغة رياضية محددة، تصف كيف يتحرك الإلكترون بشكل يتفق مع كل من ميكانيكا الكم والنسبية. لكن المعادلة تحتوي أيضًا على ثلاثة ثوابت هي: سرعة الضوء وكتلة الإلكترون وثابت بلانك. عند التفكير فيما إذا كان من الممكن لقوانين الفيزياء أن تتباين في منطقة كونية أخرى، يمكننا أن نتصور احتمالين. الأول هو بقاء الصيغة الرياضية للقانون دون تغيير، لكن مع تعيين قيمة مختلفة لواحد أو أكثر من الثوابت.2 والثاني، الأكثر تطرفًا، هو أن صيغة القانون نفسها تتباين. في هذا القسم سأقتصر في الحديث على الاحتمال الأول.
للنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات أكثر من عشرين من المتغيرات غير محددة القيمة. هناك أرقام محورية مثل كتل الجسيمات وشدة القوى لا يمكن للنموذج المعياري التنبؤ بها بنفسه، بل يجب أن تقاس من واقع التجارب العملية ثم تضاف بعد ذلك إلى النظرية. لا يعرف أحد هل القيم المقاسة لهذه المتغيرات قد تُفسَّر ذات يوم عن طريق نظرية موحدة أعمق تتجاوز النموذج المعياري، أو هل هي في حقيقتها متغيرات حرة لا تتحدد عن طريق أي قوانين ذات مستوى أعمق. إذا كان التفسير الثاني هو الصحيح فهذا يعني أن هذه الأرقام ليست من المسلمات الثابتة، وأنها يمكن أن تتخذ قيمًا متباينة دون التعارض مع أي من القوانين المادية. بحكم العادة يشير علماء الفيزياء إلى هذه المتغيرات باسم «ثوابت الطبيعة» (انظر الإطار [ما هو ثابت الجاذبية العام G؟])؛ لأنها تبدو ثابتة في شتى أرجاء الكون المرصود. ومع ذلك فليس لدينا فكرة عن السبب وراء ثباتها، وأيضًا (بناءً على مستوى معرفتنا الحالي) ليس لدينا مبرر للاعتقاد بأنها، على مستوى من الحجم أكبر بكثير من مستوى الكون المرصود، ثابتة من الأساس. فإذا كان بإمكانها أن تأخذ قيمًا متباينة فسيثار إذن التساؤل: ماذا يحدد القيم التي تحملها في منطقتنا الكونية؟

تأتينا إجابة محتملة من علم كونيات الانفجار العظيم، فوفق النظرية المتعارف عليها ولد الكون وقيم هذه الثوابت محددة داخله تحديدًا نهائيًّا، منذ لحظة البداية. لكن بعض الفيزيائيين يقترحون الآن أن القيم المرصودة ربما تولدت نتيجة عمليات فيزيائية معقدة من نوع ما وقعت إبان الاضطراب المتقد الذي ساد في الكون المبكر للغاية. إذا كانت هذه الفكرة صحيحة بشكل عام فسيستتبع ذلك إمكانية أن تكون العمليات الفيزيائية المسئولة قد ولدت قيمًا «مختلفة» عن تلك التي نرصدها، وربما ولدت قيمًا مختلفة بالفعل في مناطق أخرى من الفضاء، أو في أكوان أخرى. إذا تمكنا بشكل سحري من الانتقال من منطقتنا الكونية إلى منطقة أخرى تقع على بعد تريليون سنة ضوئية وراء أفقنا، فقد نجد، مثلًا، أن كتلة أو شحنة الإلكترون لها قيمة مختلفة. ولن يكون بالإمكان ظهور أي مراقبين أحياء ليكتشفوا الكون الملائم للحياة إلا في المناطق التي تكون فيها شحنة الإلكترون وكتلته مساويتين لتلك الموجودة في منطقتنا. وبهذه الصورة يمكن أن نفسر، بشكل أنيق، الضبط الدقيق لمتغيرات النموذج المعياري بحيث تلائم الحياة على أنه تأثير انتخاب للمراقبين.

(٤) أصل المادة، ولماذا قد تتباين

حين كنت أدرس أُعطيت جدولًا بكتل الجسيمات دون الذرية المختلفة وقيل لي: «هذا ما هي عليه.» وكانت التساؤلات عن السبب وراء هذه الأرقام، ولماذا لا تكون الأرقام مختلفة تعتبر محض هراء. لكن اليوم من المقبول المطالبة بنوع من التفسير لهذه الكتل. في الحقيقة لدينا مثل هذا التفسير، ويطلق عليه آلية هيجز. تحدثت عن هذه الآلية عرضًا في الفصل الرابع أثناء حديثي عن نظرية القوة الكهروضعيفة، وهي جزء أساسي من النموذج المعياري. باختصار، تسير آلية هيجز على النحو التالي: ليست للإلكترونات والكواركات كتلة ذاتية، بل تكتسب كتلتها بالتفاعل مع مجال غير مرئي يتغلغل في الفضاء، أشبه بالأثير لدى القدماء. إن مجال هيجز هو ما يعطي هذه الجسيمات كتلتها. ويعتمد مقدار الكتلة التي يحملها الجسيم في نهاية المطاف على المدى الذي يستشعر به الجسيم مجال هيجز، أي مقدار القوة التي «يقترن» بها الجسيم بالمجال، إذا استخدمنا المصطلح العلمي السليم. لا يتفاعل الفوتون مع مجال هيجز، بشكل أقوى بكثير من الإلكترون؛ إذ إن الكوارك العلوي هو أكثر ما يستشعره، وينتهي به الحال بكتلة أكبر بمئات الآلاف من المرات عن الإلكترون. تكتسب الجسيمات W وZ أيضًا، التي توصل القوة الضعيفة، كتلتها الضخمة عن طريق الاقتران بمجال هيجز.3
أغلب الفيزيائيين النظريين مقتنعون بأن مجال هيجز موجود بالفعل، رغم عدم قدرتنا على إدراكه إدراكًا مباشرًا. وقد انصبت آمالهم في العثور على دليل إثبات على مصادم الهدرونات الكبير؛ المعجل الضخم الذي يجري بناؤه حاليًّا في سيرن. تقضي الخطة بأن يستخدم المصادم تصادمات البروتون ومضاد البروتون عالية الطاقة لتكوين جسيم هيجز بحلول عام ٢٠١٠. من المفترض أن يكون لمجال هيجز جسيم كمي، كما هو الحال مع المجال الكهرومغناطيسي الذي يرتبط به جسيم كمي على صورة فوتون، وهذا يسمى بوزون هيجز.4 لكن في الوقت الذي لا يحمل فيه الفوتون أي كتلة، فإن بوزون هيجز يُتنبأ له بأن يحمل كتلة ضخمة، أعظم من كتلة ١٨٠ بروتون، ولهذا السبب استحال تخليقه في التجارب قبل هذا. (يكتسب جسيم هيجز كتلته الضخمة للغاية بالتفاعل مع مجاله الخاص.)
في الوقت ذاته، بالعودة إلى الإطار النظري، ما زلت بحاجة لتفسير كيف قد تتباين كتل الجسيمات من منطقة كونية إلى أخرى. من الطرق الواضحة لذلك هو أن تتغير قوة مجال هيجز من منطقة لأخرى. هناك أسباب تجعل حدوث ذلك ممكنًا، وقد نُشر العديد من النماذج الرياضية التي تربط مجال هيجز بجوانب أخرى للفيزياء بحيث تحقق هذا التباين، لكني لا أود الدخول في تفاصيل فنية الآن. أريد فقط أن أؤكد على الفكرة العامة التي تقضي بأنه لو اختلف مجال هيجز من مكان لآخر فستتباين كتل الإلكترون والكواركات بالتبعية. هنا سيكون للإلكترون كتلة نطلق عليها الاختصار ك، وهناك سيكون له كتلة سنسميها ك. إضافة إلى ذلك ستتباين نسبة كتلة البروتون إلى الإلكترون هي الأخرى، فرغم أن كتلتي الإلكترون والكوارك ستختلفان بشكل ثابت، فإن البروتون تجميعة من ثلاثة كواركاك متحركة؛ أي حزمة صغيرة تحتوي على قدر كبير من الطاقة الحركية والكهربية وطاقة الجلوون أيضًا. في الواقع، القدر الأعظم من كتلة البروتون يكون على صورة هذه الطاقة الإضافية. وهذه التجميعة لن تستطيع مواكبة التباين في كتلة الإلكترون والكوارك. لذا، على سبيل المثال، إذا تضاعف مجال هيجز في القوة فستتضاعف كتلة الإلكترون، لكن البروتون سيصير أثقل بقدر بسيط. بناء على ذلك ستتغير النسبة بين كتلتي البروتون والإلكترون، وإذا تغيرت بما يكفي فقد تطيح بذلك التوازن المرهف المشجع على الحياة وذلك بأن تغير، مثلًا، من التفاعلات النووية في الكون المبكر وداخل النجوم.

(٥) انكسار التناظر يفسر كيف يمكن للقوانين البسيطة أن تنتج عالمًا معقدًا

هناك سبب عام يجعلنا نتوقع وجود اختلافات في بعض المتغيرات، أو «الثوابت»، الأساسية للفيزياء، وهو يسمى «انكسار التناظر». إليك مثالًا بسيطًا على هذا الأمر: من أشهر أيقونات العلم الحديث اللولب المزدوج، ذلك الشكل الحلزوني لجزيء الحمض النووي، الذي اشتهر من خلال كتاب جيمس واطسون الشهير الذي حقق أعلى المبيعات.5 يحتوي الحمض النووي الموجود في خلاياك على البصمة الوراثية، الجينوم، الذي يمنحك هويتك المتفردة. جميع جزيئات الحمض النووي — ليس فقط لدى البشر بل في جميع أشكال الحياة المعروفة أيضًا — موجودة على هذا الشكل اللولبي. بشكل أكثر تحديدًا، كلها على شكل اللولب الملتف إلى اليمين. أحيانًا ما تلتف السلالم الحلزونية لبعض القلاع القديمة جهة اليسار أثناء صعودك عليها، وأحيانًا إلى اليمين، لكن جزيء الحمض النووي يتجه دومًا إلى اليمين.
لا يوجد سبب جوهري يمنع الحياة من استخدام الحمض النووي الملتف جهة اليسار. سيكون متماثلًا من الناحية الكيميائية ومستقرًّا، ولن يخرق أيًّا من قوانين الفيزياء؛ سبب هذا هو أن قوانين الكهرومغناطيسية — المسئولة عن بناء الجزيئات — لا تكترث إطلاقًا للفارق بين اليمين واليسار. للتعبير عن الأمر بشكل أكثر دقة يقول الفيزيائيون إن الكهرومغناطيسية لها تناظر معكوس. بالطبع سيسود الحياة اضطراب عظيم لو استُخدم الشكل الملتف جهة اليمين وذلك الملتف جهة اليسار في الوقت ذاته، لكن لا يوجد سبب يجعل من الشكل الملتف جهة اليمين هو الشكل الصحيح. أفضل تخمين هو أنه منذ وقت طويل بينما كانت الحياة تتشكل (بصورة ما) من الجماد، كسر حادث جزيئي عشوائي التناظر، وفور وقوع الاختيار بشكل عشوائي على أحد الشكلين، تجمد الوضع على هذا الحال. كان لا بد أن يتجمد حتى تستطيع الحياة بكل أشكالها استخدام معيار مشترك، ومع ذلك هناك احتمال قدره ٥٠ بالمائة أن الأمر كان يمكن أن يسير على نحو معكوس.6

شأن الحمض النووي لا تفصح نظم فيزيائية كثيرة عن التناظرات الأساسية للقوى المشكلة لها. ليس من العسير العثور على أمثلة. عند النظر إلى الأرض من أعلى نصفها الشمالي نجد أنها تدور حول الشمس عكس اتجاه عقارب الساعة، لكن قوانين نيوتن للحركة والجاذبية لا تكترث إطلاقًا بأن يكون الدوران مع أو عكس اتجاه عقارب الساعة؛ إذ إنها متناظرة. وإذا دارت الأرض في الاتجاه المعاكس فلن تضار قوانين الفيزياء في شيء.

إلا أن بعض الأنظمة الفيزيائية الأخرى تحترم بالفعل التناظر الكامن، على الأقل بشكل تقريبي. على سبيل المثال، الشمس دائرية الشكل تقريبًا، وهو ما يعكس حقيقة أن قوة الجاذبية لا تفرق بين أحد اتجاهات الفضاء واتجاه آخر؛ بالتعبير عن الأمر بدقة، قوة الجاذبية متناظرة تحت تأثير الدوران. يعتمد احترام النظام الفيزيائي للتناظرات الأساسية في قوانين الفيزياء أو كسرها على مسألة الاستقرار؛ إذ قد يكون التناظر المنكسر هو الحالة الأكثر استقرارًا. يوضح الشكل ٨-١ هذا الأمر: تخيل أنك تمسك بقلم له سن حاد في وضع عمودي بحيث يلمس طرف السن السطح الأفقي. حين تترك القلم سيسقط على السطح الأفقي. لا يوجد أي معنى عميق في الاتجاه النهائي الذي يتبناه القلم؛ فهو عشوائي بالكامل.7 وإذا أجريت التجربة ألف مرة فستحصل على ألف اتجاه مختلف لسقوط القلم، موزعة بشكل تقريبي حول المركز. سبب ذلك هو أن مجال الجاذبية الرأسي للأرض لا يكترث بالاتجاهات الأفقية؛ فأي اتجاه مثل غيره. بشكل أكثر دقة، إن مجال الجاذبية متناظر عند الدوران حول المحور الرأسي، والمحدد من واقع الموضع العمودي الأولي للقلم. لكن الحالة النهائية للقلم، على السطح الأفقي، تكسر هذا التناظر الدوراني باختيار اتجاه أفقي «معين». إن الحالة المتوافقة مع التناظر الأساسي لقوانين الفيزياء (القلم في الوضع العمودي) غير مستقرة، لذا يكسر القلم هذا التناظر وينقلب (في الوضع الأفقي) إلى حالة مستقرة لكن لا تجسد التناظر. وبهذا يتخلى القلم عن التناظر في مقابل الاستقرار. لا يزال التناظر موجودًا في القوانين الأساسية، لكن لا يمكن تبينه من حالة واحدة. فقط من خلال دراسة مجموعة كبيرة من الحالات المتنوعة (آلاف الأقلام) الموزعة بتساوٍ في جميع الاتجاهات الأفقية المتاحة يمكن تجسيد التناظر الدوراني الكامن. يطلق على مبادلة التناظر بالاستقرار هذه «انكسار التناظر التلقائي»؛ لأن النظام يختار بنفسه (بشكل اعتباطي) كيفية كسر التناظر؛ أي إن هذا ليس مفروضًا عليه من جانب مؤثر خارجي.
fig24
شكل ٨-١: انكسار التناظر التلقائي. (أ) القلم في وضع عمودي على السن في حالة تناظر؛ أي يبدو بنفس الشكل لو دار حول محوره الرأسي كما هو مبين. في هذه الحالة يظهر القلم التناظر الكامن لمجال الجاذبية، الذي لا يكترث للاتجاه الأفقي. إلا أن حالة التناظر هذه غير مستقرة، وسيسقط القلم. (ب) في الحالة الأفقية، القلم مستقر، لكنه كسر تناظر مجال الجاذبية باختيار اتجاه أفقي معين، والموضح بالسهم. الاتجاه الفعلي عشوائي؛ فإذا أجريت التجربة عدة مرات فستتوزع اتجاهات القلم بشكل عشوائي حول نقطة السقوط، وستكشف مجموعة السقطات عن التناظر الكامن، حتى وإن كانت كل حالة فردية تكسره.

(٦) يمكن استعادة التناظر والبساطة مع درجات الحرارة الشديدة

الآن نأتي لنقطة حاسمة. كثيرًا ما يمكن «استعادة» حالات التناظر المكسورة (بمعنى إظهار التناظر) من خلال رفع درجة الحرارة. فكر في جزيئات الحمض النووي. في درجة حرارة أعلى من ١٠٠ درجة مئوية يتهدد استقرارها بفعل الحرارة، وتبدأ في الانصهار. وإذا أوصلت درجة الحرارة لمائتي درجة مئوية فسيتحلل الحمض النووي بالكامل، وستختفي بنية اللولب المزدوج تمامًا. ستتطاير مكوناته بشكل عشوائي، ويختفي أي مظهر لبنيته الملتفة جهة اليمين تمامًا. تظهر المكونات المتطايرة المتجولة بفوضوية التناظر الكهرومغناطيسي الأساسي بكل وضوح، وذلك بصورة لم يظهرها جزيء الحمض النووي المجمع. إن انكسار التناظر يذوب حرفيًّا مع رفع درجة الحرارة.

القاعدة العامة تسري كالتالي:

تظهر النظم مرتفعة الحرارة تناظرًا أكبر من النظم منخفضة الحرارة. وحين تنخفض درجة الحرارة ينكسر التناظر.

سنرى بعد قليل مدى أهمية هذه القاعدة لفهمنا لطبيعة الكون، لكن أولًا أود توضيحها بمثال قريب من فيزياء المدارس الثانوية؛ لأنه كلاسيكي بعض الشيء: كان بيير كوري، زوج الكيميائية الشهيرة ماري كوري، أول من عبر عن هذا الأمر، وهو يخص المغناطيس. كان معروفًا لوقت طويل أن المجال المغناطيسي، لنقل، لقطعة حديد ممغنطة يضعف مع تسخينها. وعند الوصول لدرجة حرارة معينة — يطلق عليها حرارة كوري — يختفي المجال المغناطيسي خارج قطعة الحديد تمامًا (تبلغ درجة الحرارة هذه ٧٧٠ درجة مئوية). من السهل فهم السبب؛ تملك ذرات الحديد مجالاتها المغناطيسية بفضل إلكتروناتها سريعة الحركة، ولأسباب تتعلق بمبدأ استبعاد باولي تحب الذرات أن تصطف مجالاتها بشكل متوازٍ كي تشكل نطاقات مغناطيسية ميكروسكوبية. في قطعة المغناطيس تصطف النطاقات أيضًا بشكل متوازٍ، ومن ثم تتحد مجالاتها المغناطيسية بصورة منظمة. لكن مع رفع درجة الحرارة تبدأ المجالات المغناطيسية الدقيقة في التخبط، محاولة التحرر من الترتيب المغناطيسي الصارم. مع ارتفاع درجة الحرارة وزيادة حركة الإلكترونات الجنونية تميل كفة الصراع لمصلحة التحرر. وفي النهاية نصل لنقطة حرجة تهيمن فيها الفوضى وتصير كل المجالات المغناطيسية الصغيرة مستقلة بعضها عن بعض. في ظل هذه الظروف يكون اتجاهها عشوائيَّا؛ فلا تصطف بشكل منظم في أي اتجاه. لذا، رغم أن الحديد الساخن مكون من ذرات ممغنطة، فإن المجال المغناطيسي الإجمالي له يساوي صفرًا. وإذا برد الحديد «ببطء» مرورًا بدرجة حرارة كوري يمكن استعادة المغناطيسية. وقتها تهتدي النطاقات بأي مجال مغناطيسي خارجي قد يكون موجودًا، كمجال الأرض المغناطيسي، وتصطف في هذا الاتجاه. لكن إذا بردت بسرعة تتجمد النطاقات في اتجاهاتها العشوائية. وداخل كل نطاق يكون للمغناطيسية اتجاه ثابت، لكن قطعة المغناطيس ككل، رغم أنها مصنوعة من مادة ممغنطة، ليس لها مغناطيسية كلية.

يلعب التناظر دورًا واضحًا في هذه القصة؛ فقوانين الكهرومغناطيسية تتسم بالتناظر عند الدوران (أي لا تكترث بالاتجاه في الفضاء). وتتوافق الحالة المغناطيسية لقطعة الحديد الساخنة مع هذا التناظر؛ إذ لا تشير إلى اتجاه محدد لأن صافي قوة المجال المغناطيسي لها يساوي صفرًا. لكن تحت درجة حرارة كوري تستقر المجالات المغناطيسية؛ لأن كل مكون مغناطيسي صغير يثبت على اتجاه معين. أثناء عمل ذلك يكسر كل واحد منها التناظر الدوراني لقوانين الكهرومغناطيسية، الذي يتحكم في سلوك النظام. لكن إذا بردت قطعة الحديد بسرعة، مجمدة النطاقات ذات الاتجاهات العشوائية، فسيظل وقتها التناظر الدوراني موجودًا على المستوى العام؛ لأن قطعة الحديد ليست ممغنطة بانتظام في أي اتجاه محدد.

لا يمكن أن تعرف بالنظر هل قطعة الحديد ممغنطة أم لا، لكن هناك مثالًا آخر يكون فيه انكسار التناظر واضحًا بمجرد النظر، وذلك حين يتجمد الماء على صورة جليد. يتحول الماء من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة مع هبوط درجة حرارته إلى الصفر المئوي. مجددًا، ينكسر هنا التناظر الدوراني؛ فالماء السائل يبدو بنفس الشكل من جميع الاتجاهات، في حين بلورات الجليد تكون أشكالًا هندسية منتظمة ذات اتجاهات محددة. يشير الفيزيائيون إلى التغير المباغت من هذا النوع باسم «التحول الطوري» Phase Transition.

من الطرق الجيدة للتفكير في التناظر النظر إليه من ناحيتي البنية والتعقيد، فكلما زاد التناظر في النظام كان أكثر بساطة وأقل تركيبًا؛ قارن مثلًا شكل الدائرة المنتظم بأي شكل متعدد الأضلاع غير منتظم. يعمل رفع حرارة النظام على تقليل تركيبه والتخلص من التعقيد؛ فكر إلى أي مدى يتسم كوب الماء بالبساطة في مقابل قدح مليء بمكعبات الثلج. أو تخيل وضع كوكب الأرض في فرن كوني ورفع الحرارة. في البداية ستذوب الأنهار والجبال الجليدية، ثم ستحترق الغابات وتغلي المحيطات، وفي النهاية تنصهر الجبال. ومع الحرارة الكافية سيتبخر الكوكب بأكمله. إن الفرن العملاق المليء بالبخار أبسط — وبه تناظر أعلى — من البنية المعقدة لكوكب الأرض. المبدأ العام كما يلي: الحرارة = بساطة، البرودة = غنى.

(٧) انكسار التناظر بعد الانفجار العظيم مباشرة

لنعد الآن لعلم الكونيات. لم يشهد الكون حرارة تضاهي تلك الخاصة بالانفجار العظيم؛ إذ كان الكون المبكر حارًّا حتى إن كل شيء نعرفه كان في حالة انصهار (أو بالأحرى تَبَخُّر). كان كل الغنى والتنوع والتعقيد الذي عليه الكون اليوم يقع في المستقبل البعيد؛ إذ كانت الحالة السائدة وقتها هي التطابق التام. هكذا بدأ الكون بدرجة عالية من التناظر، لكن مع البرودة بدأ المزيد والمزيد من أوجه التناظر في الانكسار، وبدأ المزيد والمزيد من البُنى المعقدة في الظهور، وأغلبها اتسم بالتلقائية والعشوائية. هذه التحولات حدثت عبر مجموعة من التحولات الطورية. إن سبب نجاح نظرية منشأ الكون هي البساطة التامة التي كان الكون عليها، وهذه البساطة البالغة نبعت من الحرارة الهائلة والتناظر التام اللذين غلفا المرحلة الأولية للكون.

من السهل فهم سبب تلك النزعة العامة من البساطة للتعقيد والغنى مع برودة الكون بعد مولده المتقد. لكننا بحاجة للتوغل أكثر من هذا ومواجهة هذا السؤال: هل يمكن أن يمتد المظهر التلقائي لبنية الكون المبكر إلى «ثوابت الطبيعة»؟ هل من الممكن أن تكون المتغيرات غير المحددة في النموذج المعياري، على غرار كتل الجسيمات وشدة القوى، هي أيضًا تجسيد لحوادث تجمد عشوائية ناجمة عن تحولات طورية لانكسار التناظر؟

لنعد إلى مثال المغناطيس: تخيل أن رجلًا دقيق الحجم موجود في أعماق قطعة الحديد الممغنطة، داخل أحد النطاقات المغناطيسية.8 إنه محاط بمجال مغناطيسي يشير بثبات إلى اتجاه واحد. ذلك المجال المغناطيسي المتغلغل هو جزء من «كون» هذا الرجل، وسلوك جميع الشحنات الكهربية والمغناطيسية المحيطة به تتأثر بهذا المجال. إذا توصل هذا الرجل إلى القوانين الكهرومغناطيسية الموجودة داخل عالمه الصغير فسيكون لزامًا عليه أن يدرج فيها ذلك المجال المغناطيسي المحيط. بالطبع لن تتسم هذه القوانين بالتناظر تحت الدوران؛ لأن المجال يشير إلى اتجاه معين. لكن من واقع نظرتنا الكلية يمكننا أن نرى أن هذا الرجل دقيق الحجم مضلَّل؛ فما يعتبره من قوانين الكون الأساسية؛ القانون الذي يكسر التناظر، نراه نحن بوصفه حادث تجمد، تقتصر خصائصه على هذا النطاق وحسب.

ماذا لو لم يكن لقطعة الحديد مجال مغناطيسي إجمالي، وإنما تتألف وحسب من نطاقات ذات اتجاهات عشوائية؟ عندئذٍ يستطيع رجلنا دقيق الحجم، لو ابتعد لمسافة كافية، أن يعبر إلى نطاق آخر مجاور. سيصاب وقتها بالصدمة لأن المجال المغناطيسي في ذلك «الكون المجاور» سيشير إلى اتجاه مغاير، وسيحتاج إلى مجموعة مختلفة من القوانين. وإذا زار عددًا كافيًا من النطاقات، وخبر الاتجاهات المتباينة للعديد من المجالات القريبة، ربما يقتنع أن قوانين الكهرومغناطيسية في نطاقه لم تكن قوانين أساسية حقيقية، بل كانت تصف حدثًا مجمدًا (اتجاه المجال) كسر تناظرًا كامنًا مهمًّا (التناظر الدوراني). وسيخلص إلى أن ما اعتبره قانونًا أساسيًّا هو في الواقع قانون «ثانوي» ليس إلا؛ يكمن أسفله قانون أساسي حقيقي للكهرومغناطيسية، يتسم بالتناظر الدوراني. وإذا كان يعرف ما يكفي من الفيزياء فربما يستطيع التوصل إلى: أنه لو أن الكون الذي يقطنه والنطاقات الأخرى المجاورة سُخنت لدرجة حرارة تتجاوز درجة كوري، فإن انكسار التناظر هذا سيذوب، وستندمج النطاقات، ويكشف التناظر الكامل لقانون الكهرومغناطيسية الحقيقي الكامن عن نفسه في كل مكان.

هذه القصة صورة بلاغية قوية تصف علم كونيات الكون المبكر؛ فهي تقترح أنه حين يتضمن أحد القوانين كسرًا لنوع من التناظر، فقد لا يكون هذا القانون في حقيقته إلا قانونًا «ثانويًّا» من قوانين درجات الحرارة المنخفضة، أو الطاقة المنخفضة؛ لا ينطبق فقط إلا في نطاقات كونية بعينها ويكون مختلفًا في النطاقات الكونية الأخرى. ومثل الرجل دقيق الحجم القاطن في المغناطيس قد يكون لدينا نحن أيضًا «كون مجاور»، ينكسر فيه التناظر انكسارًا مختلفًا، وتكون فيزياء الطاقة المنخفضة المنبثقة منه مختلفة هي الأخرى. لكن بالعودة إلى المرحلة الأولية مرتفعة الحرارة التي أعقبت الانفجار العظيم، سيعبر التناظر عن نفسه في كل مكان، وسيستحيل التفريق بين النطاقات الكونية المتباينة. ومن المتوقع عندما يبرد أي نطاق بعد الانفجار الكبير ويحدث فيه انكسار للتناظر أن يتخذ هذا النطاق بنية مميزة. وإذا كان انكسار التناظر يحدد واحدًا أو أكثر من المتغيرات التي يجب ضبطها بدقة للسماح بظهور الحياة، عندها يكون لدينا تفسير جاهز للغز جولديلوكس. وفقط في النطاقات التي تكون فيها قوانين الحرارة المنخفضة والطاقة المنخفضة مساعدة على الحياة، من واقع الصدفة البحتة، سيصير من الممكن وجود المراقبين.9

(٨) التناظرات المجردة ضرورية في الفيزياء

من السهل تفهم ما شعر به رجلنا دقيق الحجم الموجود داخل قطعة المغناطيس؛ لأن التناظر في هذا المثال — التناظر الدوراني — مألوف في الحياة العادية. لكن التناظر الذي من شأنه أن يؤدي لوجود بنية النطاقات الكونية مختلف. إنه، في الواقع، تناظر «مجرد»، وليس هندسيًّا. دعني أوضح ذلك من خلال أحد الأمثلة من عالم الاقتصاد: الأمر هنا يدور عن التضخم، لكن التضخم المالي وليس ذلك الكوني. يُعرف عن التضخم أنه يقلل من القدرة الشرائية للأموال، مع ذلك فإن القيمة «الجوهرية» للبضائع والخدمات لا تتأثر به. في أيام ثبات أسعار الصرف، أحيانًا ما تلجأ الحكومات لإعادة تقييم أسعار عملاتها بالمقارنة بالعملات الأخرى. إلا أن هذا لا يؤثر على قيمة الأموال داخل الدولة التي تقوم بهذا، وهكذا يكون لدينا نوع من التناظر هنا؛ فقيمة المنتجات والخدمات المحلية لا تتغير بتغير سعر صرف العملة. في عام ١٩٦٧ خفض رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون قيمة الجنيه الإسترليني مقابل الدولار الأمريكي، وتعرض للانتقاد بسبب تصريحه الذي أكد فيه أن هذا التعديل لن يؤثر على «الجنيه الموجود في جيب أي شخص». لكنه كان محقًّا من ناحية أن القيم النسبية للمنتجات والخدمات والأموال داخل المملكة المتحدة لم تتأثر بالفعل. لكن بالطبع كانت المشكلة تكمن في أن المنتجات المستوردة هي التي ارتفعت أسعارها، وهو ما جعل حال الناس إجمالًا أسوأ. يحدث نوع مشابه من التغير حين يزول التضخم، ويكون لزامًا التعبير عن الأسعار بأرقام كبيرة لدرجة السخافة. في بعض الأحيان تعيد الحكومات ضبط ميزان العملة بشكل إجمالي، كما حدث حين قدم الفرنسيون «الفرنك الجديد» عام ١٩٦٠. كان الفرنك الجديد يساوي مائة من الفرنكات القديمة، لكن القيمة الفعلية للمنتجات والخدمات ظلت دون تغيير.

توجد في الفيزياء أمثلة عديدة على هذا التناظر المجرد، منها الشحنتان الكهربيتان الموجبة والسالبة. هذا التناظر يشبه تناظر اليمين-اليسار السابق ذكره؛ فلو حدث أن حلت جميع الشحنات الكهربية الموجبة محل السالبة والعكس بالعكس، فلن تكترث قوانين الكهرومغناطيسية لهذا التحول. مثال آخر: وفق قوانين نيوتن للميكانيكا فإن الطاقة المطلوبة لرفع ثقل ما من قاعدة مبنى إلى قمته تعتمد على ارتفاع المبنى، لكن ليس على ما إذا اخترنا قياس الارتفاع من مستوى سطح البحر أم من مستوى الأرض (إذ تعتمد الطاقة فقط على «الفارق» في الارتفاع، وليس الارتفاع المطلق). ولن تتأثر الطاقة أيضًا بما إذا استخدمنا المتر كوحدة قياس بدلًا من السنتيمتر، كما حدث في حالة الفرنك الجديد. (في الواقع يعمل التناظر بشكل أكبر مما وصفت لأن الطاقة المبذولة في رفع الثقل لا تعتمد على المسار المحدد الذي تتخذه كذلك؛ فقد تسير في خط مستقيم أو متعرج، كل هذا لا يحدث فارقًا في الجواب.) النوع الأخير من التناظر؛ الذي لا تتغير فيه الكمية مع تغير نظام القياس، يشيع وجوده في الفيزياء ويطلق عليه مصطلح «التناظر القياسي». للمجالات الكهربية تناظر قياسي متشابه؛ إذ يمكن إعادة ضبط الفولتات من خلال طرح أو إضافة عدد ثابت من الفولتات في كل مكان دون التأثير على تغير فارق الطاقة الحادث عند نقل الشحنات الكهربية من مكان لآخر، كما لا يعتمد تغير الطاقة على المسار المُتخذ. وهكذا لا تتأثر قوانين نيوتن وقوانين الطاقة الكهربية بمثل هذه التحولات القياسية، وهذه سمة أساسية في تلك القوانين. وجد علماء الفيزياء أن تعميم مثل هذه التناظرات القياسية يكشف إلى حدٍّ بعيد عن الخصائص الأساسية لقوى الطبيعة الأربع. بل في الواقع تُصنَّف القوى بأكبر قدر من الدقة من خلال تعيين تناظراتها، باستخدام فرع من الرياضيات يعرف بنظرية المجموعات.

تقدم لنا القوة الكهروضعيفة واحدًا من الأمثلة الكلاسيكية على الفكرة السابقة. في الفصل الخامس أوضحت كيف توحد نظرية جلاشو-عبد السلام-واينبرج القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة بنجاح، وأنه في درجة الحرارة المناسبة تمتزج هاتان القوتان معًا. تمتزج التناظرات القياسية في هاتين القوتين، لكن ما يؤدي إلى التباين بين هاتين القوتين على مستوى الطاقات المنخفضة هو الانكسار التلقائي لواحد من تلك التناظرات. وفي سياق الانفجار العظيم سارت الأمور على النحو التالي: في درجات حرارة أعلى من ١٠١٥ (ألف تريليون) درجة، كان التناظر الكامن الموحد متجسدًا. كانت القوة النووية الضعيفة تتمتع بمدى واسع، شأن القوة الكهرومغناطيسية. عندئذٍ، مع انخفاض درجة الحرارة، كانت هناك حالة تحول طوري انكسر فيها التناظر القياسي للقوة النووية الضعيفة بشكل تلقائي، ونتيجة لذلك صارت القوة النووية الضعيفة قصيرة المدى للغاية، وأضعف بكثير من القوة الكهرومغناطيسية. وهذا هو ما نجده في عالم فيزياء الطاقات المنخفضة الذي نعيش فيه الآن. لعدد من السنوات افترض الفيزيائيون أنهم كانوا يتعاملون مع قوتين منفصلتين؛ لأن التناظر الذي يصل بينهما كان منكسرًا. في الواقع طور الفيزيائي إنريكو فيرمي نظرية للقوة النووية الضعيفة مبنية على سوء الفهم هذا، وقد احتوت النظرية على قانون مختلف اختلافًا كبيرًا عن ذلك الموجود في نظرية جلاشو-عبد السلام-واينبرج. لكنا نعرف الآن أن مرحلة انكسار التناظر للقوة النووية الضعيفة لا تعكس أي قانون فيزيائي أساسي، بل هي انعكاس لحالة مجمدة، ونظرية فيرمي ما هي إلا نظرية ثانوية، صالحة فقط في الطاقات المنخفضة.

(٩) آلية هيجز

قد تتساءل عن كيفية انكسار التناظر في القوة النووية الضعيفة. رأينا في الفصل الرابع أن المدى القصير للغاية لهذه القوة يمكن تفسيره من خلال الكتلة الضخمة للغاية للجسيمات W وZ، التي يتم تبادلها لتوصيل هذه القوة، إلى جانب أنني أوضحت، في بداية هذا الفصل، كيف أن الجسيمات دون الذرية يُعتقد أنها تكتسب كتلتها بالتفاعل مع مجال متغلغل يطلق عليه مجال هيجز. حسن، إن مجال هيجز ذاته هو المسئول عن كسر التناظر القياسي للقوة النووية الضعيفة. إليك كيف يسير هذا الأمر: في درجة حرارة أعلى من تلك الخاصة بمرحلة التحول الطوري، كتلك التي وجدت في الكون المبكر البالغ من العمر واحدًا على تريليون من الثانية، كان مجال هيجز يساوي في متوسطه صفرًا، كمغناطيسية قطعة الحديد الممغنطة في درجة حرارة أعلى من درجة كوري. في ظل مجال هيجز تبلغ قيمته صفرًا، كانت كتلة جميع الجسيمات صفرًا هي الأخرى. كانت جسيمات W وZ عديمة الكتلة، شأن الفوتونات، وهو ما يعني أن كلتا القوتين، النووية الضعيفة والكهرومغناطيسية، كانتا تتمتعان بمدى طويل. مع انخفاض الحرارة واجه مجال هيجز نفس المأزق الذي واجهه القلم الواقف على سنه (انظر الشكل ٨-١)؛ إذ سيكون عليه التخلي عن تناظره للحفاظ على استقراره. يرجع هذا إلى أن مجال هيجز يتفاعل مع نفسه، والطاقة الناتجة عن هذا التزاوج تشبه طاقة الجاذبية للقلم المتوازن. إن مجال هيجز البالغ قيمته صفرًا متناظر، لكن غير مستقر، في حين مجال هيجز الذي لا تبلغ قيمته صفرًا مستقر، لكنه يكسر التناظر. ما الذي سيفعله مجال هيجز؟ نفس ما فعله القلم الساقط؛ ينكسر التناظر، ونتيجة ذلك تقفز قوته من متوسط الصفر إلى قيمة كبيرة للغاية لا تساوي الصفر. استُخدم جزء من «طاقة السقوط» التي تحررت في تكوين الكتل التي أغدقها مجال هيجز على جميع الجسيمات المشاركة. ومع ذلك، يتضح في النسخة الأصلية من نظرية هيجز أنه «مهما تكن الطريقة التي يسقط بها القلم» فإن الجسيمات تكتسب الكتلة «نفسها». لذا، رغم أن مرحلة التحول الطوري للقوة الضعيفة في الكون المبكر ربما تكون قد أنتجت بنية نطاقية من نوع ما، فإنه من غير المرجح أن تكون تلك هي المرحلة التي تباينت فيها الجسيمات في الحجم من نطاق إلى آخر؛ إذ إنه للحصول على مثل هذه النتيجة من الضروري التفكير في طاقات أعلى من هذا.
أوضحت، في الفصل الخامس، محاولات توحيد القوة الكهروضعيفة بالقوة النووية الشديدة، وذلك في إطار نظرية عظمى موحدة من نوع ما. هذه النظريات تتضمن هي الأخرى آليات لكسر التناظر، ومجالات هيجز، والتناظرات المجردة، بيد أنها أكثر تفصيلًا وتعقيدًا. ومع أننا لا نزال في طور التخمين بالأساس، فإن المبادئ الأساسية التي أوضحتها قد تنطبق. لذا قد نتوقع أنه في وقت مبكر عن عمر واحد على تريليون من الثانية، ومن ثم في درجة حرارة أعلى، سيكون التناظر أكثر والتعقيد والبنية أقل. وللعلم، فإن الحرارة التي تفترضها النظريات الموحدة العظمى (التي في ظلها ستُستعاد أي تناظرات مكسورة) تبلغ تريليون التريليون درجة، في حين عمر الكون كان ١٠−٣٦ ثانية (جزء من تريليون التريليون التريليون جزء من الثانية).10 مع انخفاض درجة حرارة الكون من هذه الحرارة المستعرة انكسرت تناظرات عديدة في سلسلة من التحولات الطورية، مكونة على الأرجح نطاقات كونية هائلة الحجم. أحد هذه التحولات الطورية كسر التناظر بين المادة والمادة المضادة، وتسبب آخر في كسر التناظر الفائق. وبصرف النظر عن التفاصيل المتشعبة فالخلاصة هي أن كلًّا من الحالات الفيزيائية (أي طبيعة المادة وشكلها) وقوانين الطاقة المنخفضة الأساسية ازدادت تعقيدًا وتشعبًا مع انخفاض حرارة الكون. من منظور لغز جولديلوكس هذا التعقيد نعمة كبيرة؛ لأن البُنى الغنية للنطاقات، التي يتنبأ بها كسر التناظر في النظريات الموحدة، سيكون لها تأثير عظيم على قابلية الكون لاستضافة الحياة. وقد تملك النطاقات، على سبيل المثال، كتل جسيمات ومستويات طاقة مختلفة، ودرجات متباينة من «الامتزاج» بين القوى المختلفة، وهكذا دواليك. لكن هذا يدفع باحتمالية أخرى أكثر إثارة للظهور …

(١٠) قد تكون قوانين الفيزياء قوانين ثانوية موضعية فقط

قد لا تكون الطريقة التي تنكسر بها التناظرات في النظريات الموحدة إلى قوة نووية شديدة وقوة كهروضعيفة شيئًا فريدًا. وقد تكون هناك طرق أخرى لكسر التناظر، لا تؤدي إلى اختلاف نسبي في شدة القوى وحسب، بل إلى ظهور «قوى مختلفة بالكامل»؛ قوى ذات خصائص تختلف تمامًا عن تلك الخاصة بالقوى التي نعرفها. على سبيل المثال، قد توجد قوة نووية شديدة بها اثنا عشر جلوون بدلًا من ثمانية، وقد توجد نكهتان من الشحنة الكهربية ونوعان متمايزان من الفوتونات، أو قد تكون هناك قوى أخرى إلى جانب القوى الأربع التي نعرفها. هكذا تزداد احتمالية وجود بنية نطاقية تكون فيها فيزياء الطاقات المنخفضة في كل نطاق مختلفة اختلافًا كبيرًا، دون أن يقتصر الاختلاف على «الثوابت» مثل كتل الجسيمات وشدة القوى، بل يمتد إلى الصيغة الرياضية للقوانين ذاتها. وبهذا يمكن تشبيه الكون إجمالًا بالولايات المتحدة الأمريكية؛ يتكون من «ولايات» متباينة الأشكال تفصلها حدود واضحة. إن ما اعتبرناه إلى الآن من قوانين الفيزياء العامة، مثل قوانين الكهرومغناطيسية، سيصير أشبه بالقوانين المحلية، أو تلك الخاصة بالولايات، أكثر من كونه قانونًا قوميًّا أو اتحاديًّا. ومن هذا الخليط من المناطق الكونية لن يصلح إلا عدد قليل لاستضافة الحياة.

مع أن النظريات العظمى الموحدة تنظر للكون وكأنه خليط متنوع يحوي عددًا مهولًا من القوانين المختلفة في مختلف النطاقات، فإن هذا التنوع يخفت مقارنة بمفهوم الكون المتعدد الذي تقدمه نظرية الأوتار. لم يعد هناك الآن أي نقص في نطاقات الطاقة المنخفضة المحتملة؛ إذ إن عددها يفوق الحصر. في الواقع تفتح نظرية الأوتار صندوق بندورا حقيقيًّا من الاحتمالات. تنبع الخصوبة المذهلة لهذه النظرية من العدد المهول للطرق التي يمكن بها دمج الأبعاد الإضافية، أو «طيها»، على النحو الذي أوضحته في الفصل الخامس. إن الدمج في نظرية الأوتار هو مكافئ عملية كسر التناظر. على سبيل المثال، يمكن لشكل هندسي بسيط متناظر، كالكرة الكبيرة سداسية الأبعاد، أن يتغضن بشكل تلقائي إلى متاهة معقدة متعددة الأبعاد من الجسور الملتوية والأنفاق المتشعبة. يظهر أحد هذه الأشكال، والمعروض على سطح ثنائي الأبعاد لسهولة التصور، في الشكل ٨-٢. هناك أعداد لا تحصى من هذه التكوينات. السر هنا هو أن قوانين الفيزياء التي تنطبق في الجزء المتبقي (غير المدمج) من الفضاء تعتمد على الشكل المحدد للأبعاد المدمجة. دعني أكرر لك هذه الحقيقة نظرًا لأهميتها البالغة:
في نظرية الأوتار/النظرية M، تتحدد فيزياء الطاقة المنخفضة للعالم ثلاثي الأبعاد الذي نرصده من خلال الشكل الذي تتخذه الأبعاد الإضافية المدمجة.
إن نوعية الكون الذي نرصده — أشياء مثل طبيعة القوى (على سبيل المثال، أي تناظرات تمتلكها)، ودرجة شدة هذه القوى وامتزاجها، وعدد الجسيمات الأساسية، وأنواعها (من فرميونات وبوزونات)، وخصائصها (من كتلة وشحنة كهربية ولف مغزلي وغيرها)، وطاقة الفراغ (أي الطاقة المظلمة) — كل هذه الأشياء تعتمد على الكيفية التي تُدمج بها الأبعاد الإضافية؛ فإذا دُمجت بصورة ما صار لدينا كون به خمسة فوتونات ونوعان من القوة النووية الشديدة، وإذا دُمجت بصورة مغايرة فسيكون لدينا ثمانية إلكترونات وأربعة جلوونات، وهكذا دواليك.11 في الواقع، حتى عدد الأبعاد المدمجة ليس ثابتًا؛ فقد توجد عوالم منخفضة الطاقة تندمج فيها خمسة أبعاد وحسب، مخلفة فضاء من أربعة أبعاد (مرئية) كبيرة. أو قد تندمج سبعة أبعاد مخلفة بُعدين كبيرين وحسب.
fig25
شكل ٨-٢: شكل الأبعاد غير المرئية. يوضح هذا الشكل المعقد ثنائي الأبعاد واحدًا من الاحتمالات اللانهائية التي يمكن فيها لأبعاد الفضاء الستة المتبقية أن «تُدمج»، وذلك وفق ما تطرحه نظرية الأوتار. وفق هذه النظرية يحدد شكل الدمج صيغة القوانين الفيزيائية في الثلاثة أبعاد (الكبيرة) المتبقية للفضاء. (بإذن من جان فرانسوا كولونا.)

(١١) المشهد الطبيعي وفق نظرية الأوتار

من التحديات التي تقابل أصحاب نظرية الأوتار تحديد عدد الأشكال المختلفة التي يمكن لعملية الدمج أن تتمخض عنها؛ أي عدد العوالم منخفضة الطاقة التي يمكن أن تتنبأ بها النظرية. والجواب هو: عدد مهول (قد يكون لانهائيًّا). في الواقع، من العسير حتى الحصول على تقدير؛ لأن رياضيات عملية الدمج ليست مفهومة بالكامل بعد. أضف إلى ذلك أن علينا أن نضع في الحسبان جميع أنواع المتغيرات، مثل الكيفية التي تتشابك بها حلقات الأوتار في طوبولوجيا المكان، والعديد من تناظرات الأوتار المجردة، وغيرها من التنقيحات. على أي حال، وفق بعض التقديرات،12 يصل الرقم الإجمالي إلى أكثر من ١٠٥٠٠، هذا يعني واحدًا إلى جواره خمسمائة صفر! بالمقارنة يقدر إجمالي عدد الذرات في الكون القابل للرصد بما لا يزيد عن ١٠٨٠. وبهذا يصير العدد المحتمل للأكوان منخفضة الطاقة وفق نظرية الأوتار أكبر بمراحل من عدد الذرات التي يحويها الكون.
يمكن تصور هذه الخصوبة الكونية المحيرة للعقل على شكل «مشهد طبيعي عام» من الأكوان منخفضة الطاقة، وهي فكرة مفيدة ابتكرها ليونارد ساسكيند. (هذا ليس مشهدًا طبيعيًّا حقيقيًّا، بل «مشهد عام» مجرد متعدد الأبعاد من الاحتمالات.) تخيل بقعة شاسعة من الأرض الشاسعة معقدة التضاريس، مليئة بالتلال والوديان. كل نقطة في هذا المشهد تمثل كونًا محتملًا له قوانين الفيزياء الخاصة به. بعض الوديان في هذا المشهد تمثل الأكوان «المستقرة»، التي سيكون كوننا أحدها. تمثل وديان أخرى أكوانًا أخرى مختلفة لها قوانين مختلفة. بعضها قد يختلف اختلافًا بسيطًا عنا، ويختلف البعض الآخر عنا اختلافًا مهولًا. تقترح نظرية الأوتار عددًا كبيرًا من الأكوان حتى إن الاختلافات بين قوانين الفيزياء بها قد تكون دقيقة للغاية، كما لو كانت متدرجة في حقيقة الأمر. ستكون هناك أكوان متطابقة بشكل تام مع كوننا، باستثناء قيمة خامس كسر عشري لكتلة الإلكترون أو قيمة عاشر كسر عشري لشدة القوة الكهرومغناطيسية. وسيختلف البعض الآخر اختلافًا أكبر قليلًا، فيما سيكون البعض مختلفًا اختلافًا كليًّا عن كوننا، بأنواع جديدة من الجسيمات والقوى غير المعروفة. ولن يعد من قبيل المبالغة لو قلنا إنك تستطيع أن تحلم بأي شكل للكون، وتختار أي نوع من فيزياء الطاقة المنخفضة على هواك (في حدود المعقول)، وسيكون هناك بالفعل كون في مكان ما من هذا العدد المهول الذي لا يمكن تخيله يوافق هذا الوصف.13

في حد ذاته، يمثل المشهد الطبيعي العام لساسكيند مجال انتخاب عريض للأكوان المحتملة، بيد أنه لا يتنبأ بأنها موجودة بالفعل. ومع ذلك، هناك آلية طبيعية ﻟ «تسكين» هذا المشهد بأكوان «موجودة بالفعل». هذه الآلية، والموصوفة في الفصل الثالث، هي التضخم الأبدي. في هذه النظرية يوجد قالب كلي من الفضاء المتضخم ليس له بداية أو نهاية، وداخله توجد «فقاعات» توقفت عن التضخم، وهذه تمثل الأكوان الجيبية. وأحد هذه الأكوان هو كوننا. تتكون الأكوان الجيبية طوال الوقت؛ إذ «تبزغ» من الفضاء المتضخم بشكل أبدي، مثل فقاعات الندى التي تتجمع حول جزيئات الغبار في الهواء المشبع ببخار الماء. وكل عملية بزوغ تمثل بداية لكون جيبي منفصل. وداخل كل كون جيبي منفصل توجد قصة كونية متفردة؛ انفجار عظيم، وبرودة، وكسر للتناظر، وتحول طوري، ثم ظهور لعالم منخفض الطاقة من قوانين الفيزياء.

بدمج التضخم الأبدي مع نظرية الأوتار/النظرية M، يمكننا توجيه هذا السؤال: إذا كانت الأكوان الجيبية تظهر من ذلك المنبت المتضخم، فأين في المشهد الطبيعي للاحتمالات ستبزغ الفقاعات؟ هل ستظهر دومًا في نفس المكان، مؤدية لوجود نفس فيزياء الطاقات المنخفضة، أم هل سيكون المكان مختلفًا كل مرة؟ تقترح النظرية الرأي الثاني. فلأن عمليات البزوغ ذات طبيعة ميكانيكية كمية فسيكون هناك قدر من التفاوت الطبيعي الذي يستحيل تجنبه. إضافة إلى ذلك، حتى داخل الفقاعة نفسها، من الممكن (وإن كان من النادر للغاية) أن تتسبب التفاوتات الكمية في بزوغ فقاعة أخرى ذات طاقة أقل، وأخرى داخلها، وهكذا دواليك، فقاعات داخل فقاعات داخل فقاعات، بحيث تتمدد كل فقاعة خارجية أسرع من التي بداخلها، بما يعطي كل الفقاعات مساحة للتمدد. ولأن التمدد أبدي في هذه النظرية، يوجد وقت غير محدود لميكانيكا الكم كي «تستكشف» المكان كله بهذه الكيفية.14
إذا صحت هذه الأفكار فهذا يعني أن الكون المتعدد مليء بعدد لا حصر له من الأكوان الجيبية تتجسد داخلها جميع عوالم الطاقات المنخفضة الممكنة، جميع العوالم البالغ عددها ١٠٥٠٠، في مكان ما. وبهذا يتحول علم الكونيات إلى علم بيئي، يعتمد فيه جزء أساسي من تفسير ما نرصده في الكون على ملامح البيئة الكونية المحلية. وحسب تعبيرات عالم العقارات، فالأمر كله يتركز في الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع.15

(١٢) علماء كثيرون يكرهون فكرة الكون المتعدد

رغم ما تتسم به فكرة الكون المتعدد من قبول واسع، ورغم أنها تقدم حلًّا أنيقًا للغز جولديلوكس، فإن لهذه الفكرة عددًا من النقاد من داخل المجتمع العلمي وخارجه؛ فهناك فلاسفة يرون أن الاقتراح بتعدد الأكوان قائم على استخدام مغلوط لنظرية الاحتمالات.16 أيضًا هناك علماء كثيرون يرفضون فكرة الكون المتعدد نظرًا لكونها قائمة على التخمين وحسب حتى الآن. إلا أن أشد الانتقادات تأتي من صفوف أصحاب نظرية الأوتار أنفسهم؛ إذ إن كثيرًا منهم ينكرون إمكانية وجود مشهد عام من العوالم الضخمة المتعددة. إنهم يتوقعون أن تكشف التطورات المستقبلية عن أن هذا التنوع المحير للعقل ما هو إلا سراب، وأنه حين تُفهم النظرية بشكل تام، فإنها ستقدم توصيفًا فريدًا لعالم واحد؛ عالمنا. لكن إلى الآن لا يوجد دليل يدعم وجهة النظر هذه، لذا يظل هذا الأمر موضوع إيمان. ومع ذلك، ظل الانتقاد الموجه لفكرة الكون المتعدد قاسيًا. وقد استخدم علماء ومعلقون بارزون كلمات على غرار «خيال»، و«سم عقلي»، و«إفلاس فكري» لوصف هذه الفكرة. بل إن بول شتاينهارد، أستاذ ألبرت أينشتاين في جامعة برينستون، يرى أن الأمر كله مثير للاستهجان حتى إنه لا يسمح لنفسه بالتفكير فيه، وقد عبر عن هذا الرأي بقوله: «إنها فكرة خطيرة لا أجد في نفسي الاستعداد حتى للتفكير فيها.»17

ما الذي يكمن خلف هذا الهجوم الشرس عليها؟ من وجهة نظر الفيزيائيين النظريين الذين يجتهدون محاولين صياغة نظرية نهائية موحدة، تأتي فكرة تعدد الأكوان كمهرب رخيص من الأمر. إن تحويل علم الكونيات إلى علم بيئي فوضوي يبدو أمرًا مخيبًا للآمال مقارنة بعظمة التوصل إلى نظرية نهائية موحدة قادرة على تفسير كل شيء. يحلم المنظرون الخالصون بالتوصل إلى الأسباب العميقة، المدعومة بالحسابات الرياضية الأنيقة، التي تفسر لماذا يبدو العالم على النحو الذي يبدو عليه، بكل تفاصيله العديدة. على النقيض من ذلك تخبرنا نظرية تعدد الأكوان أن السبب الوحيد وراء رصدنا لهذا العالم هو أنه قابل للرصد. يعتبر كثير من العلماء أن العشوائية وانتخاب المراقبين تعد تفسيرات قبيحة وفقيرة مقارنة بالنظريات الرياضية البارعة التي تحدد خصائص العالم بدقة كمية وتمزجها في وحدة متجانسة. إنهم يرون أن التفسيرات القائمة على نظرية الكون المتعدد و«المبدأ الإنساني» تقوض جهود برنامج التوحيد ذاته (على سبيل المثال، نظرية الأوتار) وتهدد أساس تمويله. بل إن بعض المنتقدين يرون أن هذه النظرية تعيق عملية تعليم الباحثين الشباب.

من معارضي فكرة الكون المتعدد ديفيد جروس، عالم الفيزياء في جامعة كاليفورنيا بسانتا باربرا والحاصل على جائزة نوبل، الذي ساعد في تطوير الديناميكا الكمية اللونية. جروس شخص متفائل بدرجة كبيرة ويؤمن بأننا في يوم ما سنجمّع نظرية نهائية لكل شيء تفسر لنا جميع متغيرات الفيزياء وعلم الكونيات عن طريق قوانين رياضية مفهومة جيدًا. وصفت من قبل الطريق نحو إيجاد نظرية لكل شيء بأنه عملية توحيد متواصلة للفيزياء، عملية نكتشف فيها أن ما يبدو لنا كقوانين مختلفة مستقلة هي في الحقيقة قوانين مترابطة على مستوى مفاهيمي أعمق. ومع دخول المزيد والمزيد من جوانب الفيزياء تحت مظلة التوحيد، يصير لدينا متغيرات أقل بحاجة للتحديد وصرامة أقل في صياغة القوانين. ليس من العسير تصور أقصى ما قد تفضي إليه هذه العملية؛ مجموعة مرتبة من المعادلات الرياضية توحد جميع جوانب علم الفيزياء المتشعبة. ربما لو وجدت لدينا نظرية كهذه لوجدنا أنه لم يتبق أمامنا متغيرات حرة على الإطلاق، وسوف أطلق على هذه النظرية اسم النظرية «الخالية من المتغيرات». وفي هذه الحالة لن يكون من المنطقي تصور وجود عالم تكون فيه القوة النووية الشديدة، مثلًا، أقوى، ويكون فيه الإلكترون أخف؛ لأن قيم هذه الكميات لن تكون قابلة للتعديل بشكل مستقل؛ بل ستكون ثابتة القيمة من واقع النظرية. بالطبع هناك مناصرون متحمسون لنظرية الأوتار/النظرية M يتنبئون بتطور مستقبلي تظهر بموجبه أرقام مثل ١٫٨٣٦، نسبة كتلة البروتون إلى كتلة الإلكترون، و١٠٤٠، نسبة القوة الكهرومغناطيسية إلى قوة الجاذبية، من خضم معادلات رياضية مبهرة. لكن في الوقت الحالي ليس هذا إلا توقعًا مبالغًا فيه. لا يزال الطريق حتى تفسير ولو واحد من هذه الأرقام طويلًا. لكن رغم افتقاد التقدم فإن كثيرين من أنصار هذه النظرية محتفظون بتفاؤلهم. حين واجه جروس في أحد المؤتمرات العالمية المشكلة المتمثلة في أن الوصول لنظرية نهائية مرضية يبدو أمرًا بعيد المنال، رد بثبات، معيدًا صياغة عبارة تشرشل: «إياك ثم إياك ثم إياك أن تستسلم!»

إلا أن مثل هذه النقاشات المستعرة لا تعني أن نظرية الكون المتعدد تعتمد بالأساس على صحة مفهوم المشهد العام في نظرية الأوتار. بالتأكيد يعد مفهوم المشهد العام النسخة الأغنى والأكثر تلقائية، إلا أن نظرية الكون المتعدد في شكلٍ ما هي من الملامح الأساسية لنشأة الكون من الانفجار العظيم، إلى جانب كسر التناظر. إن الكون الذي يبرد بعد حالته الأولية المستعرة من المحتم أن يكوّن بنية نطاقية تكون فيها لكل نطاق سمات مختلفة، بما فيها قوانين الطاقة المنخفضة الثانوية وقيم بعض ثوابت الطبيعة. ومع أن مصطلح «الكون المتعدد» صُك في وقت قريب نسبيًّا، فإن التوقعات بوجود وفرة من النطاقات الكونية استنادًا على النظريات العظمى الموحدة ونظريات الأبعاد الأعلى وغيرها من مساعي التوحيد كانت موجودة لثلاثة عقود. وفي غياب نظرية نهائية متفردة مقنعة يكون الافتراض الأساسي هو أن الكون الذي نرصده ليس إلا جزءًا بسيطًا من تجميعة اعتباطية من الأكوان.

(١٣) لكن هل هذا علم؟ هل يمكن اختبار نظرية الكون المتعدد؟

من الانتقادات التي يُعبَّر عنها علانية دومًا لفكرة الكون المتعدد هي أنها ليست علمًا، وذلك لأنه ليس من الممكن اختبارها بالتجربة أو من واقع الملاحظة. لهذا الاعتراض وجاهته. فالزعم بأن كوننا مصحوب بعدد لا حصر له من الأكوان الأخرى يبدو من المستحيل التحقق منه. لقد أوضحت بالفعل أنه في نظرية التضخم الأبدي لا يمكننا أن نرصد رصدًا مباشرًا الأكوان الجيبية الأخرى، وذلك لسببين؛ أولهما: هو أنها بعيدة لدرجة لا تصدق، والثاني هو: أنها تتراجع مبتعدة عنا بسرعة تفوق سرعة الضوء بكثير. ومن المنطقي الاعتراض من منطلق أن النظرية المبنية على كيانات لا يمكن من حيث المبدأ رصدها، لا يمكن أن توصف بالنظرية العلمية.

بيد أنه من المقبول اللجوء إلى دليل «غير مباشر» لدعم هذه النظرية. في العلم، أحيانًا ما يثق المرء في أحد التنبؤات التي تخرج بها نظرية ما، حتى في ظل عدم القدرة على اختبار هذا التنبؤ، ما دامت النظرية ككل مدعومة بقدر معقول من الأدلة التجريبية. على سبيل المثال، يمكن تطبيق نظرية النسبية العامة على ما بداخل الثقوب السوداء، وهي مناطق من الفضاء لا يمكننا أن نرصدها من الخارج، حتى بشكل نظري؛ لأنها محاطة بما يعرف بأفق الحدث. إلا أن النسبية العامة خضعت للاختبار بشكل طيب في سياقات أخرى، ولهذا يثق الفيزيائيون في أنهم يستطيعون استخدام النظرية عينها في وصف ما يحدث داخل الثقوب السوداء أيضًا. وإذا أمكن اختبار نظرية الأوتار/النظرية M، أو غيرها من النظريات التي تتنبأ بتعدد العوالم، تجريبيًّا بشكل مرض، فربما يثق المرء في التنبؤ الذي تقدمه النظرية بشأن تعدد العوالم. لكن لسوء الحظ لا يزال من المستبعد اختبار نظرية الأوتار بشكل تجريبي، إلا أن هذا القيد تفرضه حالة التقدم العلمي الحالية وحسب. ولا يوجد سبب جوهري يمنعنا، في المستقبل البعيد، من التوصل إلى نظرية كاملة موحدة واختبارها تجريبيًّا. من هذا المنطلق تقع نظرية الكون المتعدد على الحد الفاصل بين العلم والخيال.

من الممكن أيضًا الحصول على بعض الأدلة غير المباشرة على تعدد الأكوان من خلال دراسة تفاصيل عملية الضبط الدقيق. تسعى نظرية تعدد الأكوان لاستبعاد احتمالية نشوء الكون بمحض الصدفة. من مميزات الصدفة أنه يمكن تحديدها رياضيًّا تحديدًا جيدًا. وقد خضعت قواعد الصدفة وخصائص المتغيرات العشوائية للدراسة الوافية، وبعض سماتها المميزة باتت معروفة. جوهر الآلية الإنسانية هو أن كوننا انتُخب من قبلنا بفضل قابليته لاستضافة الحياة، ومن هذا المنطلق هو كون مميز وفريد بشكل عام. لكن في ظل هذا العدد المذهل من الأكوان (على الأقل في نسخة نظرية الأوتار لتعدد الأكوان) سيظل هناك هامش كبير من الاحتمالات، بما فيها احتمال وجود عدد كبير من الأكوان المناسبة لاستضافة الحياة لا تختلف عن كوننا إلا بقدر ضئيل. لا يسير الضبط الدقيق بمنطق الأبيض والأسود؛ بل إن كل متغير ذي صلة يتمتع بنطاق من القيم التي تتناسب جميعها مع الحياة. إن الكون الذي تكون فيه القوة الكهرومغناطيسية، مثلًا، أقوى بنسبة واحد بالمائة سيكون على الأرجح ملائمًا للحياة، رغم أنه لو زادت النسبة إلى ٥٠ بالمائة ستكون هناك مشكلات عويصة. وداخل نطاق الأكوان الملائمة لاستضافة الحياة لا يوجد أي سبب يدعونا لاعتبار كوننا عضوًا مميزًا. هكذا تتنبأ نظرية الكون المتعدد بأنه عند البحث بحرص أكبر في عملية الضبط الدقيق، من المفترض أن نجد أن القيم المقاسة للمتغيرات الأساسية (أي تلك التي تؤثر على الحياة) تظهر قيمًا «نمطية» تقع في نطاق قابلية السماح بالحياة.

كيف نعرف أن القيم نمطية؟ سمة عامة للعمليات العشوائية هي أن المصادفات الكبيرة أكثر ندرة بكثير من المصادفات الصغيرة. فكر في عملية إلقاء عملة معدنية عشرة آلاف مرة. إننا نتوقع أن يكون العدد الإجمالي للصورة والكتابة متساويًا بشكل تقريبي بعد كل هذا العدد الكبير من المحاولات. ومع ذلك فلن نندهش إذا تصادف أن استقرت العملة على الصورة ثلاث مرات متتالية من حين لآخر. أربع مرات قد تثير الدهشة، خمس مرات أمر يستحق التذكر، أما عشر مرات متتالية — رغم أنه ليس أمرًا مستحيلًا — فسيكون شيئًا مذهلًا. هذه المرات المتتالية يطلق عليها التنويعات الإحصائية، وهي جزء لا يتجزأ من جميع العمليات العشوائية. القاعدة هي أنه كلما كبر التفاوت (في مثالنا هذا عدد مرات الصورة)، كان احتمال تكراره أقل ترجيحًا. بتطبيق هذا على فكرة تعدد الأكوان سنجد أنه من المرجح أن تكون الأكوان (أو النطاقات الكونية) التي تفي بالكاد بالشروط المشجعة على الحياة أكثر بكثير من الأكوان التي تحقق هذه الشروط بهامش مريح. بعبارة أخرى، ينبغي أن تكون الأكوان التي تفي بالكاد بشروط الحياة أكثر بكثير من الأكوان التي تكون فيها شروط قابلية استضافة الحياة مثالية. ولهذا، إذا لم نكن نحن البشر إلا مراقبين موجودين بالصدفة وسط غيرنا من المراقبين المحتملين، فالأكثر ترجيحًا أن نجد أنفسنا نعيش في كون يشجع على الحياة بهامش بسيط عن أن نجد أنفسنا في كون تكون الظروف المشجعة على الحياة فيه مثالية، وذلك لأن الأكوان من النوع الأول أكثر عددًا بكثير من تلك التي تنتمي للنوع الثاني.

من الأمثلة الملموسة على هذا الأمر الطاقة المظلمة، التي تبلغ قيمتها «الطبيعية» عشرة أس ١٢٠ ضعف قيمتها المرصودة. كما أوضحت، اقترح ستيفن واينبرج أن هذه عملية انتخاب إنسانية؛ فمن منظور الطاقة المظلمة ليس كوننا سوى مصادفة، وقد وقع عليه الاختيار من قبلنا بفضل قابليته للسكنى (فالمجرات لن تتكون إذا كانت الطاقة المظلمة أكبر بكثير). وفق هذه النظرية فإن الأكوان التي تكبح الطاقة المظلمة بهذه الدرجة نادرة للغاية. وبتطبيق قاعدة أن المصادفات الصغيرة أكثر احتمالًا من المصادفات الكبيرة، ينبغي أن تكون هناك أكوان كثيرة تقترب فيها القيمة المرصودة للطاقة المظلمة من القيمة الطبيعية، وعدد أقل من الأكوان تكون فيها القيمة المرصودة أقل بقدر معقول من القيمة الطبيعية، وعدد أقل بكثير من الأكوان تكون فيها القيمة المرصودة للطاقة المظلمة أقل بكثير من القيمة الطبيعية. عندئذٍ يحق لنا أن نتوقع أن يقع كوننا في نطاق قريب من القيمة التي تسمح بوجود حياة، على أساس أن هناك أكوانًا أخرى من هذا النوع أكثر بكثير من الأكوان ذات القيم الأقل من الطاقة المظلمة. وفي الواقع ليس هذا بعيدًا عما نرصده. إن القيمة المقاسة للطاقة المظلمة ليست على الأرجح أصغر من عُشر القيمة «القاتلة»؛ تلك القيمة التي فوقها لن تتكون المجرات. وإذا كانت هذه الطاقة المظلمة المرصودة أقل، مثلًا، بمليون مرة عن القيمة القصوى التي تسمح بالحياة، فهذا يعني استبعاد تفسير تعدد الأكوان بشكل تام، على أساس أن الكون سيكون وقتها ملائمًا للحياة أكثر مما يتطلبه الأمر، بما يتعذر معه تفسير كوننا ذي الطاقة المظلمة الصغيرة كنتاج لمصادفة إحصائية اختيرت بشكل إنساني.18

قد يكون من الأيسر فهم هذا المنطق بالاستعانة بمثال: تخيل أن هناك يانصيب تُمنح فيه الجائزة الكبرى لأي شخص يخمن بشكل صحيح أربعة من أصل خمسة أرقام عشوائية ما بين الواحد والعشرة. يحذر رجال الشرطة منظمي اليانصيب لأنهم سمعوا شائعات عن وجود مؤامرة للغش. عند مراجعة النتائج يجد المنظمون أن رجلًا واحدًا خمن بشكل صحيح الأرقام الخمسة كلها، ولم ينجح أحد غيره في الوفاء بالحد الأدنى للجائزة. يتشكك المنظمون على الفور في الأمر؛ لأنه كان على الرجل أن يخمن أربعة وحسب من أصل خمسة أرقام. لقد كان أداؤه أفضل من القدر المطلوب للفوز بالجائزة؛ خاصة وأن تخمين الخمسة أرقام أصعب بعشر مرات من تخمين أربعة أرقام وحسب. لو كانت النتائج قد بينت، مثلًا، أن ثمانية أشخاص نجحوا في تخمين أربعة أرقام ونجح شخص واحد في تخمين الخمسة أرقام، كان المنظمون سيرون الأمر متوافقًا مع توقعاتهم للصدفة العشوائية. لكن ذلك التوقع «الساحق» المنفرد يثير الشكوك بأن شيئًا مثيرًا للريبة يجري خلف الكواليس.

وبنفس الصورة، إذا كانت المتغيرات الفيزيائية الضرورية للحياة أكثر ملاءمة للحياة بعشرة أضعاف مما نحتاجه للوجود، فهذا كفيل بإثارة الشكوك بأن الصدفة العشوائية ليست التفسير، وأن «شيئًا مثيرًا للريبة» يجري خلف الكواليس. إن هامش العشرة أضعاف — التقدير الحالي في حالة الطاقة المظلمة — مبالغ فيه إلى حد لا يدعو للارتياح (بمعنى أن القول إن القيمة المقاسة للطاقة المظلمة «قريبة» من الحد الذي يسمح بالحياة، وهي أصغر بعشرة مرات، هو نوع من المبالغة). ومع ذلك فإن نظرية تكون المجرات معقدة ولا تزال غير مفهومة بشكل واف، وقد نكتشف بمزيد من البحث أنه يكفي للطاقة المظلمة أن تكون أعلى بضعفين أو ثلاثة أضعاف عن القيمة المرصودة كي تمنع ظهور الحياة. على أية حال، تتنبأ نظرية تعدد الأكوان بأن تكون المجرات (أو بعض العمليات الأخرى التي تؤثر على الحياة) من المفترض أن تعاق إذا كانت قيمة الطاقة المظلمة أكبر بقليل من القيمة المقاسة. وإذا اتضح أن هذا التنبؤ غير سليم فإن هذا سيكذب نظرية تعدد الأكوان ويشير بدلًا من ذلك إلى وجود «ما يدعو للريبة». وأي نظرية يُحتمل تكذيبها تعتبر، من جانب أغلب العلماء، مؤهلة لأن توصف ﺑ «العلمية».

(١٤) هل اكتُشفت بالفعل أية «ثوابت» متغيرة؟

هناك طريقة ثالثة يمكن من خلالها اختبار نظرية تعدد الأكوان، فرغم أننا قد نعجز عن رصد الأكوان الأخرى ذات القوانين المغايرة أو ذات القيم المختلفة للثوابت الفيزيائية، فإننا قد نستطيع رصد التفاوتات الدقيقة في القوانين «داخل كوننا». فإذا وجدت مثل هذه التفاوتات فستكذب الزعم القائل إن القوانين محددة بشكل متفرد من واقع نظرية نهائية. من البديهي أنه لو أمكن تغيير القوانين بدرجة بسيطة داخل كوننا المرصود فبإمكانها أن تتغير بشكل كبير فيما وراءه من مناطق. أجرى علماء الفلك والفيزياء اختبارات دقيقة للبحث عن أي إشارات لتغير القوانين على مر الزمن أو عبر المكان. وقد تمكنوا من وضع حدود صارمة للغاية بشأن أي من هذه التغيرات. على سبيل المثال، إذا تغير ثابت الجاذبية G لنيوتن، الذي يحدد قوة الجاذبية، مع مرور الزمان في الكون، فإن هذا سوف يتجلى من خلال الكيفية التي تدور بها الكواكب حول الشمس. لم يُرصد أي تغير من هذا النوع إلى الآن. أيضًا وضعت حدود على التغيرات المحتملة في شدة القوة النووية الضعيفة والنسبة بين البروتون والإلكترون عن طريق دراسة تكوين جيولوجي عجيب في غربي أفريقيا. يوجد في الجابون عرق من اليورانيوم غني للغاية حتى إنه منذ ملياري عام وصل إلى «الحالة الحرجة» من تلقاء نفسه، مكونًا مفاعلًا نوويًّا طبيعيًّا. بفحص نتاج عملية الانشطار النووي هذه تمكن علماء الفيزياء من تحديد مقدار «ثبات الثوابت» ذات الصلة بهذه التفاعلات بدرجة دقة عالية.
زُعم حديثًا أن شدة القوة الكهرومغناطيسية تغيرت بشكل طفيف، بمقدار أجزاء قليلة من المليون، على مر الستة مليارات عام الماضية، رغم أن هذا الزعم محل خلاف. يأتي الدليل من دراسة التركيب الدقيق لخطوط الطيف الآتية من الكويزرات البعيدة للغاية. إذا كانت القوة التي تربط الإلكترونات بالأنوية تتغير فهذا من شأنه أن يؤثر على «الكود الشريطي» الذي يحدد هوية كل ذرة بشكل متفرد، ويظن بعض علماء الفلك أنهم اكتشفوا هذا الأمر بالفعل. إذا صحت هذه الملاحظة فهذا سيدعم فكرة أن واحدًا على الأقل من «الثوابت» الأساسية للطبيعة ليس راسخًا بشكل مطلق، بل هو أشبه بمتغير بيئي.19

من الناحية العلمية، إذن، ليست فكرة تعدد الأكوان محض تخمين، بل لها جذور في العلوم المحترمة ومن الممكن اختبارها بشكل غير مباشر. تبدو الفكرة العامة لتعدد الأكوان كأنها ملمح لا مهرب منه لعلم كونيات الانفجار العظيم الممتزج بفيزياء الجسيمات. لكن إلى أي مدى ينبغي أن يواصل المرء انزلاقه على هذا المنحدر المائل؟ وإذا بدأنا في التسليم بوجود أكوان أخرى استنادًا على أدلة واهية، فأين سنتوقف؟ وكيف يؤثر هذا على فهمنا للواقع؟

(١٥) الوفرة الكونية: مشكلة النسخ البشرية المطابقة

هناك مقولة معروفة تقول: في الكون اللانهائي أي شيء يمكن أن يحدث لا بد وأن يحدث. من وجهة النظر الرياضية هذا حقيقي. مثال بسيط على ذلك قذف العملة؛ إن احتمالات قذف العملة والحصول على صورة ألف مرة متتالية ضئيلة للغاية (حوالي مرة واحدة كل ١٠٣٠١ محاولة). ومع ذلك، إذا توافر عدد كاف من العملات المعدنية فسيحدث هذا لا محالة في مكان ما. للإحساس بما يعنيه هذا الرقم، فكر في كل ذرة في الكون القابل للرصد بوصفها عملة معدنية، وأنها تُقذف مرة كل ثانية. إن احتمالات الحصول على ألف صورة متتالية على امتداد جميع الذرات البالغ عددها ١٠٨٠ ذرة على مدار عمر الكون لا يزال أقل من مرة كل ١٠٢٠٠ محاولة. إن أكبر عدد متتال من الصور يمكن توقعه، حتى مع إلقاء العملات تريليون مرة في الثانية هو حوالي ٣٦٠ مرة. لكن إذا قُذف عدد لانهائي من العملات فإن الحصول على ألف صورة بشكل متتال يعد أمرًا أكيدًا؛ إذ إن اللانهائية تغلب أي احتمالات، مهما كانت معاكسة. وفي الواقع، لن تحدث الألف صورة المتتالية مرة واحدة وحسب، بل لعدد لانهائي من المرات.

نفس الأمر ينطبق على أي نظام تلعب فيه الصدفة دورًا، على غرار بنية الكون. تخيل أن الفضاء لانهائي، وأن الجزء المرصود من الكون مطابق للجزء المتبقي منه (وذلك على النقيض مما تدعو له نظرية الكون المتعدد). إذا سافرت لمسافة كافية في أي اتجاه، لا بد أن تجد في نهاية المطاف كوكبًا مشابهًا لكوكب الأرض؛ لأن نفس نوعية العمليات ستحدث بنفس الصورة. وإذا واصلت التحرك لا بد أن تجد في نهاية المطاف كوكبًا مطابقًا تقريبًا لكوكب الأرض، بنفس القارات وسلاسل الجبال والمحيطات. من السهل حساب احتمالات تكون أرض أخرى بفعل الصدفة، ومن ثم حساب المسافة التي سيكون عليك قطعها للعثور على هذا الكوكب المطابق. وكلما كانت الأرض الأخرى أكثر شبهًا بأرضنا قلت الاحتمالات وصار عليك السفر لمسافة أبعد. قد يبدو تخيل كوكب آخر مطابق لكوكبنا أمرًا مستغربًا، لكن في الكون اللانهائي لا بد أن توجد كواكب أرض أخرى، حتى وإن كانت تقع على مسافات بعيدة. وبالمثل، ستكون هناك كواكب أرض أخرى يسكنها بشر مثلنا. وبالتمادي في الاحتمالات أكثر يمكن أن نخلص إلى أنه لن توجد وحسب كواكب أرض أخرى يسكنها بشر آخرون، بل سيكون هناك نسخ أخرى منك شخصيًّا، مطابقة لك من جميع النواحي، بما في ذلك خبراتك الحياتية. من واقع المنطق الإحصائي الصارم، مقابل كل كوكب أرض يحوي نسخة مطابقة منك، سيوجد عدد لا يحصى يحوي نسخًا لك تختلف وحسب في بعض الجوانب الطفيفة؛ على غرار لون الشعر أو الطول أو الهدية التي تلقيتها في يوم ميلادك العام الماضي.

قدر عالم الكونيات ماكس تجمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا متوسط المسافة التي عليك قطعها كي تصل إلى أقرب نسخة مطابقة لك بحوالي ١٠٢٩ متر، وذلك وفق الافتراضات الموضوعة (مثل تطابق قوانين الفيزياء وتوزيع المجرات). قارن هذا بقطر الكون القابل للرصد والبالغ ١٠٢٦ متر وحسب. من الواضح أن احتمالات العثور على نسخة مطابقة لك ضئيلة للغاية. في الواقع، في نموذج الانفجار الكوني العظيم، فإن المسافة الفاصلة بين الأشخاص المتطابقين أعظم بكثير من حجم الأفق، وهو ما يعني استحالة حدوث تواصل أو حتى تبادل للرسائل بين أي نسختين متطابقتين طيلة فترة حياتهما. لكن حتى لو لم يكن هناك داعٍ للخوف من مقابلة نسختك المطابقة، فإن فكرة وجود ليس نسخة واحدة، بل نسخ لانهائية منك، تعيش حياة مطابقة لحياتك (ومن ثم عدد لا حصر له يعيش حياة مشابهة وإن كانت غير مطابقة لحياتك) مقلقة للغاية في حد ذاتها. وحتى تجمارك ذاته يقر بأن رد فعله تجاه هذه الفكرة كان «الاستغراب وعدم التصديق».20 إن المشكلة تخص الهوية الشخصية؛ فكل شخص فينا يشعر أنه متفرد. وإذا كان هناك نسخة أخرى مني، ناهيك عن وجود نسخ لا حصر لها مني، فهل ستكون هذه النسخة «أنا» أم شخصًا آخر؟ مثل هذه الأسئلة تصيب الإنسان بالدوار.
من واقع عملية استنباط بسيطة يمكن حساب المسافة التي نحتاج لقطعها حتى نقابل كونًا آخر قابلًا للرصد مطابقًا لكوننا. الجواب هو ١٠١٢٠ متر. وبنفس المنطق يجب أن تكون هذه النسخ الكربونية من كوننا موجودة بالفعل في مكان ما، ما دام الكون لانهائيًّا بحق. وسيكون هناك عدد لانهائي منها أيضًا؛ أكوان لا حصر لها مطابقة «في جميع الجوانب» لكوننا المرصود. رغم ما قد تبدو عليه هذه الاستنتاجات من غرابة، فإنها تنبع بشكل لا خلاف عليه من منطق الإحصائيات البسيطة ونظرية الاحتمالات.21

الأمر المحوري في هذا التحليل هو افتراض أن الكون اللانهائي لا يتباين من منطقة لأخرى في الفضاء. إلى أي مدى يعد هذا الافتراض منطقيًّا؟ تقترح نظرية التضخم الأبدي الرائجة شيئًا مختلفًا تمامًا؛ أن كوننا ليس لانهائيًّا، بل هو مدمج داخل منطقة شاسعة، لكن متناهية، مشابهة لكوننا. ورغم الاتساع المهول لمنطقة التضخم (أو الكون الجيبي)، فإنها ليست واسعة بالقدر الذي يكفي لاحتواء أكثر من نسخة واحدة منك. إلا أن هذه النتيجة تعد سلاحًا ذا حدين؛ لأن محدودية منطقة التضخم الخاصة بنا لها ثمن فادح، وهو وجود عدد لانهائي من المناطق الكونية «الأخرى»، أو الأكوان الجيبية. وبهذا يكون كل ما فعلناه هو مقايضة لانهائية بمثلها. يتنبأ التضخم الأبدي بوجود عدد لامتناهٍ من الأكوان التي تنتجها آلية توليد الأكوان. ستكون هناك أكوان كبيرة وأخرى صغيرة، وذلك لو صحت فكرة المشهد العام لنظرية الأوتار، وأكوان بها كل التنويعات من القوانين والظروف المبدئية. أيضًا سيكون هناك عدد لانهائي من الأكوان التي تشبه كوننا، وفي نهاية المطاف، وسط تلك اللانهائية، من المحتم وجود أكوان «مطابقة في جميع الجوانب» لكوننا.

(١٦) هل الكون وهم؟

وكأن فكرة العدد اللانهائي من الأكوان المتطابقة لا تفسد مفهومنا عن الواقع بقدر كاف، فإن الأسوأ لا يزال ينتظرنا. تعد سلسلة أفلام «ماتريكس» (أو «المصفوفة») من أكثر الأفلام التي حققت النجاح على مدار السنوات الماضية، وبما أن قدرًا كبيرًا من التصوير جرى في سيدني، حيث أقيم، فأنا أشعر بألفة خاصة لهذا الفيلم. يدور موضوع الفيلم (بشكل عام) حول فكرة أن البشر لا يعيشون بشكل حقيقي، بل هم نتاج لبرنامج محاكاة حاسوبي. إن ما تظنه شخصيات الفيلم عالمًا حقيقيًّا هو في الحقيقة برنامج محاكاة واقعي، صممته حضارة متقدمة ذات قدرات حاسوبية هائلة.

تتمتع فكرة أن العالم المحيط بنا هو نوع من الوهم، أو المحاكاة المصممة لخداعنا، بتاريخ طويل في الفلسفة والخيال العلمي، حيث استُخدمت كتجارب فكرية لأغراض التعليم والتسلية أو ربما الإرباك. الجديد في الأمر هو أن بعض العلماء والفلاسفة البارزين يطلبون منا النظر لفكرة العالم المُحاكى بصورة أكثر جدية. إنهم، ببساطة، يفترضون أن الكون والمراقبين الذين يحويهم — وهذا يشملك — قد يكونون نتاجًا لبرنامج محاكاة حاسوبي هائل تديره كائنات مجهولة. يعبر نيك بوستروم، الفيلسوف في جامعة أكسفورد والخبير بما يطلق عليه «حجة المحاكاة»، عن الأمر بصراحة بقوله: «هناك احتمال قوي بأننا نعيش في عالم من المحاكاة الحاسوبية. وأنا أعني هذا بشكل حرفي، وإذا صحت فرضية المحاكاة فهذا يعني أنك تعيش في واقع افتراضي صممه حاسب آلي بنته حضارة متقدمة. وعقلك، أيضًا، ليس إلا جزءًا من هذه المحاكاة.»22
ياللعجب! إن بوستروم يقول ببساطة إن الأغراض الموجودة في الحجرة التي تجلس فيها؛ الكرسي الذي تجلس عليه والكتاب الذي تقرؤه والأشخاص الذين تعرفهم وتحبهم والمادة المكونة لجسدك — ناهيك عن الشمس والنجوم وبقية الكون — كل هذا من نسج خيالك. الأسوأ من ذلك هو أنك أنت ذاتك من نسج خيالك. وهذه التجربة العقلية — هذا «التخيل» — محاك داخل حاسب آلي عملاق لا يوجد في هذا الكون (الذي هو «في الواقع» غير موجود أساسًا؛ لأنه ليس إلا محاكاة افتراضية)، بل في كون «آخر» من المفترض وجوده؛ كون «مسيطر». هل يمكن أن تَصدق هذه الفكرة ولو من بعيد؟23 حسن، فور أن تكون مستعدًّا لتقبل فكرة الأكوان المتعددة، فليس هناك سبب وجيه يجعلك تستبعد إمكانية وجود أكوان بها عمليات محاكاة حاسوبية لأكوان أخرى. وفي هذه الحالة يكون الكون المتعدد مسكونًا من قبل أكوان حقيقية وأخرى افتراضية، وليس بإمكان التحليل الجدي لنظرية تعدد الأكوان أن يهرب من هذه التبعات العجيبة المتمثلة في وجود الأكوان الوهمية.
إن أقرب ما يمر به أغلبنا لتجربة فيلم «ماتريكس» هو الحلم، فبعض الأحلام تكون مفعمة بالحياة حتى إنها قد تبدو أحيانًا واقعية. بل إنني مررت بأحلام داخل أحلام، كنت متأكدًا خلالها من أنني أفقت من أحد الكوابيس فقط لأكتشف لاحقًا أنني ما زلت نائمًا. كما أن بعض الناس تراودهم أحلام (لخبرات غير عادية مثل الاختطاف على يد كائنات فضائية) وتكون مقنعة للغاية حتى إنهم يتذكرونها بعد ذلك كخبرات واقعية وينقلونها على هذا الأساس، حتى تحت الاستجواب الدقيق والتنويم المغناطيسي. إلا أننا في أغلب الأحوال نكون قادرين على التفريق بين عالم الأحلام وعالم الواقع؛ فنحن نعرف جيدًا أن عالم الأحلام ليس حقيقيًّا، بل هو محاكاة (رديئة في المعتاد) للعالم الحقيقي، أو وهم خلقته عقولنا التي لا تنام من خلال عملية ما غير مفهومة بعد بشكل كامل. لكن ليس من العسير تخيل وجود عالم للأحلام متسق ومفعم بالحياة لدرجة تجعله يقارب «العالم الواقعي»، بشكل يجعلنا عاجزين عن تحديد هل نحلم أم لا. سبق جوتفريد لايبنيز عصره حين قدم مثل هذا الافتراض بقوله: «رغم ما قيل عن أن الحياة بأكملها ليست سوى حلم، وأن العالم المادي ليس سوى وهم، فإنني سأعتبر هذا الحلم أو الوهم حقيقيًّا بما يكفي ما دمنا، باستخدام التفكير المنطقي، لم ننخدع به مطلقًا.»24
إن هدف صناعة الواقع الافتراضي هو خلق إيهام حسي واقعي لدرجة تجعل الشخص يدرك العالم الافتراضي بوصفه عالمًا حقيقيًّا. يتحقق هذا باستخدام معدات مثل وسائل العرض ثلاثية الأبعاد والصوت المجسم والسترات التي تقدم مثيرات حسية ملموسة وقفازات تحرك الصور من خلال إشارات إلكترونية، كما لو كان مرتديها يلمس أشياء مادية بالفعل. ليس هذا الواقع الافتراضي مشابهًا لعالم الأحلام، الذي ينحصر داخل رءوسنا. لكن قد تكون التكنولوجيا المستقبلية قادرة على توصيل الإشارات الإلكترونية بشكل مباشر إلى مخ الشخص، بما يخلق لديه الانطباع بوجود عالم خارجي وهمي دون الحاجة للتأثير على العينين والأذنين وغيرها من الحواس. يدور أحد موضوعات الخيال العلمي المفضلة حول مخ لا جسد له موضوع في وعاء، ومتصل بنظام حاسوبي متقدم يخلق لديه الانطباع بوجود عالم حقيقي، بحيث لا يدرك الشخص صاحب هذا المخ بأنه لم يعد يملك جسدًا وأن العالم الذي يشعر به لا وجود له. في الواقع، ليست هذه بفكرة جديدة على الفلاسفة، الذين يحبون استخدامها لمناقشة طبيعة عملية الملاحظة والواقع، وصاروا يستخدمون مصطلح «المخ عديم الجسد» للإشارة لهذه الفكرة.25
إلا أن أقصى درجات المحاكاة هي تلك التي لا تستخدم المخ على الإطلاق (على العكس من الأحلام والمخ عديم الجسد)، بل تستثير وعي قاطني العالم الافتراضي استثارة مباشرة. للاقتناع بهذه الفكرة علينا التسليم بأن وعي الإنسان ليس نوعًا من الجوهر، بل هو نتاج لعمليات مادية. وهذه بالتأكيد النظرة السائدة بين العلماء. لوقت طويل والأعضاء الأكثر جرأة في أوساط عالم الذكاء الصناعي يخبروننا بأنه في يوم ما ستكون الحاسبات الآلية قوية بما يكفي ليس فقط لحساب الرواتب ولعب الشطرنج، بل للتفكير والوعي بالبيئة المحيطة وبوجودها ذاته. باختصار، ستكتسب وعيًا خاصًّا بها. يعود هذا الخط من التفكير إلى ألان تورينج، عبقري الرياضيات البريطاني والمشارك في اختراع الحاسب الآلي الإلكتروني، الذي كتب، عام ١٩٥٢، بحثًا شهيرًا عن السؤال «هل تستطيع الآلات التفكير؟» حدد تورينج فيها المعايير التي بموجبها يمكن الإجابة بنعم.26 ومجددًا، سارع الخيال العلمي بتصوير آليين وأشباه آليين ذوي «حياة داخلية» تشبه تلك الخاصة بالبشر.27
زعم بعض العلماء، أبرزهم عالم الرياضيات من جامعة أكسفورد روجر بنروز، أن الآلات التي نسميها حاليًّا بالحاسبات الآلية لن يمكنها، حتى بشكل نظري، أن تحاكي الوعي البشري.28 لن أدخل في تفاصيل هذا الزعم أو الحجج العديدة المناهضة له. المهم هنا هو أنه حتى بنروز لا ينكر إمكانية محاكاة الوعي البشري من خلال نظام مادي صناعي «من نوع ما»، كل ما في الأمر هو أنه لا يري إمكانية أن يدار هذا النظام من خلال الحواسيب الرقمية. من الناحية النظرية يمكن أن يبني المرء مخًّا صناعيًّا بنسخ أحد الأمخاخ الطبيعية بالتفصيل ثم تجميعه جزيئًا تلو الآخر. وإذا فعلنا هذا وزرعنا المخ في جسد فمن العسير أن نتخيل وجود ما يمنع هذا المخ من أن يكون له وعي حقيقي خاص به.

(١٧) لو أنك تعيش في عالم افتراضي، فهل ستدرك هذا؟

إذا قبلنا فكرة محاكاة الوعي، على الأقل من حيث المبدأ، فلا يفصلنا سوى خطوة بسيطة عن فكرة محاكاة الإنسان الواعي بأكمله، بل في الواقع مجتمع كامل من البشر الواعين، وجميعهم يوجدون في عالم من دوائر السليكون، أو على الأقل في آلة أو نظام مصطنع معقد. وهذا بالضبط ما يؤمن العديد من العلماء والمهندسين بأن البشرية نفسها ستكون قادرة على عمله بعد قرون، إن لم يكن عقودًا (وهو ما يجيزه قانون مور).29 السؤال البديهي إذن هو كيف يمكننا التأكد من أننا لسنا نتاجًا لمثل هذه المحاكاة. كيف نعرف هل نحن بشر حقيقيون، أم لسنا إلا سلاسل من الرقمين صفر وواحد داخل حاسب آلي فائق التطور صنعته حضارة فائقة؟

الإجابة المختصرة هي أننا لا نستطيع ذلك، على الأقل ليس عن طريق الفحص العادي. إن النظام الحاسوبي يسمو فوق العالم الافتراضي الذي يحاكيه. وإذا كنا، والعالم الذي ندركه، منتجًا لآلة معقدة تعالج كمية هائلة من المعلومات، فلن نكون قادرين إذن على إدراك وجود هذا النظام الفائق المسئول عن المحاكاة أكثر مما يستطيع برنامج الحاسب الآلي أن يدرك أنه يدار من قبل حاسب آلي ملموس. إن البرامج الحاسوبية والمكونات المادية للحاسب الآلي تنتمي لعالمين مختلفين تمامًا، أو على الأقل لمستويين مختلفين من المفاهيم. ولهذا لا «نشعر» بأمخاخنا — فلا نعي بها — رغم أننا «نعيش داخلها». وبنفس الكيفية قد يعيش وعينا داخل مخ مُحاكَى يعيش داخل حاسب آلي فائق.

حتى لو كنا نعجز عن التأكد مما إذا كان العالم من حولنا حقيقيًّا أم وهميًّا، يمكننا على الأقل التفكير في الاحتمالات ذات الصلة. كم يبلغ احتمال أن يكون كوننا وهميًّا؟ أهم نقطة هنا هو أن الأكوان الوهمية أرخص بكثير من تلك الحقيقية. فلعمل كون وهمي عليك فقط أن تعالج بعض المعلومات، ورغم أن هذا سيكلفك بعض الطاقة (إذ إن الحاسبات الآلية تسخن)، فإن هذه الطاقة أقل بكثير عن الطاقة المطلوبة لتكوين ١٠٥٠ طن من المادة. إضافة إلى ذلك، ليس من الضروري أن يُصنع الكون بالكامل كي تقتنع أنت وأنا بأن العالم المحيط بنا حقيقي. إننا لا نرصد الجزء الأعظم من الكون في حياتنا العادية، لذا من الممكن الاستغناء عنه؛ فقط يكفيك كوكب الأرض والبيئة المحيطة بها. أيضًا ليس من الضروري أن يبلغ الكون الوهمي من العمر مليارات السنين؛ إذ يمكن أن تبدأ المحاكاة في أي وقت في ظل وجود السجلات والذكريات التي تشير للتاريخ المطلوب. ليس من الضروري أن تكون المحاكاة دقيقة في كل التفاصيل؛ فما دمنا لن نلحظ أي تذبذب في المشاهد فلن نعي أننا نعيش في شيء أشبه بفيلم «ماتريكس». في ظل هذه الحقائق من الجلي أن حضارة واحدة فائقة تسكن كونًا حقيقيًّا يمكنها، بتكلفة قليلة نسبيًّا، أن تحاكي عددًا لا حصر له من الأكوان الوهمية. بعبارة أخرى، من المرجح أن تكون نسبة الأكوان الوهمية إلى تلك الحقيقية مهولة.30 وفي هذه الحالة، إذا لم يستطع الكائن العاقل التفريق بين الحقيقة والواقع فمن المرجح أن السواد الأعظم من نوعية الكائنات هذه يعيش بالفعل في أكوان محاكاة. وهذا يعني بصورة شبه مؤكدة أنني أنا وأنت نعيش في عالم وهمي شبيه بذلك الذي ظهر في فيلم «ماتريكس». وهذه، بشكل عام، النتيجة التي يخلص إليها بوستروم.31

(١٨) لا بد أن يحتوي الكون المتعدد على أكوان وهمية إلى جانب الأكوان الحقيقية

ربما كانت تلك الأفكار الغريبة لتظل حبيسة فصول الفلسفة الغامضة لو لم تتبوأ نظرية الكون المتعدد مكانها البارز هذا. إن هذه النظرية، بطبيعتها، تتحدى فهمنا لما هو حقيقي وما هو خيالي. وإذا كنا مستعدين لتقبل فكرة وجود عدد لا حصر له من الأكوان التي لا يمكن رصدها من كوننا هذا، فلماذا نستبعد فكرة وجود عدد لا حصر له من الأكوان الافتراضية أو الوهمية أيضًا؟ لا يوجد ما يدعونا لذلك. في الواقع هناك أسباب قوية تدعونا لتدبر هذه الفكرة بجدية. ففي حين كانت فكرة المحاكاة مقتصرة على كون واحد فحسب، كان من الممكن دومًا الهرب من نتيجتها غير المريحة، التي تقول إن «كوننا هذا» قد يكون محاكاة افتراضية، بالزعم بأنه لا توجد حضارات من المرجح أن تكون قد وصلت إلى نقطة تطور تمكنها من امتلاك قدرة حاسوبية هائلة تمكنها من تحقيق هذه المحاكاة الكونية. على سبيل المثال، هناك أسباب عديدة قد تجعل البشرية لا تعيش أكثر من قرون قلائل من الآن، وقد لا تكون هذه الفترة طويلة بما يكفي لتطور الحاسبات الواعية.32 إذا كان مصير مشابه ينتظر أي مخلوقات عاقلة أخرى قد تكون موجودة في مكان آخر من كوننا، فهذا يعني أن المحاكاة، رغم كونها ممكنة من الناحية النظرية، قد لا تتحقق قط على أرض الواقع.

أما لو كان كوننا جزءًا من كون أكبر متعدد فستميل الكفة بشكل أكبر ناحية فكرة المحاكاة. الأمر كله متعلق بأساسيات علم الإحصاء. قد يصح أن البشر لن يعيشوا قط حتى يصيروا حضارة فائقة ذات قدرات حاسوبية مهولة، ونفس الأمر ينطبق على بقية الكواكب الموجودة في كوننا القابل للرصد. إلا أن تعدد الأكوان يغير هذه الفكرة؛ إذ سيتضمن أكوانًا تشبه كوننا لكن تختلف عنه قليلًا تستطيع فيها البشرية أن تحيا حتى نقطة تتمكن فيها من محاكاة حياة وهمية. وما لم يكن هناك قانون من نوع ما يمنع ظهور مثل هذه الحضارات، ليس فقط في هذا الكون بل في الأكوان جميعها (ومن الصعب التفكير في نوعية مثل هذا القانون)، فمن الحتمي أن تحتوي أكوان مثل كوننا على حضارات فائقة قادرة على المحاكاة الكونية. عندئذٍ ستنتج الأكوان أكوانًا أخرى وهمية بأعداد كبيرة، حتى إنه بمقارنة الأكوان الحقيقية مع الأكوان الوهمية، سنجد أن الأكوان الوهمية أكثر عددًا بكثير. وهكذا، من المرجح لدرجة بعيدة أن يكون كوننا وهميًّا. بالطبع قد ترى حضارات عديدة في عملية صنع أكوان وهمية هدرًا للوقت والموارد، إلا أن الأمر يحتاج فقط «بضع» حضارات تقوم به، سواء بدافع البحث العلمي أو التسلية أو الإيثار، وسرعان ما تتزايد أعداد الأكوان الوهمية.

رغم أننا قد لا نستطيع أن نعرف من المظاهر السطحية ما إذا كان كوننا المرصود حقيقيًّا أم وهميًّا، فإن التدقيق الحريص يمكنه أن يكشف لنا عن طبيعته الزائفة. تفكر عالم الكونيات جون بارو في هذا الموضوع، وقد كتب: «حتى لو كان القائمون على المحاكاة شديدي التدقيق حيال محاكاة قوانين الطبيعة، فستكون هناك حدود لما يستطيعون عمله.»
على فرض أن القائمين على المحاكاة، أو على الأقل الجيل الأول منهم، يملكون معرفة متقدمة للغاية بقوانين الطبيعة، فمن المرجح أن تكون معرفتهم هذه غير كاملة … هذه الثغرات لا تمنع إتمام عملية المحاكاة واستمرارها بسلاسة لفترة من الوقت. لكن تدريجيًّا ستبدأ الأخطاء الصغيرة في التراكم. وفي النهاية سيتعاظم تأثيرها وستتوقف هذه العوالم عن العمل. الحل الوحيد سيكون تدخل القائمين على المحاكاة لترقيع المشكلات كلما ظهرت واحدة منها.33
ما الذي سيفضح محاولات القائمين على المحاكاة في إصلاح كونهم غير المتقن هذا؟ يشير بارو لإمكانية وجود «مواطن خلل» في قوانين الفيزياء:
في مثل هذا الموقف من الحتمي ظهور تناقضات منطقية، وسيحدث بعض الخلل في قوانين الأكوان المحاكاة من حين لآخر. وسيشعر سكان الأكوان المحاكاة — خاصة العلماء منهم — بالحيرة من وقت لآخر بسبب النتائج التجريبية التي يحصلون عليها. على سبيل المثال قد يرصد علماء الفلك بعض الملاحظات التي تبين أن ما يطلق عليه ثوابت الطبيعة تتغير ببطء شديد.34

ذكرت من قبل كيف أن الأدلة المبنية على الملاحظة تشير لحدوث تعديل بسيط في شدة القوة الكهرومغناطيسية منذ حوالي ستة مليارات عام. هل قامت آلية ضبط الجودة في نظام المحاكاة الكوني بضبط كوننا «حرفيًّا»؟ يخلص بارو إلى أننا: «إذا كنا نعيش في عالم مُحاكى، ينبغي أن نتوقع حدوث بعض مواطن الخلل المفاجئة، وتغيرات بسيطة في ثوابت الطبيعة المفترضة مع مرور الوقت، مع إدراك أن مواضع الخلل في الطبيعة بنفس قدر أهمية قوانين الطبيعة من أجل فهمنا لحقيقة واقعنا.» المعنى المقصود هو أن الدليل الفلكي المأخوذ من خطوط الطيف الآتية من الكويزرات ربما يكون قد كشف لنا بالفعل عن السر الدفين.

إن النتيجة — إن استطعنا التعاطي معها بجدية — التي تقضي بأننا نعيش على الأرجح في عالم مُحاكَى لحاسب آلي لها بعض التبعات المثيرة للاهتمام، بل المثيرة للقلق أيضًا. فإذا كنا نعيش تحت رحمة نظام مجهول يستحيل إدراكه لمعالجة المعلومات، فما الذي يضمن لنا أن يستمر القائمون على عملية المحاكاة فيها؟ ربما يملون الأمر وينهونها؟35 أو ربما ينفد التمويل المخصص ﻟ «تجربتهم»؟ ولأن طبيعة العالم الافتراضي الذي نعيش فيه واقعة تحت رحمتهم تمامًا، فما الذي يمنعهم من تغيير البرنامج الحاسوبي وتحويل كوننا الأنيق إلى كون قبيح جهنمي؟

لا يزال الأسوأ لم يأت بعد. تعد المحاكاة من أسس النظرية الحاسوبية. إن فكرة وجود حاسب آلي شامل (عادة ما يطلق عليه آلة تورينج) تعني أنه قادر على محاكاة أي نظام حاسوبي كوني آخر: وهذا يُعرف باسم مبدأ الشمولية الحاسوبية. للتعبير عن الأمر بشكل عملي يمكن لحاسب آلي من طراز ماكنتوش أن يحاكي حاسبًا شخصيًّا، والعكس بالعكس. ولهذا السبب يستطيع العالم الافتراضي الغني بما يكفي بحيث يشتمل على آلية حاسوبية عامة الغرض (والكبير بما يكفي بحيث يملك الموارد) أن يحاكي بذاته عالمًا افتراضيًّا آخر. سيكون هذا أشبه بفكرة الحلم داخل الحلم التي ناقشتها من قبل، وهو ما يثير ذلك الاحتمال المرعب بأننا قد لا نكون إلا عالمًا افتراضيًّا يعيش داخل عالم افتراضي، أي إننا بعيدون بخطوتين عن الواقع! من الناحية المنطقية لا توجد نهاية لهذه السلسلة المتتالية من المحاكاة الواقعة داخل محاكاة، الواقعة داخل محاكاة … وقد يضيع الكون الحقيقي وسط تلك السلسلة اللانهائية من العوالم الوهمية. وقد لا يوجد على الإطلاق؛ إذ قد يتكون الواقع من سلسلة لانهائية من العوالم الافتراضية، ولا شيء سوى ذلك.

(١٩) التوحيد والكون الوهمي

لفكرة الأكوان الافتراضية نتيجة مثيرة للدهشة. إن وجود الكائنات الموجودة في تلك المحاكاة، وعالمها، يعتمدان بالكامل على نظام المحاكاة ذاته. فإذا أُغلق الحاسوب الفائق أو سُخر لمشروع آخر (أقل طموحًا؟)، فهذا يعني هلاكنا جميعًا. وعلى هذا يصير نظام المحاكاة بالنسبة لنا بمنزلة المصمم السامي والمبدع والمحافظ على الحياة والمدمر المحتمل. يستطيع هذا النظام، لو رغب، التواصل بشكل مباشر معنا باستخدام إشارات واضحة تظهر في عالمنا، مثل شيء في غير موضعه أو شيء يخرق القوانين الطبيعية، وهو ما سيبدو من منظورنا أمرًا إعجازيًّا. وبالعكس، بما أن نظام المحاكاة هو الذي يحاكي عقولنا، فمن المفترض أن يكون قادرًا على الدخول في أفكارنا، ومن ثم نستطيع التواصل بشكل عقلي معه ومع القائمين عليه (الذين قد يكونون عدة أشخاص أو شخصًا واحدًا). هذا يدعو البعض لاعتبار هذه العلاقة أشبه بالعلاقة بين الإنسان والإله. ومع أن فكرة الكون المتعدد عادة ما يُنظر لها كسبيل للتغاضي عن فكرة التصميم الإلهي، فمن قبيل المفارقة أن الفكرة ذاتها تقدم الدليل العلمي الأكبر على وجود الإله! يتناول جون بارو هذه الفكرة بقوله:
تظهر الآلهة بأعداد لا حصر لها في صورة القائمين على المحاكاة الذين يملكون القدرة على أن يحيوا ويميتوا الكيانات التي تجري محاكاتها والتي يظهرونها للوجود. يحدد القائمون على المحاكاة القوانين التي تحكم عوالمهم، ويمكنهم تغييرها. يمكنهم تصميم آليات الضبط الدقيق الإنسانية. ويمكنهم إنهاء عملية المحاكاة في أي وقت، كما يمكنهم التدخل في عملية المحاكاة أو إبعاد أنفسهم عنها، ويمكنهم مراقبة مخلوقاتهم وهي تتجادل بشأن هل هناك آلهة تحكم عوالمهم وتتدخل فيها أم لا، ويمكنهم صناعة المعجزات أو فرض مبادئهم الأخلاقية على الواقع المحاكى.36

إن فكرة الآلهة المتعددة التي أتحدث عنها هنا فكرة محيرة. لن يكون لكل الأكوان آلهة. وأحيانًا ستخلق الآلهة أكوانًا غير مسكونة، وأحيانًا ستكون الأكوان المسكونة حقيقية وليست افتراضية، وبالتالي فلن يكون لها آلهة (أو على الأقل، ليست آلهة سامية). وقد يخلق تلك الأكوان إله واحد، أو يتعاون في خلقها آلهة متعددون، أو قد يخلقها آلهة متنافسون (كما في الديانات الوثنية). وإذا صحت فرضية المحاكاة، فإن بعض الآلهة ستوجد فقط لأن آلهة أخرى قد خلقتها. وقد يكون هناك تسلسل هرمي للآلهة — سلسلة لا نهاية لها منها — يعتمد وجود كل إله فيها على الإله الذي يسبقه. إلا أن فكرة الآلهة التي أتحدث عنها هنا ليس المقصود منها أن تلعب الدور الذي يلعبه الله في الديانات التوحيدية، الذي يسمو كما في الديانة المسيحية فوق شتى جوانب الواقع ويساندها. وبالطبع لا تفسر فكرة الآلهة المتعددة المقترحة وجود الأكوان المتعددة ككل، بما فيها من أكوان حقيقية ووهمية. ومن هنا فإن المصدر النهائي للوجود لا يزال مراوغًا.

رغم ما تتسم به هذه المناقشات الفكرية من إمتاع، فإن هناك مشكلة تتعلق بسلامة الحجة التي تقوم عليها. فكما أوضحت لا يوجد سبب يدعو لتصميم كون افتراضي يتوافق بشكل تام في قوانينه مع القوانين الموجودة في الكون الحقيقي. في الواقع، هناك أسباب عديدة تدعو لعدم عمل ذلك؛ لأن جوانب عديدة من الحياة اليومية لا تعتمد بشكل مباشر على أمور مثل التفاعلات النووية أو الثقوب السوداء. وعلى أي حال، لا تزال الأحلام تحمل بعض المعنى، دون أن يحرص العقل على الالتزام بجميع قوانين الفيزياء فيها. لكن الحجة الداعمة لتعدد الأكوان مبنية على قوانين الفيزياء «المدركة»، تلك القوانين التي اكتشفناها عن طريق الاستكشاف العلمي لهذا العالم. وإذا كان الكون المدرك وهميًّا، فنفس الشيء ينطبق على قوانينه، ولن يكون لدينا مبرر لتعميم هذه الفيزياء الوهمية على الواقع ككل، خاصة وأننا لا يمكن أن نفترض أن المسئولين عن المحاكاة سيهتمون بأن يجعلوا الأكوان غير المرئية الآن ومستقبلًا التي لا حصر لها تتوافق مع كوننا فقط كي يجعلوا قوانين الفيزياء في كوننا متسقة. وبما أننا لن نملك أدنى فكرة عن الكيفية التي ستكون عليها قوانين الفيزياء في الكون «الحقيقي»، ولا أدنى سبب يدعونا للظن بأنها ستشبه «قوانيننا»، فلا يمكننا الافتراض إذن بأن القوانين الحقيقية ستسمح بتعدد الأكوان.

وهكذا يكون أمامنا ثلاثة بدائل؛ الأول: هو التسليم بوجود أكوان متعددة غنية ومعقدة بما يكفي لإنتاج أكوان مثل كوننا تسكنها مخلوقات عاقلة، وفي هذه الحالة لا بد أن الكون الحقيقي أنتج عددًا أكبر من الأكوان الوهمية، وأننا على الأرجح نعيش في واحد منها. الاختيار الثاني: هو التسليم بأننا نعيش في كون مُحاكى، ونتقبل فكرة أن الفيزياء الوهمية التي نكتشفها لا يمكن أن تنطبق على المشكلات ذات الحقيقة المطلقة، وبالتأكيد لا يمكن استخدامها كحجة على وجود أكوان متعددة، حقيقية كانت أو وهمية. البديل الثالث: هو أن هناك كونًا حقيقيًّا واحدًا وحسب، أو نسخة مقيدة من الأكوان المتعددة، وأن عاملًا ما غير معروف يمنع عملية محاكاة الوعي.

أي بديل هو الصحيح؟ كانت بداية تورطي في هذا الموضوع عجيبة بعض الشيء. منذ سنوات قلائل دعيت لمناظرة تدور حول موضوع وجود الله مع عالم الكيمياء من جامعة أكسفورد، والملحد الصاخب، بيتر أتكنز. هذه المناظرات شيء شائع، ومن المعتاد أن تتكرر فيها نفس الحجج. أثناء ركوب السيارة الأجرة متجهًا إلى قاعة المحاضرات، كنت متلهفًا للخروج بفكرة جديدة ومسلية للجمهور. خمنت أن أتكنز سيلجأ لفكرة الكون المتعدد كتفسير للكيفية التي يبدو بها كوننا كأنه مصمم لاستضافة الحياة، وأردت أن أجد حجة مناهضة خلال الدقائق العشر التي ستستغرقها السيارة في الوصول. عندئذٍ خطر لي بشكل مفاجئ أن الالتجاء غير الحريص لفكرة الكون المتعدد يفتح بابًا للجدل، وذلك بالسماح للأكوان الوهمية بالطغيان على تلك الحقيقية. وبما أن الأكوان الوهمية تحوي فيزياء وهمية، فإن الحجة التي تقود من قوانين الفيزياء إلى فكرة تعدد الأكوان إلى الانتخاب الإنساني إلى فكرة عدم وجود الله سيتم تحييدها في حلقة مفرغة من التناقض الذاتي. وهكذا سيُقضى على حجة تعدد الأكوان بأيدي معتنقيها أنفسهم! تعامل أتكنز مع التحدي الجديد برباطة جأش، إلا أنني لم أقف عند هذا الحد؛ إذ كررت الحجة التي ذكرتها في صحيفة نيويورك تايمز،37 مشيرًا إلى أن خطر الأكوان الوهمية يفسد نظرية تعدد الأكوان كلها. إلا أن رد فعل مناصري نظرية الكون المتعدد كان مفاجئًا؛ فبدلًا من التخوف من تهديد الأكوان الوهمية، اعتنقوا هذه الاحتمالية برشاقة كجزء من مفهوم موسع للكون المتعدد. عبر مارتن ريز عن توجهه الجديد بهذا الشكل المقتضب:
كل هذه الأفكار عن تعدد الأكوان تقود إلى تكامل مبهر بين علم الكونيات وعلم الفيزياء … إلا أنها تقود أيضًا إلى النتيجة الاستثنائية التي تقضي بأننا قد لا نعيش في حقيقة، بل مجرد محاكاة. إن إمكانية أننا نتاج خلق قوة عليا تجعل الحد الفاصل غير واضح بين الفيزياء والفلسفة المثالية، وبين الطبيعي والخارق للطبيعة، وبين علاقة العقل بالأكوان المتعددة وإمكانية أننا نعيش وحسب في مصفوفة وليس في عالم مادي حقيقي.38

إنني محتفظ بتشككي وحذري حيال فكرة تضاعف أعداد الأكوان دون ضابط. وفور تقبل فكرة الأكوان الوهمية تتوافر لدينا أدلة عديدة تشير إلى أن كوننا كون وهمي، وهي مبنية على أن الكون المتعدد من المرجح أن يحتوي على أكوان وهمية أكثر بكثير من تلك الحقيقية. لكن رغم أن كوننا قد يكون وهميًّا بالفعل، فإنني أرى أن الارتياح لهذا الحكم النهائي سيعني نهاية مسيرة العلم. ومن هذا الجانب يشبه هذا الحكم الزعم بأن العالم خُلق منذ خمس دقائق، وأن كل الذكريات والسجلات طُبعت فيه، أي إن الحاضر حقيقي، والماضي ليس إلا وهمًا. ليس بمقدورنا إثبات خطأ هذا الزعم، إلا أن التسليم به لن يصل بنا لشيء. إن الإيمان بأن كوننا مجرد محاكاة افتراضية يشبه فكرة الأنوية؛ أي اقتناع الفرد بأنه هو وحده الذي له وجود حقيقي. من المستحيل أيضًا إثبات خطأ هذه النظرية؛ لأنه من أجل الحصول على دليل مباشر على وجود عقل آخر، سيكون عليك أن تكون هذا العقل، وعندها سيكون ذلك الشخص هو أنت. من الصعب للغاية الجدال مع أي معتنق لهذه الفكرة؛ لأنه ببساطة يفترض أنك جزء من مؤامرة عظمى لمحاكاة وجود العقول الأخرى، والواقع هو أنه لا يوجد سوى عقله فقط. قد يكون معتنق هذه الفكرة راضيًّا بقناعته تلك، لكن لا يوجد أي معنى لمحاولة إقناع الغير به. وبالمثل، الإيمان بأن هذا الكون مؤامرة، وأنه زُيِّف كي يبدو كالكون الحقيقي لن يكون له أي فائدة. فلا يوجد أي معنى في مناقشة هذه الفكرة على أي أساس علمي أو منطقي؛ لأنه لا يوجد سبب يدعو العالم المُحاكى للعمل وفق المبادئ العلمية أو المنطقية، تمامًا مثلما لا يوجد سبب يدعو الشخصية الكارتونية لإطاعة قوانين الفيزياء أو قواعد المنطق. وفي الحقيقة، فور القبول بفكرة أنك أنت ذاتك لست إلا محاكاة حاسوبية، لا يوجد سبب يدعوك للافتراض بأن نفس عملية المحاكاة هذه أوجدت عقولًا أخرى غير عقلك؛ إذ لم يكن شكل العالم ليختلف لو كنت أنت الكائن العاقل الوحيد وبقية الكائنات في عالمك الوهمي ليست إلا جزءًا من عملية المحاكاة. من هذا المنطلق يعد الإيمان بأن الكون ليس إلا محاكاة مساويًا لفكرة الأنوية.

إذا رفضنا فكرة أن الكون مجرد محاكاة، فهل لا يزال «خطر» الأكوان الوهمية يعد حجة مقوضة لفكرة الكون المتعدد (وهو مقصدي من البداية)؟ لست متأكدًا من هذا. إن حجة المحاكاة تظهر من خلال افتراض إمكانية محاكاة الوعي من خلال نظام لمعالجة المعلومات، إلا أن هذه مسألة إيمان بالأساس. وليس من المحال، رغم أنه ليس رائجًا، الاقتراح بأن الوعي سمة جوهرية في البشر لا يمكن توليدها بأي حاسب آلي أو ما شابهه. وحتى لو أمكن محاكاة الوعي بشكل رقمي فقد تستهلك محاكاة كون بأكمله بما فيه من مراقبين موارد هائلة، ما ينفي فكرة أن الأكوان الوهمية أكثر عددًا بكثير من الأكوان الحقيقية. وإذا كانت الأكوان الوهمية لا تمثل سوى نسبة بسيطة من إجمالي عدد الأكوان الموجودة، فهناك يصير الزعم بأن كوننا هو أحد هذه الأكوان الوهمية أقل إقناعًا. ولهذا يظل التساؤل عن إمكانية وجود الأكوان الوهمية مطروحًا للنقاش، وفي حالة وجودها، يظل التساؤل: هل هي المهيمنة على الكون المتعدد.

إلى الآن ركزت على تفسيرين محتملين لسبب ملاءمة الكون بشكل غير متوقع للحياة. أولهما: هو أن أي ملمح من ملامح الضبط الدقيق ليس إلا مصادفة مواتية، ولا يوجد ما يمكن أن يقال أكثر من ذلك. الثاني: هو وجود أكوان متعددة، وأن طبيعة كوننا الملائمة للحياة هي نتاج عملية انتخابية لا أكثر. لكل تفسير من هذين التفسيرين نقاط قوة ومواطن ضعف، وسوف أعود إليهما في تقييمي الختامي في الفصل العاشر. لكن أولًا أحتاج لعرض تفسير ثالث لملاءمة الكون للحياة، ذلك التفسير الذي يفضله الكثيرون من غير العلماء، والذي يقضي بأن الكون يلائم الحياة بهذا الشكل المدهش لأنه مصمم عمدًا على هذا النحو.

النقاط الأساسية

  • قد يكون كوننا ليس إلا جزءًا بسيطًا من نظام شاسع (لانهائي على الأرجح) متفاوت يسمى الكون المتعدد. قد يستحيل علينا رصد الأكوان — أو المناطق الكونية — الأخرى ولكن يُستدل على وجودها من خلال النظرية وبعض الأدلة غير المباشرة.

  • يمكن أن تتباين قوانين الفيزياء والحالة الأولية من «كون» إلى آخر. وما نعتبره قوانين جوهرية للفيزياء قد لا يكون إلا قوانين محلية ثانوية، ذات خصائص محورية تتضمن تلك ذات الصلة بالحياة، التي «تجمدت» في أعقاب الانفجار العظيم في أول لحظة من عمر الكون.

  • الفيزياء التي نعرفها تعد فيزياء «للطاقات المنخفضة» بشكل نسبي، بالمقارنة بحرارة الانفجار العظيم. وكقاعدة عامة يؤدي تبريد أي نظام فيزيائي إلى كسر التناظرات وظهور التعقيد.

  • بدأ الكون بسيطًا، بقوانين جوهرية أبسط. إن كتل الجسيمات المرصودة، على سبيل المثال، لم تُكتسب على الأرجح إلا في مرحلة أكثر برودة. وبعض ملامح القوانين الأكثر تعقيدًا التي نراها الآن — والتي نتجت عن كسر التناظر — قد تكون عشوائية. ولهذا قد تختلف في المناطق الأخرى.

  • لم تظهر الحياة والمراقبون إلا في المناطق التي أنتجت فيها الصدفة القوانين والحالة الأولية الملائمة للحياة. يرى بعض العلماء أن هذا من شأنه أن يفسر تلك الملاءمة العجيبة للحياة من جانب الكون.

  • منتقدو نظرية الكون المتعدد يهاجمون النظرية بشدة. من ضمنهم العلماء الذين يجاهدون للوصول ﻟ «نظرية نهائية لكل شيء»، التي ستفسر الكون بشكل تام دون اللجوء لفكرة تعدد الأكوان أو انتخاب المراقبين. وهم يأملون في أن تتوصل نظريتهم إلى أنه لا يوجد سوى «عالم واحد، وهو هذا العالم».

  • بعض الفلاسفة يطرحون إمكانية فكرة محاكاة الأكوان (على سبيل المثال، واقع افتراضي يدار من قبل حاسبات عملاقة). في تلك الحالة سيحتوي الكون المتعدد على أكوان حقيقية وأخرى وهمية. تشير حسابات بعض العلماء إلى أن الأكوان الوهمية قد يفوق الحقيقية في العدد بمراحل، ولهذا من المحتمل أن يكون الكون الذي نعيش فيه وهميًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤