حسنين … حسونة

كانت الاستنتاجات التي توصَّل إليها الأصدقاء مع المفتش «سامي» كافية لوضع خطة عمل لمطاردة «مايزر» … فما دام الجاسوس الداهية يحتفظ بملابس أولاد البلد … ويتردد على الأحياء الشعبية … فالأماكن التي يجب البحث عنه فيها هي الأحياء الشعبية في القاهرة مثل باب الشعرية … وحي الحسين … والسيدة زينب … وبالطبع كان الأصدقاء يعرفون مقدمًا أن المهمة شاقة؛ فالبحث بين ملايين البشر الذين يَعيشُون في القاهرة ليس مهمَّة سهلة … والبحث في الأحياء الشعبية مهمة أكثر صعوبة حيث يكثر الزحام … ولكن لم يكن أمام الأصدقاء شيء آخر يفعلونه كما تقول «لوزة» … أما «تختخ» فقد كان واجبه واضحًا … باعتباره أكثر الناس معرفة ﺑ «مايزر».

وهكذا وُضعت الخطة … يذهب «تختخ» وحده إلى حي السيدة زينب … ويذهب «محب» و«نوسة» إلى حي الحسين … ويذهب «عاطف» و«لوزة» إلى حي باب الشعرية … ومع كل واحد صورة للجاسوس الداهية.

وقد بدأت المطاردة في صباح اليوم التالي … وبالطبع كان المُغامرون الخمسة يعرفون أن قوات الشرطة وأجهزة الأمن تَشترك معهم في المطاردة … فمن الذي يكسب الجولة؟

إنَّ أجهزة الأمن تملك الإمكانات الضخمة من سيارات وأجهزة اتِّصال … وقدرة على الحركة والحماية … وليس عند المُغامرين الخمسة أية تسهيلات من هذا النوع … ولكن إحساس المغامرة والهواية والتدريب الطويل كانت عناصر إيجابية بالنسبة للمغامرين. وهكذا انطلقوا في الصباح الباكر حيث التقسيم المتفق عليه … ركبوا قطار المعادي إلى القاهرة … وهناك توزعوا على أن يلتقوا ساعة الظهيرة ليتناوَلوا الغداء معًا في «مطعم الركيب» بميدان السيدة «زينب» … كان كل منهم يحمل صورة «مايزر» ويُمنِّي النفس بأن يكون هو أول من تقع عينه على الجاسوس الداهية.

وقد بدا «عاطف» و«لوزة» في حي باب الشعرية كأنَّهما تائهان … فلم يَسبِق لهما إلا مرَّات قليلة أن مرَّا بهذا الحي الشعبي المُزدحِم … وقد فوجئا بالملابس المُستورَدة وهي تنتشر على عربات الباعة … وبالضَّجة الشديدة بالمقارنة بحي المعادي الهادئ.

ظلَّا يمشيان … وكلما شاهدا شخصًا فيه ملامح من الصورة أسرعا إليه وأخذا يحدِّقان فيه … وقد تكرر ذلك بضع مرات … وذات مرة أسرعا خلف شخص طويل القامة نحيف، ويلبس الملابس البلدية ونظارة طبية سوداء … ولكنه دخل أحد البيوت قبل أن يتفحَّصاه جيدًا … ولم يتردَّدا في أخذ عنوان البيت، ثمَّ تابعا جولتهما في الحي.

في الوقت نفسه كانت «نوسة» و«محب» يقومان بنفس العمل في حي الحسين … وقد قابلا عددًا من الأشخاص يَنطبِق عليهم نفس المواصفات التي ﻟ «مايزر» مع اختلافات طفيفة … وكذلك اللون، ﻓ «مايزر» أبيض وهؤلاء لونهم أسمر … وهذا فارق أساسي في العملية … والشيء المُدهش أنهما قابلا شخصًا يشبه «مايزر» فعلًا … ولكن لا يلبس نظارة … ويقوم بمسح الأحذية في المقاهي.

وفي الوقت نفسه أيضًا كان «تختخ» يبحث في حي السيدة «زينب» ولم يكن في حاجة إلى الشك في أحد … ولم يكن مُحتاجًا لصورة برغم أنه كان يحملها في جيبه … فقد كانت صورة «مايزر» وشخصيته وطريقة حركاته ملتصقة في ذهن «تختخ» جيدًا … لهذا فقد كان يستطيع فرز الأشخاص ولا يُطاردهم كما يفعل «محب» و«نوسة» أو «عاطف» و«لوزة».

استمرت ساعات البحث المُضنية حتى أحسَّ الجميع بالتعب … وجلس «تختخ» في مقهًى صغير بجوار «مطعم الركيب» … وتناوَل كوبًا من المثلَّجات … وفي الساعة الواحدة والنصف ظهر «محب» و«نوسة» نازِلَيْن من الترام … وبعد لحظات ظهر «عاطف» و«لوزة».

كان الإرهاق باديًا على المغامرين جميعًا … فقد قضوا ساعات طويلة يتجوَّلون … ولم يكن أي وجه من وجوهِهم يُنبئ بأيِّ توفيق … لقد اتضح أن المهمة صعبة جدًّا … وأن البحث عن «مايزر» في الأحياء الشعبية … يشبه البحث عن سمكة صغيرة في المحيط.

ومع هذا كانت المعلومات التي سمعها منهم «تختخ» مثار اهتمامه … الرجل الذي اختفى فجأة في منزل بباب الشعرية … وماسح الأحذية الطويل الأسمر … والذي لا يلبس نظارات.

قال «تختخ»: لقد نسيتم أن «مايزر» جاسوس … وأنه يُجيد التنكُّر … ولونه الأبيض يُمكن إخفاؤه بسهولة ببعض الأصباغ … وكذلك شعره الأشقر.

لوزة: ولكن يا «تختخ» مايزر كان يلبس نظارة سوداء … وكانت عيونه زرقاء كما قلت من قبل!

تختخ: هذه أيضًا ليسَت عقبة … فمن المُمكن بل الأغلب أنه لن يلبس النظارة وسيغير لون عينيه.

صاح «عاطف»: هذه نكتة … كيف يغير لون عينيه؟! … هل يمكن صبغ العيون أيضًا كما يُصبغ الشعر؟!

تختخ: ليس الأمر كذلك … ألم تسمعوا عن العدسات الملصقة بالعيون؟! إنها رقائق رفيعة جدًّا وناعمة من البلاستيك الشفاف يُمكن أن تلتصق فوق حدقة العين فتقوم بدور النظارة … ويمكن أن تكون بأيِّ لون من الألوان … ولعلكم لا تعلمون أن عددًا من نجوم السينما العالمية من الذين يستعملون النظارات الطبية في حياتهم الخاصة يضعُون العدسات الملصقة بالعيون في الأفلام محافظة منهم على جمال منظرهم!

قالت «لوزة» بإعجاب: إنك قاموس متحرِّك يا «توفيق»!

تختخ: المسألة ببساطة أنني قرأت مقالًا في إحدى المجلات عن هذا الموضوع … وفي رأيي أننا يجب أن نبحث عن رجل أسمر، وشعره أسود، وعيونه عسلية أو سوداء … ولا يَلبس أية نظارات … فليس من المعقول أن يتجوَّل «مايزر» في الأحياء الشعبية بشكله الأوربي الخالص وكأنه يقول: تعالوا امسكوني!

أبدى المغامرون إعجابهم بوجهة نظر «تختخ»، وقالت نوسة: إنَّ هذا صحيح! … فهذا الجاسوس الداهية سيتنكَّر بالطريقة التي تحدَّث بها «تختخ».

تختخ: في هذه الحالة فإننا يجب أن نذهب إلى باب الشعرية للبحث عن الرجل الذي رأته «لوزة» و«عاطف»، وكذلك ماسح الأحذية الذي رأته «نوسة» و«محب».

وصمت «تختخ» لحظات ثم قال: بعد الغداء طبعًا!

علَّق «عاطف» قائلًا: إنك لا تنسى بطنَكَ العزيز مطلقًا!

تختخ: لكي تكون مُغامِرًا ممتازًا لا بد أن تأكل جيدًا.

عاطف: هذه نظرية لم أسمع عنها من قبل!

تختخ: لقد سمعتَ بها الآن … فهيا بنا إلى المطعم!

دخلوا مطعم «الركيب» في الميدان … وهبَّت عليهم رائحة الكباب والكفتة ولحمة الرأس … وأخذ «تختخ» يبلع ريقه وهو يقول: اليوم يوم لحمة الرأس والكوارع.

وجلسوا إلى المائدة … فطلب «تختخ» ما قاله … وطلبت «نوسة» و«لوزة» كبابًا وكفتة … وطلب «محب» و«عاطف» طبقين من المخ والكبدة المقلية … وجاءت السلَطة الحامية، والعيش الساخن … وانهمك المغامرون الخمسة في الأكل وكأنهم نسوا كل شيء عن «مايزر» الجاسوس … والمغامرة التي تُوشك أن تدقَّ أبوابهم.

بعد الطعام تناولوا بعض الفاكهة … وبعد دفع الحساب خرجوا مرة أخرى إلى الميدان … وفي هذه المرة اتجهوا جميعًا إلى حي باب الشعرية … واتجهوا فورًا إلى العنوان الذي حفظته «لوزة» … كان منزلًا قديمًا بابه من الخشب … مظلم المدخل … وبجواره محل لبيع الطرشي البلدي، وفي الناحية الأخرى ورشة صغيرة لصناعة الأحذية …

تردَّد المغامرون لحظات ثم تقدَّم «تختخ» من بائع الطرشي وقال له: إننا نبحث عن الأستاذ «حسنين» الذي يَسكُن في هذا العنوان: زوى بائع الطرشي العجوز حاجبيه وقال: حسنين … حسنين … حسنين … ليس في هذا المنزل من يُسمى «حسنين» وأنا في هذا المكان منذ أربعين عامًا … أو منذ بناء المنزل لم أسمع عن ساكن بهذا الاسم هنا!

تختخ: إنه رجل رفيع طويل القامة … أسمر اللون يَلبس نظارات سوداء.

ابتسم الرجل عن أسنان صفراء مكسرة وقال: تقصد الأستاذ حسونة؟!

ابتسم المغامرون جميعًا؛ فقد كانوا يعرفون أن اسم «حسنين» الذي اخترعه «تختخ» ليس إلَّا وسيلة للسؤال …

قال «تختخ»: آسف … لقد نسيت … إن اسمه «حسونة».

قال بائع الطرشي: الأستاذ «حسونة» يسكن في الطابق الثالث مع زوجته وأولاده … ولكنه خرج الآن.

تختخ: هل تعرفه جيدًا؟

بائع الطرشي: طبعًا … إننا أصدقاء منذ أكثر من ثلاثين عامًا … منذ سكن في هذا البيت … وهو رجل طيب!

قال «تختخ»: نشكُرك كثيرًا …

الرجل: ولكن لماذا تَسألون عنه؟

قال «تختخ» وهو ينحرف: إنَّ والدنا أرسلنا لنسأل عنه؛ لأنَّ له خدمة عنده … سوف نُبلغ والدنا …

ومشى «تختخ» ومعه بقية المغامرين دون أن يُكمل كلامه … فمن المؤكَّد أن الأستاذ «حسونة» ليس هذا الجاسوس «مايزر» ما دام يسكن هذا البيت منذ ثلاثين عامًا.

ومشى الأصدقاء مُسرعين … وقال «تختخ»: سنذهب فورًا إلى حي الحسين … إنه أقرب الأحياء الشعبية إلى الطابع السياحي … ثم إن ماسح الأحذية هذا يثير اهتمامي … إنني أشعر أن ثمة شيئًا خلف هذا الرجل … لا أدري لماذا؟ … ولكن تعالوا نرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤