سر وادي العطشان

أسرع «تختخ» عائدًا … وأخذ يبحث عن «فوزي» كالمَجنون … ولكنه لم يجدْه، لقد خرج في بعثة استكشافية … ولن يعود إلَّا آخر النهار … ولم يكن في إمكان «تختخ» أو المغامِرين الخمسة عمل شيء … وعادوا جريًا إلى الرجل العجوز، واسمه «الزبير» وقالوا له ما حدث فقال: لا بأس … إنه لا يستطيع الخروج من وادي العطشان إلَّا إذا مرَّ بنا … والذهاب إليه ليلًا أفضل بكثير … دعونا نعود الآن إلى خيامنا … ونَلتقي في المساء.

قضى المغامرون الخمسة كلَّ وقتهم في الخيمة يتحدَّثون … كانت مُغامرتهم هذه المرة بطيئة في البداية، ولكنها أخذت تُسرع بشكل مثير … وقال «محب»: إن في هذه المغامرة من المصادفات ما يفوق أي مغامرة أخرى!

نوسة: إنها على كل حالٍ مُصادفات طيبة … لقد استطعنا في أقل من يومين أن نكون في إثر «مايزر»، ولم يحدث هذا من قبل في أية مغامرة أخرى!

وجاء وقت الغداء، وقاموا بإعداد وجبة سريعة من التونة والجبن والبيض المسلوق … وقد لاحظ الجميع أن «تختخ» يأكل بشهية … في حين كان بقية المغامرين يأكلون بنفس مصدودة … لقد كان التوتُّر واللهفة والإثارة يصدُّون أنفسهم عن الطعام … ولكن الفتى السمين قال: إن المغامر يجب أن يكون كالحيوانات المجترَّة يأكل ما يجده … فهو لا يعرف متى يأكل مرةً أخرى.

وتمدَّد «تختخ» في هدوء بعد الغداء، وسرعان ما راح في سُبات عميق، وتسلل المغامرون خارجين من الخيمة … وهم يهزُّون رءوسهم دهشةً لهذا المُغامِر المدهش.

وهبط المساء بطيئًا على الصحراء … وأخذت كرة الشمس المتوهجة تتدحرج في الأفق مودعة يومًا طويلًا حارًّا … وظهرت قافلة المهندسين قادمة من الشرق … وشاهد المغامرون المهندس «فوزي» وهو يَنزل من سيارته … فأسرعوا يُوقِظون «تختخ» الذي جلس في مكانه ونظر إلى ساعته ثم قال: ما زال الوقت مبكرًا … دعوه يأخذ قسطًا من الراحة … ثم نذهب إليه.

وأخذ الأصدقاء يتمشون حول الخيمة … حتى مرَّت ساعة أثَّرت طويلًا على أعصابهم، ثم قال «تختخ» فجأة: هيا بنا!

ذهبوا إلى خيمة المهندس «فوزي» وشرحوا له المسألة في كلمات … فقام على الفور وهو يقول: إنكم أولاد أذكياء!

وقفَزُوا إلى السيارة، وقادها «عنتر» سريعًا حسب تعليمات «فوزي» إلى مقر الشيخ «الزبير» الذي ركب معهم … ثم انطلقت السيارة إلى وادي العطشان حسب إرشادات الشيخ «الزبير».

لم تكن هناك طُرق بالمعنى المفهوم … بل هي مجرد سهول منبسطة من الرمال تلفُّ وتدور حول الكثبان الرملية، ولكن السائق كان ماهرًا … وكان يعرف طريقه … ومضت السيارة تهتز فوق الطريق حتى هبط الظلام، وبدا القمر مُكتملًا في الأفق ينير الصحراء الواسعة … ومضت ساعة … ثم ساعة … وأخيرًا نطق «الزبير» فقال: نحن نقترب الآن من وادي العطشان، ومن الكهف الذي أعدَّه «فرتيز» …

وفكَّر «تختخ» في هذه اللحظة أنهم مُندفعُون للمطاردة دون سلاح، ومن المؤكد أن «مايزر» ومن معه يحملان أسلحة حديثة … ومال على «محب» وهمس في أذنه بهذا، وبدا «محب» واجمًا … إنهم يُشبهُون قطيعًا من الغزلان تُلقي بنفسها في عرين الأسد … ولكن الوقت كان متأخرًا للتراجع … ومعهم على كل حال المهندس «فوزي» والسائق «عنتر» وكلاهما شديدا المراس.

بدا وادي العطشان تحت ضوء القمر مجموعة من التلال تشبه الأقماع ساكنًا شاحبًا … لا حسَّ فيه ولا حياة … ولكن بعد أن اجتازت السيارة أحد التلال شوهدت مجموعة من الأضواء الصغيرة متناثرة في قلب الوادي، وقال «الزبير»: هذه مساكن العبابدة.

تختخ: وأين الكهف؟

الزبير: نحن في الطريق إليه.

ومضت السيارة نصف ساعة … ثم قال «الزبير» للسائق: انتظر هنا.

توقفت السيارة … وما كاد صوت المحرك يهدأ حتى ارتفع في السكون أصوات عرفوها على الفور، إنها عواء مجموعة كبيرة من الذئاب.

كان العواء مُخيفًا وحزينًا يتقارَب إيقاعه ويتقاطع، كأنه مأتم كبير، وقد صحَّ ما أحسَّ به الأصدقاء؛ فقد قال «الزبير»: يبدو أن شخصًا ما قد قتل ذئبًا … وربما تكون أمًّا … إن الذئاب من الحيوانات التي تعيش حياة أسرية صحيحة … وموت فردٍ منها يثير أحزان الباقين.

كان السؤال الذي يلحُّ على ذهن المغامرين هو: ماذا يفعلون؟

وجاءهم الرد … صوت طلقة رصاص مرَقَت بجوار السيارة ثم صوت يقول: ابتعدوا!

وبرغم أن الصوت كان بعيدًا، فقد عرف فيه «تختخ» على الفور صوت «مايزر» … فقفز من السيارة وهو يقول: سلِّم نفسك يا «مايزر» … إنَّ قوات الأمن تحيط بالمكان.

لم يكد «تختخ» ينتهي من جملته حتى مرقت بجواره رصاصة فارتمى على الأرض … وسمع في الوقت نفسه صوت سيارة تنطلق مُسرعة فصاح «تختخ» إنه يهرب! لا بد من مطاردتِه.

وعاد إلى السيارة التي انطلقت مُسرعة في اتجاه سيارة «مايزر» التي شُوهدت تجري على الرمال، فقال «الزبير»: إنه يدخل منطقة الرمال المتحرِّكة … إنه مجنون!

وخلف السيارة الأخرى … وعلى ضوء القمر … شاهد المغامرون سرب الذئاب يتبع سيارة «مايزر» وقال «الزبير» مُعلِّقًا: إنه قتل ذئبًا!

مضت سيارة «مايزر» وخلفها سيارة المغامرين … حتى إذا أشرفوا على حافة منطقة الرمال المتحرِّكة صاح «الزبير»: توقفوا!

نزل الجميع … ووقف المهندس «فوزي» ينظر إلى ما يدور أمامه وهو يقول: لقد صدَّق الرجل أنَّ رجال الأمن يُحيطون به.

أخذت سيارة «مايزر» تدور وتدول حول التلال … كان واضحًا أنه يُحاول أن يضع الرمال المتحركة بينه وبين سيارة المغامرين بحيث لا تستطيع مطاردته. وقالت «نوسة»: إنَّ الذئاب لا الرمال هي التي ستُحدِّد مصيره.

ولم تكد تنتهي من جملتها حتى فوجئ الجميع بذئب من السرب الكبير يَجري وحده نحو سيارة «مايزر» … كان ذئبًا ذكيًّا، فلم يجرِ في اتجاه مواجهة السيارة بل خلفها … وعلَّق «الزبير» قائلًا: هذه أنثى الذئب الذي قتَلَه الجاسوس … إنها ستنتقم له.

وفعلًا قفزت الذئبة فوق السيارة وأخذت تعوي وهي تُحاول كسر السقف بأظفارها، وكان ذلك بالطبع مستحيلًا، ولكن محاولاتها لم تضع هباءً، فقد زادت ارتباك «مايزر» الذي أخطأ في إحدى دوراته، ودخلت السيارة في الرمال المتحركة … وشاهد المغامرون على ضوء القمر السيارة وهي تغوص تدريجيًّا … حتى إذا وصلت الرمال إلى منتصفها فُتح بابها وقفز الرجل … ثم فُتح الباب الآخر وقفز رجل آخر …

قال «تختخ» إنه «مايزر» ورفيقه!

أخذ الاثنان يطلقان النار في كل اتجاه … كانا قد أصيبا بالذعر والرعب فلم يعرفا ماذا يفعلان! …

غاصت السيارة تمامًا في الرمال … وأخذ «مايزر» يجري وهو يُطلق الرصاص من مدفعه الرشاش … ووقفت الذئاب بعيدًا وهي تَعوي، وقفزت الذئبة التي كانت فوق السيارة وانضمَّت إلى سرب الذئاب التي كانت تَلمع في ضوء القمر بالشراهة والترقُّب.

حاول «تختخ» أن يُنادي «مايزر» مُحذِّرًا … كان يريد أن يقبض عليه حيًّا … ولكن صوته ضاع في دوي الرصاص … وظهرَت سحابة غطَّت على المشهد … واستمر ذلك دقائق، وسمع الجميع صوت طلقات الرصاص وهو يهدأ تدريجيًّا … ثم ساد الصمت ولم يَعُد يُسمَع سوى عواء الذئاب الذي ارتفع بشكل وحشي مخيف … وقالت «لوزة» بصوت مختنق: يبدو أن الذئاب قد هجمت.

وأخفت عينيها بذراعها … وعلى ضوء القمر شاهد الجميع سرب الذئاب وهو يتجمَّع في نقطتين … في قلب بحر الرمال … وارتفعت الأصوات الوحشية … وسمع الجميع صوت استغاثات … وقال «الزبير»: لم يَعُد في الإمكان عمل شيء.

مضت دقائق، وساد الصمت إلَّا من العُواء المتقطع، وقال المهندس «فوزي»: هيا بنا … إنها نهاية فاجعة لجاسوس.

•••

بعد ثلاث ساعات كان المغامرون يجتمعون في خيمتهم مرة أخرى … كانوا صامتين تمامًا … وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا … وقال «تختخ»: يجب ألَّا نحزن … فهذه نهاية رجل حاول أن يُدمِّر بلادنا … لقد حاول أن يَسرق أسرارها … لتكون في مُتناول أعدائنا … ولكن الله دائمًا يحمي مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤