في مصيدة الشيطان

بدأت الحياة تدب بشدة في حي الحسين مع هبوط المساء … وامتلأت الشوارع الضيقة القديمة بمئات من الناس … وفي الساحة الكبيرة حيث يوجد مسجد «الحسين» انتشر باعة اللب والفول والترمس … والمشعوذون الذين يرتدُون الأسمال، ويُعلِّقون عقود الخرز الملون … والمُصلُّون من جميع أنحاء القاهرة ومصر كلها … وارتفعت في الجو رائحة الطعمية الساخنة والكباب والكفتة … ووقفت السيارات صفوفًا متراصَّة … والمكتبات القديمة المنتشرة في أرجاء الميدان الواسع تمتلئ بروادها.

كانت ملاحظة «محب» عندما قال: أعتقد أن اليوم يوم غير عادي في حي الحسين … الدنيا مزدحمة، وهي عادة مزدحمة، ولكن ليس بهذا الشكل، ولا إلى هذا لحد!

وسرعان ما عرفوا الجواب … إنها الليلة قبل الأخيرة من مولد «الحسين» رضي الله عنه … وقد جاء الناس من جميع أنحاء مصر … ومن البلاد العربية للاشتراك في الذكرى العَطِرة.

وكانت هذه إجابة أحد الأشخاص الذين يَبيعون «السِّبَح» والبخور بجوار المسجد وهو يردُّ على سؤال ﻟ «عاطف».

وقال «تختخ»: إنَّ هذا يُصعِّب مهمَّتنا … فهناك ألوف من البشر في هذا المكان، ومن الصعب العثور على ماسح الأحذية في هذا الزحام!

نوسة: ولكن غدًا الليلة الكبيرة … وسيتضاعف الزحام … وإذا انتظرنا إلى ما بعد غد … فقد يتلاشى ماسح الأحذية … إذا كان حقًّا هو الجاسوس «مايزر» كما تشكُّ يا «توفيق»!

نظر «تختخ» إلى ساعته وقال: الساعة الآن السادسة والنصف … سنقضي ساعة ونصفًا في البحث عن الرجل … وسنعاود اللقاء أمام محلِّ الفطير الذي نقف أمامه الآن بعد ساعة ونصف.

محب: أليس من الأفضل أن يبقى أحدنا هنا؟ … حتى إذا شاهد واحدٌ منَّا ماسح الأحذية أسرع بإبلاغه … فقد نجده بعد خمس دقائق أو عشر دقائق مثلًا … فيجب أن يكون بيننا وسيلة اتصال.

تختخ: أوافق … فمن سيبقى؟

لوزة: لن أكون أنا … إنني أريد الاشتراك في المُطارَدة.

عاطف: سأبقى هنا … وتذهب «لوزة» و«تختخ» معًا … و«نوسة» و«محب» معًا.

تختخ: موعدنا في الساعة الثامنة.

وانطلق الأربعة: «لوزة» و«توفيق» معًا … و«نوسة» و«محب» معًا … واختار «عاطف» كرسيًّا عند بائع الفطير، وطلب فطيرة صغيرة وجلس.

كان كلٌّ منهم يحمل صورة ﻟ «مايزر» … وقد حذَّرهم «تختخ» من أن الرجل يُمكن أن يتنكَّر … ولكن مهما تنكر فلن يستطيع التخلص من ملامحه الأساسية … وهكذا … فإذا كان ماسح الأحذية المجهول هو «مايزر» فسوف يُمكن التعرف عليه … ولكن المسألة لم تكن هكذا … فعندما كان المغامرون الخمسة مجتمعين أمام بائع الفطير يتحدَّثون ويضعون خططهم … كانت هناك عيون خبيثة تراقبهم عن قُرب … عيون مُمتلئة بالشر والرغبة في الانتقام … كانت عيون «مايزر».

كان الجاسوس هو فعلًا ماسح الأحذية كما تصوَّر «محب» و«نوسة»، وكان يقوم بمسح الأحذية في المنطقة المحيطة بمسجد الحسين … وتشاء المصادفة أن يكون غير بعيد من اجتماع المغامرين الخمسة، ويرى «تختخ» … وبرغم أن «تختخ» كان يعمل في منزل «مايزر» مُتنكِّرًا — في لغز «الكاميرا السحرية» — فإن الجاسوس الداهية عرفه على الفور … وعرف فيه الولد الذي حطَّم خططه … ووضع رجال الأمن في أثرِه … وجعله مُطارَدًا مُختفيًا خائفًا … وأحسَّ بالرغبة في الانتقام تملأ نفسه … نعم … قرَّر «مايزر» أن يَنتقم … وراقب «تختخ» هو و«لوزة» وهما يسيران معًا … واستنتج الجاسوس المُخيف كل شيء … إنَّ هؤلاء الأولاد الخمسة يعملون معًا … وهذا التقسيم: اثنان … واثنان … وواحد ينتظر، معناه أن هناك خطة محدَّدة يُنفِّذونها … إنهم يقتفون أثره … ولا بد أنهم يستريبون في وجودِه بهذا الحي … وأنهم يبحثون عنه.

كان «مايزر» يقف خلف كشك السجاير المواجه لمحلِّ الفطير … وشاهد كل شيء وقرر أن ينتقم.

انتظر حتى تحرَّك «تختخ» وبجواره «لوزة» ودخلا إلى ناحية مقهى الفيشاوي وسار خلفها من بعيد … وهو ينتظر المكان المناسب والوقت المناسب ليبدأ تنفيذ خطته التي استطاع عقله الشيطاني أن يضعها في ثوانٍ قليلة.

دخل «تختخ» و«لوزة» إلى مقهى الفيشاوي من ناحية شارع الصاغة … وأسرع «مايزر» يدخل من الناحية المقابلة … ناحية حي الحسين … وكان لا بد أن يَلتقيا عند الجزء الخلفي كما قدر «مايزر»، وهذا ما حدث فعلًا … وفجأة أمسكت «لوزة» بذراع «تختخ» بشدة … لقد شاهدت «مايزر» وانحنى «تختخ» عليها يسأل: لماذا تُمسكين يدي بهذه الشدة؟! قالت «لوزة» هامسة: الرجل أمامنا تمامًا.

ورفع «تختخ» عينَيه … وشاهدَ «مايزر» … وبرغم كل وسائل التخفِّي الذي صنعها «مايزر» ببراعة … فإنَّ «تختخ» عرفه على الفور … من طوله … من حجم رأسه … من الانحناءة الخفيفة في كتفه … ودقَّ قلب «تختخ» سريعًا … إن ماسح الأحذية الذي يقف أمامه يدقُّ على صندوقه الصغير هو بلا شك الجاسوس الداهية «مايزر» … وتدفَّقَت الدماء في رأسه … لا بد من التصرف سريعًا … ولكن «مايزر» كان أسرع منه … فقد انحرف عن الأضواء ودخل في الحارة الضيقة المجاورة للمقهى …

وأسرع «تختخ» و«لوزة» خلفه … وهذا ما كان «مايزر» يريده بالضبط … فقد شاهد المغامرَين وهما ينحرفان خلفه … فسار مُسرعًا وأحسَّ بهما يتبعانه … وأحسَّ بأن خطته قد نجحت، وأنه على وشك الانتقام من هذا الولد السَّمين الذي أوقع به، وهو الجاسوس الداهية الذي دوَّخ رجال الأمن في جميع أنحاء العالم.

أخذ «مايزر» يسير بنشاط في الحواري المُظلمة التي اختارها … و«تختخ» و«لوزة» خلفه … كان ذهنه يعمل بنشاط … وكذلك كان ذهن «تختخ»، شيء ما في نفسه جعله يستريب من هذه المغامرة … ولكن لا بد من المضيِّ فيها …

وصعد «مايزر» السلالم المتآكلة في حي الباطنية … الحي المُخيف الذي يأوي إليه تجار المخدرات … ويخشى الشخص العادي أن يسير فيه نهارًا … واشتدَّت الظلمة … وأحسَّ «تختخ» بنوع من الخطر … خاصة أن «لوزة» معه … وأخذت المطاردة تزداد سرعة ومرارة … وبدأ عدد المارة يقل تدريجيًّا … وازداد الشعور بالخطر … وصعد «مايزر» مجموعة أخرى من السلالم … وأصبح الثلاثة كأنهم بمعزل عن المدينة … وعن حيِّ الحسين المزدحم … فلم تَعُد تُسمع أصوات مكبرات الصوت إلَّا من بُعد سحيق … ولم تَعُد أضواء الميدان تظهر على الإطلاق … ولم تَعُد هناك سوى مجموعة من المنازل القديمة المُتهاوية … ومال «تختخ» على «لوزة» وقال هامسًا: إذا دخل «مايزر» أي منزل من هذه المنازل … فأسرعي بالعودة إلى الميدان.

لوزة: إنني سأضلُّ الطريق …

تختخ: اتبعي الأصوات البعيدة … أصوات مكبرات الصوت … إنها ستقودك إلى الميدان … واتصلوا بالمفتش «سامي».

ولم تمضِ سوى لحظات على هذا الحديث حتى وقف «مايزر» أمام منزل قديم، ثم دقَّ الباب دقات معينة … وفُتح الباب على الفور … واندفع شريط ضئيل من الضوء وأخرج «تختخ» منديله بسرعة وقال للوزة: سأضع هذا المنديل بين الأحجار لتعرفي المنزل.

واختفت «لوزة» في الظلام وقلبها يرتجف … لقد أحسَّت أنها تركت «تختخ» بين أنياب الأسد في هذا المكان المنعزل … ولكنها أدركت في الوقت نفسه أن وجودها سيكون عبئًا عليه … ولن يكون له أدنى فائدة، بل على العكس عودتها لبقية المغامرين هي الأمل الوحيد لإنقاذ «تختخ» …

أخذت «لوزة» تجري وهي ترهف أذنيها ناحية أصوات مكبرات الصوت البعيدة … كان الظلام حالكًا … ولا تستطيع أن تتذكر الطرق الملتوية التي أتوا منها … ولكنها كانت تدرك أن مصير «تختخ» ومصير المغامرة كلها مُعلَّق في رقبتها الآن … وأن عليها أن تبذل المستحيل لتصل إلى بقية المغامرين … وإلى المفتش «سامي».

دخل «مايزر» وأغلق الباب خلفه … وأسرع «تختخ» يقترب من باب المنزل، وأخذ يتحسَّس الواجهة الحجرية المتآكلة … ثم دسَّ منديله في أحد الشقوق الكثيرة التي في الحائط، واستدار ليقف عند أقرب منزل يستطيع منه أن يُراقب المنزل الذي دخله «مايزر» … ولكنه لم يكد يخطو ثلاث خطوات حتى أحسَّ بيد قوية توضع على فمه، ويدٍ أخرى تَلوي ذراعه اليُمنى حتى تكاد تحطمها … وإذا به يُدفع إلى داخل منزل «مايزر» دون أن يتمكَّن من الدفاع عن نفسه.

أُغلق الباب … ووجد «تختخ» نفسه في صالة المنزل … كل شيء حوله كان قديمًا وحقيرًا … الجدران … الأثاث … حتى لمبة النور كانت مُغطَّاة بالأتربة … وبدا واضحًا أن المنزل لم يستخدم منذ وقت طويل.

أمامه كان يقف «مايزر» في ثياب التنكُّر لماسح الأحذية … وقد وقف مباعدًا ما بين ساقيه … وتحت الجلباب القديم كان ثمة انتفاخ على الجانب يؤكد وجود مسدَّس ضخم … ونظر «مايزر» إلى «تختخ» طويلًا … ثم قال للرجل الذي كان يُكمِّم «تختخ» ويلوي ذراعه، اتركه الآن.

وترك الرجل «تختخ» الذي أخذ يُدلِّك ذراعه التي كادت تتحطم، وقال «مايزر»: أين الفتاة الصغيرة التي كانت معك؟

لم يردَّ «تختخ» فقال «مايزر» بصوت تفوح منه رائحة الخطر: من الأفضل أن ترد كلما سألتك … ففي ثانية واحدة يمكن أن أقضي عليك دون أن يعرف مخلوق في هذا العالم مَنْ الذي فعلها!

تختخ: إنَّ الفتاة التي كانت معي تعرفك … وتعرفُ من أنت … وإذا قتلتَني فسوف تُطاردك كل قوى الأمن في مصر … ولن تستطيع أن تخرج حيًّا من بلادي.

سكت «مايزر» لحظات … والتفت «تختخ» ليرى الرجل الذي كان يُمسكه … وقعت عينه على أقبح وجه رآه في حياته … كان رجلًا يشبه الغوريلا … طويل الذراعين مثلها … قد استطال شعر ذقنه وشاربه … أفطس الأنف … صغير العينين … كثيف الشعر … بارز الأسنان … غوريلا حقيقية في ثياب إنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤