حدث في وادي عسل

تحرَّك القطار من محطة الجيزة في موعده … وأخذ يزيد من سرعته شيئًا فشيئًا حاملًا ركَّابه الكثيرين … وبينهم المغامرون الخمسة … والجيولوجي الشاب «فوزي» الذي كان يشرح للمغامرين طريقهم: يصل القطار إلى قنا قربَ الفجر … وسنجد في انتظارنا السيارة الجيب التي تملكها الشركة … وعادة ما يقودها السائق «عنتر»، وهو من أهل الصحراء ويعرف الطريق جيدًا …

سألت «لوزة»: وهل هناك طرق ممهَّدة في الصحراء؟

فوزي: هناك الطريق الذي يربط بين «قنا» على شاطئ النيل وبين ميناء سفاجة على ساحل البحر الأحمر … هذا هو الخط الرئيسي المرصوف … وهناك طرق فرعية أقل أهمية … غير ذلك ليس هناك سوى الصحراء، وبها طرق غير ممهَّدة، ولكن سير العربات والجمال عليها قد مهَّدها، أو على الأقل حدد معالمها بين الرمال اللانهائية.

وهبط الظلام، والقطار يشق طريقه بإصرار … وجاء موعد العشاء، وذهبوا جميعًا إلى عربة الطعام حيث تناولوا عشاءهم، ثم عادوا، وأخذ «فوزي» يحكي لهم عن حياته في الصحراء … وعن سكانها … وتقاليدهم وعاداتهم … كان حديثه مُسليًّا، ومُمتعًا، فالتفَّ حوله الأصدقاء مُعجبين … ولكن حركة القطار الرتيبة سرعان ما أخذتهم إلى النوم واحدًا بعد الآخر … وساد الصمت العربة كلها … فقد أسلم الركاب أنفسهم لسلطان النوم الغلَّاب.

عندما بدأت تباشير الفجر … وأخذت أجنحة الظلام تطير مرفرفة إلى بعيد، كان القطار يقترب من محطة «قنا» … وبدأ الجميع يستيقظون، وأسرعوا إلى دورات المياه يغسلون عن وجوههم آثار النوم، ويستقبلون يومًا جديدًا.

وما كاد القطار يتوقف بعد رحلته الطويلة، حتى نزل الجميع يحملون حقائبهم، ووجدوا شابًّا شديد السمرة نحيفًا نشيطًا، يقترب منهم، فقال «فوزي»: هذا هو «عنتر» سائق السيارة …

اقترب «عنتر» منهم مُحيِّيًا المهندس «فوزي» الذي قام بالتعارُف بينه وبينهم … ومشوا إلى السيارة الجيب الواقفة في ميدان المحطة، وأدار الشاب آلاتها وبدأت تَنطلِق مبتعدةً عن المدينة، وهو يحكي للمهندس «فوزي» أخبار البعثة الجيولوجية.

سأله «تختخ»: هل أنت هنا منذ أمس؟

رد «عنتر»: نعم … لقد حضرتُ أمس في الظهيرة، وقضيت الوقت في شراء ما تحتاج إليه البعثة من طعام وغيره.

تختخ: ألم ترَ شخصية غريبة على المحطة؟

عنتر: لا … إنني لم أحضر إلى المحطة إلَّا قرب وصول قطاركم في الفجر … وقضيت أغلب الليل عند قريب لي يسكن في قنا.

تختخ: من المؤكد أن ظهور أحد الغرباء هنا يُمكن ملاحظته …

عنتر: طبعًا … خاصة عند أول الصحراء على مدخل «وادي عسل» هناك بعض رجال «العبابدة» الذين يُلاحظونَ أيَّ غريب … ولا يُمكن أن يمر هناك شخص إلَّا عرفوه!

تختخ: وهل سنمرُّ عند مدخل «وادي عسل»؟

عنتر: بالطبع؛ فهو مدخل الصحراء!

وساد الصمت، ومضت السيارة تقطع الطريق بسرعة متوسِّطة … وجلس المغامرون الخمسة وقد سرح كل منهم مع خواطره … وكانت كلها مركزة على «مايزر»، وهل يُواصل الهرب منهم؟

وصلت السيارة إلى «سفاجة»، ثم غادرتْها إلى «القصير» على ساحل البحر الأحمر، وظلَّت تسير حتى وصلت إلى تلٍّ من الأحجار المرصوصة، أشار إليها السائق «عنتر» قائلًا: هذا هو مدخل وادي عسل.

وتوقَّفَت السيارة عند تلِّ الأحجار … وظهر عدد من الوجوه السمراء، ذات العيون السوداء الطيبة، وتبادلوا هم و«عنتر» و«فوزي» التحية، وسألهم «فوزي» إذا كانوا قد شاهدوا في اليوم السابق رجلًا غريبًا طويل القامة، ومعه شخص أو أكثر، وجاء الرد الذي انتظره المغامرون الخمسة نعم … ظهر أمس … إنهما رجلان يَركبان سيارة جيب حديثة جدًّا، وقد مرَّا في الصباح الباكر.

تبادل المغامرون النظرات مع بعضهم البعض … ثم مع «فوزي»، وشكر السائق رجال العبابدة، ثم انطلقت السيارة … إنهم الآن خلف «مايزر»، ولكنه يسبقهم بيوم كامل، وبسيارة قوية حديثة.

وأخذ «تختخ» يفكر في المصادفات الطيبة التي وضعتهم في أعقاب «مايزر»، وبخاصة آثار البصمات على الخريطة، وسفر «فوزي» في الوقت المُناسِب … ثم هذا السائق الذي يعرف المنطقة … لقد كانوا محظوظين حقًّا … المهم أن يصلُوا إلى «مايزر».

وصلوا إلى معسكر البعثة الرئيسي … كانت الخيام مبعثرة في الوادي في شكل نصف دائرة، وفي الوسط كانت خيمة كبيرة واضح أنها خيمة المطعَم ومكان الاجتماع، وقام «فوزي» بتعريف المغامرين على زملائه الجيولوجيين … ثم أخرج خيمة من المخزن، وقام بفردها، وساعده بعض العمال على إقامتها … وسرعان ما أصبح للمغامرين مأوًى ظريف …

ولكنَّ المغامرين لم يكونوا في حاجة إلى مأوى بقدر حاجتهم إلى معرفة طريق «مايزر»، وهل مرَّ بالمكان؟ … وسرعان ما كان «فوزي» يطوف على زملائه سائلًا … ولكن الإجابة كانت بالنفي … وأحسَّ المغامرون أنهم خسروا المعركة مع «مايزر» مرة ثالثة … ولكن «لوزة» التي لا تعرف اليأس قالت لهم: تعالوا نتجوَّل في منطقة العبابدة … إنهم من سكان هذه الصحراء … وسوف يلاحظون أي شيء فيها.

محب: من الأفضل أن نرتاح قليلًا … إن «فوزي» سينشغل عنَّا بزملائه ومن الأفضل أن نبدأ في الصباح.

تناولوا عشاءهم، ثم استسلمُوا لنومٍ عميق … كانت الصحراء هادئة ساكنة، وقد دخل كلٌّ منهم في كيس طويل من المشمع القوي، ونامت «لوزة» بجوار «نوسة» في جانب من الخيمة، وأسدَلتا ساترًا من القماش بينهما وبين بقية المغامرين.

استيقظ «عاطف» في الفجر … وخرج من كيسه كما تَخرُج الفراشة من الشرنقة، وأسرع إلى الأدوات التي أحضروها، وبدأ يعدُّ الإفطار وأكواب الشاي … وسرعان ما استيقظ بقية المغامرين … واشتركوا في إعداد الإفطار بعد فتح علب الفول المدمس، وإخراج قطع الجبن الجاف … وسرعان ما كانوا يتناولون إفطارًا شهيًّا، ثم يعيدون ترتيب كل شيء وينطلقون إلى حيث كانت قافلة من العبابدة تُرابط بالقرب من المعسكر، وقد أطلقت دوابَّها من إبل وماعز ترعى في المنطقة الخصبة لوادي عسل.

اقترب المغامرون من ولد صغير كان يجلس صامتًا مُراعيًا عنزاته وهي تمرح بين شجيرات الصحراء، وبادلوه التحية، ثم سأله «محب» … عما إذا كان قد شاهد أحدًا غريبًا في المنطقة.

قال الولد: لا، لم أرَ أحدًا … ولكن …

وتعلَّقت أبصار وقلوب المغامرين الخمسة بكلمة و«لكن» هذه، واستمر الولد يقول: لقد سمعت من جدي أنه شاهد شخصًا يَعرفه ومعه شخص آخر عَبَرَ أمس بعيدًا عن معسكر البعثة الجيولوجية!

محب: من هو هذا الشخص الذي يعرفه جدك؟

الولد: لا أدري … ولكن يُمكن أن تسألوه، تعالوا معي، إنه يجلس خلف هذا التل حيث يؤدي الصلاة طوال النهار … إنه رجل متدين جدًّا، وقد طعن في السن!

وقام الولد، وسار معه المغامرون الخمسة في الرمال حتى صعدوا التل، ثم هبطوا من الناحية الأخرى … وعلى الفور شاهدوا رجلًا قصيرًا نحيلًا في ملابسه البيضاء منهمكًا في الصلاة.

انتظر الأصدقاء حتى انتهى العجوز من صلاته، ثم اقتربُوا منه، وأسرع الولد الصغير يُسلِّم على العجوز، ويُقبِّل يده ثم أشار إلى المغامرين الخمسة وقال: إنهم يا جدي من مصر وأقارب المهندس «فوزي» … وقد جاءوا للبحث عن الرجل الغريب الذي حدثتنا عنه.

التفت العجوز إليهم، وشاهدوا وجهه السمح الذي يشع بالطيبة والحيوية برغم أنه كما يبدو قد تجاوز الثمانين …

قال الرجل تقصدون المستر «فرتيز»؟!

رد «تختخ»: لا يهمُّ الاسم يا سيدي … المهم الوصف!

رد العجوز: إنه طويل بشكل غير عادي … أزرق العينين أشقر الشعر.

تختخ: هل هو أعور؟

فتح العجوز فمه في دهشة وقال: كيف عرفت؟! لا يعرف هذه الحقيقة إلَّا عددٌ قليل من أصدقاء «فرتيز» … لقد فقَدها في أثناء الحرب العالمية الثانية!

خفق قلب «تختخ» سريعًا؛ فقد عرف أنه خلف «مايزر» … وقال: ومتى عرفته يا سيدي؟

رد العجوز: عرفته منذ أربعين عامًا تقريبًا … كان قد هبط من طائرته التي أصابتها المدافع … قفز بالبراشوت على شاطئ البحر الأحمر … وطلب منِّي أن أُساعده … كان مصابًا فلم أتردد في مساعدته … وبقي عندي أكثر من تسعة أشهر حتى شُفي تمامًا من إصابته ما عدا إصابة عينه التي فقدها إلى الأبد.

تختخ: هل عاش معك هنا؟

العجوز: نعم … وفي مناطق أخرى من الصحراء … وقد أحب «وادي العطشان» كثيرًا … وحضر مرارًا في السنوات الماضية، وفي كل مرة كان يُحضر معه بعض الأجهزة التي يضعها في كهف بوادي العطشان.

تختخ: ومتى حضر آخر مرة؟

العجوز: منذ سنة تقريبًا، وأقام معنا أسبوعًا … وكان يطلب منِّي باستمرار ألَّا أتحدث عنه إلى أحد … كان يأتي في الليل … ويُغادرنا في الليل دون أن يحسَّ به أحد، ولكني شعرت في المرات الأخيرة أنه يُدبِّر شيئًا غير طيب، نعم … أحسست بذلك، وكان في نيتي أن أبلِّغ عنه السلطات المسئولة.

تختخ: لقد أصبتَ يا سيدي … إنه جاسوس!

صاح الرجل العجوز: جاسوس … العياذ بالله … لقد كان دائمًا رجلًا طيبًا وهادئًا ويبعث على الاحترام!

تختخ: هكذا الجواسيس دائمًا … إنهم يبدون كالملائكة، ولكنهم شياطين لا يتورعون عن شيء في سبيل تحقيق أهدافهم.

العجوز: ولكن مَن أنت حتى تعرف كل هذه المعلومات … ولماذا لا تقولها لرجال الأمن حتى يقبضوا عليه؟

كان السؤال مفاجئًا ومنطقيًّا، ولكن «تختخ» لم يرتبك وقال: لقد علمتُ كل هذا في وقت قصير … وعندما حاولت أن أتصل بمفتِّش المباحث الذي أعرفه وجدتُه مُسافرًا، وكان لا بد من الاعتماد على نفسي وعلى أصدقائي.

العجوز: ومَنْ هو مُفتِّش المباحث الذي تعرفه؟

تختخ: إنه المُفتِّش «سامي» ضابط المُباحث الشهير الذي …

ولكن العجوز لم يَترك «تختخ» يُكمل جملته بل سارع يقول: إنني أعرفه، لقد خدم في «قنا» فترة من الوقت … إنه رجل مُمتاز …

تنفَّس المغامرون الصعداء … وقال «تختخ»: هل ستُساعدنا أيها العم العزيز؟

قام الرجل العجوز واقفًا وهو يقول: طبعًا … ما دام جاسوسًا فلا واجب له عندي … هاتوا سيارة … لنَذهب فورًا إلى وادي العطشان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤