ماذا رأت نوسة؟

تعاون الأربعة على حمل «تختخ» … كان ثقيلًا، وكانت المهمة شاقة وهم يدورون به في الحواري المظلمة … وكلما شاهدوا شخصًا وضعوا «تختخ» في وضع الجالس بجوار جدار … وأخذوا قسطًا من الراحة ثم عاوَدُوا السير … حتى إذا وصلوا إلى الميدان كانوا جميعًا يلهثُون، وأسرع «محب» إلى الميدان حيث استطاع إقناع أحد السائقين بأخذهم إلى المعادي بعد أن ادَّعى أن أحد زملائه قد فاجأتْه نوبة إغماء … وبعد أن نقلوا «تختخ» إلى التاكسي … انطلق بهم إلى المعادي عن طريق صلاح سالم أولًا، ثم الكوبري الجديد، وسرعان ما كانوا في المعادي.

قالت «نوسة»: هل سنذهب به إلى منزله؟

لوزة: لو شاهدوه في هذه الحالة فستكون كارثة!

نوسة: ولكن والده ووالدته ليسا هناك.

لوزة: والشغَّالة؟!

عاطف: مسألة سهلة سأبعدها عن باب الفيلا حتى تدخلوه إلى غرفته.

وصلوا إلى باب الحديقة … كان «تختخ» لا يزال مُستغرقًا في سبات عميق … لا يدري ما يدور حوله … ودفع «محب» لسائق التاكسي أجرَه مع بقشيش مجزٍ … وحمله الأربعة إلى الداخل … كانت الساعة قد أشرفت على مُنتصَف الليل عندما مدَّدُوه في فراشه … ونظر الأربعة بعضهم إلى بعض … كانت عيونهم تفيض بالشكر لله؛ لأنهم أنقذوا «تختخ»، وبالتعب؛ لأنهم قضوا يومًا مُرهِقًا لم يروا مثله من قبل … وبدون كلمة واحدة أسرعوا جميعًا عائدين إلى منازلهم … واستغرقوا جميعًا في سبات عميق.

في التاسعة صباحًا كان المغامرون في منزل «تختخ»، فتحت لهم الشغَّالة الباب وهي تقول: إن توفيق لا يزال نائمًا!

وأسرعوا جميعًا إلى غرفته … كان لا يزال نائمًا حقًّا … ولكن أنفاسه كانت عادية، وقد استعاد وجهُه لونَه … فتغيَّر من الشحوب إلى البياض.

وقالت «نوسة»: لماذا لا نُحاول إيقاظه؟!

وبدأ «محب» على الفور يهزُّه برفق وهو ينادي: توفيق … توفيق …

وسمعوه يغمغم وينطق بكلمات غير مفهومة … واستمرَّ «محب» في محاولته … وأخذ يقول له: استيقظ … استيقظ … إنَّ «مايزر» قد هرب.

بدأت جفونه تَختلِج … وأخذ يتأوَّه … ثم أخذ يحاول فتح عينيه … وقالت «نوسة»: نريد فوطة باردة.

وأسرعت «لوزة» تُحضِر فوطة … ثم تغمرها بماءٍ بارد من الثلاجة … ووضعت «نوسة» الفوطة على وجهِه … وأخذت تُربِّت بها خدَّه … وبدأ يُحاول فتح عينيه … وشيئًا فشيئًا نجح … وفتح جفنين ثقيلَين وأخذ ينظر إلى أصدقائه وكأنه لا يعرفهم … ثم قال بصوت خافت مُتحشرِج: رأسي … رأسي! ووضع يده على رأسه … وقالت «لوزة»: إننا هنا يا توفيق … إننا في البيت … استيقظ، أنا «لوزة».

وأخذ يُردِّد بعدها: لوزة … لوزة!

وكادت الدموع تطفر من عينَي «لوزة» وهي تقول: نعم «لوزة» … أنا «لوزة» يا «توفيق».

وثبَّت عينيه عليها وقال ببطء: لوزة … ماذا حدث؟

لوزة: أنت تحت تأثير مخدِّر قوي … لقد مضى عليك نحو اثنتَي عشرة ساعة!

تختخ: إن رأسي يُؤلمُني جدًّا.

لوزة: ستُصبح على ما يرام …

عاطف: ما رأيكم في فنجان من القهوة؟

نوسة: قهوة باللبن …

وأسرع «عاطف» يطلب من الشغَّالة «سعدية» كوبًا من القهوة باللبن.

وقاموا جميعًا بمساعدته على الجلوس في فراشه … وأخذ ينظر إليهم بدون تركيز، ثم ابتسم أخيرًا بوهن وهو يقول: ماذا حدَث بالضبط؟

ردَّت «لوزة»: هرَب … نعم هرب.

تختخ: يا للحظ السيِّئ … لقد خُدعنا!

لوزة: المهم أنكَ ما زلت حيًّا.

محب: لقد كنتَ في خطر شديد … ولم نَعثُر عليك إلَّا بعد متاعب جمة!

تختخ: إنني أتذكر الآن … نعم … أتذكر … ميدان الحسين … وماسح الأحذية!

لوزة: لقد استدرَجَنا إلى المنزل الذي كان يُقيم فيه في حي «الباطنية»، حقَنَك بمُخدِّر شديد!

أخذ «تختخ» يَشرب القهوة ويشعر بتحسُّن تدريجيٍّ … ثم قال: هل اتصلتُم بالمفتش «سامي»؟

عاطف: أمس مساءً عندما حضرت «لوزة» وأخبرتْنا بما جرى لك حاولنا الاتصال به … ولكنه لم يكن في المكتب أو المنزل.

تختخ: لا بد من الاتصال به حالًا.

وأخذت «نوسة» التليفون، وأدار «تختخ» رقم المفتش «سامي» في المنزل، وردَّت زوجته التي كانت تعرف «تختخ» جيدًا … وسألها «تختخ» عنه فقالت: لقد سافر في مهمَّة منذ الصباح الباكر … وللأسف لا أدري إلى أين ذهب … إنه بحكم عمله لا يقول لأحد عن مكانِه.

تختخ: شكرًا لكِ … إذا حضر فقولي له إنني اتصلتُ به وأريد أن أتحدَّث إليه في أمر مهم.

ووضع «تختخ» السماعة … وكان بقية المغامرين ينظرون إليه في إشفاق، فبرغم أنه أصبح على ما يرام فإنه كان يضع يده بين لحظة وأخرى على رأسه متألمًا …

وساعدوه على الوقوف … حيث دخل الحمام، فأخذ «دشًّا» باردًا … وخرج أفضل حالًا بكثير … وطلب الإفطار … وبعد أن تناوله أسرعوا جميعًا إلى الحديقة … كانوا في أشد الحاجة إلى اجتماع لمناقشة ماذا سيفعلون بعد أن اختفى «مايزر» وأصبح من الصعب مطاردته؟!

جلس «تختخ» يُحيط به بقية المغامرين … كان واضحًا أنه تحسَّن كثيرًا … ولكن آثار الإجهاد كانت واضحة عليه وهو يروي لهم ما حدث له بعد أن تركته «لوزة» وعادت إلى ميدان الحسين …

وفجأة توقف «تختخ» عن الحديث وهو يخبط جبهته ويقول: هناك شيء مُهمٌّ … شيء مهم جدًّا … لقد كانا «مايزر» والرجل الذي معه يستعدَّان لرحلة في الصحراء …

لم يكد «تختخ» ينطق هذه الجملة حتى صاح محب: الصحراء … لقد نسيت … تمامًا … الصحراء …

قال «عاطف» باسمًا لأول مرة منذ بداية المغامرة: ماذا حدَث لكما؟! … هل هبط عليكما وحي صحراوي في وقتٍ واحد؟!

محب: لقد وجدت خريطة عندما كنا نَنقُل «تختخ» من المنزل المهجور في حي «الباطنية»، إنني أتذكَّر ذلك … ولكني لا أتذكَّر أين وضعت الخريطة؟!

أخذ «محب» يبحث في جيوبه … ولكن عبثًا … لم يكن هناك شيء … وأحاطت به نظرات المغامرين … ولكنه صاح: لعلها في المنزل!

ودون انتظار لكلمة واحدة قفز من مكانه … وقفز على دراجته وانطلق في طريقه … ونظر المغامرون بعضهم لبعض وانفجروا ضاحكين … وقال «عاطف»: إنَّه يتصوَّر نفسه «كولمبس» والخريطة سيَكتشِف بها أمريكا.

قال «تختخ»: إن هذه الخريطة مهمة جدًّا … لقد رأيت كما قلت لكم من الأدوات والملابس ما يؤكِّد أن «مايزر» ومن معه سيقومان برحلة في الصحراء … والصحراء في مصر لا نهاية لها … هناك الصحراء الغربية … وهناك الصحراء الشرقية … فإلى أين يتجه «مايزر»؟

نوسة: ربما لا يكون في الخريطة ما يكشف اتجاهه.

تختخ: هذا صحيح … ولكن دعونا نأمُل أنه ترك أثرًا على الخريطة.

وساد الصمت لحظات وسألت «لوزة»: هل أنت أحسن حالًا الآن؟

رد «تختخ»: نعم … إن الصداع يزول تدريجيًّا.

وظهر «زنجر» فجأة بين المغامرين وهو يهز ذيله … وأسرع إلى «تختخ» وأخذ يقفز على كتفيه … ويتشمَّم رأسه وشعره … ويَلصِق وجهه … وكأنه يقول له «سلامتك» … وأخذ «تختخ» يربت ظَهْر «زنجر» بسعادة بالغة أضاءت وجهه.

ودقَّ جرس التليفون في هذه اللحظة … ورفعَت «لوزة» السماعة واستمعت قليلًا ثم قالت: شيء عظيم!

ثم استمعت لحظة أخرى وقالت: شيء مُؤسِف!

ثم وضعت السماعة … وقال عاطف مبتسمًا: ما هو الشيء العظيم في لحظة والمؤسف في لحظة أخرى؟!

ردَّت «لوزة» على الفور: عظيم أن يجد «محب» الخريطة … ومؤسف أنه ليس عليها أية علامة يمكن الاستدلال بها عن الطريق الذي سلكه «مايزر»، وهذه كانت فرصتنا الأخيرة.

ساد الصمت بعد هذه المناقشة القصيرة … وأخذ «تختخ» يربت ظهر «زنجر» وقد بدا عليه التفكير العميق … في حين تشاغل «عاطف» بالنظر إلى عصفور صغير أخذ يقفز بين أغصان الحديقة وهو يطلق زقزقة قصيرة سريعة … وهو يطارد شيئًا خفيًّا حاول «عاطف» عبثًا أن يعرفه …

وسمعوا درَّاجة «محب» وهي تقف بباب الحديقة بعد أن طال انتظارهم فتطلَّع الجميع إليه … ونزل «محب» وهو يمسك بورقة ملفوفة كالقلم ثم اقترب ووضعها على المائدة.

لم يمدَّ أحد يده لأخذ الخريطة … ثم مدَّت «نوسة» يدها أخيرًا وأمسكت بها ثم فردتها … كانت خريطة للوجه القبلي من الجيزة إلى أسوان … وأخذت نوسة تتأملها قليلًا … ثم وضعتها في اتجاه الشمس وهي تحدِّق فيها بشدة …

واقتربت من «تختخ» وعرضت عليه الخريطة وهي تشير بأصبعها إلى عدة أماكن على الخريطة … ونظر «تختخ» لحظات ثم قال مبتسمًا: معكِ حق … لقد وجَدنا ما كنَّا نبحث عنه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤