الفصل السابع

أغراض عملية: تكنولوجيا العناصر

من بين كل العناصر التي شكَّلت مصائر الحضارات، يمكن القول إنه لا يوجد عنصر أكثر نفعًا من المعدن الحربي؛ ذلك العنصر الأكثر استقرارًا وهو الحديد. يبدو أن الحيثيين في آسيا الصغرى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد كانوا أول حضارة تصهر الحديد وتشكِّله، وهذا مَنَحَ جيوشها ميزة على الخصوم. أتقنَ الآشوريون العسكريون هذا الفن حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، ولم يستطِع أي خصم أن يقاوِم قبضتهم الحديدية الوحشية لعدة قرون.

استخرجت روما الحديد وتاجرت فيه على نطاق واسع لتسليح جحافلها بالسيوف الحادة والدروع اللامعة. لم يكن هذا المعدن اللامع حديدًا خامًا، ولكن كان فولاذًا صلبًا، ثنى شفرات الغاليين الحديدية اللينة. وصُنِع فولاذٌ من نوعٍ ما علي يد حدادي الحيثيين من خلال طَرْق وتسخين الحديد في وجود الفحم؛ وهي العملية التي تسمَّى «كربنة الفولاذ». وجعلت عمليةُ التسقيةِ — غَمْر المعدن الساخن بالماء البارد — الفولاذَ أقسى. وكان أفضل أنواع الفولاذ في الإمبراطورية الرومانية يسمَّى «فولاذ ووتز»، وكان يُصنع في جنوب الهند ويُستورد عبر الحبشة.

ومن ثم، فإن استخدام الفحم في صناعة الصلب له تاريخ طويل. ومع ذلك، لم تتحدَّد المادة الرئيسية المضافة للصلب — وهي الكربون — حتى القرن الثامن عشر. فبما أن الفحم كان يُستخدم عادةً في صهر الحديد من خامه، فدائمًا ما كان يوجد الكربون مندمجًا في المنتج المعدني عن طريق الصدفة. ولكن نسبة الكربون تحدِّد صلابة المنتَج؛ وهي حقيقة لاحَظَها عالِم المعادن السويدي توربرن برجمان عام ١٧٧٤م. كان التحكم في محتوى الكربون في الصلب عملية تفتقر إلى قواعد ثابتة حتى ابتكر الإنجليزي هنري بسمر عمليةً لصُنْع الصلب في خمسينيات القرن التاسع عشر. وفي أواخر القرن التاسع عشر أحدثَ الصلب تحولًا في هندسة البناء، وفي بداية القرن الحادي والعشرين كانت السوق العالمية للصلب تُقدَّر بنحو ٥٠٠ مليار دولار.

لم تعُد صناعة الصلب مجرد مسألة «تتبيل» الحديد بالكمية المناسبة من الكربون؛ فالفولاذ المقاوِم للصدأ يحتوي على ١٠ في المائة على الأقل من الكروم، والفولاذ الهندسي العالي الأداء قد يتضمَّن إضافات ذات أهداف معيَّنة من النيتروجين والفوسفور والكبريت والسيليكون والنيكل والمنجنيز والفاناديوم والألومنيوم والتيتانيوم والنيوبيوم والموليبدينوم، إلى جانب عناصر أخرى. وتتحسَّن خواص المعدن من خلال إضافة خليط معقَّد من العناصر المكونة.

إذن، العصر الحديدي تسمية خاطئة؛ فلم يكن الحديد مستخدَمًا قبل بزوغ فجر العصر الحديدي بفترة طويلة فحسب،١ ولكن كان اختراعُ الصلب هو بالفعل الذي حوَّل الأمم إلى غزاة. ومع ذلك، لا ترتبط الأساطير والرمزية بعنصرٍ ما أكثر من ارتباطها بالحديد؛ فالحصان الذي شقَّ طريقه عبر السهول الأمريكية كان حصانًا «حديديًّا»، والقبضة التي تمثِّل استعراضًا للقوة يُطلَق عليها القبضة الحديدية. وسَحقت قواتُ «أيرونسايدس» الفولاذية بقيادة أوليفر كرومويل قواتِ الملك تشارلز الأول، ويُمنح الصليب الحديدي تكريمًا على البسالة العسكرية في ألمانيا، وميَّز الستار الحديدي حدَّ التحالفات الوطنية في الحرب الباردة. ورغم كل شيء، فإن قوة عنصر الحديد المتألِّق بلونه الرمادي تُميزه عن قابلية النحاس الضارب للحمرة للتطويع أو الذهب الأصفر اللين. الحديدُ يمكن تحسينه، ولكن الخواص المميزة للعنصر نفسه هي التي تميزه عن غيره في شئون الحرب وتربطه بمارس؛ إله الحرب.

العناصر الأخرى لها العديد من الاستخدامات، وهذه الاستخدامات تحكمها الخواص الأساسية لكل عنصر. وفي هذا الفصل الأخير سوف أتناول بعضًا منها. وقد اخترتُها بشكل عشوائي إلى حدٍّ ما؛ فقد بُحث بالفعل ما يمكن أن تقدِّمه لنا جميع العناصر في الجدول الدوري من منافع. وآمل أن أقدِّم — على سبيل الختام — لمحة عن التنوع الموجود بين العناصر، ولماذا يعطي هذا التنوع فُرصًا لا تُعد ولا تحصى لصنع أشياء مفيدة من عناصر جدول مندليف.

رقاقات في كل شيء

يُعتقد أن السيليكون — ذلك العنصر الصلب الرمادي اللون — هو الذي أحدثَ فارقًا بين العالم الحديث والعالم قبل الحرب العالمية الثانية. هذا العنصر كان ولا يزال موجودًا في كل مكان. إن السيليكون هو ثاني أكثر العناصر وفرةً في القشرة الأرضية؛ إذ إن الصخور الأكثر شيوعًا لها أُطُر بلَّورية مصنوعة من السيليكون والأكسجين. إنها السيليكات. ويتكوَّن الكوارتز والرمل من السيليكون والأكسجين وحدهما؛ ثاني أكسيد السيليكون، أو السيليكا.

مركَّبات السيليكون الطبيعية هذه هي المادة الخام التي استُخدمت في أقدم أنواع التكنولوجيا؛ إذ عُثر على أدوات حجرية يتجاوز عمرها مليونَي سنة في أفريقيا. وفي وقتٍ ما يقارب عام ٢٥٠٠ قبل الميلاد، اكتشف حِرفيُّو بلاد الرافدين أن الرمل والصودا يمكن إذابتهما في الفرن لإنتاج مادة صلبة شفافة مائلة للخضرة؛ وهي الزجاج. وقد لوَّنوها بالأملاح المعدنية المحتوية على معادن واستخدموها في صنع آنية وحلي رائعة. وقد تحسَّنت صناعة الزجاج في العصور الوسطى عندما اكتشف الحِرفيون كيفية إزالة اللون المائل للأخضر (بسبب شوائب الحديد). وبالنسبة إلى مرتادي الكنائس الورعين، لا بد أن النوافذ المتعددة الألوان التي تروي قصص الأناجيل في ضوء متألِّق قد أَسَرَتهم مثلما تَأْسرنا الأفلام الحديثة. وتطوير طُرق الصقل بهدف صنع العدسات فَتَحَ نافذةً على السموات أمام أنظار جاليليو ومعاصريه، مُحدِثًا تحولًا هائلًا في نظرتنا لهذا العالم الخارجي. ويمكن القول إن الزجاج غيَّر نظرتنا لمكاننا في الكون.

اعتُبرت السيليكا عنصرًا لفترة طويلة — اعتَبرها لافوازييه هكذا — لأنه ليس من السهل فصل السيليكون عن الأكسجين. اعتقد همفري ديفي أن السيليكا ليست عنصرًا، ولكن لم يُعزل السيليكون نفسه حتى عام ١٨٢٤م، عندما أعدَّه يونز جيكوب بيرسيليوس في صورة يُطلق عليها السيليكون غير المتبلور؛ وهي مادة صلبة لا تكون فيها الذرَّات مرتبة بانتظام كما هو حالها في البلورات. الزجاج أيضًا غير متبلور؛ فذرَّات السيليكون والأكسجين به تكون في حالة من الفوضى بدرجةٍ ما. ولم يُخلَّق السيليكون المتبلور حتى عام ١٨٥٤م، على يد الكيميائي الفرنسي هنري ديفيل.

ولكننا استغرقنا وقتًا طويلًا جدًّا لمعرفةِ ما يمكن أن نستفيده من هذا السيليكون النقي. يحتل السيليكون مكانًا وسطًا عجيبًا في الجدول الدوري؛ حيث تُفسح الفلزاتُ (الموجودة إلى اليسار) المجالَ للَّافلزاتِ (الموجودة إلى اليمين)؛ فالسيليكون ليس فلزًّا، ولكنه موصِّل للكهرباء، وإن كان ضعيفًا. إنه من أشباه الموصِّلات.

من الناحية الفنية هذا لا يعني أنه «موصِّل سيئ»؛ فالمعادن توصِّل الكهرباء لأن بعض إلكتروناتها تتحرَّر من الذرَّات الأم وتتجول بحُرية خلال المادة. وتتوافق حركتها مع تيار كهربائي. وأشباه الموصِّلات أيضًا تمتلك إلكترونات متجوِّلة، ولكن بعدد قليل فقط. وهي ليست حرة في حد ذاتها، ولكن يمكن أن تتحرَّر من الذرَّات بفعل قَدْر معتدل من الحرارة. ويتحرَّر بعضها في درجة حرارة الغرفة. ومن ثم، فإن أشباه الموصِّلات تصبح موصِّلات أفضل كلما ارتفعت درجة حرارتها. وعلى النقيض من ذلك، تصبح المعادن موصِّلات أسوأ عندما ترتفع درجة حرارتها؛ لأنها لا تكتسب مزيدًا من الإلكترونات المتحرِّكة من ارتفاع درجة الحرارة، ويتمثَّل التأثير السائد ببساطة في أن الذرَّات الساخنة المهتزَّة تعرقل حركة الإلكترونات الحرة.

بما أن الإلكترونيات تتعلَّق أساسًا بالتيارات الكهربائية المتحركة، فإنه قد يبدو غريبًا أن يُستخدم شبه موصِّل بدلًا من معدن في صنع المكونات الكهربائية على رقاقات سيليكون. ولكن قلة «إلكترونات التوصيل» في السيليكون هي بيت القصيد هنا؛ فهذا يعني أن المُوَصِّلِيَّة يمكن ضبطها بدقة من خلال نثْر ذرَّات من العناصر الأخرى على البنية البلورية، وهو ما يزيد عددَ الإلكترونات المتحركة أو يقلِّله. أما في حالة المعادن الغنية بالإلكترونات المتحركة فسيكون هذا أشبه بمحاولة ضبط منسوب الماء في نهر هائج عن طريق تفريغ بضعة كشتبانات فيه.

تمتلك ذرَّات الزرنيخ إلكترونًا واحدًا أكثر من ذرَّات السيليكون في مدارها الخارجي؛ لذا فإن «إشابة» السيليكون بالزرنيخ تضخُّ بضعة إلكترونات إضافية ثمينة؛ إلكترونًا لكل ذرَّة زرنيخ. وبالمثل، يقلُّ عدد إلكترونات البورون عن عدد إلكترونات السيليكون بإلكترون واحد؛ لذلك فإن الإشابة بالبورون تقلِّل من عدد إلكترونات التوصيل. وهذا في الواقع لا يجعل السيليكون المشوب بالبورون موصِّلًا أسوأ؛ إذ إنَّ نقْص إلكترون في البنية البلَّورية للسيليكون يُحدِث ما يشبه الفجوة في «بحر الإلكترونات». ويستطيع هذا الثقب أن يتحرَّك تمامًا مثلما يفعل الإلكترون الحر، ولكنه يتصرَّف كما لو أن لديه الشحنة المضادة (الموجبة). إذن، إشابة السيليكون بالزرنيخ تضيف إلكترونات متحركة — العوامل السالبة الشحنة للتيار الكهربائي. ويطلق على السيليكون حينئذٍ شبه موصِّل سالب (النوع إن)، ويحتوي السيليكون المشوب بالبورون على حاملات شحنة موجبة، ويسمَّى شبه موصِّل موجب (النوع بي).

عادةً ما تُصنع الأجهزة الإلكترونية الدقيقة على رقاقات السيليكون من طبقات من السيليكون من النوعين إن وبي. وتكون طبقات السيليكا بمنزلة الغلاف البلاستيكي الموجود على الكابلات النحاسية؛ حيث إن السيليكا مادة عازلة. وتَسمح طبقة سيليكون من النوع بي تليها طبقة من نوع إن — يُطلق عليها «وصلة بي-إن» — بتدفُّق تيار متحرِّك عبر الوصلة في اتجاه دون الآخر. سلوك الاتجاه الواحد هذا سمة أساسية لجهاز يسمَّى الصمام الثنائي. كانت الصمامات الثنائية الأولى في الإلكترونيات تُصنع من لوحات معدنية موضوعة داخل أنابيب زجاجية مفرغة، يمكن رؤيتها لامعة في الأجزاء الداخلية لأجهزة المذياع القديمة. أما الصمامات الثنائية المصنوعة من السيليكون المشوب فيمكن أن تكون أصغر بكثير وأكثر قوةً؛ نظرًا لأنها مصنوعة من مواد صلبة، فهي مكونات إلكترونيات «الحالة الصلبة».

الترانزستور هو أساس الإلكترونيات المعتمدة على السيليكون. والترانزستور ذو بنية أكثر تعقيدًا نوعًا ما، وهو يشتمل على طبقتين إحداهما من النوع بي والأخرى من النوع إن، تشكِّلان جهازًا يمكن من خلاله التحكم في التيار الكهربائي من خلال الفولتية (الجهد الكهربي) المطبقة. وهذا يعطي الترانزستور القدرة على العمل كمفتاح يُشغِّل الإشارات ويوقفها، كما يعطيه القدرة أيضًا على العمل كمُضخِّم يولِّد إشارة قوية من إشارة ضعيفة. ويمكن دمج الترانزستورات في دوائر قادرة على تنفيذ عمليات «منطقية»، مثل عمليات الجمع والطرح الحسابية الأساسية. ويتم توصيل الدوائر المنطقية معًا على رقاقات السيليكون لصنع معالِجات دقيقة وأجهزة كمبيوتر.

لم يُصنع أول ترانزستورات الحالة الصلبة من السيليكون، ولكن من العنصر الموجود تحته في الجدول الدوري: الجرمانيوم. هذه المادة أيضًا من أشباه الموصِّلات، ويمكن إشابتها بالطريقة نفسها. ابتكر وليام شوكلي وَوالتر براتين وَجون باردين ترانزستور الجرمانيوم في مختبرات بِل في نيو جيرسي في عام ١٩٤٧م. وكان جهازًا بسيطًا وضخمًا (شكل ٧-١أ)؛ فقد كان أكبر من رقاقة سيليكون واحدة من الرقاقات الحالية، يمكن وضع ملايين الترانزستورات والصمامات الثنائية المُصَغَّرة والمكونات الأخرى فيها (شكل ٧-١ب). وحصل المخترعون الثلاثة على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٥٦م.

يجب أن يكون السيليكون المستخدَم في تصنيع الرقاقات نقيًّا للغاية وخاليًا من العيوب في البِنية البلَّورية للذرَّات. يتم ذلك بواسطة تقنية ابتُكرت في أربعينيات القرن العشرين تسمَّى عملية تشوخرالسكي، وفيها يُذاب السيليكون المُستخرج من الكوارتز والمُنقَّى ويُسحب ببطءٍ في صورة قضبان. وتُقطَّع القضبان إلى شرائح، فتتشكَّل رقاقات السيليكون التي تُبنى عليها دوائر الرقاقة. وثمة طريقة أرخص لصنع السيليكون البلَّوري تسمَّى عملية واكر، ابتكرت في سبعينيات القرن العشرين، وفيها يُشكَّل السيليكون المنصهر في قوالب، تمامًا كما تشكَّل المكونات المعدنية في قوالب. وتمتلئ البلَّورات الناتجة بالعيوب؛ إنها في واقع الأمر عبارة عن خليط من بلَّورات صغيرة ملحومة معًا وتميل بِنياتها الذرية بزوايا مختلفة. وهذا السيليكون «المتعدد البلَّورات» لا يستخدم في الإلكترونيات؛ حيث إن العيوب تفسد المُوَصِّلية. ولكنه يستخدم مثلًا في صنع خلايا السيليكون الشمسية، التي تعد الأجهزة الكهروضوئية التجارية الأكثر شيوعًا. وفي هذه الأجهزة، يحرِّر ضوءُ الشمس الممتص بواسطة طبقات رقيقة من السيليكون الإلكتروناتِ من الذرَّات الأم، منتِجًا أزواجًا من الإلكترونات والفجوات الموجبة. وتُجمع هذه الإلكترونات والفجوات عند قطبين؛ مما يخلق تدفقًا للتيار الكهربائي.

fig17
شكل ٧-١: النموذج المبدئي الأول للترانزستور (وهو «مضخِّم نقطة الاتصال المصنوع من شبه موصل»)، الذي صنعه باردين وبراتين في مختبرات بِل في عام ١٩٤٧م (أ)، وهو بعيد كل البعد عن رقاقات السيليكون الحالية، المليئة بالمكوِّنات المصغَّرة المصنوعة من أشباه الموصلات (ب).

بين مركَّبات السيليكون المفيدة كربيد السيليكون (الكربورندم) ونيتريد السيليكون، وهما مادتان صُلبتان قويتان تُستخدمان لصنع أدوات القطع والسحج والمكوِّنات الهندسية المقاوِمة للحرارة. وفي تناقض صارخ، يمكن أن يتشكَّل السيليكون والأكسجين في صورة مواد لينة يُطلق عليها السيليكونات تحتوي على سلاسل طويلة (بوليمرات) يتناوب فيها هذان النوعان من الذرَّات. إن هذه القدرة على تكوين جزيئات تُشْبه السلسلة نادرةٌ؛ فالكربون هو مكوِّن السلاسل «بِامتياز»، وذلك هو السبب وراء كونه العنصر الرئيسي في الجزيئات العضوية المعقَّدة. مع ذلك، سلاسل مركَّبات السيليكون مستقرة جدًّا؛ ما يجعلها مواد هندسية قوية ومتعددة الاستخدامات.

بعض بوليمرات السيليكون عبارة عن زيوت زلقة تُستخدم كمواد تشحيم ومواد لاصقة للطلاء وسوائل لمستحضرات التجميل ومنتجات العناية بالشعر. وكلما كانت السلسلة أطول، كان الزيت أكثر لزوجةً. ومن خلال ربط السلاسل بعضها ببعض عند نقاط متعددة لتشكيل شبكة، يمكن تقوية السيليكونات بحيث تصبح في صورة مواد مطاطية وراتنجات لينة. ويعد مطاط السيليكون المادة المثالية لمنع التسرب في المطابخ والحمامات؛ لأنه غير سام وصادٌّ للماء. وعدم قابليته للاشتعال تؤهله لصنع بذلات رجال الإطفاء، وقد اكتسب بعض الروعة في عام ١٩٦٩م عندما هبط نيل أرمسترونج على سطح القمر مرتديًا حذاءً من السيليكون.

من ناحية أخرى، ساءت سمعة السيليكون عندما اضطرت شركة داو كورنينج — المُصنِّع الرئيسي — لدفع تعويضات بمليارات الدولارات رضوخًا للدعاوى القضائية بدعوى أنَّ تسرُّب بعض السيليكون المستخدَم في عمليات تكبير الثدي أضرَّ بصحة كثير من النساء. هذه العمليات تتضمَّن استخدام زيت سيليكون داخل كيس من السيليكون المطاطي. وكانت التهمة تتمثَّل في أن السيليكون أدى إلى أمراض مناعة ذاتية لدى السيدات اللائي أُجريَت لهن تلك العمليات. لا يوجد حتى الآن دليل واضح على أن هذا المركَّب ضارٌّ بأي شكل من الأشكال، ولكن مع ذلك في عام ١٩٩٢م فُرِضَ قرار بتعليقِ استخدامِه في هذه العمليات في الولايات المتحدة الأمريكية.

نوع جديد من الفضة

عندما اكتُشف البلاديوم لأول مرة، لم يرغب فيه أحد على ما يبدو. عَرَضَه مكتشفه — وليام هايد ولاستون — للبيع في متجر في لندن باسم «الفضة الجديدة»، بستَّة أضعاف سعر الذهب. وعلى أمل الاستفادة من اكتشافه، اختار في البداية عدم الكشف عن طريقة حصوله على المعدن للأوساط العلمية. ولكن لم يُقْبِل على شراء «الفضة الجديدة» سوى عدد قليل، وفي النهاية استردَّ ولاستون معظم مخزونه من البلاديوم وتبرَّع به إلى الجمعية الملكية؛ حيث أعلن طريقة إعداد وخواص المعدن الجديد عام ١٨٠٥م.

كان المعدن يشبه الفضة فعلًا. وعلاوةً على ذلك، كان مرنًا بما فيه الكفاية لصنع الحلي، وقاوم التآكل الذي يحوِّل الفضة الحقيقية تدريجيًّا إلى اللون الأسود. يشبه البلاديوم في هذا الأمر البلاتين الذي يقع تحته في الجدول الدوري، وهو في الواقع واحد من المجموعة التي تسمَّى مجموعة معادن البلاتين التي اكتُشفت جميعُها كامنةً في البلاتين الطبيعي في مطلع القرن التاسع عشر تقريبًا بواسطة ولاستون وزميله سميثسون تينانت.٢

في سياق دراسة إنتاج البلاتين من خاماته، اكتشف ولاستون وَتينانت أربعة عناصر جديدة عام ١٨٠٣م. فعَزَل تينانت الأوزميوم والإيريديوم، واكتَشف ولاستون الروديوم والبلاديوم. وكما كانت العادة في هذا الوقت، أَطلق ولاستون على هذا الأخير اسمًا مشتقًّا من اسم جِرْم سماوي مكتشَف حديثًا. واكتسب اليورانيوم اسمه بهذه الطريقة بعد اكتشاف وليام هيرشيل كوكب أورانوس، وسُمِّي البلاديوم على اسم الكويكب بالاس المُكتَشَف عام ١٨٠٢م.

مؤخرًا فقط وَجد البلاديوم مكانته؛ فكل معادن مجموعة البلاتين عوامل حفَّازة جيدة؛ فهي تزيد من سرعة تفاعلات كيميائية معيَّنة. وتعلِّق الغازات البسيطة مثل الأكسجين وأول أكسيد الكربون على سطوح هذه المعادن، وعندها تتفكَّك إلى الذرَّات المكوِّنة لها. وتتجوَّل هذه الذرَّات على السطح حتى تقابِل ذرَّات أخرى، وتتَّحد معها لتكوِّن تشكيلات جديدة.

يحفِّز البلاتين والبلاديوم والروديوم تفاعلات تُحوِّل بعض الغازات الضارة في عوادم السيارات إلى مركَّبات أقل ضررًا؛ فأول أكسيد الكربون — وهو غاز شديدة السُّمِّية — يمكن أن يتحوَّل بهذه الطريقة إلى ثاني أكسيد الكربون، والهيدروكربونات غير المحترقة الموجودة في الوقود يمكن أن تحترق على أسطح المعدن. ويتفاعل أكسيد النيتريك — أحد العناصر الرئيسية المساهِمة في الضباب الدخاني في المدن — مع أول أكسيد الكربون لتكوين ثاني أكسيد الكربون وغاز النيتروجين. وتُجرى هذه العمليات في المحوِّلات الحفَّازة.

وبِدَمج المحوِّلات الحفَّازة في نظام عادم المركبات فإنها يمكن أن تقلِّل انبعاثات أول أكسيد الكربون والهيدروكربونات بنسبة تصل إلى ٩٠ بالمائة. وقد استَخدم أولُ محوِّل حفَّاز البلاتينَ بشكل أساسي، ولكن البلاديوم الآن هو المعدن الحفَّاز السائد. ويُنثر المعدن في صورة جسيمات صغيرة جدًّا على إطار داعم من أكسيد الألومنيوم (الألومينا) المسامي (شكل ٧-٢).
fig18
شكل ٧-٢: تَستخدم المحوِّلات الحفَّازة البلاديوم والمعادن المرتبطة به لتخليص عادم المحرِّك من غازاته السامة.

الآن يُستخدم ستون بالمائة من البلاديوم المُصنَّع في جميع أنحاء العالم — كناتج ثانوي في الأساس لعمليات تكرير النيكل والزنك والنحاس — في المحوِّلات الحفَّازة. ويُستخدم الكثير من النسبة المتبقية في المكونات الإلكترونية، ولكن يُستخدم بعضٌ منه في صناعة الحلي؛ ممَّا يشير إلى أنه أصبح لدينا في نهاية الأمر اهتمام باستخدام «فضة ولاستون التي لا تفقد بريقها».

في عام ١٩٨٩م شهدت أسعار البلاديوم ارتفاعًا مؤقتًا؛ فقد ادَّعى اثنان من الكيميائيين في جامعة يوتا — مارتن فليشمان وستانلي بونز — أن البلاديوم أساس طريقة رخيصة لتحويل الهيدروجين إلى هليوم عن طريق الاندماج النووي؛ ما يؤدِّي لإنتاج مصدر جديد وآمن ونظيف للطاقة. واعتقد المستثمرون في سوق الأوراق المالية أن عملية «الاندماج البارد» تلك كانت على وشك أن تجعل البلاديوم مادة شديدة الأهمية. وفي الوقت نفسه، خشي الاستراتيجيون السياسيون من أن تجد البلدان ذات الموارد المعدنية الكبيرة من البلاديوم — جنوب أفريقيا والاتحاد السوفييتي — نفسَها في موقف قوة على نحوٍ غير متوقَّع.

والشيء الذي لم يدركه أحد — على ما يبدو، حتى وقت لاحق — هو أنه كان قد سبق التوصل لهذا الأمر من قبل؛ ففي عشرينيات القرن العشرين اقترح عالمان ألمانيان — فريتز باريت وكيرت بيترز — أنه يمكن تحويل الهيدروجين إلى هليوم داخل معدن البلاديوم. لم يكن هدفهما هو خلق مصدر للطاقة، وإنما كانا يسعيان وراء الهليوم نفسه؛ فمنذ حادث منطاد هيندنبورج الذي كان مليئًا بالهيدروجين، كان الهليوم مطلوبًا بشدة لاستخدامه في المناطيد.

عَلِم باريت وبيترز أن البلاديوم بمنزلة إسفنجة تتشرَّب الهيدروجين؛ إذ يَمتص كميات ضخمة من الغاز؛ ففي درجة حرارة الغرفة يمتص البلاديوم أكثر من ٩٠٠ ضِعف حجمه من الهيدروجين، فتتفكَّك جزيئات الهيدروجين إلى ذرَّتين منفصلتين على سطح المعدن، ويمكن أن تنتشر ذرَّات الهيدروجين الصغيرة في الفراغات بين ذرَّات المعدن. ويتمدَّد المعدن بنسبة تصل إلى ١٠ بالمائة عندما يمتص الهيدروجين، مسبِّبًا ضغوطًا داخلية هائلة. هل هذه الضغوط كبيرة بما يكفي لضغط ذرَّتين من ذرَّات الهيدروجين معًا لصنع الهليوم؟ عندما اختَبر الباحثون هذه الفكرة باستخدام سلك من البلاديوم، وجدوا مقادير ضئيلة للغاية من الهليوم.

بلغ الخبر جون تانبرج في السويد — أصبح تانبرج لاحقًا المديرَ العلمي لشركة إلكترولوكس — فرأى أن الإنتاج الظاهري للهليوم يمكن تسريعه باستخدام التحليل الكهربائي. وهذا ينطوي على إدخال قطبَين مشحونَين بشحنتَين متقابلتَين في سائل يحتوي على أيونات، مثل محلول ملحي. تنجذب الأيونات الموجبة نحو القطب الكهربائي السالب والعكس صحيح. اعتقد تانبرج أنه في حالة وجود محلول حمضي يحتوي على أيونات هيدروجين موجبة الشحنة، فإن تمرير شحنة سالبة على لوح من البلاديوم ربما يكدِّس هذه الأيونات بكثافة عالية في المعدن. ووجد الهليوم أيضًا عندما أجرى هذه التجربة، وقدَّم براءة اختراع عام ١٩٢٧م لصنع الهليوم بهذه الطريقة.

رُفضت براءة الاختراع على أساس أنها غامضة للغاية لدرجةٍ تمنع فهمها. تعثَّر العمل، وسرعان ما اكتُشف أن الهليوم لا يَنتج عن طريق الاندماج على الإطلاق؛ فقد كان يُمتص من الغلاف الجوي في الجدران الزجاجية للجهاز المستخدَم في التجارب. في عام ١٩٣٠م، نفى خبيرَا العناصر جيمس تشادويك وإرنست رذرفورد ادعاءاتِ اندماج الهيدروجين قائلَيْن: «لقد تم الخلط بين وجود العنصر وصنعه.»

ممَّا لا شك فيه أن تشادويك ورذرفورد كانا سيسارعان إلى الحكم بالمثل على تجارب بونز وفليشمان، اللذين أعلنا في ٢٣ مارس ١٩٨٩م أنهما لاحظا «اندماجًا نوويًّا مستمرًّا» من التحليل الكهربائي للماء الثقيل باستخدام أقطاب البلاديوم. يمتص البلاديوم الديوتيريوم بنفس طريقة الهيدروجين، ولكن اندماجه إلى هليوم لا يتطلَّب مثل هذه الظروف المتطرفة (انظر الفصل الخامس). وبرغم ذلك، ثَبَتَ منذ وقت طويل أن هذه الظروف يستحيل الاحتفاظ بها في محاولات الفيزيائيين تسخيرَ الاندماج النووي لتوليد الطاقة. ثم جاء اثنان من الكيميائيين يدَّعيان أن مشاريع الاندماج المكلِّفة للغاية تلك يمكن التخلي عنها؛ فكل ما تحتاجه هو أنبوب اختبار وقطعتان من البلاديوم.

تكهَّن بونز وفليشمان ومجموعات أخرى بأن الاندماج ربما يحدث في شقوق صغيرة في المعدن حيث يكون الضغط على الديوتيريوم المُمتَص في أعلى مستوياته. ولكن وفقًا لحسابات علماء الفيزياء، فإن هذه الظروف لا تقترب من درجة التطرف التي تكفي لإحداث اندماج. وعلى الرغم من تعدُّد إعلانات نجاح «الاندماج البارد» في مختبرات أخرى في الأشهُر التي تَلَتْ ذلك، لم يستطِع أحدٌ إثبات التوليد المستدام والمتكرِّر «للطاقة الزائدة» من خلايا التحليل الكهربائي نتيجة تفاعلات الاندماج المفترضة. واستند ادعاء بونز وفليشمان المبدئي في الأساس على قيامهما بقياس فائض الطاقة، ولكن أشار بعض الباحثين إلى أنه إذا كان إطلاق الطاقة هذا ناتجًا بالفعل عن اندماج الديوتيريوم، فلا بد أنه أطلق أيضًا جرعة قاتلة من الإشعاع النيوتروني. وعلاوةً على ذلك، زاد هذا التركيز الكبير للهيدروجين من احتمال حدوث انفجار كيميائي. في الواقع، أشار بونز وفليشمان فعليًّا إلى «انصهار» افتراضي لتجربة التحليل الكهربائي في إحدى المرات.

وبحلول نهاية عام ١٩٨٩م كان الاندماج البارد قد فَقَدَ مصداقيته عند الجميع باستثناء أقلية من المؤمنين الحقيقيين به (الذين ظلوا يَتَتَبَّعونه لأكثر من عشر سنوات بعد ذلك)، وشعر العلماء بالحرج والسخط، وبتقدير متجدِّد للخصائص الفريدة للبلاديوم.

أتربة نادرة وملوَّنة

عندما اكتشف الكيميائي السويدي كارل جوستاف موساندر اللانثانوم عام ١٨٣٩م، لم يكن يملك أدنى فكرة عما بدأه. استخرج موساندر اللانثانوم في صورة أكسيده — «تراب» — من نترات السيريوم. واقترح بيرسيليوس — زميل موساندر — هذا الاسم اشتقاقًا من الكلمة الإغريقية lanthanein بمعنى البقاء مخبوءًا.
لكنه لم يعلن رسميًّا العنصر الجديد لمدة عامين؛ لأنه كان يرى أنه لم يكن نقيًّا تمامًا. وفي عام ١٨٤١م أوضح أنه كان مختلطًا مع «تراب» آخر، احتوى على عنصر سمَّاه ديدميوم (من كلمة didumos الإغريقية بمعنى «التوءم»).

مع ذلك، لم تكن تلك هي النهاية؛ فقد ذهب كيميائيون آخرون إلى الاعتقاد بأن الديدميوم لم يكن أيضًا عنصرًا نقيًّا، ولكن كان خليطًا. وكان فصل مكوناته كيميائيًّا صعبًا للغاية؛ حيث بدت أنها تتصرَّف على نحوٍ متطابق تقريبًا. ولكن كُشف وجودها من خلال فحص «الرمز الشريطي» لخطوط طيف الانبعاث العنصري في الوهج الناتج عند تسخين المادة.

أعلن بول إميل لوكوك — مكتشِف الجاليوم — عام ١٨٧٩م عن وجود عنصر آخر يشوب الديدميوم، سمَّاه السماريوم. وبعد ذلك بعام، اكتشف تشارلز جاليسار دي ماريناك في جنيف «ترابًا» آخر في هذه المادة، وقد عزل لوكوك هذا التراب عام ١٨٨٦م، وسمَّاه جادولينيوم. وفي الوقت نفسه، أشير إلى أن الديدميوم نفسه وهمي؛ فهو مزيج من عنصرَيْن من العناصر الجديدة اكتشفهما كارل أوير في النمسا عام ١٨٨٥م، وأطلق عليهما اسمَي النيوديميوم (أي «الديدميوم الجديد») والبراسيوديميوم (أي «الديدميوم الأخضر»). لكن كم كان عدد العناصر «الترابية» تلك؟

يوجد في الواقع أربعة عشر عنصرًا منها، وأصبحت تُعرف باسم الأتربة النادرة، وهي تسمية خاطئة؛ إذ إن بعضها ليس نادرًا على الإطلاق، وكلها معادن وليست «أتربة». ثمة اسم أفضل هو اللانثانيدات؛ حيث إنها جميعًا تأتي بعد اللانثانوم في الجدول الدوري.٣ وهي تشكِّل مجموعة جديدة تمامًا، وبحكم عدم وجود حيِّز متاح لها، لا يمكن وضعها في مخطَّط مندليف، وعادةً ما توضع منفصلة أسفل الجدول. وبصفة عامة، اللانثانيدات تتشابه جميعًا إلى حدٍّ ما في سلوكها الكيميائي، وهذا هو السبب في صعوبة فصلها. وهي توجد في معادن مثل المونازيت والباستناسيت التي توجد المصادر الرئيسية لها في الصين والولايات المتحدة.

أظهر أوجين أناتول دومارسيه في باريس عام ١٩٠١م، أن عينات السماريوم والجادولينيوم التي أُنتجت في ذلك الوقت كانت تشتمل على عنصر ترابي نادر آخر، اشتَقَّ له اسمًا من قارة أوروبا: اليوروبيوم. وهذا العنصر في الواقع واحد من أكثر العناصر وفرةً في الطبيعة من هذه المجموعة؛ إذ تحتوي قشرة الأرض من اليوروبيوم ضعف كمية القصدير. ويُجمَع اليوروبيوم في الوقت الراهن عمومًا من أجل سمة خاصة ومفيدة للغاية يتسم بها؛ وهي انبعاثاته التي تشتمل على ضوء أحمر وأزرق شديد «النقاء».

اليوروبيوم — على غرار جميع العناصر الترابية النادرة الأخرى — يشكِّل عمومًا مركَّبات تفقد فيها ذرَّات المعدن ثلاثة إلكترونات لتصبح أيونات ذات ثلاث شحنات موجبة. وهذا النوع من أيونات اليوروبيوم يمكن أن يبعث الضوء في جزء الطيف المرئي الأغنى باللون الأحمر، عندما يُحفِّزه مصدر طاقة على نحوٍ مناسب. ولكن، على عكس اللانثانيدات الأخرى (باستثناء السماريوم)، فإن اليوروبيوم أيضًا يشكِّل بسهولة أيونات مزدوجة الشحنة فحسب — تفقد إلكترونين — ينبعث منها ضوء أزرق غني بدلًا من ذلك.

يُدمج كلا نوعي أيونات اليوروبيوم في الفوسفورات المستخدَمة في شاشات التليفزيون الملوَّن وشاشات الكمبيوتر. والفوسفورات هي مواد ينبعث منها الضوء عندما تُضرب بشعاع من الإلكترونات. يحفِّز شعاع الإلكترون الإلكترونات في المكونات النووية للفوسفور إلى حالات طاقة أعلى، تتحلَّل فيها الإلكترونات للعودة إلى حالتها الأولية عن طريق طرد الطاقة الزائدة على شكل ضوء مرئي.

يمكن مبدئيًّا إنتاج جميع الألوان عن طريق مزج ضوء الألوان الثلاثة الأساسية؛ وهي الأحمر والأزرق والأخضر.٤ وفي شاشة التليفزيون يُمزَج الضوء من خلال وضع ثلاث نقاط صغيرة من الفوسفورات ذات الألوان الأساسية بالقرب جدًّا بعضها من بعض، لدرجة أن العين تعجز عن تمييزها من مسافات المشاهدة العادية.

يوجد العديد من المواد التي تُنتج ضوءًا بهذه الألوان الثلاثة عندما تُضرب بشعاع إلكترونات. ولكن الأمر يحتاج إلى درجة معينة من الأحمر والأزرق والأخضر؛ فنطاق الألوان المتاحة من أي مجموعة من الألوان الأساسية يعتمد على مدى «جودة» الألوان الأحمر والأزرق والأخضر التي تبدأ بها: فإذا كان الأزرق شاحبًا جدًّا أو ضاربًا للخضرة على سبيل المثال، فلا يمكن لأي قَدْرٍ من مزيج الألوان أن يعطيك الأزرق الملكي الداكن في شفق الصحراء. وللحصول على صور ملوَّنة جيدة على شاشة التليفزيون، تحتاج إلى فوسفورات تُنتج ألوانًا أساسية غنية ونقية. ولم تكن الألوان الحمراء في التليفزيونات الملوَّنة متألِّقة حتى بدأت الشركات المصنِّعة في استخدام اليوروبيوم في أوائل ستينيات القرن العشرين.

يلبي اليوروبيوم احتياجات الفوسفورات الحمراء والزرقاء. والمواد المعتاد استخدامها مع الفوسفورات الحمراء هي فانادات اليوروبيوم-الإيتريوم وأكسي كبريتيد الإيتريوم المشوب باليوروبيوم. وتُصنَع الفوسفورات الزرقاء من ألومينات السترونتيوم المشوب باليوروبيوم. والفوسفور الأخضر في شاشات التليفزيون عادةً ما يتكوَّن من كبريتيد الزنك والكادميوم الذي لا يمكن أن ينتج درجات من اللون الأخضر مشبعةً بقوة؛ وهذا يعني أنه يوجد بعض الألوان في الطبيعة الخضراء لا تزال شاشة التليفزيون لا تستطيع مضاهاتها؛ بل يمكنها فقط أن تقدِّم تقريبًا ضعيفًا لها.

ينبعث الضوء الأخضر أيضًا من بعض عناصر اللانثانيدات: اللانثانوم والسيريوم والتيربيوم. ويقدِّم مزيجٌ من مركَّبات اللانثانيدات جميعَ الألوان الثلاثة الأساسية في نوع من لمبات الإضاءة المنخفضة الطاقة يسمَّى لمبة الفلورسنت ثلاثية الألوان. يحتوي هذا الجهاز على مواد فوسفور-ترابية نادرة تتوهَّج استجابةً للأشعة فوق البنفسجية من قوس زئبقي — تفريغ كهربائي مرسَل عبر بخار الزئبق — وليس استجابة لشعاع إلكترون. في الواقع، يؤدِّي الفوسفور إلى تحول ضوء الأشعة فوق البنفسجية عالي الطاقة إلى ضوء مرئي. والمكوِّن الأحمر يكون مصدره الفوسفور المحتوي على مزيج من اليوروبيوم والإيتريوم، والمكوِّن الأزرق يكون مصدره اليوروبيوم (المزدوج الشحنة) وحده. يبدو مزيجُ الأضواء الأحمر والأخضر والأزرق أبيضَ اللون. وتدوم المصابيح الثلاثية الألوان لفترة أطول بكثير من المصابيح المتوهجة العادية (التي تعتمد على فتيل أبيض ساخن)، وتَستخدم جزءًا ضئيلًا من الطاقة.

الغاز الكسول

لم يكن جدول مندليف الدوري لعام ١٨٦٩م محتويًا على أماكن فارغة وحسب، بل كان مفتقدًا لمجموعة كاملة من العناصر. ولم يكن عدم اكتشافها مثار استغراب كبير؛ لأنها لا تتفاعل مع العناصر الأخرى لتشكيل مركَّبات. هذه المجموعة هي الغازات النبيلة (وتسمَّى أيضًا الغازات الخاملة أو النادرة)، وتشكِّل المجموعة الأخيرة من الجدول الكامل.

اكتُشف أخف الغازات النبيلة — الهليوم — في واقع الأمر عام ١٨٦٨م؛ ولكن اقتصر اكتشافه على الشمس (انظر الفصل الرابع). ولم يُعرَف عنه إلا القليل، لدرجة أن مندليف لم يجد أي طريقة لإدراجه. ولم يُعثَر على الهليوم على الأرض حتى عام ١٨٩٥م، عندما عَزَلَه وليام رامزي وموريس ترافرز في لندن من رواسب خام اليورانيوم. واكتشفه اثنان من الكيميائيين السويديين في أوبسالا في نفس المصدر في ذات الوقت.

كان رامزي قد اكتشف بالفعل غازًا نبيلًا آخرَ في العام السابق. وهذا الغاز ليس نادرًا على الإطلاق؛ إذ يوجد نحو ٦٦ تريليون طن منه في الغلاف الجوي. وأطلق عليه اسم الأرجون؛ اشتقاقًا من الكلمة الإغريقية argos بمعنى «كسول»؛ لأنه ليس له أي نشاط.

يحتوي الهواء تقريبًا على ١ بالمائة أرجون، وهي كمية تكفي ليلاحظها الكيميائيون المهتمون بخواص الغازات في القرن الثامن عشر؛ لاحَظَ هنري كافنديش عام ١٧٨٥م أن ١ بالمائة من الهواء يبدو مقاوِمًا لأي نزعة للاتحاد مع العناصر الأخرى. لكنه لم يتابع هذه الملاحظة ونُسيت.

اكتشف الفيزيائي البريطاني اللورد ريليه في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر أن النيتروجين الذي حُصل عليه بوسيلتَيْن مختلفتين يبدو أنه يمتلك كثافة مختلفة؛ فالنيتروجين المستخرَج من الهواء كان أكثر كثافةً بقليل من ذلك المصنوع بتحلُّل الأمونيا (مركَّب من النيتروجين والهيدروجين). ودرس هو ورامزي شكلَي النيتروجين كليهما، ووجد رامزي أن نيتروجين الغلاف الجوي يحتوي عنصرًا خاملًا استطاع فصله في النهاية. ولم يستطيعا إلا جمع كميات ضئيلة فقط. وقال ريليه منتحبًا عام ١٨٩٤م إن «الغاز الجديد كلَّفني الكثير. لم يكن لديَّ منه إلا نحو ربع ملء كشتبان، ولديَّ الآن كمية مقبولة ولكنها كلَّفتني نحو ألف ضعف وزنها ذهبًا.»

مع ذلك، استطاع رامزي أن يتحقَّق من كون هذا العنصر عنصرًا جديدًا من خلال طريقة رصد الخطوط الطيفية المنبعثة منه التي كانت مألوفة آنذاك. وأعلن ريليه ورامزي اكتشاف الأرجون عام ١٨٩٤م. أدرك رامزي أن الأرجون والهليوم ربما يكونان عضوَيْن في مجموعة جديدة لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في الجدول الدوري. وأجرى هو وترافرز دراسات متأنية على الأرجون السائل، واكتشف العالمان عام ١٨٩٨م أنه ممزوج مع كميات صغيرة من ثلاثة غازات نبيلة أخرى هي النيون (بمعنى «جديد») والكريبتون (بمعنى «خفي») والزينون (بمعنى «غريب»). وقد أهَّل هذا العمل رامزي عام ١٩٠٤م للحصول على جائزة نوبل في الكيمياء (مُنح ريليه جائزة نوبل في الفيزياء في العام نفسه).

يوجد غاز نبيل آخر في المجموعة وهو الرادون، أثقل الغازات النبيلة، وقد اكتُشف في عام ١٩٠٠م على يد الألماني فريدريش إرنست دورن كناتج للتحلل الإشعاعي للراديوم. وصَنع رامزي ما يكفي منه لقياس خصائصه عام ١٩٠٨م.

الأرجون متوافر الآن بكميات أكبر بكثير مما كان رامزي وريليه يستطيعان استخلاصه؛ إذ يُستخرَج أكثر من ٧٥٠ ألف طن سنويًّا من الهواء المسال. لأول وهلة لا يلفت هذا العنصر الانتباه باعتباره عنصرًا مفيدًا؛ ففي أي شيء يمكن أن يُستخدم عنصر خامل كهذا؟ لكن الخمول تحديدًا هو نقطة قوة الأرجون. فهو الغاز المثالي إذا كنتَ تريد ببساطةٍ حماية مساحة فارغة من الدفع الشديد للضغط الجوي؛ إنه نوع من «الفراغ الضاغط»؛ ومن ثم فإن الأرجون يُستخدم لملء مصابيح فتيل التنجستين وأنابيب الفلورسنت. فبغضِّ النظر عن مدى السخونة التي يصل إليها الفتيل، فإن الأرجون لا يتفاعل معه. ويستخدم الأرجون أيضًا في زجاج النوافذ المزدوج الحديث؛ فالفراغ بين لَوْحَي الزجاج يقلِّل توصيل الحرارة عبرهما، ولكن سيُدفع اللوحان كلٌّ باتجاه الآخر بفعل ضغط الهواء. الأرجون أسوأ من الهواء في توصيل الحرارة؛ ومن ثم فإن استخدامه للحفاظ على الضغط بين لوحَي الزجاج يتسبَّب في فقدان حرارة أقل من الزجاج المزدوج المليء بالهواء.

الأرجون أيضًا «غاز ناقل» مثالي؛ مادة دافعة ليس لديها أي مَيْل للتفاعل. ويُستخدم دفق من الأرجون في مزج الأكسجين بالحديد المنصهر خلال صناعة الفولاذ. فالأكسجين يتفاعل مع الكربون، ضابطًا محتوى المعدن منه. ويُستخدم الأرجون كمادة دافعة في عملية نثر رذاذ جسيمات صغيرة في عمليات تكنولوجية مختلفة. ويمكن أن يكون المرء على يقين من أن الأرجون لن يتفاعل مع هذه الخلطات؛ وقد صُنع أول مركَّب كيميائي للأرجون عام ٢٠٠٠م، وهو مادة غريبة ضعيفة التماسك، لدرجة أنها تتحلَّل ما لم يتم تبريدها إلى درجة حرارة أقل من −٢٤٦ درجة مئوية.

على الرغم من أن جميع العناصر تحتوي على نفس المكوِّنات الثلاثة دون الذرية، فإنها تتيح تنوعًا مذهلًا للتقنيين. وتنوُّعها أحد عجائب الطبيعة؛ فمن الغريب للغاية — رغم أنه قابل للتفسير — أن الكبريت الأصفر يقبع بين الفوسفور المشتعل والكلور الأخضر الشديد الحموضة. ولا يمكن أن يضاهي أحدٌ أبدًا عبقريةَ الطبيعة تلك، التي تصنع مثل هذه الثروات من مكوِّنات بسيطة. وعلى الرغم من أن أيام اكتشاف العناصر المثيرة قد انتهت (باستثناء العناصر الفائقة الثقل الصعبة التي يستطيع البشر صنعها في صورة بضع ذرَّات عابرة في كل مرة)، فإن الاحتمالات التي تُقدِّمها العناصر مجتمعةً لم تنفد بأي حال من الأحوال. في الواقع، ربما لا تزال تلك الرحلة في بدايتها.

هوامش

(١) بعض المؤرخين يعتقدون أن العصر الحديدي يعود إلى نحو عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، عندما دُمِّرت إمبراطورية الحيثيين وانتشر الحدَّادون ونشروا مهنة الحدادة. ولكن المصنوعات الحديدية اليدوية من صنع الإنسان موجودة قبل عام ٢٥٠٠ قبل الميلاد. إن العصر الحديدي — إضافةً إلى العصرَين البرونزي والحجري السابقَيْن — مجرد تسمية من اختراع علماء الآثار في القرن التاسع عشر، ويُشكَّك اليوم في قيمتها.
(٢) كان تينانت أول مَن بيَّن — عام ١٧٩٧م — أن الجرافيت والماس يتكوَّنان من العنصر النقي نفسه؛ وهو الكربون.
(٣) اللانثانيدات لا تشمل اللوتيتيوم — العنصر ٧١ — على الرغم من أنه يُعد عنصرًا أرضيًّا نادرًا.
(٤) ليست هذه الألوان هي نفس الألوان الثلاثة الأساسية المألوفة للرسَّامين؛ الأحمر والأزرق والأصفر؛ وذلك لأن خلط الأضواء (الخلط بالإضافة) ليس مثل خلط الأصباغ (الخلط بالطرح). فعلى سبيل المثال، مزج الضوءَيْن الأحمر والأخضر يُنتِج الأصفر، في حين أن المزج المقابِل للأصباغ يعطي لونًا بنيًّا داكنًا. والضوءان الأزرق والأصفر لا يصنعان ضوءًا أخضر ولكن يصنعان ضوءًا أبيض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤