الفصل الرابع

الطريق الثُّماني: تنظيم العناصر

في أحد أيام فصل الصيف، منذ فترة طويلة جدًّا، كتبتُ مقالًا حوْل النيوبيوم. كنت أُؤَدِّي اختبارات الكيمياء النهائية. ولكن حتى مع ذلك، أشعر بالدهشة إلى حدٍّ ما مِن أنني تمكَّنتُ من مَلء عدة صفحات في الكتابة عن هذا العنصر الغامض وحده. لا أدري كيف تمكَّنتُ من كتابة كل ذلك.

لكنْ قد لا يكون الأمر مستغرَبًا لهذه الدرجة. صحيح أنني لم أكن أستطيع أن أحفظ خصائصَ وخبايا كلِّ العناصر الاثنين والتسعين السابقة وصولًا إلى اليورانيوم في الجدول الدوري الذي يضم جميع العناصر المعروفة، ولكن حتى في الوقت الحالي، أستطيع استنتاج بعض المعلومات حول النيوبيوم بمجرد النظر إلى موقعه في هذا الجدول.

أستطيع أن أقول — على سبيل المثال — إنه يميل إلى تشكيل روابط كيميائية مع خمس ذرَّات أخرى في وقت واحد، ولكن يمكن أن يقبل عددًا أقل، أو أكثر تحت بعض الضغط. النيوبيوم معدن طيِّع على الأرجح، وهو أثقل من الحديد وأخفُّ من الرصاص. وسوف يكون الكثير من مركَّباته — اتحاداته مع عناصر أخرى — ملوَّنًا. وهو ميَّال لتشكيل روابط مع ذرَّات نيوبيوم أخرى؛ ما يسمَّى بالروابط الفلزية. ويماثل سلوكُه الكيميائي عنصرَ الفاناديوم، ولكن سيظل أكثر شبهًا بعنصر التنتالوم.

لا أعتقد أن هذه الفقرة القصيرة تضمن حصولي على الدرجة النهائية التي كنت أطمح لها، ولكنها أفضل من لا شيء. ولا تعتمد على معرفتي بأي شيء عن النيوبيوم «في حد ذاته»؛ إذ أستطيع أن أستنتجها من معرفتي بمكان وجود العنصر في الجدول الدوري، بالإضافة إلى فَهْم الملامح والخصائص العامة التي يعرضها الجدول. فالجدول ليس مجرد وسيلة لترتيب العناصر في صورة مضغوطة، إنما يمثِّل شفرة مليئة بالمعلومات حول ماهية كل عنصر وكيف يتصرَّف وما إلى ذلك.

عندما ابتكر العالِم الروسي ديمتري إيفانوفيتش مندليف الجدولَ الدوري عام ١٨٦٩م، استطاع استخدامه للحصول على استنتاجات أكثر إثارةً للدهشة؛ فقد توقَّع على نحو صحيح عناصر لم تكن قد اكتُشفت بعد؛ فلم يَستنتج أنها موجودة فحسب، بل استنتج طريقة تصرُّفها وكثافتها ودرجة انصهارها.

لِفَهْم الكيفية التي شُفِّرت بها هذه المعلومات في الجدول الدوري والسبب وراء ذلك، نحن بحاجة لتحديدِ ما نعنيه بالعنصر؛ رغم أنك قد تَرى أن ذلك تأخَّر كثيرًا. حصلنا على تعريف عملي جيد جدًّا من لافوازييه: إذا لم تتمكَّن من تحليل مادةٍ إلى مكوِّنات متمايزة بوضوح وأكثر بساطةً في تركيبها، فإن هناك احتمالًا كبيرًا لأنْ تكون هذه المادة عنصرًا. ولكن مشكلة هذا التعريف هي أنه يعتمد على مدى كفاءتك ككيميائي، أو — في نهاية المطاف — على الإمكانات التكنولوجية الكيميائية المعاصرة المتاحة لك.

على سبيل المثال، أَدرج لافوازييه «الجير» و«المغنيسيا» كعناصر. ولكنَّ كليهما لا يصلحان أن يكونا عنصرين؛ فالجير هو أكسيد الكالسيوم، وهو مركَّب من الكالسيوم والأكسجين، والمغنيسيا هو أكسيد المغنيسيوم. عُزِل الكالسيوم والمغنيسيوم لأول مرة في صورة نقية تقريبًا على يد الكيميائي الإنجليزي همفري ديفي في عام ١٨٠٨م، وذلك باستخدام تقنية التحليل الكهربائي؛ أيْ فصل المركبات باستخدام الكهرباء. شَرَهُ المعادن للأكسجين كبير جدًّا، لدرجة أنه لم يكن يمكن فصلُها عنه من خلال التفاعلات الكيميائية المتاحة للافوازييه، ولكن الكهرباء سوف تقوم بهذه المهمة. أيضًا اكتَشَف ديفي عنصرَي الصوديوم والبوتاسيوم بهذه الطريقة عام ١٨٠٧م.١

كيف يمكننا إذن أن نعرف أن عناصر اليوم ليست مجرد مركَّبات تتضمَّن روابط قوية للغاية في انتظار من يقوم بفكِّها؟ بالنسبة إلى هذا الأمر، إذا كانت العناصر مواد أساسية وغير قابلة لأنْ تنحلَّ إلى مكوِّنات أبسط منها، فكيف صُنع الذهب من الزئبق عام ١٩٤١م (انظر الفصل السابق)؟ أو كيف استطاعت صحيفة التايمز أن تعلن في عددها الصادر يوم ١٢ سبتمبر ١٩٣٣م عن اكتشاف جديد مذهل؛ وهو «تحويل العناصر»؟

لقد حان وقت تشريح الذرَّة.

عوالم صغيرة

كان لأرسطو كل الحق في التشكك بشأن الذرَّات؛ لأن الحجج المؤيِّدة والمعارِضة كانت فلسفية في طبيعتها. وعلى نحوٍ لافت نوعًا ما، انطبق نفس الشيء حتى في نهاية القرن التاسع عشر، عندما شارك العديدُ من العلماء المتميزين أرسطو في رأيه. وقد كان فيلهلم أوستفالد — عالِم الكيمياء الفيزيائية الألماني الذي فاز بجائزة نوبل عام ١٩٠٩م — أحد العلماء العديدين المقتنعين بأن المذهب الذرِّي كان مجرد فرضية ملائمة ولا ينبغي أن يُفسَّر حرفيًّا أيضًا.

كل هذا تغيَّر في عام ١٩٠٨م، عندما أوضح الفيزيائي الفرنسي جان باتيست بران أنَّ تراقُص الحبوب الصغيرة العالقة في الماء يتسق مع فكرة ألبرت أينشتاين القائلة بأن تلك الحبوب تتلقَّى ضربات من جسيمات صغيرة جدًّا لا يمكن رؤيتها؛ وهي جزيئات الماء التي تتكوَّن من ذرَّات الهيدروجين والأكسجين. وحتى أوستفالد كان مقتنعًا بأن الذرَّات لها وجود فعلي.

قلَّما وُجد أحدٌ اعتقد خلاف ذلك. وبمجرد أن بدأ جون دالتون — عضو خجول من أعضاء جماعة الكويكرز (جمعية الأصدقاء الدينية) في مانشستر — في رسم صور للذرَّات عام ١٨٠٠م، كان من المغري التسليم بها. كان دالتون مؤمِنًا بشدة «بالجسيمات الصلبة، ذات الكتلة، الثقيلة، التي لا يمكن اختراقها، والمتحركة» التي أشار إليها إسحاق نيوتن قبل ذلك بمائة سنة، وكان يتصورها أجسامًا خالدة غير قابلة للتغيير، رغم أنه لا يمكن للعين البشرية أن تصل إليها. استحسن دالتون تشابُه فكرته مع أفكار ديموقريطس، حتى إنه استعار مصطلح الفيلسوف اليوناني atomos، الذي أصبح atom بمعنى «ذرة». صورت رسومه جسيمات دائرية مزخرفة بنقاط أو خطوط أو تظليل أو أي رموز أخرى لتمييز العناصر المختلفة، والتي تتَّحد بنسب ثابتة لتَصْنع «جسيمات مركَّبة» (نسميها الآن الجزيئات) (شكل ٤-١).
fig5
شكل ٤-١: شجَّع رسمُ جون دالتون التخطيطي للذرَّات وجهةَ النظر القائلة بأنها جسيمات كروية صغيرة كثيفة.

مِمَّ تتكوَّن هذه الذرَّات؟ لم يكن دالتون يَعرف، كما أنه لم يَعتبر السؤال ذا أهمية خاصة. كان كلُّ ما يهم هو أوزان الذرَّات، التي افترض أنها متماثلة بالنسبة إلى ذرات العنصر نفسه ولكن تختلف باختلاف العناصر. فعلى سبيل المثال، كان من المعروف أن الهيدروجين يتَّحد مع ثمانية أضعاف وزنه من الأكسجين لتكوين الماء. وبما أن دالتون افترض أن ذرَّات الهيدروجين والأكسجين تتَّحد ذرَّةً بذرَّةٍ في الماء، كان هذا يعني أن الوزن الذرِّي للأكسجين نسبةً إلى الوزن الذري للهيدروجين هو ٨.

الهيدروجين هو أخف العناصر؛ لذلك مثَّل وحدة مناسبة لقياس الأوزان الذرية «النسبية» للعناصر الأخرى. للأسف، كان تصوُّر دالتون عن جزيء الماء خاطئًا؛ فجزئ الماء يحتوي على «ذرَّتين» من الهيدروجين متَّحدتين مع واحدة من الأكسجين؛ وهذا يعني أن الوزن الذري النسبي الحقيقي للأكسجين هو ١٦. كانت الأخطاءُ الشبيهة بهذا الخطأ تعني أن قائمة دالتون للأوزان الذرية كانت مزيجًا من الصواب والخطأ. ولكن لا يهم؛ فكيميائيون تحليليون أكثر دقةً سوف يصحِّحون الأخطاء في وقت لاحق (كان من بين هؤلاء العلماء الأكثر دقةً الكيميائيُّ السويدي يونز جيكوب بيرسيليوس، الذي استَنتج بحلول عام ١٨١٨م قائمة محسَّنة للأوزان الذرية لخمسة وأربعين عنصرًا من التسعة والأربعين عنصرًا التي كانت معروفة آنذاك). كانت النقطة المهمة هي أن فكرة الذرَّات مُنحت تعبيرًا ماديًّا، وأن هذا ساعد على مَنْح معنًى لتحليلات الكيميائيين الخاصة بتركيب المادة.

باختصار، نظرية دالتون الذرية سمحت للكيمياء بأن تصبح علمًا دقيقًا. وكانت أهمية وضع قياسات دقيقة عدديًّا للعمليات الكيميائية واضحة بما فيه الكفاية بالنسبة إلى كافنديش وبريستلي ولافوازييه ومعاصريهم، ولكن بدون وجود نظرية أساسية للعناصر، كانت هذه الأرقام مجرد تدوينات من الملاحظات التجريبية. فكانت مثل قياسات لعمق نهر أو عدد النمل في مستعمَرة نمل؛ فهي لم تكشف أي شيء حول التركيب الأساسي للنظام. وبالنسبة إلى لافوازييه، كانت الأسئلة حول الجسيمات غير المرئية للمادة لا علاقة لها بأهداف الكيمياء.

ولكن، إذا كانت الذرَّات كرات صغيرة تتَّحد دائمًا بالنسب البسيطة نفسها لتكوين «جسيمات مركَّبة»، فإن هذا يفسِّر السبب في أن التفاعلات الكيميائية بين العناصر تحدث دائمًا بنسب ثابتة وبسيطة. على سبيل المثال، كان ذلك السبب في أن كتلة معينة من الزئبق تتَّحد دائمًا مع كتلة ثابتة أخرى من الأكسجين أثناء عملية التكليس. أدرج الكيميائي الفرنسي لويس جوزيف بروست هذا المبدأ في قانون النسب الثابتة الذي وضعه عام ١٧٨٨م. لم يوافق الجميع على هذا القانون؛ إذ إن طرق التحليل الكيميائي لم تكن على مستوى الدقة التام في تلك الأيام؛ ومن ثم ربما تتباين الكميات النسبية لكل عنصر في مركَّب معين من تجربة إلى أخرى على ما يبدو.

قدَّم دالتون نظريته الذرية في كتابه «نظام جديد للفلسفة الكيميائية»، الذي نُشر الجزء الأول منه والأهم عام ١٨٠٨م. ووحَّدت صُوَره للذرَّات والجزيئات بين العالم المرئي والعالم غير المرئي في الكيمياء. فهذه الصور تُبيِّن في الوقت نفسه ما يمكن مشاهدته (على سبيل المثال، الهيدروجين والأكسجين المتحدان لتكوين الماء) وما لا يمكن مشاهدته: اتحاد الذرَّات الحقيقية والملموسة. يقول مؤرخ الكيمياء وليام بروك إن رموز دالتون «شجَّعت الناس على الإيمان بواقعية الذرَّات الكيميائية، ومكَّنت الكيميائيين من تصوُّر التفاعلات الكيميائية المعقَّدة نسبيًّا … وبين عصرَيْ لافوازييه ودالتون، أَكمَلَ الاثنان ثورةً في لغة الكيمياء.»

للأسف، لم يكن الأمر بهذه البساطة؛ فمن ناحية، كانت هذه الرموز الهيروغليفية مصدر إزعاج كبير للطَّبَّاعين الذين تنفَّسوا الصعداء بالتأكيد عندما اقترح بيرسيليوس (١٧٧٩–١٨٤٨م) بعد ذلك بعدة سنوات أن يُستعاض عن هذه الرموز برموز أبجدية للعناصر. كان لدى بيرسيليوس فكرة منطقية إلى حدٍّ كبير، مُفادها أن المرء يستطيع أن يمثِّل كل عنصر بالحرف الأول من اسمه الإنجليزي، أو من خلال حرفين في الحالات التي لا يميز فيها هذا الأمر العنصر على نحو فريد عن العناصر الأخرى. وهكذا يصبح الهيدروجين H، والأكسجين O، والكربون C. ومُيِّز الكوبالت Cobalt عن الكربون من خلال الإشارة إليه بالحرفين Co. ربما يتخيَّل المرء أنه كان ينبغي أن يُعزى أولًا هذا الرمز إلى النحاس Copper، ولكن كان بيرسيليوس حريصًا على الإصرار على استخدام الأسماء اللاتينية لتلك العناصر التي لها أسماء لاتينية؛ وهكذا يصبح رمز النحاس (cuprum) Cu، والذهب   (aurum) Au، والحديد   (ferrum) Fe.
واقترح بيرسيليوس أنه إذا اتَّحدت العناصر لتشكيل مركَّبات بنسبة من الذرَّات بخلاف نسبة واحد إلى واحد، فإنه يشار إلى عدد الذرَّات الأكثر بأرقام تُكتب في صورة حرف فوقي، وقد تحوَّلت لاحقًا إلى صورة الحروف السفلية؛ لذلك نسبة اثنين إلى واحد من الهيدروجين والأكسجين في الماء يرمز إليها بالرمز H2O.

إذن، هذه هي لغة الكيمياء؛ أي طريقتها في وصف العناصر ومركَّباتها. وهو نظام أكثر وضوحًا بكثير من نظام دالتون. ربما — كما هو متوقَّع — لم يوافق دالتون قائلًا: «رموز بيرسيليوس مروِّعة»، وكان قلقًا من أن تُسبِّب أيضًا «إرباك الخبراء، وتثبيط المتعلمين، وكذلك إلقاء غشاوة على جمال وبساطة النظرية الذرية.»

كان لديه رأي وجيه؛ فقد كانت رموز دالتون الذرية شديدة النظام، ولكنها كانت موحية بصريًّا، تُذكِّر القارئ بأنها تشير إلى جسيمات صغيرة تشبه الكرة. في المقابل لم تمتلك رموز بيرسيليوس أيًّا من هذه القوى المساعِدة للذاكرة. ووصل معظم كيميائيِّي القرن التاسع عشر إلى اعتبار «الصيغ الكيميائية» للمركَّبات التي درسوها — مثل C6H6 (البنزين) أو C2H6O (ثنائي ميثيل الإيثر) — وسيلةً لاختصار نتائج تحليلات العناصر، لا إلى اعتبارها تمثيلات لأي نموذج ذرِّي للمادة. فببساطةٍ، يمتلك البنزين ستة أجزاء كربون وستة أجزاء هيدروجين.٢ ويميل كثير من الكيميائيين إلى تجاهل مسألةِ ما يشير إليه هذا حيال طريقة اتحاد الذرَّات معًا. إن الصيغة H2O لا تمثِّل مشكلة لنا فيما يخص مسألةَ ما إذا كانت الذرَّات تترابط بنظام HHO أو HOH أو في مثلث مع وجود ذرَّة في كل زاوية. من ناحية أخرى، إذا كنا نعبِّر عن المركَّب باستخدام ذرَّات دالتون، فإننا سنكون أكثر ميلًا للتفكير في كيفية ترتيبها؛ ومن ثَمَّ فإن مسألة «الشكل» الجزيئي لم تَشْغل بال الكيميائيين كثيرًا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وكما أشرت سابقًا، حتى قبل نهاية القرن كان يوجد أولئك الذين شعروا أنه من غير المفيد الانشغال بشأن ماهية الذرَّات أو كيفية ترتيبها.

المادة الأولى

بالإضافة إلى المساعدة في منح الذرَّات واقعيةً يمكن فهْمها، قَدَّمت نظرية دالتون فكرة أخرى؛ فأظهرت العناصر كأشياء متمايزة، مختلفة بعضها عن بعض مثل اختلاف كرة البلياردو الحمراء عن السوداء. ومع ذلك، ما يميِّز العناصر ليس اللون ولكن الوزن. وبطبيعة الحال، وَضْع رسومات بسيطة وتكهُّنية للذرَّات لا يُثبت شيئًا، لكنه يدعم فكرة أن العناصر ليست قابلة للتحويل ولكنها مختلفة بعضها عن بعض على نحوٍ لا يمكن تغييره.

لكن هل العناصر كذلك فعلًا؟ تَحفَّظ بعض الكيميائيين — بمن فيهم الكيميائي البارز مايكل فاراداي — حيال الحكم على فكرة التحويل الخيميائية. وكان آخرون أكثر جرأةً، فَسَعَوْا إلى إعادة صياغة الفكرة في قالب حديث. هل يمكن أن تتحوَّل العناصر بالفعل إلى عناصر أخرى إذا كانت الظروف متطرِّفة بما فيه الكفاية؟

إنها ليست فكرة مقبولة ظاهريًّا وحسب، ولكنها فكرة معقولة للغاية. فذرَّات دالتون مميزة، ويكون هذا التميز مقيَّدًا بقدرِ ما تمتلكه هذه الذرَّات من أوزان مختلفة. وعلاوةً على ذلك، زُعِم أن هذه الأوزان كانت غالبًا مضاعفات صحيحة لوزن ذرة الهيدروجين. إذن، هل يمكن أن تكون كل العناصر مصنوعة من ذرات الهيدروجين، التي ضُغطت على نحوٍ ما معًا لصنع كتل أكبر؟

طُرحتْ هذه النظرية عام ١٨١٥م عن طريق الكيميائي وليام براوت (١٧٨٥–١٨٥٠م)، الذي تحدَّث بصراحة حول مصدر إلهامه: «المادة الأولى» التي كانت موجودة لدى فلاسفة الإغريق، واشتُقَّت منها جميع المواد. كانت هذه المادة الأولى هي أساس المعتقدات القديمة حول عملية التحول، ومن الواضح أن براوت أشار إلى أن هذه الفكرة كانت صحيحة رغم كل شيء. وقال براوت إن «المادة الأولى» هي الهيدروجين.

أطلق بيرسيليوس على ذلك اسم «فرضية براوت»، لكنه لم يقبلها فعليًّا. ومال إليها آخرون واستحسنوها. وفي أربعينيات القرن التاسع عشر، حسَّن الكيميائي الفرنسي جان باتيست دوما هذه الفرضية بالإشارة إلى أنه في الواقع لم تكن الأوزانُ الذريةُ لبعض العناصر مضاعفاتٍ صحيحةً للهيدروجين؛ فعلى سبيل المثال، يمتلك الكلور وزنًا ذريًّا نسبيًّا يبلغ ٣٥٫٥ (كان براوت قد تلاعب ببعض أرقامه للتعامل مع هذه التناقضات). وتساءل دوما عما إذا كانت اللبنات الأساسية للذرَّة جزءًا فرعيًّا أصغر من ذرة الهيدروجين: نصف أو ربع على سبيل المثال.٣ أصبحت هذه المادة الأساسية معروفة باسم protyle؛ وهو الاسم المشتق من الكلمة اللاتينية prote hyle؛ بمعنى المادة الأولى.

ولكن لم يقسِّم أحدٌ مِن قَبلُ ذرَّةَ الهيدروجين، ولا قام بتحويل عنصرٍ ما على نحوٍ مقنِع إلى عنصر آخر. فلماذا إذن نثق في هذه الفكرة التي لم تُختَبر؟ في سبعينيات القرن التاسع عشر، اعتقد عالِم الفلك جوزيف نورمان لوكير أن الأمر لا يعدو كونه مجرد مسألة إيجاد الظروف المناسبة. واقترح لوكير أنه لتحويل العناصر فإنك في حاجة لفرن ملتهب بدرجة حرارة النجوم.

في عام ١٨٦٩م اكتشف لوكير عنصرًا جديدًا، وكان عنصرًا لم يَرَه أحد من قبل على الأرض. وتعرَّف عليه من خلال تأثيره في الضوء المنبعث من الشمس؛ فالذرَّات تمتص الضوء بأطوال موجية دقيقة ومحدَّدة؛ وهذا يعني أن طيف أشعة الشمس — الضوء الذي يتفرَّق إلى ألوان مختلفة من خلال منشور — تعترضه أشرطة داكنة رفيعة للغاية مثل الكود الشريطي؛ حيث امتصت العناصرُ في الغلاف الجوي للشمس الضوءَ. شهد لوكير خط امتصاص لم يكن متوافقًا مع أيٍّ من تلك التي تقاس في المختبر للعناصر المعروفة، وخَلَص إلى أن ذلك لا بد أنه يرجع إلى مادة جديدة، غير مرئية حتى اليوم. وشاهَد الفلكي الفرنسي بيير جانسين الشيءَ نفسه في الوقت ذاته من مرصده في باريس. وأطلق على العنصر الجديد اسم الهليوم، اشتقاقًا من كلمة helios؛ وهي الكلمة اليونانية التي تعني الشمس.

الهليوم هو الغاز الأخف بين الغازات التي تسمَّى الغازات النبيلة؛ وهي عناصر خاملة للغاية. وهذا هو السبب في أنها لم تُرَ قبل ذلك؛ رغم أنها موجودة بالفعل على الأرض. وقد اكتُشف الهليوم الأرضي لأول مرة بعد سبعة وعشرين عامًا من رؤية لوكير وجانسين له في الشمس.

من خلال دراسات لوكير للطَّيْف الشمسي، تَبيَّن له أن الشمس مستنقَع من العناصر الكيميائية. من أين جاءت؟ في عام ١٨٧٣م وَضَع لوكير نظرية وشرَحها في وقت لاحق في كتاب «كيمياء الشمس» (١٨٨٧)، وهذه النظرية تقول إنه في النجوم الأشد سخونةً (البيضاء الضاربة للزرقة) تنقسم المادة النجمية إلى مكوِّنات الذرَّات نفسها: «الجسيمات دون الذرية»، وهي المادة الأولى التي ناقشها دوما. وبعد ذلك، عندما تَبرد النجوم، تتجمَّع هذه الجسيمات لتُشكِّل عناصر عادية؛ بما في ذلك بعض العناصر غير المعروفة (في ذلك الحين) على وجه الأرض مثل الهليوم.

اعتقد لوكير أن النجوم بدأت في صورة تجمُّعات طليقة من الغاز والغبار زاخرة بكل أنواع العناصر. وبينما تتجمَّع هذه المواد في صورةٍ أكثر ترابطًا تحت وطأة سحب الجاذبية، فإن درجة حرارتها ترتفع حتى تصبح ساخنة بما فيه الكفاية لتحطيم الذرَّات لتكوين المادة الأولى. ثم، بينما لا يزال النجم يتقلَّص، فإن درجة سخونته تقل ليصبح ساخنًا لدرجة الاصفرار ولدرجة الاحمرار، وتتكثَّف المادة الأولى إلى عناصر أثقل تدريجيًّا. وهكذا كان يوجد «تطور» نجمي للعناصر مماثلٌ لتطور الأنواع لدى داروين.

قُدِّمت هذه النظرية في مجلة «نيتشر» — التي أسَّسها لوكير — عام ١٩١٤م. ولكن بحلول ذلك الوقت، خضعت أسئلة — من قبيل: مِمَّ تُصنع الذرَّات؟ وهل هي قابلة للتجزئة والتحويل؟ — لتجارب على الأرض. وأظهرت هذه التجارب أن المتحمِّسين لفكرة «المادة الأولى» — براوت ودوما ولوكير — قد توصلوا إلى نوع من الحقيقة.

داخل الذرَّة

عندما قرَّر إرنست رذرفورد (١٨٧١–١٩٣٧م) تشريح الذرة، اختار الذهب للسبب نفسه الذي جعل الفنانين في العصور الوسطى يستخدمونه لتزيين جدران المذابح؛ إذ يمكن طرقه بالمطرقة ليصبح في صورة رقائق شبه شفَّافة. وخَلَص رذرفورد — ذلك الفيزيائيُّ النيوزيلنديُّ المَوْلد — إلى أن هذا يعني أن بإمكانه دراسة عيِّنة بسُمك بضع ذرَّات فقط. كان هذا مهمًّا؛ إذ إن رذرفورد أراد معرفةَ ما الذي يوجد «داخل» الذرَّة؛ ولهذا كان في حاجة إلى جزء رقيق، للسبب نفسه الذي يدفع اختصاصيَّ المجاهر إلى كشط شريحة رقيقة من الأنسجة لفحصها. كان يحتاج إلى رؤيةِ ما بداخلها.

قال رذرفورد ذات مرة: «نشأتُ وأنا أنظر إلى الذرَّة على أنها شيء جامد، أحمر أو رمادي اللون، حسب الذوق.» ولكن في عام ١٩٠٧م اكتشف أن الذرة لم تكن جامدة بهذا الشكل على الإطلاق؛ فمعظمها عبارة عن حيِّز فارغ. أثناء عمل رذرفورد في جامعة مانشستر في إنجلترا، أطلق هو وتلميذاه هانز جايجر وإرنست مارسدن جسيماتِ ألفا من عناصر مشعَّة نحو رقاقة ذهب، ووجدوا أن الجسيمات يمكنها أن تمرَّ مباشرة عبر هذا العنصر الثقيل؛ فقد مرَّت الجسيمات غالبًا من الرقاقة دون انحراف عن مسارها (ساعد جايجر في ابتكار الجهاز الذي رصد جسيمات ألفا، والذي طوَّره بعد ذلك ليصبح «عداد جايجر»).

بالطبع، ستتخيَّل هنا أن الأمر سيكون أشبه برصاصة تمرق مخترقة رقاقة الذهب. ولكن جسيم ألفا أخفُّ وزنًا بكثير من ذرَّة واحدة من الذهب. واستنتج رذرفورد عام ١٩٠٨م أن هذا الجسيم في الأساس عبارة عن ذرَّة هليوم مشحونة كهربائيًّا؛ أي «أيون» هليوم. الوزن الذري للهليوم هو ٤، والوزن الذري للذهب هو ١٩٧. ومهما كانت رقاقة الذهب رقيقة، فإن جسيمات ألفا لن تعبر من خلالها إذا كانت الذرَّات على النحو الذي أُبلغ به رذرفورد.

ولكن مفاجأة اكتشاف أن جسيمات ألفا تمر عبر رقائق الذهب لم تكن شيئًا بالمقارنة مع ما اكتشفه مارسدن بعد ذلك. ثمة عدد قليل من جسيمات ألفا لم يمرَّ على الإطلاق، بل ارتدَّ إلى الوراء. وحينئذٍ كان ينبغي على الباحثين، الذين اعتادوا على فكرة أن الذرَّات أشياءُ هشَّةٌ، مراجعةُ أفكارهم على نحو جدِّي. قال رذرفورد في وقت لاحق متذكِّرًا رؤيته نتائج مارسدن: «كان هذا من أكثر الأحداث غرابةً في حياتي. كان بالفعل أمرًا يصعب تصديقه كما لو أطلقت قذيفة بقطر ١٥ بوصة على منديل ورقي، وارتدَّت لترتطم بك.»

كان فريق رذرفورد قد اكتشف النواة. وخَلَص إلى أن الذرَّات في معظمها حيِّزٌ فارغ؛ ولكن يوجد بها نواة مركزية كثيفة على نحو لا يصدَّق؛ حيث تكمُن تقريبًا كل كتلتها. وهذه النواة — الأصغر بنحو ١٠ آلاف مرة من عرض الذرة نفسها — يجب أن تكون موجَبة الشحنة؛ بسبب الطريقة التي صدَّت بها جسيمات ألفا الموجبة الشحنة. وقال رذرفورد إنها محاطة بسحابة من «الكهرباء المضادة المساوية لها في المقدار».

حوَّل عالِم الفيزياء الدنماركي نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢م) هذا الوصف الغامض للذرَّة إلى شيء أكثر دقةً وجاذبيةً من الناحية النظرية. كان علماء الفيزياء يعرفون لعدة سنوات أن الذرَّات تحتوي على إلكترونات؛ وهي الجسيمات دون الذرية السالبة الشحنة التي اكتشفها جوزيف جون طومسون عام ١٨٩٧م. وحينما كان بور طالبًا شابًّا، ذهب إلى كامبريدج في عام ١٩١١م للعمل مع طومسون، ولكنه وجد الفيزيائي الإنجليزي غير منفتح، فتحوَّل بسرعة إلى مختبر رذرفورد في مانشستر. وفي عام ١٩١٢م ابتكر نموذجًا للذرَّة نَشَرَه في العام التالي، وفاز بجائزة نوبل عنه في عام ١٩٢٢م.

في الحقيقة، ذرَّة بور — التي تدور الإلكترونات فيها حول نواة كثيفة مثل الكواكب حول الشمس — كان قد فكَّر فيها رذرفورد بالفعل. وكانت مساهمة بور الحاسمة هي إظهار كيف يمكن أن يكون هذا النسق مستقرًّا؛ إذ إنه وفقًا للفيزياء التقليدية، ينبغي أن تبعث الإلكترونات الدوارة الضوء وهي تدور. وهذا يعني أنها تفقد طاقة، بحيث تتخذ في نهاية المطاف مسارًا حلزونيًّا ساقطًا نحو النواة. ولِتخطِّي هذه الصعوبة، كان على بور استخدام أفكارِ نظرية الكم الجديدة، التي تنبع من عمل أينشتاين وماكس بلانك في بداية القرن.

من الواضح أن ذرة بور بعيدة كل البعد عن ذرة دالتون. فلم تعُد كتلةً غير قابلة للتجزئة؛ فهي مصنوعة من الجسيمات دون الذرية — الإلكترونات والنواة — وهي في معظمها مجرد حيِّز فارغ. ولا يتم تعريف «حجم» الذرة استنادًا إلى حدود محددة، ولكن استنادًا إلى المسافة التي تفصل بين مدارات الإلكترونات فيها والنواة.

وماذا عن النواة؟ افترضَ رذرفورد أنها تتكوَّن من جسيمات دون ذرية تحمل شحنة موجبة. وأكَّد أن الهيدروجين — الذرة الأخف وزنًا — يحتوي على واحد فقط من هذه الجسيمات أطلق عليه اسم «بروتون»، وعدَّه الشكل النهائي للمادة الأولى. وتحتوي أنوية الهليوم (أي جسيمات ألفا) ضِعف الشحنة الموجبة الموجودة في أنوية الهيدروجين، وأشار رذرفورد إلى أنها من ثم تحتوي على اثنين من البروتونات. هنا تثبُت فرضية براوت؛ فبما أن النواة هي تكتلات من البروتونات، فإن كل العناصر بطريقةٍ ما مصنوعةٌ من الهيدروجين.

ولكن أدرك رذرفورد أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فربما تحتوي نواة الهليوم على ضِعف شحنة نواة الهيدروجين، ولكنها تملك أربعة أضعاف كتلتها؛ ولذلك أشار إلى أن الأنوية تحتوي أيضًا على جسيمات لديها نفس كتلة البروتونات ولكن دون شحنة كهربائية. اكتشف جيمس تشادويك — تلميذ رذرفورد — هذا الجسيم المتعادِل الشحنة عام ١٩٣٢م، وأَطلق عليه اسم «النيوترون».

كما في نموذج ذرَّة بور الشائع حاليًّا، الإلكترونات — التي لها كتلة تبلغ فقط ٠٫٠٠٠٥٥ من كتلة البروتون، ولكن تمتلك شحنة كهربائية مساوية ومعاكسة — تدور حول نواة من البروتونات والنيوترونات المضغوطة معًا بكثافة مذهلة. إذا كانت المادة كثيفة على نحو منتظم مثل النواة ولا تحتوي على حيِّز فارغ كبير جدًّا، فإن مَلء كشتبان منها سيزن نحو مليار طن.٤
من الشائع تمثيل الذرَّة بنموذج يشبه المجموعة الشمسية. وهذا النموذج عبارة عن مخطَّط أنيق لتشريح الذرَّة، وأصبح واحدًا من الرموز العالمية في العلوم ٤-٢. ويُعرف باعتباره رمزًا للطاقة النووية، ولا يزال مستخدَمًا من قِبل الهيئة الدولية للطاقة الذرية. إن العلم يحتاج لرموز مثل هذا الرمز لغرس أفكاره في أذهان عموم الناس.
fig6
شكل ٤-٢: نموذج «المجموعة الشمسية» للذرة الذي وضعه نيلز بور هو رمز معروف عالميًّا، ولا يزال مستخدمًا حتى اليوم للدلالة على جميع الأشياء الذرية؛ على الرغم من خطئه (أ) شعار أحد أقسام جامعة شيكاجو. (ب) شعار الهيئة الدولية للطاقة الذرية.

كل ذلك جيد للغاية، ولكن بور كان مخطئًا في صورته للذرة. إن صورة النواة الكثيفة المحاطة بالإلكترونات دقيقة بما فيه الكفاية، لكنها لا تتبع مدارات بيضاوية مثل مدارات الكواكب؛ فالزهرة والمريخ يتبعان قوانين نيوتن، أما الإلكترونات فتخضع لقوانين ميكانيكا الكم. وهذا ما يجعلها أكثر غموضًا. فلا يمكننا مطلقًا تحديد موقع الإلكترون في الذرة، حتى ولو بوجه عام، وكل ما يمكننا القيام به هو حساب احتمالية كونه في مكان معين في وقتٍ ما. وهذه الصورة غير الواضحة المعالم للإلكترون ناتجةٌ عن طريقة إظهار الأجسام الصغيرة جدًّا لخواص موجية فضلًا عن كونها تُشبه الجسيمات.

لذلك من الأفضل النظر للإلكترونات على أنها تشكِّل سحابة من نوعٍ ما، مثل النحل الذي يطن حول الخلية؛ ولكنها تتحرَّك بسرعة شديدة لدرجةٍ لا تسمح برؤيتها بوضوح. وعلاوةً على ذلك، لا تتخذ السحابة شكلًا قرصيًّا مثل حلقات زحل، كما قد توحي مضاهاتها بالمجموعة الشمسية. فهي تمتلك مجموعة من الأشكال المختلفة، اعتمادًا على طاقات الإلكترونات التي تشكِّلها؛ فبعض السحب كُروية، والبعض الآخر له شكل الدمبل أو شكل متعدِّد الفصوص يتمحور حول النواة. وتسمَّى هذه السحب «المدارات الذرية».

قبل مجيء نظرية الكم، لم يكن الكيميائيون قادرين على الإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلَّق بالعناصر: لماذا تمتلك العناصر خواصَّ بعينها؟ لماذا الهليوم شديد الخمول والصوديوم شديد التفاعل؟ لماذا تتَّحد ذرات الهيدروجين في أزواج في غاز الهيدروجين، في حين تتحد كل ذرة كربون مع أربع ذرَّات كربون أخرى في الماس؟

كما أشرتُ في البداية، خواص العناصر هذه مسجَّلة في الأساس وعلى نحو منطقي في الجدول الدوري. وسنرى قريبًا أن الذرة الكمومية تقدِّم تفسيرًا للجدول الدوري. ولكن من أين أتى هذا الجدول في المقام الأول؟

أنماط وتشابهات

تتمثَّل إحدى المحاولات الأولى لنشر الكيمياء — التي لا تزال محاولة من أكثر المحاولات إمتاعًا في تاريخها — في كتاب برنارد جافي «قصة الكيمياء … بواتق وأنابيق»، الذي نُشر لأول مرة عام ١٩٣٠م، ويروي كيف تطوَّر هذا المجال من خلال سرد حياة بعض أكثر الشخصيات إثارةً للاهتمام في مجال الكيمياء. ولكن لا تقرأ هذا الكتاب إذا كنت تبحث عن منظور تاريخي دقيق. فلِأنَّ جافي كان يريد تأليف قصة طويلة جيدة ينتقل فيها من موضوع لآخر، كان يقبل بحماسٍ كلَّ الأساطير الشعبية، ويقدِّم كل فكرة على أنها فكرة عبقرية طرأت بعد صراع عنيف لمعرفة الحقيقة. فيبدو كيميائيو جافي أنهم في مهمَّة ملحَّة لإيجاد تفسير وضعي للعِلم.

وهكذا، إليك شخصية ديمتري مندليف الذي صوَّره جافي على أنه «رائد الكيمياء» غريب الأطوار أشعث الشعر، «التتري الذي لن يقصَّ شعره حتى لإرضاء جلالة القيصر ألكسندر الثالث.» كان «حالمًا وفيلسوفًا»، وكانت مسألةُ ما إذا كان يمكن إيجاد نظامٍ ما يحكم كافة العناصر على اختلافها «تسكن أحلامه».

ولكي نكون منصفين، كان لدى جافي ذات مرةٍ العديدُ من الحجج المؤيِّدة له. كان مندليف (١٨٣٤–١٩٠٧م) شخصية مفعمة بالحيوية، لا شك في ذلك. كان مندليف سليلًا للقوزاق، وُلد في أقاصي سيبيريا (لعائلة من الأبطال الروَّاد)، ومن الواضح أنه ترك انطباعًا غريبًا على السير وليام رامزي عندما التقيا عام ١٨٨٤م. رامزي — الذي اكتَشف بعد ذلك معظم الغازات النبيلة — قابل مندليف في اجتماعٍ عُقد في لندن، وخَلَص إلى أنه «زميل لطيف … أعتقد أنه «قلموقيٌّ» (فرْد من قبيلة القلموق) أو واحدٌ من تلك الكائنات الغريبة.»

سعى مندليف نفسُه لتعزيز صورته هذه كصاحب رؤية حالمة، متذكِّرًا بعد ذلك كيف أنه اكتشف أخيرًا الشكل الصحيح على الأرجح للجدول: «رأيتُ في المنام جدولًا وُضعتْ جميع العناصر في مكانها به كما هو مطلوب. وعندما استيقظتُ، كتبتُه على الفور على قطعة من الورق.» إنها صورة جميلة، والغريب أن جافي لم يركِّز عليها في تناوله لسيرة مندليف. في الواقع، ليس من المستبعَد على الإطلاق أن مندليف غَلَبَه النعاس بينما كان يفكِّر في المشكلة، أو أن حالته شبه الواعية كانت تسكنها أنماط العناصر. لقد فكَّر في مخطَّطاتٍ ترتيبيةٍ عديدةٍ لمدة ثلاثة أيام وليالٍ قبل أن يتوصَّل إلى المخطَّط الصحيح، ويقال إنه خلط البطاقات التي تحمل رموز العناصر باستحواذ مزاجي مثل الذي يعانيه مَن أُصيب بهوس اكتئابي. وقال لصديق كان يزوره عشيةَ التوصُّلِ لفكرة الجدول: «كل شيء قد تشكَّل في رأسي.»

ولكنَّ إلهام الأحلام كان فكرة مفضَّلة لدى الكيميائيين في القرن التاسع عشر؛ الذين كانوا يمارسون العلوم المصطبغة بمسحة من الرومانسية. ادَّعى أوجست فريدريك كيكولي أنه استخلص تركيب جزيء البنزين الذي يشبه الحلقة بهذه الطريقة عام ١٨٦٥م. يمكن للرؤى العلمية الكاشفة أن تتجلَّى بلا شك في لحظات التأمل العفوية تلك، ولكن المبالغة في التركيز عليها أو الإفراط في تصديقها يهدِّد بطمس الشيء المهم الآخر الذي أدَّى إلى الاكتشاف، وهو العمل المسبق.٥

لم يكن كيكولي أو مندليف أوَّل مَن تَعَامَل مع المشكلات المتعلِّقة بترتيب العناصر؛ فقد ألمح آخرون بالفعل إلى الحل المحتمَل. صحيح أن جدول مندليف الدوري كان إسهامًا عمليًّا مهمًّا ومتميزًا، ولكنه لم يكن المحاولة الأولى لوضع العناصر في جدول، ولا كان مندليف أول مَن سلَّط الضوء على الأنماط المتكرِّرة في سلوكها. وعندما يكون الوقت ملائمًا لتطوراتٍ مثل هذه، فإنه من الشائع أن تتبلور هذه التطورات على نحوٍ مستقل ومتزامن تقريبًا في أكثر من عقل واحد. كانت نظرية داروين ستسمَّى نظرية والاس لو أن ألفريد راسل والاس قد هرع إلى نشر أفكاره بدلًا من إرسالها إلى صديقه تشارلز داروين والموافقة على نشر عملَيْهما في ذات الوقت. وربما كان الكيميائي الألماني يوليوس لوثر ماير — وليس مندليف — هو مَن كان سيخلَّد اسمه بالجدول الدوري لو أنه نشر نسخته المماثلة عام ١٨٦٨م، عندما رسمه، وليس عام ١٨٧٠م؛ فقد كانت المملكة الدورية للعناصر بحلول نهاية ستينيات القرن التاسع عشر اكتشافًا محتَّمًا حدوثه.

منذ أن نشر لافوازييه قائمته المكوَّنة من ثلاثة وثلاثين عنصرًا عام ١٧٨٩م، عكف الكيميائيون على البحث عن سبل لترتيبها وتصنيفها. قسَّم لافوازييه العناصر إلى غازات ولافلزات وفلزات وعناصر «أرضية» (تضمَّنت مُرَكَّبَيِ الجير والمغنيسيا). في عام ١٨٢٩م، وهو الوقت الذي كانت القائمة قد امتدَّت فيه إلى حدٍّ ما، لاحظ يوهان فولفجانج دوبرينير في ألمانيا أن العديد من العناصر يمكن تجميعها في ثلاث فئات (أي «ثلاثيات») يُظهِر أعضاؤها خواص كيميائية متماثلة. على سبيل المثال، يشكِّل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم ثالوثًا من المعادن اللينة الشديدة التفاعل. ثم يوجد الكلور والبروم واليود؛ وهي غازات لاذعة سامة ملوَّنة. كان لهذه الثلاثيات منطق داخلي خاص: كان الوزن الذرِّي للعضو الثاني فيها يساوي تقريبًا متوسط الوزن الذري للأول والثالث.

بحلول عام ١٨٤٣م، كان الكيميائي الألماني ليوبولد جِملِن قد حدَّد عشر ثلاثيات وكذلك ثلاث مجموعات من أربعة عناصر (رباعيات) ومجموعة من خمسة عناصر. واعتمد جان بابتيست دوما علاقاتٍ بين فئات معينة من الفلزات عام ١٨٥٧م. على ما يبدو، تُشكِّل العناصرُ عائلاتٍ. عندما يرى العلماء بِنْية معينة، يَشكُّون في سبب كامن وراءها؛ أيْ أساسٍ تنظيميٍّ ما. ولكن لِفَهمِ ما يحكم ترتيب العناصر، كانوا في حاجة إلى مخطَّط يضمُّها جميعًا، وليس مجرد مجموعة من التشابهات العارضة.

أحد المكوِّنات الرئيسية لمثل هذا المخطَّط قدَّمه الكيميائي الإيطالي ستانيسلاو كانيزارو عام ١٨٦٠م، وقد أعلن في مؤتمر كيميائي دولي في كارلسروه أنَّ عمل أميديو أفوجادرو — الذي ينتمي لنفس بلده — تمخَّض عن قائمة محسَّنة من الأوزان الذرية للعناصر. وسمحت هذه القائمة بترتيب العناصر ترتيبًا دقيقًا وفقًا لوزنها؛ مِن الأخف وزنًا (الهيدروجين) حتى الأثقل.

جذبت أوزان كانيزارو اهتمام عدد من الحضور في كارلسروه، على الرغم من أن الحماس لتأييده الشديد لأفكار أفوجادرو كان فاترًا، على أقل تقدير. كان مندليف من بين أولئك الذين بحثوا عن القائمة الجديدة، ولكنه لم يكن وحده؛ فقد سمع لوثر ماير حديثَ الكيميائي الإيطالي أيضًا، واحتفظ بنسخة من كتيِّبه. وحوْل قراءته بعد ذلك، قال: «كان الأمر أشبه بغشاوة انقشعت عن عيني.»

نشر ماير عام ١٨٦٤م جدولًا للعناصر مجمَّعةً وفقًا للنسب التي يتَّحد بها بعضها مع البعض الآخر. وأشار كيكولي عام ١٨٥٨م إلى أن الكربون يميل إلى الاتحاد مع ذرَّات أخرى بنسبة واحد إلى أربعة؛ ففي الميثان، تتَّحد ذرة كربون واحدة مع أربع ذرَّات من الهيدروجين، وفي رباعي كلوريد الكربون ترتبط ذرة الكربون بأربع ذرَّات من الكلور. وقدَّم هذا مفهومَ «التكافؤ»؛ أيْ نسبة الذرات المطلوبة «لإشباع» كل عنصر. وكأن ذرات الكربون بها أربعة شقوق مخصَّصة لذرَّات أخرى. لخَّص جدول ماير تكافؤات العناصر المعروفة التسعة والأربعين، وكشف أن العناصر ذات التشابه الكيميائي تشترك أيضًا في تكافؤ عام؛ فلمجموعة الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم تكافؤٌ مقداره واحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى مجموعة الكلور والبروم واليود.

لاحَظَ آخرون أيضًا أمرًا ما يتعلَّق بانتماء العناصر لمجموعات معينة. جَمَع وليام أودلينج العناصر في مجموعات في خمسينيات القرن التاسع عشر وفقًا لخواصها الفيزيائية والكيميائية. وشمل ذلك سلاسل مثل الأكسجين – الكبريت – السيلينيوم – التيلوريوم، والنيتروجين – الفوسفور – الزرنيخ – الأنتيمون – البزموت، التي ظهرت في وقت لاحق في جدول مندليف. ورسم أودلينج عام ١٨٦٤م مخطَّطًا قريبًا للغاية من مخطَّط مندليف.

نشر الكيميائي الإنجليزي جون نيولاندز في نفس ذلك العام مجموعة من الأبحاث التي تُبيِّن كيف أن الخواص تتكرَّر على نحوٍ دوري كل ثمانية عناصر إذا تم ترتيبها على أساس الوزن الذري. شبَّه نيولاندز هذا بالموسيقى؛ حيث يبدأ السلم الموسيقي من جديد كل ثُمانيٍّ درجةً نغمية. وقدَّم هذه الفكرة في خطاب أمام الجمعية الكيميائية في لندن عام ١٨٦٦م، إلا أنه قوبل بالسخرية. اعتَبر كيميائيون آخرون «قانون الثُّمانيات» مجرد مصادفة، وأشار أحدهم مازحًا إلى أنه ربما بحث أيضًا عن مثل هذه الأنماط بعد ترتيب العناصر أبجديًّا. وفقط عام ١٨٨٧م، بعد أن أثبت مندليف نمط «الثُّمانيات»، تلقَّى نيولاندز تقديرًا متأخرًا على ملاحظاته في صورة ميدالية ديفي التي منحتها إياه الجمعية الملكية للكيمياء.

fig7
شكل ٤-٣: الجدول الدوري لمندليف عام ١٨٦٩م، مبيِّنًا الأوزانَ الذريةَ كما كانت تُعرف آنذاك.
وعلى الرغم من كل هذا، فإن مندليف هو مَن نتذكره ونُجلُّه لترتيبه العناصر؛ وحتى حينها، كان جدوله الأصلي عام ١٨٦٩م (شكل ٤-٣) يحتوي الكثير من الشذوذ مقارنةً بالنسخة الحديثة (شكل ٤-٤). ومع هذا، كان إسهام مندليف بالغ الأهمية؛ فكانت رؤيته الكاشفة تتمثَّل في إدراكه أن التحدي لم يكن يكمن في إيجاد ترتيبٍ بين العناصر بقدرِ ما كان يكمن في إيجاد الترتيب الذي يمثِّل أساسًا لهذه العناصر. الفارق بين هذين الأمرين يتجلَّى في الطريقة التي ترك بها جدول مندليف «أماكن فارغة»، مع وجود علامات الاستفهام في بعضها؛ إذ أدرك أن العلم في عصره ربما لم يكن قد اكتَشَف بعدُ جميعَ العناصرِ.
fig8
شكل ٤-٤: الجدول الدوري الحديث للعناصر. تُشير الأرقام إلى العدد الذرِّي لكل عنصر؛ أيْ عدد البروتونات التي تحتويها نواته. وقد رُصدت بعض العناصر الفائقة الثقل بعد عنصر مايتنريوم Mt ولكن لم يطلق عليها أسماء بعدُ.

حتى هذا ليس بأكمله من ابتكار مندليف نفسه؛ إذ إن جدول أودلينج أيضًا احتوى أماكن فارغة للعناصر الناقصة. ولكن مندليف تعمَّق أكثر من ذلك؛ فاستخدم السمات الدورية للجدول في التنبؤ بشيء من التفصيل بخواص العناصر الناقصة. وكان إيمانه بجدوله راسخًا للغاية، لدرجة أنه كان مستعدًّا للتشكيك في الأوزان الذرية المحدَّدة تجريبيًّا في الحالات التي تبدو فيها متعارضة مع مخطَّطه للترتيب (مثل عنصر الثوريوم).

ظهرت عناصر مندليف الناقصة واحدًا تلو الآخر؛ فقد اكتُشف العنصر الذي سمَّاه عنصر تحت-الألومنيوم، والذي وضعه «أسفل» الألومنيوم (كان جدول مندليف رأسيًّا بينما الجدول الحديث أفقي) في عام ١٨٧٥م على يد الفرنسي بول إميل لوكوك. وأسماه — بدافع الحماسة الوطنية التي ميَّزت عصره — الجاليوم.٦ وتوصَّل الألماني كليمنس وينكلر عام ١٨٨٦م إلى عنصر تحت-السيليكون (كما أسماه مندليف) وأطلق عليه الجرمانيوم.

من المصادفة أن لوكوك لم يكن يعرف أي شيء عن جدول مندليف أو توقعاته عندما اكتشف الجاليوم؛ فعندما نشر اكتشافه، انزعج إلى حدٍّ ما عندما وَجَد أن اكتشافه كان متنبَّأً به. وجادل قائلًا بأن كثافة العنصر الجديد كانت في الواقع مختلفة تمامًا عن الكثافة التي تنبَّأ بها مندليف للعنصر تحت-الألومنيوم؛ لذلك لا يمكن أن يكون عنصره الجديد هو نفس المادة التي توقَّعها الروسي مندليف. ولكن القياس اللاحق أظهر أن الكثافة التي تنبَّأ بها مندليف كانت دقيقة.

احتاج جدول مندليف الأصلي قليلًا من التغيير لاحقًا، والنسخة التي نشرها الكيميائي السيبيري عام ١٩٠٢م لم تكُن أكبر حجمًا فحسب (فبين أشياء أخرى، شملت هذه النسخة الغازات النبيلة؛ وهي الهليوم والنيون والأرجون والكريبتون والزينون في صف جديد تمامًا) ولكنها أيضًا كانت معادة الترتيب؛ مما جعلها أقرب إلى نسخة الوقت الحالي. وبحلول ذلك الوقت، كان قد ابتُكرت عدة نماذج أخرى للجدول الدوري.

فعلى سبيل المثال، ابتكر الكيميائي البريطاني وليام كروكس نظامًا معقَّدًا لترتيب العناصر اعتمد فيه على تجميعات مندليف للعناصر، وفي نفس الوقت سلَّط الضوء على اقتناع كروكس — الذي شاركه فيه لوكير — بأن العناصر الكيميائية «نشأت» في النجوم. كان كروكس يعتقد أن العناصر نشأت من بلازما جسيمات دون ذرية، مثل أنواع البلازما التي يستطيع صُنعها في المختبر عن طريق إرسال شحنات كهربائية خلال الغازات (في الواقع، أنواع البلازما هذه ليست مكوَّنة من جسيمات دون ذرية، على الرغم من أنها تحتوي على أيونات). وكانت إعادة تجميع الجسيمات دون الذرية من وجهة نظر كروكس ناجمة عن قوة كهربائية متذبذبة، أنتجت تموجاتها السمات الدورية التي يتميز بها جدول مندليف. جسَّد كروكس نظريته باستخدام نموذج في شكل «لولب تلوري»، كشف النقاب عنه عام ١٨٨٨م (شكل ٤-٥).
fig9
شكل ٤-٥: لولب وليام كروكس التلوري؛ وهو نموذج بديل بدائي من الجدول الدوري.

تَبيَّن أن الأشكال اللولبية والدائرية للجدول الدوري ثابتة. وقد تكهَّن بهذه الأشكال الترتيبُ اللولبي للعناصر الذي نُشر في مقالة عام ١٨٦٢م كَتبها الجيولوجي الفرنسي ألكسندر إميل بكوييه دي شانكورتوا، الذي توصَّل إلى أن هذا أوجد خواص دورية بين العناصر في الأعمدة الرأسية نحو قمة المسار اللولبي. وصمَّم العالم الدنماركي جوستاف ديتلف هنريكس أيضًا نموذجًا للجدول الدوري اللولبي عام ١٨٦٧م. ولكن لم يحظَ أيٌّ من هذه النماذج البديلة بتأييد كبير؛ وذلك لسبب بسيط، هو أن الشكل اللولبي «مبالَغ» في سماته الدورية.

ورغم كل شيء، يمتلك جدول مندليف سمات دورية شديدة الغرابة. كانت نسخة عام ١٨٦٩م تحتوي على عدة مستويات فرعية غير متساوية الحجم. وفي نسخة اليوم (شكل ٤-٤) لا تزال هذه المستويات الفرعية موجودة. وهي تقسِّم الصف الأول الذي لا يحتوي إلا على الهيدروجين والهليوم، بحيث يكون الهيدروجين في الأعلى يسارًا والهليوم في الأعلى يمينًا.٧ ويحتوي الصفَّان التاليان على ثَمانية عناصر في كلٍّ منهما، في كتل مكوَّنة من عنصرين وستة عناصر. وأول عنصرين من هذه العناصر يكونان فلزين، والستَّة التالية (باستثناء الألومنيوم) من اللافلزات.

ويحتوي الصفَّان الرابع والخامس على ثمانية عشر عنصرًا؛ لأنه يوجد مستوًى فرعي جديد مكوَّن من عشرة عناصر بعد العنصرين الأولين. وهذه الصفوف الثلاثة المكوَّنة من عشرة عناصر في منتصف الجدول لا تحتوي إلا على الفلزات التي تسمَّى الفلزات الانتقالية.

يتضمَّن الصف السادس مستوًى فرعيًّا آخرَ من أربعة عشر عنصرًا في وسطه، ولا نستطيع حتى وضعَها في المكان المناسب دون تفادي استطالة الجدول على نحوٍ غير مناسب؛ لذا فقد وُضعت أسفل الجدول (بعض نسخ الجدول تَعرِضها في صورة حلقة تنبثق بين اللانثانوم والهافنيوم). ويتكرَّر هذا المستوى الفرعي المكوَّن من أربعة عشر عنصرًا في الصف السابع. وتُعرف عناصر المستوى الفرعي الأول من هذين المستويين الفرعيين باسم عناصر اللانثانيدات، والعناصر الموجودة في المستوى الفرعي الثاني باسم الأكتينيدات.

هذا هو النمط: ٢، ٨، ٨، ١٨، ١٨، ٣٢ (١٨ + ١٤)، ٣٢. بالتأكيد، يوجد نوع من الانتظام هنا، لكنه لا يكاد يكون ظاهرًا. لماذا هذه الأرقام؟ ما الذي يعطي الجدول الدوري شكله؟ لم يكن مندليف لديه أدنى فكرة، ولا أي شخص آخر، حتى جاءت نظرية الكم.

قراءة الجدول

يزداد الوزن الذري للعناصر في الجدول الحديث عند الاتجاه من اليسار إلى اليمين ومن أعلى إلى أسفل؛ ولكن الأوزان لا تزيد بدرجات منتظمة. لا يتحدَّد الترتيب بناءً على الوزن الذري بقدر ما يتحدَّد عن طريق «العدد» الذري. ويُعرف العدد الذري بأنه عدد البروتونات في نواة ذرة العنصر.

الوزن الذري للعنصر — الكمية التي يستطيع الكيميائيون وزنها باستخدام المقاييس والموازين — يعتمد على عدد البروتونات والنيوترونات، اللتين تَكونان في الواقع متساويتين تقريبًا في الكتلة. وفي الأنوية الخفيفة، يوجد عدد متساوٍ تقريبًا من كلتيهما؛ بينما في الذرَّات الأثقل يكون عدد النيوترونات هو الأكبر على الأرجح. ولكن عدد البروتونات هو الكمية الأكثر أهميةً؛ نظرًا لأنه يحدِّد الشحنة الموجبة في النواة. وقبل أن ينشر رذرفورد فكرة أن الذرات تحتوي على بروتونات موجبة الشحنة، لم يكن مفهوم العدد الذري موجودًا، فضلًا عما قد يعنيه.

ومن ثَمَّ فإن الطريقة الصحيحة لترتيب العناصر في تسلسل تتمثَّل في الاعتماد على العدد الذري، الذي يزيد بمقدار واحد بالانتقال من عنصر إلى الذي يليه. يخبرنا هذا الرقم بعدد الإلكترونات التي تمتلكها ذرات كل عنصر؛ إذ إن عدد الإلكترونات مساوٍ لعدد البروتونات؛ حيث إن البروتونات والإلكترونات يوازن بعضها شحنة بعض؛ مما يجعل الذرة متعادلة كهربائيًّا.

عدد الإلكترونات في الذرَّة أمرٌ بالغ الأهمية؛ لأن السلوك الكيميائي يتحدَّد من خلال هذه الجسيمات. فعندما تتحد الذرَّات معًا لتشكيل مركَّبات، فإنها تفعل ذلك باستخدام الإلكترونات كنوع من الغراء. وتوجد طريقتان رئيسيتان للقيام بذلك، تميل بعض الذرَّات إلى التشارك في الإلكترونات، فيتزاوج أحد إلكتروناتها مع أحد إلكترونات الذرة الأخرى، وهو ما يشبه المصافحة نوعًا ما. وذرَّات أخرى تُطلِق أو تكتسب إلكترونات لتصبح أيونات مشحونة كهربائيًّا. ففي جزيء الميثان، تقوم ذرة الكربون بالارتباط بأربع ذرات من الهيدروجين عن طريق التشارك في الإلكترونات. وفي ملح الطعام، تتبرَّع ذرَّات الصوديوم بإلكترون واحد لكل ذرَّة كلور؛ مما يجعل ذرَّات الصوديوم أيونات موجبة الشحنة وذرَّات الكلور أيونات سالبة الشحنة (تسمَّى كلوريد). بعد ذلك تلتصق أيونات الصوديوم والكلوريد معًا من خلال التجاذب الكهربي.

وفي كلتا الحالتين، تعتمد النزعة الطبيعية للترابط عند كل عنصر — التكافؤ — على عدد الإلكترونات التي تستطيع ذرَّاته المشاركة بها للدخول في روابط كيميائية. وباستثناء الهيدروجين (المحظوظ بامتلاك إلكترون واحد)، لا تستطيع الذرَّة استخدام جميع إلكتروناتها لتشكيل روابط. وعمومًا، الإلكترونات الأبعد عن النواة فقط هي المتاحة لذلك (بالمعنى الدقيق للكلمة، الإلكترونات الأعلى طاقةً هي التي تُستخدم في تشكيل روابط. وعادةً ما تكون هذه الإلكترونات هي الإلكترونات الأبعد عن النواة، على الرغم من أن هذا مفهوم غامض إلى حدٍّ ما في ضوء الأشكال الغريبة لبعض مدارات الإلكترونات).

عند استخدام نظرية الكم لحساب كيفية ترتيب الإلكترونات حول النواة، فإن هذه النظرية تُبيِّن أن الإلكترونات تصنَّف إلى مدارات. يحتوي المدار الأول على اثنين فقط من الإلكترونات، ويحتوي المدار الثاني على ثَمانية إلكترونات، والثالث على ثمانية عشر إلكترونًا؛ وتلك هي الأرقام السحرية للجدول الدوري.

بخلاف المدار الأول، تنقسم الإلكترونات أكثر بين مدارات فرعية. يوجد في المدار الثاني مدار فرعي واحد يشتمل على إلكترونين ومدار فرعي آخر يشتمل على ستة إلكترونات. والمدار الثالث يوجد به مدار فرعي يشتمل على إلكترونين، وآخر يشتمل على ستة إلكترونات، وثالث يشتمل على عشرة إلكترونات. ويوجد في المدار الرابع مدارات فرعية تحتوي على ٢، ٨، ١٠، ١٤ إلكترونًا.

وهكذا نبدأ في فهم مصدر أحجام المستويات الفرعية في الجدول الدوري؛ فهي تتوافق مع الملء المتتابع للمدارات والمدارات الفرعية بالإلكترونات مع زيادة العدد الذرِّي. تصبح التفاصيل معقَّدة قليلًا؛ لأن المدارات تبدأ في التداخل. فعلى سبيل المثال، أول مدار فرعي من المدار الرابع يمتلئ قبل ثالث مدار فرعي تابع للمدار الثالث. ولكن في الأساس، تظهر مستويات فرعية جديدة من العناصر كلما اتجهنا لأسفل خلال صفوف الجدول الدوري؛ وذلك بسبب ظهور مدارات فرعية إضافية تحتاج لملئها.

تأتي السمات الدورية للجدول من حقيقة أن ملء كل مدار يتبع نفس نمط المدار السابق له؛ ومن ثم فإنَّ تتابُع الخواص الكيميائية يتكرَّر. ويميل كل عنصر لتشكيل المركَّبات التي تجعل ذرَّاته ذات مدارات ممتلئة تمامًا، إما عن طريق مشاركة ذرَّات أخرى بإلكترونات، أو عن طريق إضافة إلكترونات أو إزالتها من المدار الأبعد. ومن خلال فقْد إلكترون واحد لتشكيل أيون، فإن عناصر الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم تكتسب مدارًا ممتلئًا يكون هو الأبعد عن النواة. ويحقِّق الكربون والسيليكون الشيء نفسه عن طريق المشاركة بإلكترون مع كل ذرَّة من أربع ذرَّات أخرى. وهذا هو السبب في دورية التكافؤ التي أدركها ماير. والغازات النبيلة خاملة؛ لأنها تأتي في نهاية كل صفٍّ وتمتلك بالفعل مدارًا ممتلئًا؛ لذلك لا «تحتاج» إلى تشكيل روابط مع ذرَّات أخرى لتحقيق ذلك.

إذن، هذا هو السبب في أن موقع العنصر في الجدول الدوري — صفه وعموده — يخبرنا بالكثير عن سلوكه الكيميائي. فالفلزات تقع إلى اليسار، واللافلزات تقع إلى اليمين، ويعد رقم العمود مؤشِّرًا للتكافؤ. وكقاعدة عامة، ينخفض التفاعل الكيميائي كلما اتجهنا لأسفل خلال الصفوف … وهكذا. إن الجدول هو أفضل «قصاصة غش» يمكن أن يفكِّر فيها كيميائي شاب طموح يتصبَّب عرقًا في امتحانات فصل الصيف.

هوامش

(١) خلَّد الكاتب البريطاني إدموند كليريهيو بنتلي هذا الاكتشاف في أبيات شعرية قليلة يقال إنه قد ألَّفها في محاضرة في الكيمياء:
السير همفري ديفي
الذي يبغض المرق.
عاش في حنق
من بعد أن اكتشف الصوديوم.
(٢) ربما تتساءل قائلًا: إذا كان الكربون والهيدروجين موجودَين بنسب متساوية في البنزين، فلماذا لا نكتب الصيغة CH فحسب؟ إحدى الإجابات هي أن نسبة ٦:٦ تصبح واضحة عندما نتناول صيغ المركَّبات المشتقَّة من البنزين، مثل الفينول C6H6O. فيبدو أن عنصر C6 وحدة متماسكة يمكن إضافة الذرات الأخرى إليها.
(٣) كان دوما في حيرة بسبب قياسات أوزان المركَّبات التي أشارت إلى أنه يمكن تقسيم الذرَّات، لدرجة أنه قال في عام ١٨٣٧م: «لو كنت متحكِّمًا في العلم لمحوت كلمة ذرَّة منه.»
(٤) المادة مضغوطة حقًّا بهذه الكثافة في النجوم النيوترونية التي انهارت تحت وطأة جاذبيتها لتزيل الذرات المنفردة من الوجود.
(٥) تجاهَل بعض مؤرخي الكيمياء تمامًا «حلم» مندليف. في الواقع، كان هناك تشكيك فيما إذا كانت روايته، التي زعم فيها أنَّ تلاعُبه بالبطاقات على غرار لعبة الورق أوصله إلى الترتيب الصحيح للعناصر؛ لها أي أساس.
(٦) «جاليا» Gallia هو الاسم اللاتيني لفرنسا، ولكن جالوس gallus هي الكلمة اللاتينية التي تعني ديك، والتي يقابلها في الفرنسية le coq. فهل كان مكتشف الجاليوم منغمسًا أيضًا في شيء من تعظيم الذات؟!
(٧) في الواقع، لا أحد يعرف فعليًّا أين يضع الهيدروجين. إنه في فئة خاصة به. في بعض الأحيان يوضع على قمة الفلزات القلوية جهة اليسار، وأحيانًا فوق الهالوجينات جهة اليمين، وأحيانًا يُترك ليطفو بحرية، جنبًا إلى جنب مع الهليوم؛ وهو ما قد يمثِّل أفضل حلٍّ في ضوء سمات الجدول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤