الفصل الثالث

الذهب: العنصر المجيد والملعون

تحكي لنا الأساطير اليونانية القديمة قصة ميداس؛ ذلك الملك الذي انغمس في ملذَّات هذا العالم، وحكم فريجيا في آسيا الصغرى؛ حيث زرع حدائقَ ورودٍ رائعة.

وفي هذه الأجواء المعطَّرة، وجد مزارعو ميداس في يومٍ ما ساتير (شخصية خيالية في الأساطير اليونانية) عجوزًا ماجنًا يُدعى سيلينوس، نائمًا بعد معاقرته الخمر وعربدته. كان سيلينوس الأب بالتبنِّي للإله ديونيسوس الخليع، الذي كان جيشه يمرُّ من مكان قريب. كان الساتير قد انفصل عن حشد ديونيسوس ووجد بقعة هادئة للراحة في الحدائق.

أُحضِر سيلينوس بين يدَيْ ميداس، وعندها استحوذ على اهتمام الملك لمدة خمسة أيام بقصصه الخيالية. وعندما أعاد ميداس بسماحةِ نفسٍ ضيفَه المسلِّي إلى ديونيسوس، كافأ إله المرح الملك من خلال تحقيق أمنية له. طلب ميداس أن يتحوَّل كل ما يلمسه إلى ذهب. وعندما اكتشف الملك أن السحر لا يؤثِّر على الحجارة والحلي فحسب بل على الطعام والشراب أيضًا، وحتى (في الروايات الحديثة للأسطورة) على ابنته، سرعان ما توسَّل لديونيسوس من أجل إبطال التعويذة قبل أن يموت جوعًا وعطشًا.

ويبدو أن هذا ما توقَّعه ديونيسوس، فطلب ضاحكًا من الملك أن يستحمَّ في نهر باكتولوس الذي يتدفَّق من جبل تُمولوس في الأناضول. وبعدما فعل ذلك، وجد ميداس أن لمسته التي تحوِّل الأشياء إلى ذهب قد اختفت، ولكن رمال نهر باكتولوس أصبحت غنية بالذهب، وظل المعدن الثمين يُستخلص من هناك لفترة طويلة بعد ذلك.

تمثِّل أسطورة الملك ميداس واحدة من أجمل العبر في الأساطير الكلاسيكية ضد الإغراء الخطير للذهب. ويقول البعض إن ميداس كان هو الملك ميتا؛ ملك شعب موسكيا، الذي عاش في مقدونيا في حوالي منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. ويقال إن ميداس/ميتا كان يملك مناجم ذهب بالقرب من جبل بيرميوس، وكانت سببًا في الثروة الرائعة لأسرة ميتا. بعبارة أخرى: كان لثرائه الأسطوري على الأرجح مصدرٌ أكثر بساطةً بكثير.

هرب ميداس بسهولة من لعنة شهوة الذهب، أما العديد من الأشخاص الآخرين في العصر الكلاسيكي الذين لهثوا كثيرًا وراء الذهب لاقوا نهاية بشعة. ويُعد بوليمستور — ملك تراقيا في زمن حروب طروادة — واحدًا من أكثر الشخصيات مأساويةً ودناءةً؛ فقد عُهد إليه من قِبل بريام ملك طروادة بتربية بوليدوروس ابن بريام، وحماية الصبي مِن خطط أجاممنون الرامية إلى قتله. ولكن سُحِر بوليمستور بالذهب الذي قدَّمه بريام لتغطية تكاليف تربية وتعليم ابنه، فقَتل بوليدوروس ليستولي على الثروة لنفسه.

تكتشف هيكابي — زوجة بريام — هذا الفعل من خلال العثور على جثة بوليدوروس التي جرفتها الأمواج نحو شاطئ البحر. وتَنصِب شَرَكًا لبوليمستور — زوج ابنتها — بإعطائه وعدًا كاذبًا بأنها سترشده إلى مكانٍ يعثر فيه على كنز كبير تحت أنقاض طروادة. وعندما وصل الملك بصحبة ابنَيْه، طعنت هيكابي الطفلين؛ ما أودى بحياتهما، واقتلعت عينَي بوليمستور.١ في نسخته من الأسطورة، يعرض الكاتب الروماني فيرجيل صدمته من فعل بوليمستور وهو يحدِّد السبب الحقيقي لهذه الدناءة:

إنه يخالف كل القوانين؛ يقتل بوليدوروس، ويحصل على الذهب بالعنف. إلى متى سيستحوذ الذهب الملعون على قلوب البشر؟

إلى متى بالفعل؟ عندما يُتهم المال بأنه أساس كل الشرور، الأحرى بنا أن نفهم أن المال المقصود هنا ليس الأوراق النقدية، ولكن يُقصد به الذهب اللامع الغادر. خلال عصر النهضة، أضفى الناس طابعًا مثاليًّا على العصور الكلاسيكية بأن أسْمَوها العصر الذهبي، ولكن الكاتب الروماني بروبرتيوس لم يكن لديه أدنى شك حيال المقصد الحقيقي من ذلك؛ فبالذهب تُفتح جميع الأبواب، ويمكن كبت الحقيقة والصدق والحرية إذا كان المقدار المدفوع كبيرًا بما فيه الكفاية:

هذا في الواقع هو العصر الذهبي. أعظم المكافآت تأتي من خلال الذهب؛ فالفوز بالحب يكون بالذهب، وتدمير الإيمان يتم بالذهب، والعدل يباع مقابل الذهب، ويَتَّبِع القانون مسار الذهب، بينما ستتبعه الأخلاق قريبًا عندما يختفي القانون.

كانت فكرةٌ رائجة في العصور القديمة؛ أن يُثنَى على الرجال إذا كانوا يزدرون الثروة، ويُقدَحون إذا كانوا يطمعون فيها. وكان سقراط يتمتع بسمعة السمو فوق الصراع على الثروة الدنيوية؛ فيزعم أنه رفض الذهب الذي قدَّمه له تلميذه الغني أريستبوس. واقتداءً به، أصدر أريستبوس تعليماته ذات مرة إلى عبيده بالتخلص من الذهب الذي لا يستطيعون حمله بسهولة خلال رحلة طويلة. ويقال إن سكان بيبيتاس — وهي بلدة على نهر دجلة — دَفنوا ذهبهم في الأرض بحيث لا يستطيع أحدٌ الاستفادة منه. بل إن الكتَّاب الكلاسيكيين تحدَّثوا باستحسان عن عدم اتصاف الأجناس البربرية مثل السكيثيين بالطمع. وأوضح الجنرال الروماني ماركوس كراسوس كيف يجعل الذهب المرء متهوِّرًا عندما هاجم البارثيين للفوز بالمعدن الأصفر الذي يملكونه. سُحق هو وفيالقه الأحد عشر، وعندما علم البارثيون دافِعَ كراسوس، ضحكوا وهم يسكبون الذهب المنصهر في فم الجنرال الميت وقالوا: «كنتَ متعطشًا للذهب؛ إذن، اشرب الذهب.»

لكن ذلك كان منذ فترة طويلة. وطالما كان التَّوقُ للذهب في العصور الأكثر حداثةً بالقوة نفسها كما كان دائمًا، وقلَّما انتقصت مصائر الأقدمين من بريقه؛ ففي القرن السادس عشر اعترف الكاتب الألماني جورجيوس أجريكولا قائلًا:

تكاد تكون تجربتنا اليومية هي معرفة أنه من أجل الحصول على الذهب والفضة، تُفتح الأبواب وتخترق الجدران، ويُقتل مسافرون مساكين على أيدي أناسٍ جشعين قساة لا يعرفون سوى السرقة والسلب والنهب وانتهاك الحرمات. نرى اللصوص يُقبَض عليهم ويُشنقون أمامنا، والمنتهِكين للحُرمات يُحرقون أحياءً، وتُكسر أطراف اللصوص على عجلة التعذيب، وتُشنُّ الحروب للسبب نفسه … والمعادنُ الثمينة تعزِّز كل أنواع الرذيلة؛ مثل إغواء النساء والزنا وفقدان العفَّة. باختصار، هي تزيد من جرائم العنف ضد الآخرين.

من أجل الذهب قضى الإسبان على حضارة الإنكا القديمة في بيرو؛ فقد تنصَّل بيزارو من أي بعثة لتحويل الوثنيين إلى المسيحية، وقال ببرود وببساطة: «لقد جئتُ لحرمانهم من ذهبهم.» ومن أجل حب الذهب، لقي مستوطنو العالم الجديد في القرن التاسع عشر مصرعهم في الغرب الأميركي. وفي شخصية أوريك جولدفينجر، يواجه جيمس بوند خليطًا من ميداس وبوليمستور على قيد الحياة وبصحة جيدة ومتعطِّشًا لخزائن فورت نوكس.

المفارقة الكبرى هي أن الذهب هو أكثر المعادن عديمة الجدوى، وهو يكتسب قيمته من قدرته على الظهور بمظهر جميل وعدم القيام بأي شيء؛ مثل عارضة الأزياء. فعلى عكس معادن مثل الحديد والنحاس والمغنيسيوم والمنجنيز والنيكل، ليس للذهب دور بيولوجي طبيعي؛ فهو ليِّن بدرجة لا تَسمح بصنع الأدوات منه، وثقيل على نحو غير مناسب. ومع ذلك بحث الناس عنه بلا كلل؛ فقد نقبوا في الأرض وفجَّروها وبحثوا في جبال من الحصى لاستخراج ما يقدَّر بمائة ألف طن في الخمسمائة سنة الماضية وحدها. يقول جيكوب برونوفسكي: «الذهب هو الجائزة العالمية في جميع البلدان، وفي جميع الثقافات، وفي كل العصور.»

إن عدم جدوى الذهب نفسها وطبيعته الخاملة والانفصالية هما ما يجعلانه ثمينًا للغاية؛ فهو عنصر خامل بأعلى درجة، ولا يتحد مع الغازات الموجودة في الهواء؛ وهذا يعني أن سطح الذهب لا يفقد بريقه، وهذا هو السبب وراء مكانته المرموقة في صنع المجوهرات الجميلة. ويشير الكيميائيون إلى هذا الافتقار للتفاعل الكيميائي من خلال وصف الذهب بأنه معدن «نبيل»؛ وهو المصطلح التقني الذي يصوِّر على نحو عفوي كل تاريخ الذهب المجيد، مشيرًا إلى التميز والروعة وكذلك ارتباطه بالملكية والحظوة. وفي أواخر العصور الوسطى، كانت هناك عملة ذهبية إنجليزية تسمَّى «نوبل»؛ بمعنى نبيل.

كان حب الذهب القديم أكثر من مجرد حب سطحي؛ فمقاومة المعدن للبلى جراء الزمن ضمنت أنه سيواصل احتفاظه بمظهره الجميل بينما تفقد المعادن الأخرى لمعانها، ولكن الجاذبية لم تكن مادية فحسب؛ فقد اعتبر الخيميائيون أن هذه القدرة على مقاومة البلى تعكس نقاءً روحيًّا، وهذا هو السبب الذي جعل صنع الذهب بالنسبة إلى الكثيرين مسعًى دينيًّا أكثر من كونه سعيًا وراء الثراء. لأن الذهب لا يبلى، اعتقد الخيميائيون الصينيون أنه يستطيع إطالة العمر، فكان بحثهم عن الإكسير الحيوي الذي يمنح الشباب أشبه بمهمة لاقتناص روح الذهب نفسه. وكان لونه الأصفر يمثِّل كل ما هو عميق؛ مثل كرامة البشرية، ومركز اتجاهات البوصلة الأربعة. وكان الأصفر هو اللون المخصَّص للإمبراطور الصيني، مثل الأرجواني في روما.

إن المعادن هي العناصر الكيميائية الأكثر شهرةً والأكثر سهولةً في التعرُّف عليها بالنسبة إلى غير العلماء؛ إذ إن الجميع يستشعرون تفرُّد الحديد البارد، والنحاس اللين الضارب للحمرة، وانعكاس الصور على الزئبق السائل. وبين هذه المواد الثقيلة، لا يوجد عنصر يتمتع بمكانة وأهمية أكثر من الذهب. فهو رمز دائم للسمو والنقاء. يفوز أفضل الرياضيين بميداليات ذهبية (في ثلاثية معادن تحاكي أقدم العملات)، وتفوز أفضل فرق موسيقى الروك بأسطوانات ذهبية. وفي مراسم الزفاف، يضع كلٌّ من العروسين خاتمًا ذهبيًّا في إصبعه، وبعد خمسين عامًا من الزواج، توصف الذكرى باليوبيل الذهبي. ويستخدم الذهب بما يتضمَّنه من إيحاءات وارتباطات في الترويج لكل شيء بدءًا من بطاقات الائتمان، ووصولًا إلى القهوة. البلاتين أندر وأغلى ثمنًا، وحدثت بعض المحاولات لمنحه مكانةً أعظم من الذهب، ولكن لن تنجح هذه المحاولات، لأنه لا توجد أساطير أو حكايات قديمة تدعمه. ولا يمكن أن يوجد عنصر آخر غير الذهب تكون خصائصه الكيميائية مسئولة بشدة عن ترسيخه بقوة في تقاليدنا الثقافية.

الذهب المذهل

الذهب معدن نادر نسبيًّا؛ فالحديد الموجود في القشرة الأرضية يبلغ نحو أربعة ملايين ضعف الذهب؛ ومع ذلك، شكَّل الصائغون والحرفيون الذهبَ منذ سبعة آلاف سنة أو أكثر، في حين لم يبدأ العصر الحديدي إلا نحو عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، ولم يصبح استخدام الحديد شائعًا حتى عصر الرومان. والسبب بسيط؛ وهو أن الذهب عنصر خامل، لا يتحد بسهولة مع العناصر الأخرى في الأرض، ولكن يميل إلى أن يوجد في شكله العنصري «الأصلي». فيمكنك استخراج الذهب من الأرض إذا كنت تعرف أين تبحث. وعلى النقيض، يتحد الحديد مع عناصر مثل الأكسجين والكبريت لتكوين مركَّبات حديد. ويمكن استخلاص المعدن فقط عن طريق التفاعلات الكيميائية التي تطرد العناصر الأخرى.٢

في أغلب الأحيان يكون الذهب الطبيعي غير نقي؛ حيث يكون مخلوطًا بالفضَّة. وتسمَّى السبائك الطبيعية التي تحتوي على أكثر من ٢٠ بالمائة فضة باسم «إلكتروم»، وكان القدماء يعتبرونها معدنًا مختلفًا عن الذهب (على الرغم من أنه — كما رأينا سابقًا — كان اختلاف المعادن على أي حال يعد اختلافًا في الدرجة وليس في النوع). و«الذهب الأخضر» المستخدَم في بعض المجوهرات اليوم هو إلكتروم يحتوي على فضة بنسبة مقدارها ٢٧ بالمائة. ويكون لونه أصفرَ ليمونيًّا.

تحتوي قشرة الأرض في المتوسط على جزأين ونصف الجزء من الذهب لكل مليار جزء؛ أي ٢٫٥ جرام من المعدن النفيس لكل ألف طن من الصخور. وتظهر رواسب الذهب في الأماكن التي أصبح المعدن فيها بطريقة أو بأخرى مركَّزًا، فيشكِّل بلَّورات صغيرة أو رقائق في المعادن المضيفة. وهذا يحدث إذا تغلغلت المياه الدافئة الغنيَّة بالأملاح الذائبة التي تحتوي على الكلور أو الكبريت في الصخور. يمكن أن يشكِّل الذهب مركَّبات قابلة للذوبان مع هذه المواد.٣ وهكذا سترشِّحه السوائل من الصخور. ثم عندما يبرد الماء المالح (أو في بعض الحالات إذا تم تسخينه أكثر عن طريق النشاط البركاني)، يترسَّب الذهب ويشكِّل حبوبًا من المعدن النقي. وتستقر هذه الترسيبات عادةً في عروق الكوارتز والبيريت. والمعدن الأخير — كبريتيد الحديد — له بريق معدني لامع، وكان غالبًا ما يُظن خطأً أنه ذهب؛ وهو يشتهر بلقب «ذهب الحمقى».
يُعرف الذهب الموجود في الصخور باسم «عروق الذهب». والعِرق الرئيسي يسمَّى «العِرق الأم»، وهو مصطلح يُستخدم الآن في الصور المجازية، وكذلك هو اسم إحدى طبقات الرواسب الأكثر شهرةً في «حمى الذهب في كاليفورنيا». عندما تتشكَّل هذه العروق في درجات حرارة منخفضة وضغط جوي منخفض نسبيًّا بالقرب من سطح القشرة الأرضية، فإنها يمكن أن تصبح غنية للغاية بالذهب. ويمكن العثور على طبقات الرواسب هذه في ولاية كولورادو ونيفادا، وأصبحت معروفة في القرن التاسع عشر بالكلمة الإسبانية bonanza، وهي كلمة تعني الرخاء بالعربية، وأصبحت الآن عابقةً بأساطير الغرب الأمريكي.
fig3
شكل ٣-١: التنقيب عن الذهب في القرن السادس عشر، كما ظهر في كتاب أجريكولا بعنوان «حول طبيعة المعادن».
الأمطار والمياه الجارية تذيبان وتنثران معظم المعادن بمرور الوقت، وهي عملية تُعرف باسم التجوية. ولكن الذهب يقاوِم التآكل بفعل المياه، وهكذا تتحرَّر الحبوب الموجودة في العروق المترسِّبة عندما تتآكل الصخور المضيفة. وتتجمَّع حبوب الذهب الصغيرة في رواسب الجداول والأنهار التي تمرُّ على عروق الذهب، ويمكن أن تنجرف بعيدًا قبل التجمُّع في رواسب طميية. وعند سقوط حبوب الذهب على القاع الصخري للمجرى المائي، تصبح ناعمة وتتحوَّل إلى الشذرات الصغيرة المنتفخة المذكورة في حكايات التنقيب. ويُعرف الطمي الغني بالذهب باسم «الرواسب الغرينية»، وهي أغنى المصادر بالذهب الطبيعي. ومنذ زمن سحيق، اكتشف الناس أنهم يستطيعون استخراج الذهب من الرواسب الغرينية عن طريق نخل المواد الناعمة باستخدام شبكة؛ وهي تقنية الغسل (شكل ٣-١). وهكذا يمكن استخراج الذهب من العروق أو من الرواسب الغرينية. أما استخراج الذهب من الصخور فيتطلَّب الصبر والتنظيم واليد العاملة الرخيصة. وكان قدماء المصريين يمتلكون الثلاثة؛ فكان العبيد يحفرون المناجم في صحراء النوبة منذ نحو عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، واستُخدم الذهب في زينة الفراعنة وزخرفة مقابرهم. لا توجد عروق ذهب رئيسية أخرى في الشرق الأوسط، واسم «النوبة» مشتق من الكلمة المصرية التي تعني «أرض الذهب». وانطلاقًا من وصف المؤرخ الروماني ديودور الصقلي للمناجم المصرية في القرن الأول قبل الميلاد، قلَّما وُجدت وظائف أكثر بؤسًا من العمل في تلك المناجم:

يأمر المشرفون المعيَّنون على تلك المناجم الشاقة عددًا وفيرًا من العمال باستخراج الذهب منها. فيَحكم ملوكُ مصر بإرسال المجرمين سيئي السمعة، والأسرى المقبوض عليهم في الحرب، والأشخاص المتهمين زورًا في بعض الأحيان، أو الذين سخط الملك عليهم؛ بالعمل في تلك المناجم … ولا يكون هناك أدنى اهتمام بأبدان هذه الكائنات المسكينة؛ حيث إنهم لا يمتلكون حتى خرقةً لتغطية أجزاء أجسادهم العارية … ومع أنهم مرضى أو مشوَّهون أو عرجان، فلا راحة ولا فترةَ توقُّف يُسمح بها … حتى يُسحَقون أخيرًا بثقل بؤسهم الذي لا يطاق، فيسقطون صرعى في خضم أعمال لا تحتمل.

عروق الذهب تلك هي الأشياء التي كان يصوغها السكان الأسطوريون تحت الأرض، مثل القزم الذي صاغ كنز نيبلونج (في أوبرا ريتشارد فاجنر). مع ذلك، تذكَّرْ كيف عُثر على «راين جولد» في البداية في قاع النهر كراسب غريني.

تنقيب الرواسب الغرينية أسهل بكثير؛ إذ يستطيع منقِّبٌ بمفرده أن يقوم بالمهمة، وهذا بالطبع كان دافعًا وراء حُمَّى الذهب الأمريكية التي كانت فردية بطبيعتها. الرواسب الغرينية أكثر انتشارًا، وصُنعت أقدم تحف ذهبية مِن ذهبٍ مستخرَج من تلك الرواسب. يقول بلينيوس الأكبر في القرن الأول الميلادي: «يوجد الذهب في العالم … فهو يوجد على هيئة غبار في الجداول المائية … ولا يوجد أي ذهب أفضل من هذا الذهب؛ حيث إن التيار يصقله جيدًا من خلال الاحتكاك.»

أكبر رواسب الذهب التي اكتشفت حتى الآن هي تلك المناجم الموجودة في ويتووترزراند في جنوب أفريقيا؛ حيث تشكَّلت رواسب غرينية ضخمة (لا يعلم أحدٌ يقينًا كيف حدث ذلك) قبل نحو ٢٫٧ مليار سنة، عندما كانت الحياة كلها لا تزال في صورة أُحادية الخلية. ويأتي ما يقدَّر بنحو ٤٠ بالمائة من كل الذهب المستخرَج في العالم من ويتووترزراند، ولا تزال جنوب أفريقيا المورد الرئيسي للذهب في العالم. وهنا خاضت القوى الاستعمارية الحرب من أجل العناصر؛ ليس الذهب وحده، وإنما الكربون أيضًا في ماس كيمبرلي. وكلتا المادتين خاملتان نسبيًّا، وظلَّتا دون قيمة عملية حتى وقت قريب. مع ذلك، فكلتاهما جديرتان بالتضحية من أجلهما، وقد غيَّرتا تاريخ قارة.

يعيد أجريكولا رواية قصة المؤرخ الروماني سترابو عن كيفية استخراج الذهب في العصور القديمة من الرواسب الطميية في كولشيس، وهي الأرض الواقعة بين القوقاز وأرمينيا والبحر الأسود:

وَضَع سكان كولشيس جلود الحيوانات في بِرَك الينابيع، ولأن العديد من جسيمات الذهب تتعلَّق بها عند إزالتها، اخترع الشعراء عبارة «الصوف الذهبي» لدى سكان كولشيس.

كان هذا الصوف الذهبي هو الجلد السحري الذي سعى إليه جيسون وطاقم السفينة آرجو (شكل ٣-٢). كان مصدر هذا الصوف هو الكبش المجنَّح كريسمالوس (بمعنى «الكبش الذهبي»)، وعُلِّق في البستان المقدَّس في كولشيس وكان يحميه تنين. هذه قصة أسطورية كلاسيكية، لكنها أيضًا خليط من قصص مختلفة أكثر قِدمًا. كان الصوف المقدَّس أرجوانيًّا أو أسودَ في الأصل، واستُخدم في طقوس القرابين. وقد ضُمِّن في قصة بحَّاري السفينة آرجو؛ لأنهم أبحروا إلى البحر الأسود بحثًا عن الذهب الذي جمعه سكان كولشيس بالطريقة التي وصفها سترابو. ومن هذه الاعتبارات العملية تُصنع الأساطير.

استُخرج معظم الذهب الموجود في الخزائن والمتداوَل اليوم منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما زاد إنتاج الذهب كثيرًا؛ فقد اكتُشفت رواسب كبيرة في عدة مواقع في جميع أنحاء العالم؛ مما زاد من زخم حُمَّى الذهب لتجلب ثروات هائلة لقلَّة محظوظة. كانت أول ضربة حظ في روسيا؛ حيث اكتُشف الذهب في منطقة الأورال في عشرينيات القرن التاسع عشر، وبعد ذلك في سيبيريا. وبحلول عام ١٨٤٧م، كان ما يقرب من ثلثَي الذهب المنتَج سنويًّا في العالم يأتي من روسيا. ولكنْ تغيَّر ذلك عندما اكتُشفت حفنة من حُبيبات الذهب عام ١٨٤٨م في منشرة يوهان سوتر في ولاية كاليفورنيا. وشهد العام التالي توجُّه آلاف الباحثين عن الذهب غربًا لصنع ثروتهم. وفي عام ١٨٥١م عُثر على الذهب في نيو ساوث ويلز بأستراليا؛ مما أجبر الحكومة البريطانية على إلغاء عقوبة النفي إلى أستراليا بعدما أصبحت أرضًا للفُرص.

fig4
شكل ٣-٢: جيسون وبحَّارو آرجو يكتشفون الصوف الذهبي. ربما كان الجلد الأسطوري مستمَدًّا من طريقة سكان كولشيس باستخدام الأصواف لاستخلاص الذهب من مياه النهر.

أصبح تعدين الذهب في جنوب أفريقيا عملًا تجاريًّا كبيرًا عام ١٨٩٠م؛ وذلك بفضل عملية المعالجة بمحلول السيانيد التي تفصل المعدن من خامه. هذه الطريقة ابتكرها الكيميائي الاسكتلندي جون ستيوارت ماك آرثر (الذي ظلَّ يربح منها حتى أُلغيت براءةُ اختراعه عام ١٨٩٦م)، وكانت تتضمَّن معالجة الخام الطيني بمادة السيانيد لتشكيل مركَّب قابل للذوبان من الذهب، ويعقب ذلك ترسيبه باستخدام الزنك. ولا تزال هذه العملية مستخدمة في تعدين الذهب اليوم. وبينما كان إجمالي الذهب المستخرَج في العالم نحو ٨ أمتار مكعبة في أوائل القرن السادس عشر، فإنه وصل إلى ألف متر مكعب بحلول عام ١٩٠٨م.

حتى عند نسبة ٢٫٥ جزء لكل مليار جزء، لا يزال سطح الأرض يحمل كميات هائلة من الذهب. ولكن الكثير منها لن يُستخلَص أبدًا. فقط عندما يتركَّز المعدن بمئات أضعاف هذه النسبة، فإن استخراجه يصبح ذا عائد اقتصادي. الأرجح أنه لم يبقَ الكثير من هذا المعدن لاستخراجه؛ فربما تصل الاحتياطيات العالمية القابلة للتعدين المتبقية إلى ١٥ ألف طن فقط، ويبلغ معدل الاستخراج الحالي ٢٥٠٠ طن سنويًّا. وربما قريبًا سنكون قد استخرجنا كل ما يمكننا استخراجه من الذهب.

تمثِّل المحيطات احتياطيًّا آخَرَ هائلًا من المعدن النفيس؛ إذ إن ماء البحر يحتوي على نسبة ضئيلة من الذهب تبلغ عشرة أجزاء لكل تريليون جزء؛ وهي نسبة أقل مما تحتويه القشرة الأرضية بمئات المرات. ورغم ذلك، فإن هذا يعني أن عشرة ملايين طن منثورة في محيطات العالم، وهي جائزة تبلغ قيمتها أكثر من ١٥٠٠ تريليون دولار لمن يستطيع أن يستخرجها. ولكن سيكون من الأسهل خوض مخاطر رحلة جيسون الأسطورية؛ لأنه من الصعب أن نتصوَّر كيف يمكن جمع هذه التركيزات المنخفضة على نحو مربح. اعتقد الكيميائي الألماني فريتز هابر ذات مرة أنه يستطيع فعل ذلك، وأن الأرباح ستسدِّد التعويضات المفروضة على بلاده بعد الحرب العالمية الأولى. اتضح أن هابر مجرد شخص جديد يضاف إلى أولئك الذين أبهرهم سحرُ الذهب اللامع؛ إذ إنه بالَغ في تقدير تركيز الذهب في مياه البحر بآلاف الأضعاف.

توجد تقنية تعدين جديدة وبارعة — وإن كانت لا تزال نادرة — تستفيد من كائنات دقيقة في الطبيعة تقوم بعملية التعدين: البكتيريا آكلة الصخور. يعيش الكائن الدقيق «سولفولوبوس أسيدوكالديريوس» في البيئات الحارة، ويتغذَّى على مركَّبات الكبريت، فيمكنه هضم البيريت المعدني لاستخلاص الكبريت، وخلال تلك العملية يُركَّز الذهب الموجود في المعدن في صورة حُبيبات صغيرة. وتُستخدم عملية «التعدين الحيوي» تلك في الوقت الراهن في استخراج الذهب من رواسب يوانمي بغرب أستراليا.

عام ١٩٩٨م، عرض فريق من الباحثين في نيوزيلندا شكلًا آخرَ محتمَلًا للتعدين البيولوجي الذي يتركَّز من خلاله الذهب في الأنسجة النباتية. وعلى الرغم من أن النباتات المختلفة يمكنها جمع الذهب في أنسجتها، فإن معدل الامتصاص عادةً ما يكون ضئيلًا جدًّا (لا يزيد على نحو أربعة أضعاف متوسط التركيز في القشرة الأرضية) بحيث لا يمكن الاعتماد عليه كطريقة لاستخراج الذهب. ولكن وَجد روبرت بروكس وزملاؤه في جامعة ماسي في بالمرستون نورث أن الخردل الهندي — وهو نبات سريع النمو ويوصف بأنه من النباتات الشديدة التجميع للمعادن — يمكنه جمع ذهب أكثر بنحو مائة مرة من النباتات العادية؛ فقد زرع الباحثون النباتات في أوانٍ تحتوي على «نموذج» لخام اصطناعي من الذهب أضافوا إليه مادة كيميائية تجعل الذهب قابلًا للذوبان. جمعت النباتات حوالي سبعة عشر جزءًا في المليون من الذهب في أنسجتها، وهي الكمية التي تكفي بالكاد لجعل العملية مجدية اقتصاديًّا.

يقدِّم كتاب أجريكولا بعنوان «حول طبيعة المعادن» دفاعًا قويًّا عن التعدين، ويتحدَّث بلا اكتراث عن تدمير الطبيعة وقطع الأشجار وتلويث الأنهار، وكل ذلك في سبيل استخراج المعادن من الأرض. ألم يكن من الأفضل أن تتخلَّى صناعة التعدين عن هذا الإفساد وتجمع منتجاتها بدلًا من ذلك من خلال زرع الخردل؟

وصفات الذهب

بما أن الذهب الطبيعي لا يكون نقيًّا أبدًا، اضطر التقنيون القدماء لتطوير مهارات تعدينية مثيرة لفصله عن شوائب مثل الفضة؛ ففي مصر وبلاد الرافدين — حيث ابتُكرت هذه الأساليب — كانت أعمال التعدين مقدَّسة، وكان عمل علماء المعادن عادةً ما يتم في وحدات ملحقة بالمعابد. وكان الإله مردوخ البابلي هو «إله الذهب».

في الوقت نفسه، قام هؤلاء الصنَّاع بتحضير وصفات لصنع إلكتروم اصطناعي من خلال سبك الذهب والفضة. قد يبدو مستغرَبًا أن «يرغب» إنسان في تزييف الذهب بهذه الطريقة، ولكن كان يُعتقد أن الكئوس المصنوعة من الإلكتروم تمتلك القدرة التي لا تقدَّر بثمن على كشف السموم.

لم يكن فصل الفضة عن الذهب مجرد اهتمام لدى أولئك الذين استخرجوه من الأرض، بل كان مهارة أساسية في التجارة أيضًا. كان التجَّار بحاجة لطُرقٍ يعايرون بها نقاء الذهب الذي يحصلون عليه، والذي يمكن بسهولة شديدة التقليل من قيمته بدمجه مع الفضة. ربما كانت أقدم طريقة للفصل هي البوتقة. وهذه الطريقة في أبسط صورها كانت تتضمَّن تسخين المعدن لدرجة الانصهار في وعاءٍ مصنوع من عجينة مجفَّفة من رماد العظام، وعندها تنفصل الشوائب وتُمتص في جدران الأواني. ربما عُرفت هذه الطريقة بحلول عام ٢٥٠٠ قبل الميلاد، رغم أن أول استخدام لها كان في فصل الفضة عن الرصاص، وليس الفضة عن الذهب.

أشار سترابو (٦٣ق.م–٢٤م) إلى كيفية تحقيق الفصل باستخدام الملح، وفي القرن الثاني عشر الميلادي يقول الراهب البينديكتي ثيوفيلوس إنه يمكن استخدام الكبريت في إزالة الشوائب من الذهب. من المرجَّح أن هذه الطريقة وغيرها وضعها الخيميائيون، الذين كان بالنسبة إليهم الفارقُ بين تنقية وصنع الذهب في كثير من الأحيان غامضًا. ذَكَر جابر بن حيان (انظر الفصل الأول) وخيميائي القرن السادس عشر الشهير بازل فالنتين (الذي ربما كان أيضًا شخصية خيالية) أساليب للتنقية. وخصَّص أجريكولا الكثير من الصفحات لوصفات تنقية الذهب المسبوك مع معادن أخرى، والعديد منها كان مربِكًا بسبب مكوِّنات غير ضرورية نَسَخها أجريكولا من مصادر سابقة.

نتجت قوة الإمبراطورية الرومانية من ثرائها بالمعادن الثمينة، وليس من إنتاجيتها؛ فقد كانت تُطعِم مواطنيها بالحبوب المستوردة من المستعمرات. وهذه أول إشارة إلى أن قوة عظمى يمكن أن تُوجَد اعتمادًا على الذهب وحده. وجاء كثير من ذهب روما من المناجم الموجودة في ريو تينتو في إسبانيا، التي كانت تعمل قبل ألفَي سنة على الأقل. وكان الخام عمومًا عبارة عن ذهب وفضة ممزوجَين بالنحاس. وكان يمكن استخراج المعادن الثمينة من خلال خلط السبيكة المنصهرة مع الرصاص المنصهر؛ فالذهب والفضة يذوبان في الرصاص في حين أن النحاس لا يذوب فيه. ثم تُفصَل سبيكة الرصاص من خلال عملية البوتقة.

علينا أن نتذكَّر أنه خلال كل ذلك، لم يكن لدى علماء المعادن الأوائل أي فكرة عن أنهم كانوا يفصلون العناصر. فكانوا يعتقدون أن جميع المعادن تتكوَّن أساسًا من الشيء نفسه (كبريت وزئبق حسب اعتقاد جابر بن حيان) في مراحل مختلفة من النضج؛ أي في حالات مختلفة من النقاء. وبدلًا من اعتبارها عناصر في حدِّ ذاتها، كان يُنظر إليها باعتبارها من بين أبرز المواد «المخلوطة بشدة». وهذا هو السبب في ميل فلاسفة الطبيعية المهتمين بالمكوِّنات العنصرية للمادة إلى تجنُّب المعادن وإجراء التجارب على مواد «أبسط» بدلًا منها. وتَسبَّب هذا التشابه في السلوك في عدم النظر إلى المعادن على أنها مختلفة كيميائيًّا.

بوضع هذا في الاعتبار، يبدو هؤلاء الذين صدَّقوا ادعاءات الخيميائيين بتحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب أقلَّ سذاجةً بكثير. هل نجح الخيميائيون قط؟ بالطبع نجحوا! في عصرٍ كان يمكن الحكم على المعادن بمظهرها، وعندما كان الذهب مخفيًّا في خليط مع غيره من المواد إلى أن تستخرجه عمليات كيميائية أو تعدينية، هل كان من شيء آخر يمكن أن يصدِّقه المرء عندما يخرج المعدن الأصفر الرائع برَّاقًا من مادة مستبعَدة؟ حكى روبرت بويل نفسه (بأسلوب يكتنفه الغموض، كاشفًا عدم اقتناعه التام بما يحكيه) عن مشاهدته «لعرض» خيميائي يتم فيه تحويل معادن إلى ذهب. كانت هذه القصص شائعة في عصر بويل. وفي عام ١٦٧٩م أجرى يوهان بيشر — بعد الحصول على تفويض من الحكومة الهولندية بصنع الذهب من رمال هولندا — عرضًا ناجحًا أمام لجنة حكومية وعمدة أمستردام. وقد عُرقلت خططه الرامية إلى زيادة حجم عملياته عن طريق إثارة أعداء بيشر للخلاف داخل اللجنة الهولندية (على حدِّ زعمه)، وكان عليه الفرار من هولندا لإنقاذ حياته.

لم يتوقَّف السعي وراء الذهب الاصطناعي قط. أقنع الكاتب السويدي أوجست ستريندبرج نفسه بأنه صنعه على نحو خيميائي عام ١٨٩٤م، ولكن هذا كان على الأقل ادعاءً عُرضةً لأنْ يُدحض كيميائيًّا؛ إذ تَبيَّن أن «ذهبه» كان مُركَّبًا حديديًّا ذهبي اللون؛ أي نوعًا آخرَ من ذهب الحمقى.

ربما حوَّل «العملُ الخيميائي الرائع»، المتمثِّل في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، الكثيرين إلى مشاهير وأثرياء في العصور السابقة، ولكن يمكننا أن نؤكِّد أنه لم يتحقَّق بالفعل حتى عام ١٩٤١م. فلا توجد سوى طريقة واحدة للقيام بذلك؛ وهي التفاعل النووي وليس الكيميائي؛ بمعنى أنه علينا أن نغيِّر طبيعة ذرَّات المعدن نفسها من خلال إضافة جسيمات أساسية لنواة الذرة أو نزعها منها. أَطلَق الفيزيائي النووي الأمريكي كينيث بينبريدج وزميله آر شير، نيوتروناتٍ عاليةَ الطاقة من مفاعل نووي نحو ذرَّات الزئبق، وتمكَّنَا من قطع جزء صغير جدًّا من نواة بعض الذرَّات؛ مما أدَّى إلى تحويلها إلى ذهب. سوف أتحدَّث أكثر عن هذا النوع من العمليات الكيميائية النووية في الفصل الخامس.

معدن النقود

يتساءل هوراس: «ألا تعرف قيمة النقود، وما تفعله؟ إنها تشتري الخبز والخضراوات ونصف لتر من النبيذ.» كانت الأمور بسيطة في تلك الأيام. صحيح أنه حتى في عصر هوراس كانت النقود تستطيع أيضًا شراء أشياء أقل شيوعًا مثل جيش من المرتزقة أو خدمات خائن، ولكن الذين كانوا يُشترَوْن بالذهب يتوقَّعون أن يُدفع لهم بالذهب. كانت النقود شيئًا ذا وزن ثقيل في يدك، عبارةً عن أقراص برَّاقة من معدن نفيس وليست قطعًا من الورق أو أرقامًا مجردة في الحسابات الآلية في مصرف سويسري.

يعدِّد أجريكولا — في محاولة لدحض الاتهام بأن المعادن الثمينة تولِّد الطمع والعكس — مزايا النظام النقدي في القرن السادس عشر:

عندما فكَّر الرجال البارعون والأذكياء تفكيرًا جديًّا في نظام المقايضة، الذي استخدمه الأُمِّيون قديمًا، والذي تَستخدمه حتى اليوم أجناسٌ معينة من البربر والهمج، بدا لهم هذا النظام مزعجًا وشاقًّا للغاية؛ مما دفعهم إلى اختراع النقود. في الواقع، كان ابتكار النقود أمرًا بالغ الأهمية؛ لأن كمية صغيرة من الذهب والفضة أصبحت تعادل نفس قيمة أشياء ثقيلة ومجهِدة في حملها؛ ومن ثم تستطيع الشعوبُ التي تفصل بينها مسافات كبيرة — من خلال استخدام النقود — المتاجرةَ بسهولة شديدة في تلك الأشياء التي لا يمكن أن تدوم الحياة المتحضرة بدونها.

بعبارة أخرى: الذهب هو المادة الميسِّرة للتجارة؛ فهو ما يجعل السوق تعمل. فالمقايضة تعتمد على توافقٍ متحقِّق بالصدفة في زمانِ ومكانِ توافر السلع المختلفة والطلب عليها. أما النقود فتزيل الحاجة إلى هذه الظروف وليدة الصدفة؛ لأنها تحمل قيمة، وبذلك تسمح لصانع الخبز ببيع خبزه الساخن إلى اللبَّان في الصباح، وفي المقابل يشتري بيرته في المساء من صاحب الحانة. والذهب هو المعدن المثالي لصنع العملات؛ لأنه يحمل قيمة كبيرة جدًّا في حجم صغير جدًّا؛ إذ يمكنك الاحتفاظ بقيمةٍ تُعادِل قيمة عشرين بقرة في كيس نقودك. ومرة أخرى، يؤدِّي الذهب هذه المهمة على نحوٍ جيد بسبب خموله الكيميائي الشديد؛ فلمعانُ ونقاءُ العملة الذهبية لا ينقصان بمرور الوقت.

يبدو أن القطع النقدية الأولى سُكَّت في القرن السابع قبل الميلاد في ليديا — دولة/مدينة إغريقية — في آسيا الصغرى. ولم تكن مصنوعة من الذهب الخالص، ولكن من سبائك الإلكتروم الطبيعية المخلوطة بالفضة، وكانت مُشكَّلة في صورة أقراص ومختومة لتحديد مصدرها. والملك كرويسوس كان آخر ملوك ليديا، وإلى أن غزا الفرسُ المملكة وسَجنوا الملك عام ٥٤٦ قبل الميلاد، كانت ثروته أسطورية. وجاء كثيرٌ من ذهب ليديا من الرواسب الطميية لنهر باكتولوس؛ الهِبة السخيَّة التي يُزعَم أنها ناتجة عن حماقة ميداس. واستعاض كرويسوس عن عُملات الإلكتروم بعُملات من الذهب الخالص والفضة. وخلال القرن الخامس قبل الميلاد قدَّم الأثينيون معدن العملات الثالث والأقل قيمةً: البرونز؛ وهو سبيكة من النحاس والقصدير.

كان الرومان أول من اكتشف تقلُّبات ثقافةٍ تستمد قوتها من الموارد المالية؛ فالذهب — على غرار أي سلعة أخرى — ليست له قيمة مطلَقة؛ فقيمته تعتمد على مقدارِ ما يتوافر منه. وكانت العُملة الذهبية للإمبراطورية الرومانية هي الأوري، وتبلغ قيمتها خمسة وعشرين دناريوس من الفضة. ولكن كان الأباطرة اللاحقون يميلون إلى المبالغة في إظهار ثرائهم؛ فقد شيَّد نيرو بيتًا ذهبيًّا ذا جدران مرصَّعة بالجواهر. وهذه المبالغة غيَّبت الكثير من الذهب والفضة عن التداول؛ مما أجبر القائمين على سكِّ العملة على إضافة معادن أخرى للأوري والدناريوس. وبحلول القرن الثالث الميلادي، كان الدناريوس يحوي ٩٨ بالمائة من وزنه نحاسًا. وبطبيعة الحال، فإن التاجر لن يقدِّم مقابل عملة أغلبها نحاس القدرَ نفسه من السلع الذي يقدِّمه عندما تكون العملة من الفضة الخالصة، حتى لو كانتا تحملان الاسمَ والختمَ نفسَيْهما.

بعبارة أخرى: خُفِّضت قيمة العملة. ومع انخفاض القوة الشرائية للعملات، ظهرت الحاجة لعدد أكبر من العملات لشراء الكمية نفسها من السلع؛ فارتفع معدل التضخم. ومال أولئك الذين يملكون عملات ذات نوعية جيدة إلى اكتنازها، والمتاجرة فحسب بعملات السبائك المعدنية. كان هذا أوَّل مثال على المبدأ الاقتصادي المعروف باسم «قانون جريشام»، المسمَّى تيمُّنًا باسم السير توماس جريشام، مؤسِّس سوق الأوراق المالية في لندن: «العُملة الرديئة تطرد العُملة الجيِّدة من التداوُل.»

لم يستوعب الملوك والملكات والأباطرة بسرعةٍ الدرسَ الذي مفاده أن المال للاستخدام وليس للاكتناز. فطوال العصور الوسطى كان الرأي السائد هو أن قوة الأمة تتحدَّد حسب حجم خزائنها، وحتى القرن الثامن عشر، شنَّ الملوك حروبًا لا نهاية لها وغيرَ مجدية لاقتنائه. ومع ذلك، فإن صحة الاقتصاد — كما أشار جون مينارد كينز — تعتمد على المال المتداوَل، الذي يُصرف ويعاد استثماره، وليس على المال المتراكِم. ويؤدِّي الذهب وظيفته كعملة فعالة — سواء حقيقية أو افتراضية — فقط عند السماح له بالعمل بطريقته السلبية والخاملة الفريدة.

ساعد الذهب في القرن التاسع عشر على إخضاع المال للسيطرة. لكن بعد أن أصبحت قيمة المال افتراضيةً — وعْدًا مطبوعًا على ورقٍ أو ختمًا على معدن رخيص — هل هناك ما يمنع أي أمة عن زيادة ثروتها ببساطة عن طريق طباعة المزيد من الأوراق النقدية، ما يؤدِّي إلى زيادة التضخم؟ كان الجواب هو ربط قيمة النقود الورقية باحتياطي الذهب في البلاد؛ ففي عام ١٨٢١م وضعت بريطانيا رسميًّا معيار الذهب؛ إذ قال الرئيس الأمريكي هربرت هوفر (الذي ترجم أطروحة أجريكولا حول المعادن) في عام ١٩٣٣م: «نملك الذهب لأننا لا يمكن أن نثق في الحكومات.»

في البلدان التي ارتضت معيار الذهب، يمكن الحصول في البنوك على وزن ثابت من الذهب مقابل العملة؛ فمن الممكن أن تحصل على ٢٢ أوقيةً من الذهب مقابل ورقة نقدية قيمتها ١٠٠ جنيه استرليني في بريطانيا. في الواقع، كانت بريطانيا تحدِّد عملتها بهذه الطريقة منذ عام ١٧١٧م، عندما كانت دار سكِّ العملة الملكية مسئولية السير إسحاق نيوتن.٤ ولكن كان يمكن أن يصبح معيار الذهب راسخًا كأساس تقوم عليه التجارة الدولية فقط عندما تربط الدول الأخرى أنظمتها النقدية بالذهب بالطريقة نفسها. وأصبح ربط العملات باحتياطي الذهب أمرًا معتادًا في جميع أنحاء العالم في سبعينيات القرن التاسع عشر.

وبما أن جميع الدول التجارية الرئيسية في العالم اعتمدت معيار الذهب، أصبح هذا المعيار أساسًا مشترَكًا يمكن أن تستند عليه قيمة العملات الدولية، وكان ذلك معناه ثباتُ أسعار الصرف: إذا كان الجنيه الاسترليني يساوي ١١٣٫٠٠١٦ حبة من حبات الذهب، ويمكن صرف الدولار الأمريكي مقابل ٢٣٫٢٢ حبة، فإن للجنيه سعرَ صرفٍ ثابتًا يبلغ ٤٫٨٦ دولارات. يقول روبرت مونديل، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: «كانت العملات مجرد أسماء لأوزان معينة من الذهب.» وبهذه الضمانة، كان يمكنك استخدام الدولار في لندن والفرنك في نيويورك.

ولكن كانت توجد نقاط ضعف جوهرية في تثبيت قيمة العُملة بهذه الطريقة؛ فهذا التثبيت جعل الثروات الاقتصادية للدول الفقيرة تعتمد على نحوٍ صارم على الثروات الاقتصادية للدول الأغنى على الجانب الآخر من العالم. فجاء المثل: «عندما تعطس لندن، تصاب الأرجنتين بالتهاب رئوي.» وفي عام ١٨٧٣م دفع الاقتصاد الأمريكي ثمن عطسة لندن، بالكساد الناجم عن فقدان الثقة من جانب المستثمرين البريطانيين. وحدث الشيء نفسه مرة أخرى في تسعينيات القرن التاسع عشر؛ ففي عام ١٨٩٦م، ادَّعى حزب الشعب في الولايات المتحدة الأمريكية أن «استمرار «معيار الذهب الحالي» يعني الدمار، والغضب، وأعمال الشغب، والديون، والجريمة، والإضرابات، والتسول، والفقر، والرهون العقارية، والأوقات العصيبة …» والكثير من البؤس إلى جانب ذلك. وبالفعل كانت الأوقات الصعبة في طريقها للحدوث إلى حدٍّ أشد من أي وقت مضى.

إذا كانت صدمة الحرب العالمية الأولى قد هزَّت النظام النقدي الدولي، فإن الكساد العظيم الذي أعقب ذلك أوصله تقريبًا إلى حدِّ الانهيار. وكانت النتيجة اضطرابات مدنية ونشوء الحركات المتطرِّفة. وفي عام ١٩٣١م، كانت بريطانيا قد اكتفت، وتخلَّت عن معيار الذهب؛ ما أسعد جون مينارد كينز، الذي جادل بقوة قائلًا: «الذهب ما هو إلا بقايا بربرية.» كان كينز واحدًا من المشاركين الرئيسيين في إعادة هيكلة النظام المالي العالمي الذي تمَّتْ هندسته في مؤتمر بريتون وودز في نيو هامبشاير في عام ١٩٤٤م، عندما استندت قيمة العُملات الدولية على نحوٍ فعَّال على معيار الدولار بدلًا من ذلك. فأصبح الدولار العملة الوحيدة التي لا تزال قابلة للتحويل إلى الذهب عند طلب ذلك؛ ولكن فقط عن طريق وزارة المالية والبنوك، لا الأفراد. بدا استناد الذهب على معيار الدولار جذَّابًا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه كان مصمِّمًا على نحو سيئ فيما يخص تحمُّل التغييرات اللاحقة في القوة النسبية للاقتصادات الوطنية. وألغى الرئيس ريتشارد نيكسون في نهاية المطاف ذلك عام ١٩٧١م. ومنذ ذلك الحين لم يتم تثبيت قيمة أي عُملة وفق احتياطي الذهب، بل بدلًا من ذلك، أصبحت أسعار الصرف العالمية «عائمة»، ولا تعرض أيُّ حكومة تعويضَ عملتها بالذهب اللامع.

في العقود الأخيرة سعت الحكومات من وقت لآخر لإحياء فكرةِ ربْط التجارة والعملة بقيمة الذهب؛ فقد روَّج شارل ديجول لهذه الفكرة بقوة في ستينيات القرن العشرين، ولكنها لم تَعُدْ تبدو خيارًا واقعيًّا؛ فبدون معيار الذهب، تتقلَّب أسعار الصرف على نحوٍ لا يمكن التنبؤ به، ولكن محاولة إيجاد الاستقرار من خلال الذهب تُهدِّد بالسماح لوزن المعدن الثقيل بسَحْب الاقتصاد خارج نطاق السيطرة.

الذهب السائل

خشي الإمبراطور الروماني دقلديانوس في القرن الثالث الميلادي من أن يأتيه التضخُّم من مصدر مختلف؛ فقد شعر بالقلق من أن يقضي الخيميائيون على عُملته من خلال إغراق السوق بالذهب المُصنع، فأمر بتدمير العديد من الوثائق الخيميائية الثمينة. ولكن الخبراء الحقيقيين لا يهتمون مطلقًا بهدف رخيص كتحقيق مكسب مالي. فيقول كو هونج (نحو عام ٢٦٠–٣٤٠ ميلاديًّا) الأكثر شهرةً بين الخيميائيين الصينيين: «بالنسبة إلى الرجل الحق، فإنه يصنع الذهب لأنه يرغب لنفسه الخلود من خلال استخدامات الذهب الطبية. ليس هدفه من ذلك أن يصبح غنيًّا.»

هذا الجانب الطبي من الخيمياء الصينية يميِّزها عن الخيمياء التقليدية العربية والغربية المعتمَدة على أساس التعدين، على الأقل حتى وقت باراسيلسوس في القرن السادس عشر. فبالنسبة إلى الخيميائيين الصينيين، كان الذهب يحمل مفتاح صناعة «الإكسير»؛ وهو المقابل الشرقي لحجر الفلاسفة. فعلى غرار حجر الفلاسفة، يستطيع الإكسير تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ويشاع أن الثمن الذي كان يدفعه «ما سيانج» مقابل الحصول على الخمر هو أن يقوم بتحويل جميع الآنية الحديدية في متجر الخمر باستخدام الإكسير. ولكن الإكسير — الذي اعتُبر أنه السر وراء طول عمر الذهب — اعتُقد أنه يَهَبُ الناس الخلود ويمكنه إحياء الموتى. وحتى الأطباق وآنية الشرب الذهبية اعتُقد أنها تنقل شيئًا من خلودها للشخص الذي يتناول العشاء فيها. وامتدَّ هذا التقليد إلى الهند؛ حيث كان يُستخدم الذهب في طقوس التطهير.

لكن ماذا كان هذا الإكسير؟ توجد وَصَفَات له لا حصر لها. ويركِّز بعض أقدم هذه الوصفات على الزنجفر — كبريتيد الزئبق الأحمر المعدني — وليس الذهب. إن رواسب الذهب نادرة في الصين، ولم يُذكَر المعدن صراحةً في الأدب الصيني الكلاسيكي أو الخيمياء الصينية قبل القرن الرابع قبل الميلاد. ولكن الخيميائيين اللاحقين الباحثين عن هذا الدواء الأكثر فعاليةً بين الأدوية كانوا عازمين على استخلاص المعدن الأصفر نفسه. علاوةً على ذلك، كان الذهب المصنوع من خلال الطرق الخيميائية يُعتبر أقوى من الذهب المستخرَج من الأرض، يقول كو هونج: «الذهب المصنوع من خلال عملية تحويل يتفوَّق على الذهب الطبيعي؛ حيث يكون خلاصة مجموعة متنوعة من المكوِّنات.»

وَجد هذا التقليد طريقه إلى الغرب في مفهوم «الذهب الصالح للشرب» (الذهب الغروي)؛ وهو الدواء الذي إذا شُرِب فإنه يعالج كل أنواع العلل. يبدو هذا الشراب أسطوريًّا تمامًا؛ إذ إن الذهب لا يذوب في الماء وينصهر فقط عند تسخينه إلى أكثر من ألف درجة مئوية. ومع ذلك، كان لدى الخيميائيين في العصور الوسطى وصفة واحدة على الأقل لصنع «ماء» قوي للغاية من شأنه أن يستهلك معدن الذهب ويتشرَّب خصائصه حسب زعمهم. تظهر هذه الوصفة في كتاب ألَّفه خيميائي إسباني نحو عام ١٣١٠م، ويُنسب أصل النص إلى أعمال العظيم جابر بن حيان. و«المياه المسبِّبة للذوبان» تُصنع من «زاج قبرص»، والملحِ الصخري (نترات البوتاسيوم)، و«جامينوس ألوم» (الشبَّة)، وملحِ النشادر (كلوريد الأمونيوم)، الذي أصبح يعرف باسم «الماء الملكي»؛ مَلِك كل أنواع المياه.

الماء الملكي في الأساس مزيج من حمض النيتريك والهيدروكلوريك (وصفة جابر تحتوي أيضًا على حمض الكبريتيك)، وهو واحد من عدد قليل من الكواشف الكيميائية القوية بما يكفي لتتسبَّب في تآكل الذهب. يشكِّل المعدن «مركَّبًا» تتَّحد فيه كل ذرة ذهب مع أربعة أيونات من الكلوريد، وهذا المركَّب قابل للذوبان في الماء. لا بد أن اختفاء الذهب «الخالد» عند معالجته بالماء الملكي بدا معجزة بالنسبة إلى الخيميائيين.

ومن نافلة القول أن خليطًا من حمض النيتريك والهيدروكلوريك المركَّزَين ليست له مزايا علاجية خاصة، سواء أكان يحتوي على الذهب أم لا. ولكن كان يمكن تخفيف الأحماض بزيت إكليل الجبل دون التخلِّي عن ذهبها القابل للذوبان، وكانت الجرعة الناتجة هي «الذهب الغروي» الأسطوري. على الأقل، هذه إحدى الوصفات الطبية؛ إذ تشير مصادر أخرى إلى تحضيره — على سبيل المثال — عن طريق سكب الكحول (المقطَّر من النبيذ) أو الخل أو البول على الذهب الساخن أو الذهب المخلوط بالزئبق. وكما يشرح أجريكولا، استفاد عمَّال مناجم الذهب من الماء الملكي في فصل الذهب عن الفضة؛ وإن كان ذلك بطريقة عشوائية إلى حدٍّ ما؛ إذ لم يُكتشف الدور الذي يمكن أن تقوم به الأحماض المختلفة في هذا الأمر إلا بعد مرور وقت طويل.

اكتشف صنَّاع الزجاج أن «الذهب القابل للذوبان» يمكن أن يُستخدم لصنع الزجاج الياقوتي الأحمر الرائع. وبإضافة مركَّب القصدير إلى المحلول يتحوَّل السائل إلى اللون الأرجواني الغامق. وتم أوَّل تدوين خطِّي لهذه العملية على يد أندرياس كاسيوس في عام ١٦٨٥م — وهو صانع زجاج من بوتسدام — وأصبحت المادة الملوَّنة معروفةً فيما بعدُ باسم «أرجواني كاسيوس». ويُعزى فن دمج هذا «الذهب السائل» في الزجاج الياقوتي اللون إلى صانع الزجاج الألماني يوهان كونكِل في أواخر القرن السابع عشر.

بالتأكيد كان تحويل الذهب القابل للذوبان إلى سائل أرجواني بالنسبة إلى الخيميائيين أعجبَ من إذابة المعدن؛ فكان الأرجواني مبشِّرًا بالخير — لون الإمبراطورية الرومانية — ويوحي بالجلال والعظمة. ووفقًا لبعض المصادر كان الأرجواني هو لون حجر الفلاسفة نفسه. وتمامًا مثلما اكتسب الغرب طريقة صنع صبغة «أرجوان صور» الشهيرة عندما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك عام ١٤٥٣م، استحوذ الرومان أيضًا على السر المنسي لتلوين الزجاج باللون الياقوتي الأحمر. وكأس ليكورجوس — التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، وتقبع حاليًّا في المتحف البريطاني في لندن — مصنوعةٌ من زجاج ملوَّن بالذهب. ويبدو لون الكأس أخضر في الضوء المنعكس، ولكن تبدو في الضوء النافذ حمراء.

لم تُستخدَم المادة المعروفة باسم أرجواني كاسيوس من قِبل صناع الزجاج فحسب، وإنما استخدمها مصنِّعو الخزف لصنع طلاء أملس رقيق ذي لون أحمر يُستخدم في تلميع الخزف. ولكنَّ الكيفية التي يكوِّن بها الذهبُ الأصفر لونًا أحمرَ ظلَّت لغزًا لِما يقرب من ٢٠٠ عام. ويُعزى ظهور اللون الأحمر إلى جسيمات الذهب الصغيرة للغاية التي لا تُرى بالعين المجردة. ومعالجة مركَّب الذهب المذاب بالقصدير تجعل الذهب يعود إلى شكله المعدني مرة أخرى؛ ولكن، بدلًا من الترسُّب ككتلة، تتجمَّع الذرَّات في عناقيد بعرض بضعة نانومترات. ويسمَّى تناثر هذه الجسيمات الصغيرة بهذا الشكل في الماء محلولًا، وهو مثال على «المادة الغروية»: خليط من جسيمات مجهرية من مادةٍ ما في مادة أخرى. وأَطلَق الكيميائي الاسكتلندي توماس جراهام عليها اسمَ الغرويات في ستينيات القرن التاسع عشر، مشتقًّا من كلمة يونانية تعني بالعربية الصمغ، وهو في حدِّ ذاته مادة غروية.

الحليب مادة غروية أخرى تتألَّف من كُريَّات مجهرية من الدهون المنثورة في الماء. ولأن الجسيمات الغروية تَكُون في نفس حجم الأطوال الموجية للضوء المرئي، فإنها تشتِّت الضوءَ بقوة. يشتِّت الحليب جميع الأطوال الموجية؛ ولذلك يبدو أبيض اللون. أما الذهب الغروي فغالبًا ما يشتِّت الضوء الأزرق والأخضر، ويسمح بنفاذ الضوء الأحمر فقط. وقد أوضح الفيزيائي الأنجلو أيرلندي جون تيندال في منتصف القرن التاسع عشر هذا الميل الطبيعي لدى الغرويات إلى تشتيت الضوء. وفي الوقت نفسه تقريبًا، اكتشف مايكل فاراداي — زميل تيندال في المعهد الملكي في لندن — أن السائل الأرجواني المحمرَّ يتحوَّل إلى اللون الأزرق عندما أضاف مقادير صغيرة من الملح؛ إذ يسمح الملح لجسيمات الذهب بالتجمُّع في كتل أكبر قليلًا، تكون كبيرة بما يكفي لتشتيت الضوء الأحمر، وتسمح بنفاذ الضوء الأزرق.

لم تُرَ جسيمات الذهب الغروية الضئيلة رؤية مباشرة حتى أوائل القرن العشرين، عندما اخترع الكيميائي النمساوي ريتشارد أدولف سيجموندي مجهرًا فائقًا؛ وهو جهاز قادر على فصل هذه الأجسام الصغيرة. ومُنح سيجموندي جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٢٥م؛ تقديرًا لإسهاماته في توضيح طبيعة الغرويات.

مَن الذي يتخيَّل أن هذا السائل الأحمر يحمل المعدن الأثمن بين جميع المعادن؟ وهذا هو ما اعتَمد عليه الفيزيائي الدنماركي نيلز بور عندما غزت ألمانيا الدنمارك عام ١٩٤٠م؛ فعندما اندلعت الحرب، أعطى عالِما الفيزياء الألمانيان، ماكس فون لاوي وجيمس فرانك، ميداليتَي جائزة نوبل الذهبيتين الثمينتين لبور من أجل حفظهما، لكنهما لم تظلَّا في أمان في كوبنهاجن أيضًا. كانت ألمانيا في حاجة للذهب لتمويل الحرب، وأصبح تصدير المعدن جريمة جنائية. حملت الميداليتان اسمَي صاحبيهما، وكان بور سيخاطر بإدانة هذين العالِمين إذا هو حاول تهريب الميداليتين من الأراضي المحتلة.

أعدَّ الكيميائي المجري جورج دي هيفيشي — زميل بور — خطةً للحفاظ على الذهب بعيدًا عن أيدي الألمان. ذوَّب دي هيفيشي الميداليتين في الحمض صانعًا محلولًا غرويًّا داكنًا لدرجة تقترب جدًّا من اللون الأسود. وكان يُحتفظ بالسائل في برطمانات لا تحمل أي ملصقات على رفِّ المختبر، ولم يفكِّر أحد في السؤال عما تحتويه البرطمانات. بعد الحرب، تمَّت استعادة الذهب (كل ما عليك القيام به هو تسخين المحلول)، وأُعيدَ صياغته في شكل ميداليتين لِمالكَيْه.

أنبل المعادن

يَدِين الذهب بشهرته اللامعة إلى الخمول؛ إذ إنه يتفاعل بصعوبة شديدة. والذهب يتشابه كيميائيًّا مع النحاس، إلا أن النحاس يتآكل بسهولة بفعل الرياح والأمطار؛ إذن ما الذي يمنح الذهب هذه الخصوصية؟ الإجابة خفية على نحو يثير الدهشة، ولم يُتمكَّن من فهمها تمامًا إلا في الآونة الأخيرة.

تَفقِد المعادن بريقها عندما تتفاعل ذرَّات سطحها مع المواد الغازية في الهواء. والأكسجين عنصر نشيط للغاية من حيث تفاعله كما رأينا في الفصل السابق، ويتَّحد مع الحديد لتشكيل مركَّب الأكسيد الأحمر الذي نعرفه باسم الصدأ. ويتفاعل النحاس مع الأكسجين وثاني أكسيد الكربون لتشكيل الصدأ الأخضر لكربونات النحاس. وتُقاوِم الفضةُ محاولاتِ الأكسجين الاتحادَ معها، ولكن تتحد ببطءٍ مع مركَّبات الكبريت الموجودة في الهواء لتشكيل كبريتيد الفضة الأسود.

لا يفعل الذهب أيًّا من هذه الأشياء. ومع ذلك، ليس الذهب عنصرًا خاملًا تمامًا؛ فإنه يتَّحد مع المعادن الأخرى في سبائك، والذرَّات المنفردة من الذهب تشكِّل روابطَ قوية مع عناصر متعدِّدة. ورغم ذلك، سطحُ معدن الذهب خاملٌ بسبب طريقة توزيع إلكتروناته.

تنتج الروابط الكيميائية عن ارتباط الذرَّات بعضها ببعض عن طريق وجود إلكترونات مشتركة. بعبارة أخرى: انتظام الإلكترونات في أزواج (انظر الفصل القادم). ولكن انتظام الإلكترونات في أزواج لا يجلب الذرَّات دائمًا معًا؛ فبعض أزواج الإلكترونات تُسهم في تجانس الذرَّات بعضها مع بعض، في حين تعزِّز أخرى سلوكًا انقساميًّا لدى الذرَّات. ويُطلَق على هذه الأخيرة أزواج إلكترونات مضادة للارتباط، وتؤدِّي إلى طرد الذرَّات بعضها بعضًا. تقترن الإلكترونات لتشكيل أزواج ارتباط إذا كان ذلك ممكنًا، ولكن، إذا كان يوجد عدد كبير جدًّا منها، فإنها تشكِّل أزواجًا مضادة للارتباط أيضًا. وإذا كان عدد الأزواج المضادة للارتباط يساوي عدد أزواج الارتباط، فلا يكون لدى الذرَّات ميل إلى الارتباط معًا.

تجد أيُّ ذرَّة — أو جزيء — تحاول الالتصاق بسطح الذهب أن إلكترونات ذرَّات الذهب تميل إلى تكوين أزواج مضادة للارتباط، وكذلك أزواج ارتباط. اكتشف ينز نورسكوف وبي هامر — من جامعة الدنمارك التقنية في لينجبي — ذلك في عام ١٩٩٥م عندما أجريا حسابات معقَّدة لمعرفة حالات طاقة الإلكترون على سطح الذهب ومعادن أخرى متنوعة. كانت أسطُح النحاس والذهب ميالة للدخول في حالة مضادة للارتباط مع ذرَّات غريبة، وخلصت تلك الذرَّات إلى أن التصاق بعضها ببعض أفضل من محاولة تكوين روابط مع المعادن. النحاس خامل على نحوٍ معقول؛ وبطءُ تفاعله أحدُ الأسباب التي تجعل سبائك النحاس أيضًا تَصلح لصنع عملات معدنية. ولكن الذهب أكثر «نبلًا»، ويستمر في اللمعان المتألِّق عندما تستسلم المعادن الأخرى الأدنى منزلةً لوطأة الزمن.

إذا كان ثمة درسٌ يُستفاد من كل هذا، فهو أنه لا يوجد شيء بديهي بشأن خصائصِ أقدمِ العناصر حتى وأكثرها ألفةً. عَرَف كبار الكهنة في مصر القديمة أن الذهب له خصوصيته، واستغرق الأمر ستة آلاف سنة لمعرفة السبب.

هوامش

(١) في الحقيقة، مصير بوليمستور وكذبه يختلفان باختلاف الروايات التي حكت الأسطورة؛ فتذكر رواية أخرى كيف أن شهوته وبُخله قاداه إلى الخضوع لعرض أجاممنون عليه بأن يمنحه زوجة جديدة ومهرًا من الذهب إذا قتل بوليدوروس. ولكن في ذاك الموقف لم يستطِع بوليمستور أن يجبر نفسه على الحنث بيمين الحماية التي حلفها أمام بريام؛ لذلك قتل ابنه دايفيلوس متظاهرًا بأن الصبي هو بوليدوروس. وعند اكتشاف الحقيقة من خلال إليونا — زوجة بوليمستور التي هجرت زوجها كما هو متوقَّع — قام بوليدوروس نفسه بفقء عينَي الرجل الذي كان يعتقد أنه والده ثم ذبحه.
(٢) تم العثور على أقدم الأدوات المصنوعة من الحديد في المقابر المصرية، ويعود تاريخها إلى نحو عام ٣٥٠٠ قبل الميلاد؛ أي قبل العصر الحديدي بفترة طويلة. ويُعتقَد أن هذه القطع الأثرية قد صُنعت من معدن الحديد الأصلي الموجود في النيازك. فَلِقُرونٍ حصل شعب الإنويت على الحديد الخاص بهم من نيزك واحد كبير موجود في ثلوج القطب الشمالي. كان الحديد ذات مرة أعلى مكانةً وأغلى من الذهب؛ لأنه لم يكن موجودًا في أي مكان على وجه الأرض، ولكن كان يأتي بدلًا من ذلك من السماء. وأفضل ترجمة للمصطلح المصري القديم baa-en-pet الذي يعبِّر عنه، يمكن أن تكون «حديد السماء».
(٣) كبريتيد الذهب غير قابل للذوبان، ولكن ثيوكبريتات الذهب — المركَّبة من الذهب والكبريت والأكسجين — تذوب بسهولة بما فيه الكفاية.
(٤) استخدم نيوتن نظامًا «ثنائيَّ المعدن» كانت قيمة المال فيه ترتبط أيضًا بوزن ثابت من الفضة. كانت المشكلة في ذلك أن التكاليف النسبية للذهب والفضة كانت عرضةً للتقلُّب بينما يزداد المعروض وينقص. وكان هذا يعني أنه يمكن التربُّح من شراء الفضة وبيعها مقابل الذهب، أو العكس بالعكس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤