بين النوم واليقظة!
تبادل الرجلان النظرات … لقد كان ما قاله «تختخ» صحيحًا … وبرغم أن قوى الأمن في مصر كانت تبحث عن «مايزر» في هذه اللحظة … فإن قُتل «تختخ» كان شيئًا آخر …
وقال «مايزر»: يجب أن نتحرك فورًا … من الصعب حقًّا أن تستطيع الفتاة معرفة المكان، ولكن مَنْ يدري؟!
قال الرجل الغوريلا: وماذا سنفعل به؟
مايزر: سوف أُفكِّر … دعني أفكر لحظات …
أخذ «مايزر» يدور في الصالة كالأسد المُحاصَر … وكان ينظر إلى «تختخ» بين فينة وأخرى في غيظ شديد … فهذا الولد أفسد عليه خططه … واضطرَّه إلى تغيير كل ما فكَّر فيه … وفي الوقت نفسه كان «تختخ» يُفكِّر فيما سيحدث له … إن كلمة واحدة من «مايزر» تعني قتله على الفور … وأخذ يدور بعينَيه في المكان … كان ثمَّة حقائب مفتوحة … بها ملابس تَصلُح للرحلات … وبنادق … وأدوات أخرى غريبة … وفجأة قال «مايزر»: هل عندك حقن مُخدِّرة؟
رد الغوريلا: نعم … ما زال عندي ثلاث حقن.
مايزر: سنُعطيه كمية من المخدِّر تكفي لتنويمه أطول مدة مُمكنة … وسنتركه هنا.
الغوريلا: لماذا لا نقتله؟!
مايزر: إن قتله سيقلب علينا الدنيا. وكل ما نُريده منه ألَّا يستطيع الكلام حتى نبتعد مسافة كافية.
قام الغوريلا إلى إحدى الحقائب الصغيرة وفتحها … وأخرج علبة بها بعض الأدوات الطبية فاختار أداة الحقن، ثم أخرج علبة صغيرة اختار منها حقنة وضعها في «السرنجة»، ثم أعطاها ﻟ «مايزر» الذي اقترب من «تختخ» وقال: اكشف ذراعك.
نظر «تختخ» حوله … كان الرجل الغوريلا ينظر إليه بغضب … وعيناه الصغيرتان تُطلقان الشرر … ولم يكن أمامه إلَّا أن يُطيع … فمدَّ يده ورفع كُمَّ قميصه وأمسك «مايزر» بذراعه … وفي لحظة أحسَّ بوخز الحقنة في ذراعه، ولم تمضِ لحظات حتى دارت الدنيا به … ورأى الصالة يهبط سقفها عليه حتى يكاد يَخنق أنفاسه … وشاهد وجه الرجل الغوريلا المُخيف يقترب منه … ثم سقط على الأرض غائبًا عن الوعي.
في هذه الأثناء كانت «لوزة» تجري عبر الحواري الضيقة المظلمة، وهي تقع وتقوم وأنفاسها اللاهثة تتردَّد في صدرها كأنها النيران … كانت تدرك أن مصير «تختخ» يتوقف على سرعتها في الوصول إلى المغامرين والحديث إلى المفتش «سامي» … كان صوت مكبرات الصوت يتزايد بالتدريج فتُدرك أنها تسير في الطريق الصحيح … وعند منحنى إحدى الحواري فوجئت «لوزة» برجل يقف أمامها فجأة … كان يرتدي ملابس مهلهلة، وقد سال لعابه وغارت نظراته … وكان يمسك بعصا طويلة … وصاح الرجل بها بكلمات متعثرة: أعطيني قرشًا!
ذُعرت «لوزة» وأخذت تتراجع إلى الخلف والرجل يتقدَّم منها كأنه شبح مُخيف خرج من أحشاء الظلام … كان يُردِّد باستمرار كأنه أسطوانة مشروخة: أعطيني قرشًا … أعطيني قرشًا!
أخذت «لوزة» تبحث في جيوبها عن نقود تعطيها له … عندما ظهر ولد صغير واندفع إلى الرجل الذي لم يَكد يراه حتى أخذ يَجري دون سبب مفهوم …
ووجدت «لوزة» نفسها وحيدة وقد بلغ منها الخوف والتعب أقصى حد … فوقفت لحظات تَلتقِط أنفاسها وتُحاول التخلص من الكابوس الذي مرَّ بها … ظلَّت مستندة إلى الحائط لحظات ثم تذكَّرت مهمَّتها فاندفعت تجري مرةً أخرى … وأخذ صوت مكبرات الصوت يرتفع حتى وجدت نفسها — وهي لا تكاد تصدِّق — قد وصلت إلى ميدان الحسين … بجوار المسجد بالضبط، فمشت مُسرعة في اتجاه الطرف الآخر للميدان … كان الزحام على أشده، وقد تجمَّع الناس في تيارات بشرية تدفع بعضها دفعًا في الميدان، وحول المسجد … ووجدت «لوزة» نفسها محشورة في هذا الخِضَم البشري المخيف، يدفعها إلى الخلف كلما تقدَّمت إلى الأمام وكادت تبكي … لقد وصلت إلى الميدان، ولكنها لا تستطيع الوصول إلى هدفها …
وأخذت تشقُّ طريقها جاهدة حتى وصلت إلى بائع الفطير في بداية الميدان، وشاهدت «عاطف» أولًا … ثم شاهدت «نوسة» و«محب» قادِمَيْن في اتجاهه … وأدركت أنهما جاءا في الموعد حسب الاتفاق …
عندما شاهد المغامرون الثلاثة «لوزة» بدَت عليهم علامات الدهشة الشديدة … كان وجهها يسيل عرقًا … وشعرها مُشعثًا … وثيابها ممزَّقة، وقد بدا عليها الإعياء الشديد … وأسرعوا إليها … وأجلسوها على كرسي.
وأحضر لها «عاطف» كوبًا من الماء، أخذت ترشفُه بسرعة وأنفاسها تتلاحق، وكان «محب» أول من تحدَّث فسألها بلهفة: ماذا حدث؟!
ردت «لوزة» متقطعة: إن «تختخ» يُطارد «مايزر» وقد تركته أمام أحد المنازل يراقب «مايزر» … وقد طلب مني سرعة الوصول إليكم … والتحدُّث إلى المفتش «سامي».
نوسة: هل تأكَّد «تختخ» من شخصية «مايزر»؟
لوزة: نعم … إنه ماسح الأحذية … فلم يكد يراه «تختخ» حتى قال إنه هو الجاسوس … وقد تبعناه عبر الحواري الضيقة حتى دخل أحد المنازل.
عاطف: لا بد من الحديث إلى المفتِّش فورًا.
ودخل «عاطف» إلى محل الفطير يسأل عن تليفون … ولكن لم يكن به … وخرج يجري من مقهى إلى مطعم حتى عثَر على التليفون … وكان الثلاثة في انتظار عودته …
وعاد متجهِّم الوجه وقال: المفتش غير موجود … لا في المكتب ولا في المنزل … لقد خرج لتحقيق إحدى الحوادث المهمة.
محب: لم يبقَ إلَّا أن نتصرَّف من تلقاء أنفسنا … إنَّ «تختخ» في خطر.
نوسة: هل تعرفين المنزل يا «لوزة»؟
لوزة: من الصعب جدًّا العودة إلى نفس المكان … ولكني سأحاول.
أسرع المغامرون في السير … كانت «لوزة» تنظر حولها عند كل منعطف … وترفَع بصرها خلال الظلام الذي كان يُخيِّم على شرفات المنازل والأبواب لتتذكر الأماكن التي مرَّت بها مع «تختخ» … وأخذوا يلفُّون ويدورون عبر الحواري والأزقة … وكانت تنسى أحيانًا طريقها … ثم تعود مرة أخرى … كانت مرهقة ولكنها في الوقت نفسه تدرك أنها هي الأمل الوحيد للوصول إلى «تختخ» وإلى «مايزر».
وأخذ الظلام يتكاثَف في الطرقات الضيقة الصاعدة … وأخطأت «لوزة» كثيرًا في التعرف على الأماكن … والمغامرون خلفها يسيرون حيث تسير … وأخيرًا وقفت في مكان وقالت: أظن أن هذا هو المنزل.
نوسة: لقد ذكرتِ أن «تختخ» وضع منديله الأبيض بين شقوق الأحجار في واجهة المنزل الذي كان به «مايزر».
لوزة: نعم … حاوِلُوا أن تروا.
وتسلَّلوا حيث المنزل الذي أشارت إليه «لوزة» … وأخذوا يُحدِّقون في الظلام مُحاولين البحث عن المنديل الأبيض … وفجأةً قال محب: هذا هو المنديل.
لوزة: إذن هذا هو البيت.
عاطف: وماذا سنَفعل بعد ذلك؟
محب: سأدخل.
نوسة: كيف تفعل هذا؟! إنَّ «مايزر» سيَقضي عليك!
محب: إذا لم أَعُد إليكم بعد نصف ساعة … فأسرِعُوا إلى قسم الشرطة في حي الحسين … وأخطروا الضابط الموجود بكل ما حدث.
وفي قفزتين كان «محب» قد تسلَّق جدار المنزل … وصعد إلى السطح في خفة القط، وأخذ يبحث عن منفذ … وفعلًا وجد «المنور»، فتدلى منه وفي قفزة خفيفة كان داخل البيت … وسار بحذرٍ وهو يتسمع … لم يكن هناك أدنى صوت … وأخرج مِصباحه الصغير وأطلق خيطًا رفيعًا من الضوء، ووجد نفسه في ساحة واسعة نسبيًّا … وحولها نوافذ المنور المطلَّة على البيت … وأخذ يُقدِّر مكان النوافذ حتى يعرف النافذة التي تفتح على الغرف الأمامية … واستقرَّ رأيه على نافذة منها …
تسلل إليها بخفة، وبخبطة خفيفة من يده انفتحت النافذة … ووضع أذنه على الشراعة وأخذ يتسمع … ولكن لا صوت … واجتاز النافذة في قفزة أخرى ووجد نفسه في ظلام دامس لا يرى فيه أصبعه … فأطلق شعاع الضوء مرةً أخرى … كانت غرفة صغيرة بها فراش حديث الاستعمال … وبعض الأثاث القديم …
وسار «محب» على أطراف أصابعه حتى باب الغرفة وفتحه … ووجد صالة مُظلمة … وأخذ ينصت … وخُيِّل إليه أنه يسمع نَفَسًا يتردَّد، نَفَسًا خافتًا ضعيفًا … لشخصٍ نائم … وأخذ يقترب من صوت الأنفاس الواهنة … وأطلق شعاع الضوء … وسقط على «تختخ».
ارتمى «محب» على «تختخ» وهو يَصيح: توفيق … توفيق!
لم يكن هناك رد … وأخذ يهزه بعنف دون أن يسمع منه كلمة واحدة … وأسرع إلى الباب وصاح في الظلام: تعالوا!
واندفع المغامرون إلى الباب وقالت «لوزة»: ماذا حدث؟!
محب: «تختخ» وحدَه هنا … يبدو أنه مصاب!
وأخرج كل منهم «بطاريته» الصغيرة … وانحنوا جميعًا عليه … كان يتنفَّس بصعوبة … ووجهه شديد الشحوب … واقتربت «نوسة» منه، ووضعت أنفها بجوار فمِه وشمَّت رائحة أنفاسه … ثم قالت: إنه تحت تأثير مُخدِّر قوي!
وأخذ «عاطف» يبحث عن مفتاح النور حتى وجده … وأضاء النور الضعيف، ثم أسرعوا جميعًا يحملون «تختخ» إلى الهواء الطَّلْق خارج الصالة المغلقة … ثم عاد «محب» وفتَّش الشقة كلها … لم يكن هناك أحد … ولكن بها بقايا حبال قديمة … ثم وجد شيئًا أخذه معه … كانت ورقة كبيرة مطوية، وعلى الضوء الخفيف خُيِّل إليه أنها خريطة … وخرج إلى بقية الأصدقاء … ووجدهم بجوار «تختخ» الذي كان لا يزال واقعًا تحت تأثير المُخدِّر … وبدا واضحًا أنه لن يفيق سريعًا.