لُغز رامي القُنبلة

أدَّت الأحداثُ التي سردْتُها من قبلُ في قصة «لُغز الماسات الخمسمائة» إلى استغناء الحكومة الفرنسيَّة عن خدماتي. لا يَرجع هذا إلى أنَّني قبضتُ على رجُلٍ بريء؛ فقد فعلتُ هذا عشرات المرَّات من قبلُ، دون أن يُتَّخَذ أيُّ إجراءٍ حِيالَ ذلك، وليس أيضًا لأنني اتَّبعتُ خيطًا خاطئًا في البحث أو لأنَّني فشلتُ في حلِّ لُغز الماسات الخمسمائة؛ فجميع المُحقِّقين يَتَّبِعون خَيطًا خاطئًا في بحثهم بين الحين والآخر، وجميعهم يفشل أكثرَ ممَّا يجرؤ على الاعتراف. لا، كلُّ هذه الأشياء ما كانت لتهُزَّ مكانتي، لكن كان من حظِّ الصحف أن وجدَتْ شيئًا مُضحِكًا في القضية، وضجَّت أنحاء باريس لعِدَّة أسابيع بالضحِك والسخرية من أعمالي وهزيمتي. فحقيقةُ أنَّ أكبرَ مُحقِّقٍ فرنسيٍّ قد وَضَع أشهرَ مُحقِّقٍ إنجليزيٍّ في السجن، وأنَّ كِلَيهِما كان يتتبَّع بقوَّةٍ خَيطًا بحثيًّا وهميًّا، دسَّه في طريقِهما عن قَصْدٍ أحدُ الهواة، أدَّت إلى صخَبٍ وجدَلٍ عظيمين في جميع أنحاء فرنسا، وهذا جعل الحكومة الفرنسية تَستشيط غضبًا، فأَطْلَقَت سراح المُحقِّق الإنجليزي واستغنَتْ عن خدماتي. ومنذ عام ١٨٩٣ انتقلتُ للإقامة في لندن.

يُمكِن القول إن الرجُل عندما يحلُّ ضيفًا على بلد، فمن الصعب أن يُتعرَّض له بالنقد. لقد درستُ هذا الشعب الغريب باهتمام، وكثيرًا باندِهاش، وإذا كان ليَ الآن أن أُحدِّد بعضًا من الاختلافات بين الإنجليز والفرنسيين، فأنا مُتأكِّد من أنه لن تظهَر أيُّ لَمحةِ نقدٍ للإنجليز، حتى لو كان تَعاطُفي الكامل مع الفرنسيين. لقد ترسَّخَت تلك الاختلافات بِشدَّةٍ في ذهني؛ لأن عدَم إدراكي لها أثناء الأعوام الأولى من إقامتي في لندن كان — عادةً — السببَ في فشلي عندما كنتُ أعتقد أن النجاح في مُتناوَل يدي. فكثيرًا ما كنتُ على شفا الموت جُوعًا في حيِّ سوهو؛ بسبب عدَم فَهم العقلية العجيبة التي تجعل الرجُل الإنجليزيَّ يفعلُ أمورًا غير قابِلةٍ للتفسير. هذا بالطبع من وِجهة نظري كأحد أبناء الغال.

على سبيل المِثال، المُتَّهم بريء حتى تَثبُت إدانته. في إنجلترا، إذا قُبِضَ على قاتلٍ مُتلبِّسًا بجريمته، فإنه لا يُعدُّ مُدانًا حتى يُصدِر القاضي حُكمًا بذلك. في فرنسا، نحن لا نَفترِض هذا الافتراض الأحمق. وعلى الرغم من اعتِرافي بأن أُناسًا أبرياء يُعاقَبون أحيانًا دون جَريرةٍ ارتكبوها، فإن خِبراتي تَسمح لي بأن أقول بِكلِّ ثِقةٍ إن هذا لا يحدُث كثيرًا كما يتخيَّل الناس؛ ففي ٩٩ قضيَّةً من كل ١٠٠ قضيَّةٍ يستطيع الشخص البريء على الفَور إثبات براءته دون أدنى صعوبة. أعتقد أن من واجبه تِجاه البلد أن يُواجِهَ الاحتمال الضئيل الخاصَّ بالسجن غير العادل؛ حتى لا تكون هناك عَقَبات في طريقةِ إدانة المُجرمين الحقيقيِّين، لكن من المُستحيل إقناع الإنجليز بهذا. يا إلهي! لقد جرَّبتُ ذلك كثيرًا.

لن أنسى أبدًا مَرارة شعوري بالإحباط عندما قَبضتُ على فيليني، اللاسُلطَوي (الأناركي) الإيطالي، في حادِثة القتل التي جرَتْ في مُتنزَّه جرينيتش بارك. في ذلك الوقت — وأنا لا أشعر بالخَجل من الاعتراف بذلك — كنتُ أعيش في حيِّ سوهو في حالةٍ مِن الفقر التام. ونظرًا لعملي لفترةٍ طويلةٍ مع الحكومة الفرنسية، تكوَّنت لديَّ فكرةٌ غريبة تقول بأن المستقبل كان يَعتمِد على عملي، ليس في منصبٍ مُماثِلٍ معَ سكوتلاند يارد، ولكن على الأقلِّ في مَنصبٍ أقلَّ منه مع الشرطة؛ مما يُتيح لي إثبات قُدراتي ويُوفِّر فُرصًا للترقية. لم أكن على علم في ذلك الوقت، بالدخل الهائل الذي كان ينتظرُني من العمل خارج الدوائر الحكومية. إن المسئول البريطاني على أي مستوًى، نادرًا ما يَعتقِد أنه من المُفيد اكتشاف السبب الحقيقي لسير الأمور في فرنسا أو ألمانيا أو روسيا، لكنه يعمل ببطءٍ شديد واقعًا في خطأ تِلوَ الآخر، سواء كان ذلك بسبب بُغضه للأجانب، كما يُشاع كثيرًا، أو البلادة الفِطرية التي تُفسِّر سبب رضائهم بالوضع القائم. خذ، على سبيل المثال، مَوجات الكراهية الدَّورية ضِدَّ إنجلترا التي تَظهر في الصحافة الأوروبية. إنها تخلق وضعًا دوليًّا خطيرًا. تدفع بريطانيا ملايين الجُنيهات من أجل الدِّفاع والاستعداد، في حين أنها لو وَضَعتْ في يدي مليون جنيه منها فقط، لكنتُ سأضمَن لها أن تظهر في صورة مَلاكٍ يطير بجناحَين أبيَضين أمام كل الدول الأوروبية.

عندما حاولتُ العمل مع سكوتلاند يارد، طلبوا منِّي بالطَّبع وثائقَ تُثبت مؤهلاتي. وعندما أوضحت أنني كنتُ المُحقِّق الأوَّل للجمهورية الفرنسية، لاحظتُ أنَّ هذا الإعلان قد ترك انطباعًا مُهمًّا لديهم، لكن عندما أضفتُ أن الحكومة الفرنسية قد استغنتْ عن خدماتي دون أيِّ وثائقَ تُثبت عملي لديها أو تَوصِية أو معاش، تسبَّب على الفور تَعاطُفهم الرسميُّ مع الروتين المُؤسَّسي في قَلْب الأمور رأسًا على عقِب. اعذروني هنا للإشارة إلى وجه اختلافٍ مُهمٍّ آخر بين البلدين، وهو الذي أرى أنه ليس على الإطلاق في صالح أبناء جلدتي.

لقد طُردتُ من عملي دون سابق إنذار. قد تقول إن هذا كان بسببِ فَشَلي، ومن الصحيح أنني بلا شكٍّ قد فشلتُ في قضية قِلادة المَلِكة، لكنني، على الجانب الآخر، تتبَّعتُ على نحوٍ صحيحٍ الخيطَ البحثيَّ الذي كان أمامي. وعلى الرغم من أن النتيجة لم تكن مُتوافقةً مع الحقائق، فقد كانت مُتوافقةً مع المنطق. لا، لم أُطرَد لأنني فشلت؛ فلقد فشلتُ في حالاتٍ كثيرة من قبل، كما قد يحدُث لأيِّ شخصٍ في أيِّ مِهنة. بل طُردتُ لأنني جعلتُ من فرنسا في ذلك الوقت أُضحوكة أوروبا وأمريكا. لقد استغنَتْ فرنسا عن خدماتي لأنها أصبحَتْ محطَّ سخرية الجميع. لا يستطيع أيُّ فرنسيٍّ تحمُّلَ انقلاب المُزحة عليه، ولكن لا يبدو أن الإنجليزي يهتمُّ بذلك على الإطلاق. وفيما يتعلَّق بالفشل، لم يفشَل أحدٌ على نحوٍ فظيع كما فعلتُ مع فيليني المُجرم المُراوغ الذي امتلك كلَّ شجاعة الفرنسيين وكلَّ دَهاء الإيطاليين. لقد وقع في قبضة يدي ثلاثَ مرَّات — مرَّتَين في باريس ومرَّةً في مارسيليا — وفي كلِّ مرةٍ كان يهرُب منِّي، ومع ذلك لم أُطرَد من عملي.

عندما أقول إن السنيور فيليني كان لديه شجاعة الفرنسيين، أكون قد بالغتُ بعض الشيء في مدحه؛ فقد كان يخاف بشدَّةٍ من شخصٍ واحد، وهذا الشخص هو أنا. أعتقد أنه لن ينسى لقاءنا الأخير في فرنسا، وعلى الرغم من أنه قد أَفلَت منِّي فيه، فقد سعى بكلِّ قوَّةٍ وبأقصى سرعةٍ مُمكنةٍ للهروب إلى إنجلترا، ولم تطأ قدَماه ثانيةً الأراضي الفرنسية بينما كنتُ على رأس فريق المُحقِّقين الفرنسيين. لقد كان وغدًا مُثقَّفًا؛ إذ تخرَّج في جامعة تورينو، وكان يَتحدَّث الإسبانية والفرنسية والإنجليزية إلى جانب لُغته الأم. وقد جعلَه تعليمُه وثقافته شخصًا خطيرًا جدًّا عندما استغلَّ مهاراته في ارتكاب الجرائم.

لقد أصبحتُ أعرف الآن طريقة فيليني في ارتكاب الجرائم، سواء جرائم القتل أم سرِقة المنازل، تمامًا كما أعرِف توقيعي على قِطعةٍ من الورق الأبيض، وبِمجرَّد أن رأيتُ جُثمان الرجُل المقتول في مُتنزَّه جرينيتش بارك، كنتُ متأكدًا من أن فيليني هو القاتل. كانت السُّلطات الإنجليزية آنذاك تنظُر إليَّ نظرة ازدراءٍ يُغلِّفها شيء من الودِّ والتسامح.

تعامل معي المُفتِّش ستانديش تعامُلَ شخصٍ تُرك في مُتناول يَدِه حبلٌ طويل حتى يَشنقَ به نفسه. بدا أنه كان يظنُّ أنني سريعُ الانفعال؛ لذا كان يَستخدِم معي عباراتٍ للتهدئة كما لو أنني كنتُ طفلًا نَزِقًا يَجِب تهدئته، وليس شخصًا عاقلًا مُكافئًا له، يحتاج لمناقشته وإقناعه. وفي مواقف عديدة، كنتُ أتوصَّل بسهولةٍ إلى الحقائق، في حين كان يبقى هو قابِعًا في غَياهِب الجَهل، وعلى الرغم من أن هذا التوجُّه القائم على التقليل من قَدْرِه للتعامُل بلُطفٍ مع شخصٍ من الواضح أنه يراه مجنونًا أرعنَ كان مُثيرًا بشدَّةٍ لسُخطي، فأنا مع ذلك سعيد للغاية؛ لأنني استطعتُ تمالُك أعصابي معه. لكن اتَّضح لي أنَّ مِن المُستحيل أن أتجاوَزَ تَحيُّزَه الشديد؛ فلَطالَما افترض أنني شخصٌ مُتقلِّب وأهوج؛ لذا لم أستطع إثبات أنني مُفيد له — على أيِّ نحوٍ — في مهامِّه الشاقَّة.

كانت قضية فيليني آخر مُحاولاتي لكسب ودِّه. بدا المُفتِّش ستانديش في أكثر حالاته المِزاجية لُطفًا عندما مَثُلْتُ بين يديه، وكان ذلك بالرغم من أن مأساة مُتنزَّه جرينيتش كان يتردَّد صداها في جميع أنحاء لندن، دون أن يكون لدى الشرطة أدنى فكرةٍ عن الجريمة أو مُرتكبها. استشففتُ من ابتسامة المُفتِّش ستانديش الكريمة أنني أنفعِل بعضَ الشيء حين أتحدَّث إليه، وربما استخدمتُ العديد من الإيماءات التي بدَتْ عديمة المَعنى بالنسبة إلى رجُلٍ ضخمٍ يُمكن أن أصِفَه بأنه عديم العاطفة وبطيء الكلام ولا يحرِّك يدَه، كما لو أنَّ عباراته هي خُلاصة حكمة السنين.

صحتُ قائلًا: «أيها المُفتِّش ستانديش، هل من سُلطتكم أن تَقبض على شخصٍ عند الاشتباه فيه؟»

قال: «بالطبع، هذا من سُلطتنا، لكننا يجبُ أن نتأكَّد من وجود حالة الاشتباه قبل أن نقبِض عليه.»

قلت مُتعجِّبًا: «ثِق بي. الشخص الذي ارتكب جريمة القتل في مُتنزَّه جرينيتش بارك مُجرِم إيطالي يُدعى فيليني.»

أعطيتُهُ عنوان المكان الذي من المُفترَض أنه كان يعيش به، مع توجيه بعض التحذيرات بشأن طبيعته المُراوِغة. قلت له إنني استطعتُ الإمساك به ثلاثَ مرَّات، لكنه نجح في تلك المرَّات الثلاث في الهرب منِّي. لكنني شعرتُ بعد ذلك بأن المُفتِّش ستانديش لم يُثمِّن أيَّ كلمةٍ قلتُها.

سألني المُفتِّش ببطء: «ما دليلُك على ارتكاب هذا الرجُل الإيطالي للجريمة؟»

رددت: «الدليل موجود على جسَد الرجُل المقتول، لكن إذا واجهتَ فيليني بي فجأة، ومن دون أن تُعطيَه أيَّ فكرةٍ عن الشخص الذي من المُفترَض أن يُقابِله، فسوف تحصُل على الدليل من شفتيه قبل أن يتمالك نفسه من اندهاشه ورُعبه.»

لا بُدَّ أن شيئًا ما في ثِقَتي بنفسي قد أثَّر في المُفتِّش؛ لأنه أصدَر أمر الاعتقال. والآن، وأثناء غِياب الشرطيِّ الذي جرى إرساله للقَبض على فيليني، شرحتُ للمفتِّش بالكامل تفاصيل خُطتي. فعليًّا، لم يكن يستمِع إليَّ؛ إذ كان رأسه مُنكبًّا على دفترٍ اعتقدتُ أنه كان يدوِّن فيه المُلاحظات التي أقولها، لكن عندما انتهيتُ من كلامي، استمرَّ في الكتابة كما كان يفعل قبل ذلك؛ لذا رأيتُ أنني قد بالغتُ في تقدير مكانتي دون داعٍ. مرَّ أكثر من ساعتين قبل عَودة الشرطيِّ وفي قبضته المُتَّهم الإيطالي الذي كان يرتعِد خوفًا. التفتُّ بسرعةٍ قُبالَته وصِحتُ فيه بنبرة تهديد:

«فيليني! انظر إليَّ! أنت لا تستطيع العَبَث مع فالمونت لأنَّك تعرِفه جيدًا! ما أقوالك فيما يتعلَّق بحادثةِ القتل التي جَرَتْ في مُتنزَّه جرينيتش بارك؟»

أؤكد لكم أن المتهم الإيطالي انهار وكان على وشكِ السُّقوط تمامًا على الأرض لولا وجود الشرطيَّين اللذين كان يُمسك كلٌّ منهما إحدى ذراعيه بيدَيه. اعتلى وجهَه شحوبٌ شديدٌ، وبدأ يَتلعثَم وهو يَسرِد اعترافه عندما حدَث هذا الأمر العجيب الذي لا يُصدَّق وقوعه في فرنسا؛ فقد أشار المُفتِّش ستانديش إليه بالتوقُّف عن الكلام.

وقال بِجديَّةٍ مُحذِّرًا: «لحظةً واحدة! تذكَّر أن كلَّ ما تقوله سيُستخدَم ضدَّك!»

أخذتْ عينا الرجل الإيطالي السَّوداوان السريعتان والصغيرتان والبرَّاقتان تنتقلان من ستانديش إليَّ وبالعكس. وفي لحظة، أدرك ذهنه المُتوقِّد الموقف. مَجازيًّا، جَرَت تَنحِيَتي جانِبًا؛ فأنا لم أكن هناك بأيِّ صِفةٍ رسمية. وقد أدرك على نحوٍ خاطِف العقليَّة البلهاء التي كان عليه التَّعامُل معها. فأغلقَ فمه بسرعةٍ وكأنه مَصيَدة من الصُّلب، ورفض أن ينبس ببِنتِ شَفة. بعد فترةٍ قصيرة، أُطلق سراحه؛ إذ لم يكن هناك أيُّ دليلٍ ضدَّه. وعندما توافر في النهاية دليل إدانته الكامل في أيدي السُّلطات البريطانية البطيئة، كان هذا الرجُل الشديد الذَّكاء آمِنًا في سلسلة جبال الأبينيني، واليوم هو يقضي حُكمًا بالسجن المؤبَّد في إيطاليا لاغتياله سيناتورًا لا أذكر اسمه.

هل هناك أيُّ عجبٍ إذن في شعوري بالإحباط واليأس لوجودي وسط هؤلاء؟ لكن هذا كان في الأيام الأولى. أما الآن وبعد امتلاكي خبرةً أكبر بالإنجليز، فقد تغيَّر الكثير من آرائي المبدئية عنهم.

لقد ذكرتُ كلَّ هذا لأشرح: لماذا، كمُحقِّقٍ خاص، كنتُ مُعتادًا على فعل ما لم يكن يجرؤ أيُّ مسئولٍ إنجليزي على فعله؟ إن البلد الذي يُرسِل شرطيًّا، دون حتى أن يكون معه مُسدَّس يَحميه، للقبض على مُجرمٍ عتيد في أخطر أحياء لندن، لا يُمكن فَهمُه من جانب أيٍّ من مواطني فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا أو ألمانيا. وعندما بدأتُ أنجَح كمُحقِّقٍ خاصٍّ في لندن وأدَّخِر المال الكافي لإتمام مشروعي، قرَّرتُ ألا يُعيق عملي تلك الرَّخاوة غير المُبرَّرة للإنجليز تجاه الأشخاص المُتهمين؛ لذا غيَّرتُ تصميم شَقَّتي، وجعلتُ في وسطِها غرفةً مُظلِمةً مُحكمةً كأيِّ زنزانةٍ من زنازين سجن الباستيل. كانت مساحة تلك الغرفة ١٢ قدمًا مُربَّعة، ولم تكن تحتوي على أيِّ أثاثٍ سوى عددٍ من الأَرْفُف ومِرحاض في أحد الأركان وفراشٍ صغير. كانت تجرى تَهوِيَتها من خلال فتحتَي تَهويةٍ في وسط السقف، تعمل في إحداهما مروحة كهربائية عندما يَشغَل أحد الغرفة؛ بحيث تُخرِج الهواء الفاسِد عبر هذه الفتحة، وتُدخل الهواء النظيف عبر الفتحة الأخرى. كان مدخل تلك الزنزانة يُفضي إلى غرفة نومي، وما كان أدقُّ تفتيشٍ ليَكشِف مكان بابها الذي كان من الصُّلب الشديد، وكان يُفتَح ويُغلَق باستخدام زرٍّ كهربائيٍّ كان مَخفيًّا جُزئيًّا بفِعل ظهر سريري. وحتى إذا جرى اكتشافه، فما كان سيكشِف عن شيء؛ لأن من شأن إدارته مرَّةً واحدة أن تُضيء الضوء الكهربائي الموجود في ظهر السرير، وإدارته مرةً ثانية ستُغلِق هذا الضوء، وكان هذا سيحدُث ما دام الزرُّ يُدار جهةَ اليمين. لكن إذا أدرته ثلاث مرَّاتٍ ببطءٍ جهةَ اليسار، فإن الباب المصنوع من الصُّلب كان سينفتح. كانت وَصْلَته مخفيَّةً تمامًا وراء كسوة الجدار. وقد جعلتُ الكثير من المُجرمين يعودون لصوابهم بين الجدران المَنيعة لتلك الغُرفة الصغيرة.

إن من يعرفون قواعد البناء في لندن سيتعجَّبون، كيف أمكنني خِداع المُفتِّش الحكومي أثناء بناء هذا الجزء من سجن الباستيل في وسط مدينة لندن الحديثة. كان هذا أبسطَ شيءٍ في العالم. إن حريَّة المُواطِن هي القاعدة الكبرى الأولى لدى الشعب الإنجليزي؛ ولهذا السبب أُتيح لكثيرٍ من المجرمين الهرب. كنتُ أضع خُططًا لانتهاك تلك القاعدة الكبرى الأولى. ولكي أفعل هذا، استغللتُ القاعدة الكبرى الثانية للإنجليز، ألا وهي: عدم انتهاك حُرمة المَسكن. قلت لسُلطات البناء إنني رجُلٌ غنيٌّ ولا أَثِق كثيرًا في البنوك. وإنني أرغبُ في أن أبني داخِل شقَّتي خِزانةً أو غُرفةً حَصينة أضع فيها مُقتَنَياتي الغالية. بنيتُ حِينها غرفةً كتِلك التي يُمكن أن تُوجَد في أيِّ بنكٍ، والعديد من المباني الخاصة في المدينة. ومن المُمكن أن يعيش في شقَّتي أيُّ مُستأجرٍ مدةَ عامٍ ولا يشكُّ أبدًا في وجود هذا السِّجن. ومن المُمكن أن تُطلِق قاطِرة سكة حديد صافرتها داخل تلك الغرفة دون أن يَصِل أيُّ صوتٍ إلى الشُّقَقِ المُحيطة بها إلا إذا كان الباب مفتوحًا.

إلى جانب السيد يوجين فالمونت، الذي يرتدي أفخم الملابس كما لو أنه لا يزال الرجُلَ الأرستقراطيَّ الباريسيَّ الذي يسكُن بالطابق العلويِّ بأحدِ أفخم المباني، كان يُوجد فرنسيٌّ آخَر في لندن يَجب عليَّ أن أقدِّمه لكم، ألا وهو: البروفيسور بول دوشارم الذي كان يعيش في غُرفةٍ قذِرة بأحد الشوارع الخلفيَّة في حيِّ سوهو، وهو الحيُّ الأرخصُ والأقلُّ إقبالًا من قِبل الناس. يُثني فالمونت على نفسه بأنه لم يَبلُغ بعدُ مُنتصف العمر، لكن دوشارم المِسكين لا يحتاجُ إلى لِحيَته الرَّمادِيَّة الخفيفة للإعلان عن تقدُّمه في العمر. كانت تبدو على فالمونت مَظاهر الثراء والرَّخاء وكان يَتباهى بذلك. أما دوشارم، فكان يرتدي ملابس رَثَّةً وتبدو عليه مظاهر الفقر اليائس. لقد كان يجرُّ قدميه في الشارع في خنوع وخضوع؛ إنه شخص من بني وطنك لا يُمكن أن تفتخِر به. هناك العديد من الفرنسيِّين المُستعِدِّين لإعطاء دروسٍ أخلاقية بِلُغَتهم مُفادها أنه يُمكن لأيٍّ منهم أن يَعيش حياةً فقيرةً ويستطيع تحسين ظروفه، لكنك لن ترى أبدًا فالمونت الأنيق يسير جنبًا إلى جنبٍ مع دوشارم المُعدِم.

قد تتعجَّب قائلًا: «آه! فالمونت في رَخائه نَسِيَ هؤلاء الأقلَّ حظًّا من بني جلدته.»

أستَمِيحكم عُذرًا يا أصدقائي. ليس الأمر كذلك؛ ففي الواقع، أعترف لكم أن فالمونت المُتأنِّق ودوشارم الرثَّ الملابس هما شخصٌ واحد. وهذا هو السبب وراء عدم تنزُّههما معًا. بالطبع لا يتطلَّب الأمرُ أيَّ براعةٍ تمثيلية لِلَعِب دور دوشارم البائس؛ لأنَّني عندما قَدِمت لأول مرةٍ إلى لندن، كنتُ أصارعُ الفقر في تلك الغُرفة البائسة، وكنتُ أنا من سمَّر على بابها لافتةً مطبوعة مكتوبًا عليها «البروفيسور بول دوشارم، أستاذ اللغة الفرنسيَّة». لم أتخلَّ قطُّ عن تلك الغرفة، حتى عندما أصبحتُ غنيًّا وانتقلتُ لشقَّتي الفخمة، تلك التي تَشتمِل على غُرفة الرُّعب الخفيَّة التي لا تعلم السُّلطات الإنجليزية عنها شيئًا. لم أتخلَّ عن غرفةِ حيِّ سوهو بالأساس للسبب التالي: لو عُرفتْ حقيقة بول دوشارم، لكان سيُعتبَر شخصيةً خطيرة، لكن كان من الضروريِّ أحيانًا بالنسبة إليَّ تقمُّصُ تلك الشخصية؛ فلقد كان عضوًا في إحدى المُنظمات اللاسُلطوية الدولية. كان المقرُّ الحقيقيُّ لتلك المُنظمة الشريرة هو لندن، وقد لَعَنَّا نحن المسئولين العاملين مع أجهزة الخِدمة السرِّيَّة الأوروبية أكثرَ من مرَّةٍ تَهاونَ الحكومة البريطانية الذي سمح لمجموعة مَصَّاصي الدماء هذه بالوجود على أراضيها دون أن يَجريَ المِساس بها عمليًّا. أعترف أنني قبل أن أعرِف جيِّدًا كما أعرِفُهم الآن كنتُ أظنُّ أن هذا التهاوُنَ كان راجِعًا لأنانيَّةٍ شديدة؛ لأن اللاسُلطويِّين لم يتسبَّبوا قطُّ في أيِّ مُشكلاتٍ في إنجلترا. إن إنجلترا هي المكان الوحيد في أوروبا الذي لا يُمكن فيه للاسُلطوي أن يُسجَن إلا إذا كان هناك دليل ضِدَّه يجعله يخضع لمُحاكمةٍ في جلسةٍ علنيَّة. يَستغلُّ اللاسلطويون هذه الحقيقة؛ فتُدبَّر الخُطط في لندن وتُنفَّذ في باريس أو برلين أو بطرسبرج أو مدريد. أُدركُ الآن أن تلك الطراوة من جانب الحكومة البريطانية لا ترجِع إلى مَكرِها، وإنما لتمسُّكِها غير المُبرَّر بقاعِدتها الكبرى «حرية المواطن». طالبت فرنسا أكثر من مرةٍ بتسليم مواطنيها من اللاسُلطويِّين، لكنَّ طلباتها كانت دائمًا ما تُقابَل بالسؤال التالي:

«ما دَليلُكم؟»

أعرف حالاتٍ عديدةً كان اليَقين فيها مُطلَقًا، وأعرف أيضًا قضايا امتلَكنا فيها كذلك أدِلَّةً قانونية، لكنها أدلَّةٌ لم نجرُؤ على إعلانها على الملأ، لسببٍ أو لآخر، غير أن كلَّ هذا لم يكن له أيُّ تأثيرٍ على السُّلطات الإنجليزية. فما كان لهم أن يُسلِّموا حتى أعتى المجرمين إلا بأدلَّةٍ قانونية مُعلنة على الملأ. وحتى في حالة توافر تلك الشروط، ما كانوا ليُسلِّموا المُتَّهم إذا كانت الجريمة سياسية.

أثناء عملي مع الحكومة الفرنسية، لم يكن أيُّ جُزءٍ من مهامِّي مُقلِقًا بالنسبة إليَّ أكثر من ذلك المُتعلِّق بالجماعات السرِّيَّة السياسية. بطبيعة الحال — في ظلِّ توافُر جزءٍ كبيرٍ من جهاز الخدمة السِّريَّة تحت إمرتي — استطعتُ الحصول على بعض المُساعدة الخبيرة، وحتى بعض المعلومات من اللاسلطويِّين أنفسهم. لم أُقابل حتى الآن لاسُلطويًّا أستطيع تصديقه حتى وإن حلف بأغلَظِ الأيْمان على صحَّة كلامه. وعندما كان أحدهم يبيع معلوماتٍ حصريَّةً للشرطة، كنَّا نادِرًا ما نعرف ما إذا كان يُحاوِل فقط الحصول على بعض الفرانكات حتى لا يموت جُوعًا، أم أنه كان يُعطي لنا تفاصيلَ خاطئةً يُمكن أن تقودَنا للوقوع في فخٍّ ما. لَطالَما نظرتُ إلى تَعامُلي مع العَدَمِيِّين أو اللاسُلطويين أو غيرهم من المُنظمَّات السرِّيَّة التي تُقدِم على ارتكاب جرائم قتل؛ باعتباره أخطرَ مُهمَّةٍ يُمكن أن يُكلَّف أيُّ مُحقِّقٍ بها. لكن من الضرورة المُطلَقة أن تعرِف السُّلطات ما يحدُث في تلك الخلايا السرية. هناك ثلاثُ طُرُقٍ للحصول على المعلومات؛ الطريقة الأولى: الحملات الدورية على المُشتَبَه بهم، التي تتضمَّن ضبط كلِّ الأوراق التي يُعثَر عليها والتفتيش فيها. هذه الطريقة من الطرُق المُفضَّلة لدى الشرطة الروسية، لكنَّني طالَما اعتبرتُها طريقةً عديمة الجدوى إلى حدٍّ كبير؛ أولًا: لأن اللاسُلطويين، بوجهٍ عام، ليسوا بهذا الحُمق بحيث يدوِّنون مُخطَّطاتهم على الوَرَق، وثانيًا: لأنها تؤدِّي إلى أعمالٍ انتقامية؛ فكلُّ حملةٍ عادةً ما تَتلوها مَوجةٌ جديدة من النَّشاط من جانب مَن لم يُقبَض عليهم. أما الطريقة الثانية، فتتمثَّل في رَشْو أحد اللاسُلطويِّين حتى يخون زُملاءه. إنني لم أجِد أدنى صعوبةٍ في إقناع هؤلاء بقَبول المال. إنهم بحاجةٍ دائمةٍ إلى المال، لكنَّني غالِبًا ما أجدُ المعلومات التي يُقدِّمونها في المُقابِل غيرَ مُهمَّةٍ أو غيرَ دقيقة. يتبقَّى معنا الطريقة الثالثة التي تكمُن في دسِّ عينٍ لنا وسطهم. إن كتيبة الجواسيس هي الأمل الأخير للمُحقِّقين. في أحد الأعوام، فقدتُ ثلاثةً من رجالي في إحدى المهامِّ المُتعلِّقة باللاسُلطويين، وكان من بين الضحايا أهمُّ مُساعدِيَّ هنري بريسون. كان مصير بريسون المِسكين مِثالًا على كيفَ أنَّ رجُلًا قد يَشترِك في مُهمَّةٍ خطيرة لعدَّة شهورٍ دون أن يُصيبه أذًى ثُمَّ يرتكِب خطأً صغيرًا فيدمِّر حياته. حصل بريسون في آخر اجتماعٍ حضرَه على أخبارٍ ذات تَبِعاتٍ فوريَّةٍ وخطيرة لدَرَجة أنه بِمُجرَّد أن خرج من مكان الاجتماع اتَّجَه مُباشرةً إلى محلِّ إقامتي بدلًا من أن يَتَّجه إلى غُرفته القَذِرة في شارع فالجاري. قال حارس بَيتي إنه وصَلَ بعد الواحدة صباحًا بقليل. وبدا أنه في تلك الساعة كان يستطيع بسهولةٍ إدراكَ حقيقة أنَّ أحدَهم كان يتَتَبَّعه. ومع ذلك، بما أن ذلك الفَهْد البشري فيليني هوَ من كان يَتَتَبَّعه، فليس من الغريب أن بريسون المِسكين لم يستطع الإفلاتَ منه.

عندما وصل بريسون إلى مبنى الإمبريال الذي كانت تُوجَد به شقَّتي حينها رنَّ الجرس، وشدَّ الحارس، كما هو المُعتاد في تلك الحالة الغريبة من شِبهِ النَّوم التي يكون عليها حُرَّاس المباني أثناء الليل، السلكَ الحلقيَّ الموجود في ظهر سريره، وفتح الباب. أغلَق بريسون بالتأكيد الباب الكبير خلفه، ومع ذلك، وفي اللحظة السابقة على فِعل ذلك، لا بُدَّ أن فيليني قد تسلَّل دون أن يلحَظه أحدٌ إلى الفِناء الداخليِّ المرصوف بالحَجَر. إذا لم يتحدَّث بريسون ويُعلِن عن هُويَّته، لكان الحارس سيستفيق على الفور بالكامل. وإذا أعطاه اسمًا لم يكن يعرِفه، فما كانت النتيجة لتختلِف. ما فعله هو أن صاح بصوتٍ عالٍ: «بريسون.» وحينها تمتم حارس بيتِ أشهر رئيسٍ لفريق المُحقِّقين الفرنسيِّين، فالمونت، قائلًا: «رائع!» ثم عاد لنومه ثانيةً على الفور.

كان فيليني يعرِف بريسون جيدًا، ولكن تحتَ اسم ريفنسكي، وبوَصفه روسيًّا مَنفيًّا. كان بريسون قد قضى سنواتِ عُمُره الأولى في روسيا، وكان يتحدَّث الروسيَّة كمُتحدِّثيها الأصليِّين. وفي اللحظة التي نطقَ فيها بريسون اسمه الحقيقيَّ كان قد أعلَن عمَّا يُبرِّر قتلَه. تتبَّعه فيليني إلى بَسطة الدَّرَج الأولى — كانت شقَّتي في الطابق الثاني — وهناك وَضع بصمَته على الرَّجُل التَّعيس، التي تمثَّلت في طعنةٍ سريعةٍ لأسفلَ، من خِنجرٍ طويلٍ ورفيعٍ وحاد، دخلَتْ جسمَه تحت الكَتِفَين واخترقَتِ القلب. إن مَيزة تلك الضربة الرهيبة هي أنَّ الضحيَّة يسقُط ميِّتًا على الفور، على الأرض تحتَ قَدمَي قاتله مِن دون أن يتألَّم. ويكون الجُرْح عبارةً عن علامةٍ زرقاء صعْبةِ الملاحظة، وهي نادرًا ما تنزِف حتَّى. كانت تلك هي العلامة التي رأيتُها على جسَد ماري من مارسيليا، وبعد ذلك على شخصٍ آخر في باريس إلى جانب بريسون المِسكين. وكانت هي العلامة التي وُجدَت على الرجُل المقتول في مُتنزَّه جرينيتش بارك. طعنة من الخَلْف، دائمًا تحت لَوح الكَتِف الأيسر تمامًا. يزعُم رِفاق فيليني أن هناك قدْرًا من النُّبل في أفعاله؛ بمعنى أنه كان يَسمَح للخائن بأن يُبرِّئَ ساحته قبل أن يُوَجِّه له الطعنة. ويؤسِفني أن أنزِع عن فيليني هذا القدْرَ اليَسير من الاستحقاق، لكنَّ السبب وراء اتِّباعه بريسون إلى الفِناء الداخلي هو أن يُعطيَ نفسه الوقت الكافيَ للهرَب. لقد كان يعرف على نحوٍ دقيقٍ طريقةَ تصرُّف الحارس. وكان يعرف أن جُثَّة بريسون ستبقى مُلقاةً على الأرض حتى الصباح، كما حدث بالفعل، وكان هذا سيُتيح له عدَّة ساعاتٍ يستطيع فيها الهرب. كان هذا هو الشخص الذي منعه القانون الإنجليزي من أن يُدين نفسه! يا له من شعب! يا له من شعب!

بعد مَوت بريسون التراجيدي، قررتُ ألَّا أضع المَزيد من رِجالي المُهمِّين في طريق اللاسُلطويين، وأن أضطلِع بنفسي بتلك المُهمَّة في أوقات راحتي. لقد أصبحتُ شَغوفًا بشدَّةٍ بالأعمال السرِّيَّة للمُنظمة اللاسُلطوية الدولية. انضممتُ إلى تلك المُنظمة تحت اسم بول دوشارم، البروفيسور المُنادي بالآراء التقدُّميَّة، التي بسببها فَقدَ وظيفته في نانت. في حقيقة الأمر، كان هناك شخص بالفعل يُدعى بول دوشارم، وهو الذي فقد وظيفته، لكنه أغرَق نفسه في نهر اللوار بمدينة أورليان، كما تُوضِّح السجلَّات. لقد اتخذتُ الإجراء الاحترازيَّ المُتمثِّل في الحصول على صورةٍ فوتوغرافية لهذا الرَّجُل العجوز الأحمق من شرطة نانت، وتنكَّرتُ لأُشبِهه. يرجع الفضل إلى تنكُّري في تعرُّف أحد الرِّفاق من نانت عليَّ باعتباري البروفيسور، وذلك في الاجتماع السنوي الذي عُقد في باريس والذي حضرتُه. وعلى الرغم من أنَّنا تحادَثنا بعض الوقت معًا، لم يشكَّ إطلاقًا في أنني لستُ البروفيسور، الذي لم يكن مَصيرُه معلومًا لأحدٍ غير شرطة أورليان. لقد ارتفع قدْري كثيرًا بين رِفاقي بسبب هذا اللقاء؛ لأنَّ الرفيق الذي كان من نانت ذكر أنني نموذجٌ للشخص المَيسور الحال الذي ضحَّى عن قصدٍ بوضعه الحَياتيِّ من أجل المبدأ. بعد وقتٍ قصير من هذا الاجتماع، جرى اختياري مندوبًا لحمل رسالةٍ إلى رفاقنا في لندن، ومرَّت تلك المُهمَّة الحساسة دون مُشكلات.

هكذا ربما كان من الطبيعي عندما أتيتُ إلى لندن بعد استغناء الحكومة الفرنسية عنِّي أن أتقمَّص شخصية بول دوشارم وأحمل اسمه، وأن أزعُم عملي في مِهنة تدريس اللغة الفرنسية. إن تلك المِهنة أعطتني مَيزات عظيمة؛ فأستطيع الغياب عن شقَّتي لساعاتٍ في المرَّة الواحدة دون أن ألفتَ الأنظار إليَّ؛ لأن المُعلِّم يذهب أينما يكون التلاميذ. وإذا شاهدَني أحدُ رفاقي اللاسُلطويين وأنا أخرج مُرتديًا ملابس رثَّةً من مبنى الإمبريال الذي يسكن فيه فالمونت، فسوف يحيِّيني بِوُدٍّ، ظانًّا أنني كنتُ آتِيًا من منزل أحد التلاميذ.

وهكذا، فقد كانت الشقة الفخمة هي المكتب الذي أستقبِل فيه زبائني الأغنياء، في حين أن الغرفة القَذِرة الموجودة في حيِّ سوهو كانت — غالبًا — المكان الذي أُتِمُّ فيه المهامَّ المُوكَلةَ إليَّ من جانب المُنظَّمة.

•••

أنتقل الآن في واقع الأمر إلى فترةٍ أحدث، قضيتُ فيها وقتًا طويلًا مع مندوبي المنظمة السرية.

سيُذكَر أن ملك إنجلترا قام بجولةِ زارَ فيها العديد من العواصم الأوروبية، وربما لم نفهم أو نقدِّر بالكامل بعدُ نتائجَها البعيدة فيما يتعلَّق بالسلام. لقد كانت زيارته لباريس بداية الاتفاق الوِدِّي الحالي. ولا أُبالغ إذا قلتُ إنَّ تلك الزيارة الرسمية القصيرة للعاصمة الفرنسية كانت مَدعاةً لقلقٍ كبير من جانب حكومة بلدي وحكومة البلد الذي كنتُ أعيش فيه. إن اللاسُلطويِّين يُعادون كلَّ الحكومات، ويَتمنَّون رؤيتَها مُدمَّرةً جميعًا، بما فيها حكومة بريطانيا العُظمى.

كانت مُهمَّتي فيما يتعلَّق بزيارة المَلِك إدوارد لباريس غير رسميَّةٍ على الإطلاق. أكرَمني بالزيارة في شقَّتي أحدُ النُّبَلاء الذي سعدت جدًّا في واقعةٍ سابقةٍ بحلِّ لُغزٍ صغير كان يُزعِجه. وذلك قبلَ نَحوِ أُسبوعَين من زِيارة المَلِك للعاصمة الفرنسية. أعرف أنكم ستعذُرونَني إذا لم أذكُر اسم هذا النَّبيل. أدركتُ أن زيارة الملك المُنتظرَة كانت تلقى رفضه. وسأل ما إذا كنتُ أعرِف شيئًا أو يُمكِن أن أكتشف شيئًا عن الأغراض التي تُحرِّك جماعات اللاسلطويين الباريسية وموقفهم تجاه الزيارة المَلَكيَّة التي أصبَحتِ الآن الموضوعَ الرئيسي للصُّحف. قلتُ له إنني سيكون بإمكاني في خلال أربعة أيامٍ أن أقدِّم له تقريرًا كاملًا عن الموضوع. فانحنى لي ببرودٍ وترَكَني. وفي مساء اليوم الرابع، حَظِيتُ بِشَرَف انتظار سيادته في قصره بمنطقة وست إند بلندن.

بدأت حديثي إليه قائلًا: «أتشرَّف بأن أقول لسيادتكم إن اللاسُلطويِّين الباريسيِّين مُنقسِمون بعض الشيء في آرائهم حِيال زيارة جلالته المُنتظرَة لتلك المدينة. إن قلَّةً منهم — صحيح أن عدَدَها لا يكاد يُذكر لكنها مُهمَّة نظرًا لتطرُّف أفكارها — تحاول …»

قاطعني النبيل، ببعض الحِدَّة في نبرة الصوت قائلًا: «عُذرًا، هل سيُحاوِلون الاعتداء على المَلِك أم لا؟»

ردَدتُ بما أعتقد أنه أسلوبي المُهذَّب المُعتاد، رغم مُقاطعته الفظَّة: «لا سيادتكم. هم لن يُحاوِلوا إيذاءَ جلالته، وسببُ عدَمِ تحرُّكهم …»

قاطعني جنابه بِغلظةٍ قائلًا: «أسبابهم لا تُهمُّني. هل أنتَ مُتأكِّد ممَّا تقول؟»

«تمام التأكد سيادتكم.»

«هل تُوجَد حاجة لاتِّخاذ أيِّ احتياطات؟»

«على الإطلاق سيادتكم.»

ختَمَ الرجُل الحوار بفظاظةٍ قائلًا: «رائع للغاية. أخبِر سكرتيري الخاصَّ الموجود في الغُرفة المُجاوِرة بالمُقابل الذي تُريده لقاء هذه المُهمَّة وسيُعطيك شيكًا بالمبلغ.» وهكذا انتهتِ المُقابلة.

عساني أن أقول إنه مِن واقِع تعامُلي مع كِبار الشخصيَّات في البلدين، وتَلقِّي تلك الحَفاوَةِ التي أنا على استعدادٍ دومًا لتقديمها، فإن شعورًا بالسُّخطِ نوعًا ما قد تَملَّكَني من جرَّاء مُعاملة هذا النبيل لي. ومع ذلك فقد انحنيتُ له على نحوٍ رسميٍّ بعض الشيء في صمت، وانتهزتُ الفرصة المُتاحة في الغُرفة المُجاورة والمُتمثِّلة في مُضاعفة أجري، والذي دُفع دونَ أيِّ تَردُّد.

والآن، لو كان هذا النبيل قد استمَع إليَّ فقط بدلًا من أن يُقاطِعني، لكان قد استمَع إلى الكثير ممَّا قد يَستهوي الإنسان العادِي، لكن يَجِب أن أقول إن عقلَه أثناء مُحادثاتي الثلاثِ معه بدا غير مُتقبِّلٍ لكلِّ الانطباعات الخارجية فيما عدا عَظَمةِ نَسَبِه، الذي أرجعه من دون أن تَشوبَه أيُّ شائبةٍ للجُزء الشمالي من بلدي.

كانت زيارة الملك بمنزِلة مُفاجأةٍ للاسُلطويين، ولم يعرفوا على وجه التحديد ما سيفعلونه حِيالها. كان الثوريُّون الباريسيون يُفضِّلون التظاهر، لكنَّ رِفاقَهم في لندن استحلفوهم ألا يقوموا بأيِّ تَحرُّكٍ لأن إنجلترا، كما أشاروا، هي الملجأ الوحيد الذي يُمكن أن يعيش فيه اللاسُلطويُّ آمنًا حتى يُتَّهم في جريمةٍ مُحدَّدة، بل والأدهى من ذلك، حين تُثبَت عليه تمامًا تلك التُّهمة.

سيُذكَر أن زيارة الملك لباريس مرَّت دون أن يُعكِّر صفوَها أيُّ شيء، تمامًا كما حدَث عندما زار الرئيس الفرنسي لندن ردًّا على تلك الزيارة. على السطح ساد السلام والود، ولكن تحت السطح، كانت هناك حكومتان عُظمَيان تَغلِيان ويغمُرُهما القلق ولم يغمض لكبار المسئولين في جهاز الخدمة السرية في كلا البلدين جفنٌ لعدَّةِ ليالٍ مُتواصِلة. ونظرًا لعدَم حُدوث أيِّ «حادثة غير مُتوقَّعة»، فقد خفَّت حِدَّة اليَقظة التي كانت عليها السُّلطات في البلدَين الواقِعَين على جانبَي بحر المانش، في الوقت الذي كان من المُفترض فيه أن تتضاعف، بالنظر إلى طبيعة الخصم. فلْتحذَرْ دائمًا من اللاسُلطوي عندما يكون هادئًا؛ وانتظر ردَّ فِعله. إنه يُضايقه أن يُجبَر على عدَم التحرُّك عندما تكون هناك فرصةٌ كبيرة للظهور على الساحة العالمية. وعندما تضيع منه اللحظة المناسبة، من المُنتظَر أن يتحوَّل إلى شخصٍ «خطير»، حسب تعبير الإنجليز.

عندما أُعلن لأول مرةٍ أنه سيكون هناك مَوكبٌ مَلَكيٌّ يمرُّ عبر شوارع باريس، تمنَّى بعض المُتهوِّرين المُتطرِّفين، في كلٍّ من تلك المدينة ولندن، التحرُّك، لكن كبَح جماحَهم الأعضاءُ الأكثر حِكمةً في المنظمة. فيجِب عدم افتراض أن اللاسُلطويين حِفنةٌ من المجانين؛ فهناك عقول حكيمة من بينهم، وهؤلاء القادة بالفِطرة من الطبيعي أن تكون لهم السيطرة في عالم اللاسُلطوية السري، كما سيكون الحال إذا وَجَّهوا مهاراتهم لأمورٍ في الحياة العادية. إنهم أناسٌ اتَّخذَت عقولهم، في فترةٍ ما، الوِجهة الخطأ. لكنَّ هؤلاء الأشخاص — رغم كَبحِهم لتهوُّر المُتطرِّفين — أصابهم هلعٌ شديد عندما رأَوا إمكانية حُدوث تَقارُبٍ بين إنجلترا وفرنسا. فإذا أصبَحتْ فرنسا وإنجلترا مُتقارِبَتين كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وروسيا، ألن يكون المَلاذ الذي وفَّرَتْه إنجلترا للَّاسُلطويَّة ضربًا مِن الماضي؟ يُمكن القول هنا: إنني كنتُ أستخدِم ثِقَلي كلاسُلطوي في أثناء حضور هذه الاجتماعات مُتنكِّرًا تحت اسم بول دوشارم بالتأكيد للدَّفع باتِّجاه التهدئة. إن دَوري، بالتأكيد، لم يكن الحديث كثيرًا، ولا إبراز نفسي. ولكن في مثل هذه التجمُّعات لا يُمكن أن يبقى الفرد مُتفرِّجًا. إن حِرصي على سلامتي جعلَني لا أسعى للظُّهور قدْرَ الإمكان؛ إذ إنَّ أعضاء الجماعات المُتحزِّبين معًا ضِدَّ قوانين المكان الذي يعيشون فيه يَشكُّ كلٌّ منهم في الآخر بشدَّة، ويُمكن لكلمةٍ خرَجت دُون قصدٍ أن تُسبِّبَ كارثةً للشخصِ الذي نطَقَ بها.

ربما كان هذا التحفُّظ من جانبي هو ما جَعل نصيحتي يُؤخَذ بها من قِبل النُّخبة الحاكمة؛ أو ما يُمكن أن تُطلِق عليه المجموعةَ الحاكمة للَّاسُلطويين؛ فرغم الغَرابة التي قد يبدو عليها هذا الأمر فإن تلك المُنظمة التي تَسعى بكلِّ قوَّةٍ لإسقاط كلِّ صُور القانون والنظام، كانت هي نفسها محكومةً حُكمًا صارمًا، وذلك مع انتخاب أميرٍ روسيٍّ رئيسًا لها، وهو رَجُل ذو قُدراتٍ هائلة، لكن يرجِع الفضل في انتخابه، حسب اعتقادي، إلى حقيقة أنه كان رجُلًا نبيلًا أكثر من تقدير مواهِبه الفِطرية. هناك نقطةٌ أخرى أثارتِ اهتِمامي أكثر وهي أن هذا الأمير كان يَحكُم أتباعَه الجامِحين باستخدام أسلوب الاستبداد الروسي، وليس طِبقًا للأفكار الليبرالية للبلد الذي كان يعيش فيه. عرفتُ أنه في أكثر من مرَّةٍ قد انقلَب بقوَّةٍ على رأي الأغلبية، وأخذ يَخبِط بقدمِه بعُنفٍ على الأرض، ويضرِب بقبضة يَدِه الكبيرة على الطاولة، ويُعلِن أن كذا وكذا يجِب فعلُه، مهما كانت نتيجة التصويت. وكان هذا الشيء يُنفَّذ بالتأكيد.

في الفترة الأكثر حداثةً التي أتحدَّثُ عنها، كان يتولَّى رئاسة اللاسُلطويِّين في لندن رجُلٌ ضعيفٌ ومُترددٌ، وقد خرج أتباعُه بعضَ الشيء عن السيطرة. في الأزمة التي كانت تواجِهنا، تحسَّرتُ على القبضة الحازِمة والخَبطةِ القويَّة لحذاء الزعيم الروسيِّ العنيد. تحدَّثتُ فقط مرةً واحدة هذه المرَّة، وطمأنت مُستمعيَّ بأنه لا يُوجَد شيء يخافونه من التَّقارُب المُنتظَر للبلدين. قلتُ إن الإنجليز مُتمسِّكون بشدَّةٍ بأفكارهم الغريبة فيما يتعلَّق بحريَّة المُواطن وضرورة وجود دليلٍ قانوني مُثبتٍ لإدانته، بحيث لا يُمكن أبدًا أن نجِدَ رفاقنا يَختفُون على نحوٍ غامضٍ من إنجلترا كما حدَث في دُول أوروبا الأخرى.

رغم القلق المُتصاعِد أثناء الزيارات المُتبادَلة بين الملك والرئيس، أعتقد أنه كان بإمكاني حَملُ الجماعة الإنجليزية على الاتفاق معي في رأيي، إذا كانت اللقاءات الدولية ستنتهي عند هذا الحد. لكن بَعدَ أن أُعلنَ أن أعضاء من البرلمان الإنجليزي كانوا سيلتَقون مع أعضاء من المجلس التشريعي الفرنسي، انزَعجَتِ الجماعة الفرنسية. وعندما لم يُنْهِ هذا المؤتمر الاتفاق بين البلدين، بل مَهَّد فقط الطريق لاجتماع رجال الأعمال من كلا البلدين في باريس، أرسل اللاسُلطويُّون الفرنسيون مندوبًا إلينا، وهو الذي ألقى كلمةً هوجاء علينا ذات ليلة، وظلَّ يُلوِّح طوال الوقت بالعلَم الأحمر. أثار هذا كامل سُخطنا وتذمُّرنا بِجُنون؛ فقد اتَّهم المُتحدِّث الفرنسيُّ — عمليًّا — الجماعة الإنجليزية بالجُبن، وقال: نظرًا لأنهم غير مُعرَّضين لأيِّ تحرُّشٍ أو مُضايقةٍ من جانب الشرطة الإنجليزية، فإنهم لا يُبدون أيَّ تعاطُفٍ مع رفاقهم في باريس المُعرَّضين في أيِّ وقتٍ للاعتقال الفوريِّ والتعذيب من خلال الاستجواب القاسي في أماكن غير معلومة. إن هذا التقارُب الإنجليزي الفرنسي يجِب نسْفه فورًا بالديناميت. كان اللاسُلطويُّون مُصمِّمين على ذلك. وعلى الرغم من أنهم كانوا يرغَبون في تعاون إخوانهم في لندن، فإن المُتحدِّث قال إنه لم يحمِل معه تأكيدًا بهذا التعاون؛ فإن باريس ستتصرَّف بمُفردها.

كان من شأن الحاكم الروسيِّ المُستبدِّ للجماعة الإنجليزية أن يَستخِفَّ بتلك الخُطبة العَصْماء من جانب مندوب الجماعة الفرنسية، لكن للأسف، لم يَعُد موجودًا، وأدار الرئيس الضعيف تصويتًا حاشِدًا لصالح استخدام القوَّة وانتهى الأمر بقَبوله. وأخذ المندوب الفرنسي معه — وهو عائد إلى باريس — الموافقةَ الجماعيَّة للرِّفاق الإنجليز، التي أتى إلى لندن ساعِيًا إليها. إن كلَّ ما طُلِب من الجماعة الإنجليزية هو الترتيب لتهريب الشخص الذي سيُلقي قنبلةً وسط الزائرين الإنجليز، والإخفاء الآمن له، وبعد رحيل الخطيب المجنون، اختِرتُ أنا، وقد تملَّكني فزَعٌ شديد، لترتيب النقل الآمن والإيواء المُستقبلي للشخص الذي سيَرمي القنبلة. ليس من المُعتاد في دوائر اللاسُلطويِّين أن يَرفُض أيُّ عضوٍ أيَّ مهمَّةٍ يُعهَد بها إليه من خلال تصويت زملائه؛ فهو يعرف البديل لهذا الرفض، ألا وهو الانتحار. وإذا رفَض المُهمَّة ولم ينتحِر، فإن مُشكلته ستُحل؛ حيث سيحلُّها فيليني الإيطالي بقتله بالطريقة التي قَتَل بها مُساعدي المِسكين بريسون؛ لذا قبلتُ المُهمَّةَ المشئومة في صمتٍ وتسلَّمتُ من المسئول المالي الأموال اللازمة لتنفيذها.

أدركتُ لأول مرَّةٍ منذُ انضمامي للمنظمة اللاسُلطويَّة قبل عدَّة سنواتٍ أنني في خطرٍ حقيقي؛ فخطوةٌ واحدة خاطئة أو كلمةٌ واحدة غير مقصودة قد تُنهي مَسيرة يُوجين فالمونت، وفي الوقت نفسه تُنهي وجود بول دوشارم، معلم اللغة الفرنسية الهادئ المسالم. أُدرِك تمام الإدراك أنهم يجِب أن يتبعوني؛ ففي اللحظة التي تسلَّمتُ فيها الأموال من جانِب المسئول المالي، سأل المندوب الفرنسي عن المَوعد الذي سأكون فيه في باريس. كان يريد أن يعرِف تلك المعلومة حتى تُوضَع كل الموارد الخاصة بجماعتهم تحتَ تصرُّفي. ردَدتُ بهدوءٍ بأنني ليس بإمكاني على وجه التحديد ذِكر اليوم الذي سأترُك فيه إنجلترا؛ فهناك مُتَّسع من الوقت، حيث إن مُمثِّلي رجال الأعمال القادمين من لندن ما كانوا ليَصِلوا إلى باريس إلا قبلَ أسبوعين آخرين. كنتُ معروفًا على نحوٍ جيِّدٍ لغالِبية الجماعة الفرنسية، وكنتُ سأَمثُل بين أيديهم في أول أيام وصولي لباريس. أظهر المندوب الفرنسي كلَّ الحماس الذي يُبدِيه أيُّ عضوٍ جديد، وبدا غيرَ سعيدٍ بغموضي، لكنَّني لم أُغيِّر طريقتي ولم أعبأ بعدَم رِضاه. إن هذا الشخص لم يكن معروفًا شخصيًّا لي، ولم أكن معروفًا له، لكن إن جاز لي أن أقول ذلك، فقد كان كلُّ أعضاء الجماعة الإنجليزية الباقين لديهم فكرة جيدة عن بول دوشارم.

لقد تعلَّمتُ درسًا مُهمًّا في قضية قلادة المَلِكة، التي أدَّت إلى تسريحي من قِبل الحكومة الفرنسية. لقد تعلَّمتُ أنك إذا توقَّعتَ أن يتبعك أحد، فمن الأفضل دائمًا أن تترُك خَيطًا يَتبعه من يتبعك؛ لذا قلتُ أمامهم بنبرةٍ حواريَّةٍ مُنخفِضة:

«أريد أن تتركوا يوم الغدِ بالكامل لي؛ فأنا يجِب أن أُعلِم تلاميذي بغيابي. وحتى إذا تركَني تلاميذي، فلن يُهمَّ الأمر كثيرًا؛ فأنا أستطيع على الأرجح الحصول على آخرين. لكن المُهم هو عملي السكرتيري مع السيد فالمونت في مبنى الإمبريال. إنني على وَشكِ الانتهاء من ترجمة كتابٍ له من الفرنسية إلى الإنجليزية، وغدًا يُمكن أن أُكمِل العمل وأحصُل على إذنٍ منه بالحصول على إجازةٍ مُدَّتُها أسبوعان. إن هذا الرجل، الذي من بني جلدتي، هو الذي وَفَّرَ لي عملًا منذ أن قَدِمتُ إلى لندن. إنه هو المصدر الأساسي لدخلي، ولولا رعايته لي، لا أعرف ماذا كنتُ سأفعل؛ فأنا لا أرغب فقط في عدَم إثارة غضَبه، وإنما أيضًا أتمنَّى أن يَستمِرَّ عملي السكرتيري معه عندما أعود للندن.»

سَرَت هَمهَمة بالموافقة حِيال ذلك؛ فمن المُتَّفق عليه بوجهٍ عامٍّ أنه يجِب عدَم التدخُّل عندما يتعلَّق الأمر بمصدَر دخل العضو، إذا كان ذلك مُمكِنًا. إن اللاسُلطويين ليسوا أُناسًا شديدي الفقر، كما يَظنُّ مُعظم الناس؛ فالكثير منهم ظروفهم المَعيشية مُمتازة، ويشغَل بعضهم مناصب تحتاج إلى أمانةٍ كبيرة، ونادِرًا ما يخونونها.

ومن المعروف أن من واجب العضو — ليس تجاه نفسه فحسب، بل أيضًا تجاه المنظمة — أن يكسب كلَّ المال الذي يَستطيع كسبه؛ ومن ثَمَّ يقلُّ احتمال لُجوئه إلى صندوق الإعانات. إن هذا الاعتراف الصريح باعتِمادي على السيد فالمونت جعل من المُستحيل تمامًا على أيٍّ من الحاضرين المُستمِعين إليَّ أن يشُكَّ في أن فالمونت نفسه هو من يتحدَّث إليهم في اجتماعهم السِّرِّي.

ألحَّ المندوب الفرنسيُّ الفضوليُّ قائلًا: «إنك إذن سوف تأخذ القطارَ الليليَّ المُتَّجِه غدًا لباريس. أليس كذلك؟»

«بلى ونعم. إنني سأستقلُّ القطار الليلي الذي ستكون وِجهته باريس، ولكن ليس من مَحطة تشارينج كروس أو فيكتوريا أو ووترلو؛ فأنا سوف أسافر في القطار القارِّي السريع الذي سوف يُغادِر في الثامنة والنصف من محطة ليفربول ستريت إلى محطة هاريتش، ثم أعبُر لِمحطة هوك أوف هولاند، ومن هناك سأسافر إلى باريس عبر هولندا وبلجيكا. إنني أرغَب في استكشاف هذا الطريق باعتِباره طريقًا مُمكنًا لهروب رفيقنا؛ فبعد انفجار القنبلة، ستكون محطَّات كاليه وبولوني ودييب وهافر مُراقبةً عن كثَب. إنني على الأرجح سأجلِبُه للندن عن طريق أنتويرب وهوك أوف هولاند.»

إن تلك التوضيحات الوِديَّة كانت مُتوافقةً بالكامل مع ما هو معروفٌ عن بول دوشارم من الحذَر والصراحة، لِدرَجة أنني لاحظتُ أنها تركتِ انطباعًا مُمتازًا لدى جمهوري، وهنا تدَخَّل الرئيس واضعًا حدًّا لأيِّ استجوابٍ آخر قد يحدُث، وقال: إن الجميع لديه ثِقةٌ تامَّةٌ في حِكمة السيد بول دوشارم وحُسن تصرُّفه، وإن المندوب الفرنسي يستطيع إخبار رِفاقه بأن عليهم ترقُّبَ وصول المندوب الإنجليزي خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة القادِمة.

تركتُ الاجتماع وتوجَّهت مُباشرةً إلى غرفتي في حيِّ سوهو، دون حتى أن أُكلِّف نفسي عَناء ملاحظة ما إذا كنتُ مُراقبًا أم لا. وهناك قضيتُ الليلة بالكامل، وفي الصباح غادَرتُ حيَّ سوهو في شخصية دوشارم، بِلحيةٍ رَمادية وكَتِفين مَحنيَّين، وسرتُ غربًا باتِّجاه مبنى الإمبريال وركبتُ المِصعد لأعلى. وعندما وجدتُ المَمَرَّ خاليًا، تسلَّلتُ إلى شقَّتي. ثم غادرتُ شقَّتي مُسرعًا في الساعة السادسة مرَّةً أخرى في شخصية بول دوشارم. لكنَّني هذه المرَّةَ كنتُ أحمِل تحتَ ذراعي رُزمة أوراقٍ ملفوفةً بالورق البني، وتوجَّهت مُباشرة إلى غُرفتي في حيِّ سوهو. لاحقًا، ركبتُ حافِلةً وأنا ما زِلتُ أحمِل لفَّتي المُغَطَّاة بالورق البني، ووصلتُ محطة ليفربول ستريت وكان لديَّ مُتَّسع كبير من الوقت قبل وصول القطار القاري. ومن خلال اتِّفاقٍ خاصٍّ بسيطٍ مع المُحصِّل، حجزتُ مقصورةً لنفسي، على الرغم من أنني حتى لحظة مُغادرة القطار للمحطة لم أكن مُتأكدًا إلا من أنني بعدَ كلِّ شيءٍ قد أكون مُجبرًا على السفر إلى محطة هوك أوف هولاند. فلو أصرَّ أحدُهم على الدخول إلى مقصورتي، لكان سيتعيَّن عليَّ عبور بحر المانش في تلك الليلة. كنتُ أعلم أنهم يتبعونَني من حيِّ سوهو إلى المَحطَّة، وأن الشخص الذي يتبعني على الأرجح سيذهب حتى محطة هاريتش حتى يراني على القارب، وليس من المؤكد إن كان سيركب معي القارب أم لا. لقد اخترتُ هذا المسار لأننا ليس لنا رِفاق في هولندا؛ إن أقرَب رفاقٍ لنا موجودون في بروكسل، ولو كان هناك وقت، لكانت الجماعة هناك سيُطلَب منها أن تراقِبَني. لكن لم يكن هناك وقتٌ لإرسال رسالة، واللاسُلطويون لا يَستخدِمون أبدًا التلغراف، خاصةً في نطاق القارَّة الأوروبية، إلا في حالات الضرورة القُصوى؛ إذ إنهم لو أرسلوا وصفًا لي بالتلغراف إلى بروكسل، فلن يكون ثَمَّةَ احتمال أن أُراقَب من قِبل أحد اللاسُلطويين فحسب، وإنما من قِبل أحد أفراد قوَّات الشرطة البلجيكية كذلك.

لم يتوقَّفِ القطارُ القاريُّ السريع المُنطلِق في الساعة الثامنة والنصف بين محطتَي ليفربول ستريت وباركستون كواي، وكان من المُفترض أن يصِل قبلَ العاشرة بثلاث دقائق. أعطاني هذا فرصة ساعةٍ ونصف كي أُغيِّر ملابسي. كَوَّرتُ ملابس البروفيسور العجوز الفقير، القِطعة تلو الأخرى، وقذفتُ كلًّا منها عبر النافِذة المفتوحة، بعيدًا في المُستنقَعات التي كنَّا نمرُّ بها بسرعةٍ شديدة في ظلام الليل الحالِك. استقرَّ المِعطف والبنطلون والصِّديري في مُستنقعاتٍ مُنفصلة يفصِل بينها على الأقلِّ عشرة أميال. مزَّقتُ تمامًا اللحية الرمادية والشعر المُستعار الرمادي، وألقيتُ أجزاءهما من النافذة المفتوحة.

حرصتُ على حجزِ مقصورة في مُقدِّمة القطار، وعندما توقَّف القطار في محطة باركستون كواي، انطلق الركَّاب مُسرِعين خلفي، رغبةً منهم في ركوب الباخرة، وقد دخلتُ بسرعةٍ وسط هذا الحشد، وأنا على هيئة شابٍّ مُهندَم ونشيط بِلِحيةٍ وشاربٍ أسوَدين، وقد غطَّتْ شعري الأسود المقصوص على نحوٍ قصيرٍ جدًّا قبعة ديربي جديدة. إن أيَّ شخصٍ كان سيبحث عن بول دوشارم لم يكن سيتعرَّف عليَّ، وهكذا الحال بالنسبة لأي صديق لفالمونت.

مشيتُ بتمهُّلٍ لفندُق جريت إيسترن في باركستون كواي، وسألتُ موظَّف الاستقبال هناك ما إذا كانت قد وصلتْ حقيبة سفرٍ مُرسلةٍ إلى السيِّد جون ويلكينز في ذلك اليوم من لندن. فردَّ قائلًا: «نعم.» حينها حجزتُ غرفة للمَبيت في تلك الليلة حيث إن آخر قطارٍ كان قد غادر بالفعل إلى المدينة.

في صباح اليوم التالي، استقلَّ السيد جون ويلكينز، حامِلًا حقيبةَ سفرٍ جديدةً وباهظة الثمن، قطار الساعة الثامنة إلا ثلاث دقائقَ المُتَّجِه إلى محطَّة ليفربول ستريت، التي وَصَل إليها في الساعة العاشرة والنصف، واستقلَّ عربةَ أُجرة، وذهب إلى مَطعم سافوي وتناوَل الغداء هناك مُودِعًا حقيبته في غرفة حِفظ المَعاطِف والقُبَّعات. عندما انتهى جون ويلكينز من غَدائه الرائع والذي تناوَله ببطءٍ في المَقهى الباريسي بالمَطعَم ودفَع فاتورته، لم يخرُج إلى شارع ستراند عند الساحة المَرصوفة بالمطَّاط التي دخل منها، لكنه مرَّ داخِل الفندق ونزَل السلالِم وخرَج إلى الشارع المُواجِه لمنطقة إيمبانكمنت. ثُمَّ اتَّجه يمينًا ووَصَل إلى مدخل فندق سيسل الواقع في منطقة إيمبانكمنت. جعله هذا يدخُل في مَمرٍّ طويل ومُظلم يُوجَد في نهايته مِصعد يُمكن طلبه. لم يكن المِصعد يهبِط إلى لطابق الأسفل إلا إذا استدعَيْتَه بنفسك. وفي هذا المَمرِّ المُظلِم والذي كان خاويًا، أزال جون ويلكينز اللِّحيَةَ والشارِبَ الأسودَين، وأخفاهُما في الجَيب الداخليِّ لمِعطفه، ثم ركِبَ المِصعد بعد لحَظَاتٍ قليلة مُتَّجِهًا إلى الطابق الإداري وقد تحوَّل إلى يوجين فالمونت، أنا، لأول مرةٍ منذ عدَّة أيام.

حتى حين ذلك، لم أستقلَّ عربة أُجرة لأذهب لشقَّتي، لكنَّني مررتُ تحت واجِهة فندق سيسل المُقوَّسة في عربة أجرة، مُتَّجهًا إلى محلِّ إقامة ذلك النبيل الذي استعان بخدماتي في السابق لضمان سلامة المَلِك.

ربما تقول إن هذا الحذر الشديد لا داعيَ له عندما لا يكون حتى الشخص مُتأكدًا من أن أحدًا يتبعه. في حقيقة الأمر، أنا لا أعلم حتى يومِنا هذا أن أحدًا كان يتتبَّعُني أم لا، ولستُ عابئًا حتى بهذا الأمر. إنني أعيش في الحاضر؛ فبِمُجرَّد أن يُصبِح الأمر ضربًا من الماضي، ينتهي وجوده بالنسبة إلي. من المُمكن، لا، بل من المُحتمَل تمامًا أن أحدًا لم يَتتبَّعْني فيما يتجاوز محطة ليفربول ستريت في الليلة السابقة. غير أن عدَم تَوخِّي هذا الحذَر الشديد جعل مُساعدي بريسون يقَعُ ضحيَّةً للخِنجر الذي غرسَه الإيطالي تحت لَوْحِ كَتِفه قبل خمسة عشر عامًا. إن اللحظة الحالية هي دائمًا اللحظة المُهمَّة. أما المُستقبل، فيقوم فقط على التَّبصُّر الذكي. إن الإعداد للمُستقبل كان يعني أن أستقلَّ الآن عربةَ أجرةٍ لأذهب إلى بيت هذا النبيل. لم أكن خائفًا من اللاسُلطويين الفرنسيين بخصوص المُعتَرك الذي كنتُ بصدَدِ الدخول فيه الآن، بل من الشرطة الباريسية. أعرف تمام المعرفة الفكر البيروقراطي الفرنسي؛ لذا فإنني أدرك أنه لا جدوى من الذهاب للسلطات الفرنسية وإخبارها بالأمر؛ إذ إنني لو أقدمتُ على الذهاب إلى رئيس الشرطة ومعي المعلومات التي اكتشفتُها في لندن، والتي كان من مَهامِّ عمله أن يعرفها في باريس، فستكون المقابلة أبعدَ ما تكون عن الودِّية رغم أنني أعلنتُ عن نفسي بوَصفي يوجين فالمونت، أو ربما بسبب ذلك تحديدًا. إن نجاحات يُوجين أصبَحَت جُزءًا من أساطير باريس، وتلك الأساطير كانت مُزعجةً بِشدَّة لمن هم في السُّلطة. لَطالَما كانت إنجازاتي موضوع المقالات الخفيفة في الصحافة الباريسية، وقد جرى، بالتأكيد، عرضُها على نَحوٍ مُبالَغ فيه من خِلال خَيال الكُتَّاب. غير أنَّني، مع ذلك، أُقرُّ بأنني حقَّقتُ بعض الإنجازات الجيِّدة في مجال التَّحقيق الجنائي أثناء خِدمتي مع الحكومة الفرنسية؛ لذا من الطبيعي أن يَستمِع المسئولون الحاليُّون ببعض الضَّجَرِ عندما يُذكر اسم يوجين فالمونت. أعرف أن هذا من الأشياء المُتوقَّعة تمامًا، وأنا مُنصِف بما يكفي للاعتراف بأنَّني في فترة خدمتي عادةً ما كنتُ أستمِع إلى القِصص الخاصَّة بإنجازات لوكوك بلامبالاةٍ ورِيبة.

الآن، إذا عَرَفتِ الشرطة الفرنسية أيَّ شيءٍ عن تلك المؤامرة من جانب اللاسُلطويين، والتي كانت مُرجَّحة، وإذا كنتُ على اتِّصالٍ مَشبوهٍ مع اللاسُلطويين، وخاصةً مع الرجل الذي سيُلقي القنبلة، فهناك احتمال كبير أن أجِدَ نفسي واقِعًا تحت طائلةِ القضاء الفرنسي. ومن ثم، يجِب أن أُقدِّم المُستندات التي تُثبِت أنني لم أكن أعمل ضِدَّ سلام واستقرار بلدي، ولكن في صفِّ القانون والنظام؛ لذا أردتُ أن أحصُل من النبيل على إذنٍ مكتوب، مُماثِلٍ للتكليف الذي كلَّفَني به في أثناء زيارة الملك. كنتُ سأضَع هذا الإذن في بنكي في باريس، ليكون دليلًا ملموسًا على صحَّةِ مَوقفي عندما أحتاج إلى ذلك. لم يكن لديَّ أيُّ شكٍّ في أنَّ سيادَته كان سيُعطيني حريَّة التصرُّف في هذه المرَّة تمامًا كما حدَثَ في مرَّتَين سابِقَتين.

•••

ربما لو لم أكن قد تناولتُ غداءً جيِّدًا، لكنتُ قد تعاملتُ مع سيادة النبيل بإجلالٍ أكبرَ ممَّا كان عليه الحال؛ لكنني عندما طلبتُ غدائي، طلبتُ أن تُصفَّى من أجلي من الشوائب زجاجةُ شاتو دو تيرتر إنتاج ١٨٧٨، وهو نوع من خَمر الكلاريت اللذيذ جدًّا، وهذا جعَلَ نوعًا من التوهُّج اللطيف يَسري في جسدي، ممَّا أدَّى إلى حالةٍ من التفاؤل الذِّهني الذي جعلني على استعدادٍ للتعامُل مع أعظم البَشر وكأننا مُتساوون تمامًا. بالإضافة إلى ذلك، أنا، في نهاية الأمر، مُواطِن في جمهوريةٍ عظيمة.

استقبَلَني النبيل بأدَبٍ وبرود، يُنبِئان عن عَدَم رضائه بزيارتي المُفاجئة، لكن دون أن يُصرِّحا بذلك. كانت مُقابلتُنا قصيرةً للغاية.

بدأتُ حديثي إليه قائلًا: «لقد شرُفتُ بخدمة سيادتكم في مُهمَّتَين سابِقتين.»

قاطعني قائلًا: «أتذكَّر ذلك جيدًا، لكنَّني لا أتذكَّر تكليفي إياك بمُهمَّةٍ ثالثة.»

«لقد تجرَّأتُ على الحضور إليك، سيِّدي اللورد، دون أن تطلُبَني بسبب أهمِيَّة الأخبار التي بِحوزَتي. ظننتُ أنك مُهتمٌّ بتعزيز أواصِر الصَّداقة بين فرنسا وإنجلترا.»

«ظنُّكَ يا سيِّدي في غيرِ مَحلِّه. أنا لا أهتمُّ مُطلقًا بالأمر. قلقي الوحيد كان بشأن سلامة المَلِك.»

حتى الخَمرُ الفَخْمُ لم يكن كافيًا ليَحمِيَني من الكلماتِ الشديدةِ الفَظاظَة ونَبراتِ الصَّوت الجافَّة بشدَّة التي سمح سيادته لنفسه باستخدامها.

قلتُ له وقد قَلَّلتُ من درجةِ الرسمية في الحديث في ظِلِّ غضَبي المُتصاعِد: «سيِّدي، قد يُهمُّك أن تعرف أن عددًا من بني وطنك مُعرَّضون للتَّفجير من قِبل قُنبلة يُلقيها أحد اللاسُلطويِّين في غُضون أقلَّ مِن أسبوعين من اليوم. إن جماعةً من رِجال الأعمال، المُمَثِّلين الحقيقيِّين لطبَقَةٍ حَرِيَّةٍ بعظمةِ إمبراطوريةٍ مِثل خاصَّتِكم، على وشكِ التعرُّض ﻟ…»

قاطَعَني سيادته بضجرٍ قائلًا: «أرجو أن تُعفِيَني من كلِّ هذا. لقد قرأتُ عن مثل هذه الأمور كثيرًا في الصُّحف. إذا جرى تفجير كلِّ هؤلاء الرجال المُوقَّرين، فإن الإمبراطورية ستفتقِدُهم بلا شكٍّ كما أسلَفْتَ، لكنَّني لن أفعل ذلك، ومصيرهم لا يُهمُّني على الإطلاق، على الرغم من أنك مَنحتَني شرَفَ الاعتقاد بهذا. طومسون، هلا رافقتَ هذا الشخصَ للخارج؟ سيدي، إذا رغبتُ في مُثولِك أمامي في المُستقبَل، فسأُرسِل إليك.»

صِحْت، وقد تملَّكني الغضب بشدةٍ الآن، بعد أن سيطَرَت عليَّ الخمر: «قد تُرسل في طلَب الشيطان!»

ردَّ ببرود: «لقد عبَّرتَ عن مقصدي باقتضابٍ أكثر مما كلَّفتُ نفسي عَناء فِعله.» وكانت تلك آخرَ مرةٍ رأيتُه فيها.

ركبتُ عربة الأُجرة وانطلقتُ إلى شقَّتي، وأنا مُستاءٌ من طريقة الاستقبال التي قُوبلتُ بها. لكنَّني كنتُ أعرف الإنجليز جيدًا، بحيث لا أغضب منهم بِسبب فعل واحدٍ من بني جلدتهم؛ لذا لا يبقى أبدًا الاستياء طويلًا معي. بمجرَّد وصولي لشقَّتي، أخذتُ أقرأ الجرائد لأعلمَ كلَّ شيءٍ يُمكِنُني الوصول إليه عن رحلة رجال الأعمال المُنتظرة إلى باريس. وأثناء قراءتي لأسماء أبرز الأشخاص المَعنيِّين بالقيام بالترتيبات الضرورية لتلك الرحلة، صادفْتُ اسم دبليو رايموند وايت؛ ما جعلَني أستريح في مَقعدي وأقطب جبيني في مُحاولة لتنشيط ذاكرتي. ما لم أكن مُخطئًا، سعدتُ بشدَّةٍ بتأدية مُهمَّةٍ لصالح هذا الرجل الفاضل منذ نحو ١٢ أو ١٣ عامًا. كما أتذكَّر، كان رجُل أعمالٍ يَشترِك في عملياتٍ ضخمة مع فرنسا، ويعمَل على وجه الخصوص في ليون وما يُجاورها. كان عنوانه مذكورًا في الجريدة، وكان يسكن في شارع أولد تشينج؛ لذا قرَّرتُ على الفور لقاءه. وعلى الرغم من أنني لم يكن باستطاعتي تذكُّر تفاصيل لقائنا السابق — إن ثبَت لي بالفعل أنه الشخصُ نفسُه الذي أعنِيه — فإن مجرَّدَ رؤيةِ الاسم جلَب لي سعادةً ذهنية، كما قد تجلِب لمْسةٌ عرضية على أحد أوتار آلةٍ موسيقية إحساسًا رائعًا بالتَّناغُم للعقل. قررتُ أن أحصل من السيد وايت، إذا كان ذلك مُمكنًا، على المُستندات التي تُبرِّئ ساحتي؛ إذ إنَّ ذلك في حقيقة الأمر سيكون أكثر قِيمةً بكثيرٍ ممَّا لو تمَّ من خلال السيد النبيل العجوز الفظِّ الذي تحدثتُ إليه قبله؛ لأنني إذا وقعتُ في مشكلةٍ مع شرطة باريس، فقد كنتُ واثِقًا — بفضل ما أعرِفه عن السُّلطات من تهذيب طبيعي — أن خِطابًا من أحد ضيوف المدينة سيكون كافيًا لضمان إطلاق سراحي الفوري.

أخذت عربة أجرة لمدخل هذا الشارع الضيق المعروف بأولد تشينج، وعندما وصلتُ هناك، لم أجعلها تنتظرني، كنتُ محظوظًا جدًّا بحيث استطعتُ التعرُّف على السيد وايت وهو خارِج من مَكتبه. فلو كنتُ تأخَّرتُ للحظةٍ واحدة، لم أكن لألحقَ به.

دنوت منه وقلت له: «سيد وايت، أرجو أن أحظى بشرَفِ تقديم نفسي إليك ومُتْعَته.»

رد السيد وايت بابتسامة: «سيدي، إنَّ تقديم نفسِك لي ليس ضروريًّا، وأنا من سيحظى بالشرَفِ والمُتعة. وما لم أكن مُخطئًا، إنك السيد فالمونت الباريسي. أليس كذلك؟»

رددتُ مُصحِّحًا: «الباريسي سابقًا.»

«ألم تَعُد تعمل لدى الحكومة؟»

«صِرْتُ من سكان لندن منذ أكثر من عشر سنوات، أو أقلَّ قليلًا.»

«كيف هذا؟ ولماذا لم تُعلِمني بذلك؟ هذا شيء يُسمِّيه الدُّبلوماسيُّون عملًا غير وِدِّيٍّ يا سيدي. والآن، هل تُريد أن نعود لمَكتبي أم نذهب للمقهى؟»

«إلى مكتبك لو تكرَّمت يا سيِّد وايت؛ فأنا قادِم إليك بشأن موضوع مُهمٍّ جدًّا.»

دخلنا مَكتبه الخاص، وأغلق التاجِرُ الباب وطلبَ منِّي الجلوس وجلسَ هو على الكرسيِّ الموجود خلف طاولته. ومن البداية أخذ يُحادِثني بالفرنسية، التي كان يتحدَّث بها بلهجةٍ نقيَّةٍ للغاية ممَّا أثلج قلبي المُتلهِّف لِسماعها.

قال: «ذهبتُ لمنزِلك منذ ستِّ سنواتٍ عندما كنتُ في باريس في حدَثٍ احتفالي، حيث أردتُ أن أحظى بمُرافقتك، لكنَّني لم أستطِع أن أعرِفَ على وجه التحديد ما إذا كنتَ لا تزال تعمَل لدى الحكومة أم لا.»

رددتُ: «هذه هي طريقةُ عمَل البيروقراطية الفرنسية. إذا كانوا يعرفون مكان إقامتي، فسيَحتفِظون بتلك المعلومة لأنفُسهم ولا يُطلِعون أحدًا عليها.»

«حسنًا، إذا كنتَ تُقيم منذ عشر سنواتٍ في لندن يا سيد فالمونت، فربَّما نتشرَّفُ الآن بأن نَزعُم أنك رجل إنجليزي؛ لذا أرجو منك أن تُرافِقنا في حدَثٍ احتفاليٍّ آخر بباريس في الأسبوع القادم. ربما علِمتَ أن عددًا منَّا ذاهبٌ إلى هناك للاحتفال.»

«أجل؛ لقد قرأتُ كلَّ ما كُتِب عن رِحلة رجال الأعمال إلى باريس، وتلك الرحلة هي التي أنا قادِم للتحدُّث معك بخصوصها.» ثم أوضحتُ للسيد وايت بالتفصيل خطةَ اللاسُلطويين لإنهاء الودِّ المُتزايد في العلاقة بين البلدين. استمَع التاجر بهدوءٍ دونَ مُقاطعةٍ حتى انتهيتُ من كلامي، ثم قال: «أعتقد أنه سيكون من غير المُجْدي تمامًا إخبارُ الشرطة الباريسية. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيد وايت. إن الشُّرطة الباريسية هي التي أخشاها أكثر من اللاسُلطويِّين. إنهم سيرفضون المعلومات القادِمة إليهم من الخارج، خاصَّةً من مسئولٍ سابق؛ حيث سيكون الاستِنتاج أنهم لا يقومون بمَهامِّ عملِهم على الوجه الأكمل. سيحدُث احتكاكٌ وتأخير بحيث لا يُصبح بالإمكان منع وُقوع المؤامرة. من المُحتمَل جدًّا أن يكون لدى الشرطة الباريسية فكرة عن المؤامرة. وفي هذه الحالة، وقبل الحدَثِ مُباشرة، يكون من المُحتمَل جدًّا أن يَقبِضوا على الأشخاص الخطأ. سأتنقَّل في أنحاء باريس، ليس في شخصيَّةِ يوجين فالمونت، ولكن بول دوشارم اللاسُلطوي؛ لذا هناك احتمال أن يُلقى القبضُ عليَّ، باعتباري غريبًا ومُشتَبهًا به، في اللحظة الحاسمة. فإذا تكرَّمتَ وأعطيتَني ما يُفيد عملي لصالح البلد، والذي يُمكن أن أحفَظه في مكانٍ أمين في باريس؛ لكي أستخدِمَه في وقت الحاجة؛ فرُبَّما أستطيع مِن ثَمَّ إقناع السُّلطات بأنهم قَبضوا على الشخص الخطأ.»

لم ينزعِج السيد وايت على الإطلاق من احتِمال أن تُلقى عليه قُنبلة في غضون أسبوعين، وكتب بهدوءٍ عدَّة مُستندات ثُمَّ حوَّل وجهه غير المُضطرِب تجاهي، وقال بنبرةٍ واثِقةٍ وفاتنة: «سيد فالمونت، لقد أوضحتَ المسألة بشمولٍ واضِح يُميِّز أمَّةً تفهَم معاني الألفاظ والترتيب الصحيح لها. إن سلاسة اللغة هذه هي التي جعلتْ فرنسا تحوز قصبَ السَّبْقِ في مجال الأدَب بين الأمم. ومن ثم، أعتقد أنني أُدرِك بوضوحٍ شديدٍ أبعاد الموقف. ربما نتوقَّع عقباتٍ بدلًا من العَون من جانِب المَسئولين في البلدين المَوجودَين على جانِبَي بَحر المانش. إن السرِّيَّةَ ضروريةٌ للنجاح. هل أعلمتَ سواي بهذا الأمر؟»

قلت: «اللورد بلانك فقط، والآن أنا نادِم أشدَّ الندَم على إعلامه بالأمر.»

ردَّ السيد وايت بابتسامة: «هذا لا يُهمُّ على الإطلاق. إن عقلَ اللورد بلانك مَشغول تمامًا بعظَمَته. إن الكيميائيِّين يقولون لي: إنك لا تستطيع إضافةَ مُكوِّنٍ جديد إلى محلولٍ مُشبَّع؛ لذا فاكتشافُك لن يترُك أيَّ انطباعٍ على عقل سيادته. لا بُدَّ أنه نَسي بالفعل كلَّ شيءٍ بشأنه. هل أنا على صوابٍ في افتراض أنَّ كلَّ شيءٍ يتوقَّف على الرجل الذي سيُلقي القُنبلة؟»

«إنك مُحقٌّ تمامًا يا سيدي؛ فقد يكون مُرتَشِيًا، وقد يكون خائنًا، وقد يكون جبانًا، وقد يكون حقودًا، وقد يكون سِكِّيرًا. خلال العشر الدقائق الأولى من حديثي إليه، سأعرِف نُقطة ضَعفه. ويجِب أن أعمل على نُقطة الضَّعف تلك، ويجِب أن يتأجَّل فِعلي حتى اللحظة الأخيرة؛ إذ لو اختفى قبلَ الحدَثِ بوقتٍ طويل جدًّا، فسيأخذ مكانه على الفور بديلُه الأول أو الثاني أو الثالث.»

«بالضبط؛ لذا لن يُمكنك إتمام خُططك حتى تُقابِل هذا الرجل. أليس كذلك؟»

«بلى، بالتأكيد.»

قال السيد وايت: «إذن، أرى أننا يَجِب ألا نَثِق في أحد؛ ففي قضية كهذه، لا تُوجد فائدة كبيرة في المُثول أمام لجنة استماع. بإمكاني إدراك أنكَ لستَ بحاجةٍ لأيِّ نُصح. وسيكون دَوري هو أن أبقى في الظلِّ، على استعدادٍ لدَعمِ أكفأ رَجُلٍ يُمكن أن يُختار للتَّعامُل مع أزمةٍ شديدة الصعوبة كهذه.»

انحنيتُ له بشدَّة. كان هناك تقديرٌ في نظرته وكذلك في كلماته. لم أقابِل رجلًا رائعًا كهذا من قبلُ قط.

قال مُعطيًا إيايَ إحدى الأوراق التي خَطَّها: «هذا خطابٌ لمن يُهمُّه الأمر، يوضِّح تعيينك كعميلٍ لي للأسابيع الثلاثة التالية، وتحمُّلي المسئولية عن كلِّ ما ترى أنَّ مِنَ المُناسب فعله.» وأضاف، مانِحًا إيايَ ورقةً أخرى: «وهذا خطابُ تقديمٍ للسيد لارجان، مدير بنكي في باريس، وهو رجل معروف ومُحترم للغاية في كلِّ الأوساط، سواء الرسمية أم التجارية. أقترح أن تُقدِّم نفسَك إليه، وهذا سيجعله على استعدادٍ كامل للاستجابة لأيِّ طلبٍ قد تطلبه منه، ليلًا أو نهارًا. إن مجرَّد مُثوله أمام السُّلطات سيُنهي على الفور أيَّ صعوبةٍ عادية.» ثم أردَفَ (مُمسِكًا بالورقَة الثالثة ومُتحدِّثًا ببعض التردُّدِ ومُختارًا كلماته بعِناية): «والآن يأتي أمرٌ لا يُمكِن تجاهُله. المال عصًا سحرية تُزيل — مثل الإيمان الديني — أيَّ عائق، وقد تتخلَّص أيضًا من أيِّ لاسُلطوي يَحوم حول الطريق الذي يَسلُكه أيُّ رجل أعمال.»

ثمَّ أعطاني ما اتَّضح لي أنه حِوالة بألفِ جنيه تُصرَف في باريس.

قلت مُعترِضًا وقد اعتراني الارتِباك: «أؤكد لك يا سيدي أن مسألة المال لم تَخطُر ببالي عندَما سمحتُ لنفسي بالمجيء إليك. لقد حصلتُ بالفعل على أكثر ممَّا يُمكن أن أتوقَّعه من خلال الثِّقة العظيمة التي تكرَّمتَ وأوليتَني إياها، والتي تجسَّدت في هذه الأوراق، وخاصة الخطاب المُوجَّه لمدير بنكك. فبفضل كرَم بني وطنك يا مستر وايت، والذي تُعدُّ أنت مثالًا بارزًا عليه، أنا لستُ في حاجة إلى المال.»

«سيد فالمونت، يُسعِدُني سماع تأقلُمِك وسعادتك بالإقامة وسطنا. إن هذا المال لغَرَضَين؛ أولًا، أنك ستستخدِم ما تحتاجه منه. إنني أعرف باريس جيدًا يا سيدي، ولم أجد المال هناك مَصدرًا للإحراج قطُّ. أما ثانيًا، فأنا أعتقد أنك عندما تُقدِّم خطاب التقديم للسيد لارجان ستودِعُ هذا المَبلغ في حسابك في بنكه، وسيرى مِن ثَمَّ أنني إلى جانب كتابة خطاب تقديمٍ لك منِّي له، فإنني حوَّلتُ مَبلغًا مُعينًا من رصيدي لرصيدك. أؤكد لك أن هذا لن يَضرَّك بأيِّ نحو. والآن سيِّد فالمونت، يبقى لي أن أشكر الفرصة التي منحتَنِي إياها، وأن أؤكد لك أنني سأتحرَّك من محطة جار دو نور دُون خوفٍ لأنَّني أعلم أنَّني في أيدٍ أمينة.»

ثم صافَحَني هذا الرجل المُحترم في ودٍّ شديد، ثم خرجتُ من شارع أولد تشينج وأنا أكاد أُعانِق السماء، وهو شعور يَختلِف بشدَّةٍ عن ذلك الذي أحسستُ به وأنا خارج من منزل اللورد العجوز الواقع في منطقة وست إند قبلها ببضعِ ساعات.

•••

في صباح اليوم التالي، كنتُ في باريس وحضرت في الليلة التالية الاجتماع السِّريَّ للاسُلطويين، والذي عُقد في مكانٍ على بُعد رُبع ميلٍ من لوكسمبورج. كنتُ معروفًا للعديد من الحضور هناك، لكن لم تكن دائرة مَعارفي بالطبع كبيرةً جدًّا كما هو الحال بالنسبة للجماعة اللندنية. توقَّعوا حضوري الليلة السابقة؛ إذ كانوا يَعرفون أنَّني حتى إذا أتيتُ عبر محطة هوك أوف هولاند فإنني قد أصِل باريس قبل الاجتماع بفترةٍ ملائمة. قُدِّمتُ للجمع باعتباري المندوب المُرسَل من إنجلترا الذي من المُفترَض أن يُساعد الأخ الذي سيُلقي القُنبلة في الهرَب إلى هذا البلد أو لأيِّ نُقطةٍ آمنةٍ أخرى قد أختارها. لم تُطرَح أيُّ أسئلةٍ بشأن ما فعلتُ في اليوم السابق ولا طُلِب منِّي كشف خُططي لهروب زميلنا الذي سيُلقي القنبلة. لقد كنتُ أنا المسئول، وكان هذا كافيًا. إذا فشلتُ في مُهمَّتي دون أيِّ خطأ من جانبي، فإن هذا سيكون جُزءًا من الحظِّ السيِّئ الذي كان جميعنا مُستعدًا لمواجهته. أمَّا إذا فشلتُ بسببِ الخيانة، إذن فهناك خنجرٌ بانتظار أن أُطعَن به في الظهر في أقربِ فُرصة ممكنة. كان جميعنا يَعرف بنود عقدِنا المشئوم، وكلنا كان يُدرك أنه كلَّما قلَّ كلامُنا، كان ذلك أفضل.

كان القَبو مُضاءً بضَوءٍ خافتٍ يأتي من مصباحٍ زيتيٍّ يتدلَّى من السقف. ومن هناك يتدلَّى حبلٌ متَّصل بمُخمِد، وكان تحريك الحَبل مرةً واحدةً يُغلِق الضوء. وعلى الرغم من أن أبواب الدخول الأساسية كان يقتحِمها رجال الشرطة، فقد كان شاغِلو الغُرفة يهربون عبر واحدٍ من ثلاثة أو أربعة مَنافذ هروبٍ ضيِّقة مُخصَّصة لهذا الغرض.

إذا شرَّفَني أحد اللاسُلطويين الفرنسيين بقراءة هذه المُلاحظات، فأودُّ أن أُخبره بأنَّني عندما كنتُ أعمل لدى الحكومة الفرنسية، كنتُ دائمًا أعرف مَنافِذ الخروج من تلك الأماكن السرية، وكان بإمكاني — في أيِّ ليلةٍ يُعقَد فيها مؤتمرٌ — القبضُ على كلِّ الجمع الموجود هناك. لكنَّني لم أكن أرغَب في زعزعةِ ثِقةِ اللاسُلطويين في نظامهم؛ لأنَّ هذا كان يعني نقلَ التجمُّع لمكانٍ آخر؛ ممَّا يُضيف علينا مِن ثَمَّ عبء تحديد المداخل والمَخارج الجديدة لمكانهم. وعندما أهجِم على مقرٍّ للَّاسُلطويين في باريس، كان الهدف دائمًا هو القبض على شخصٍ بعينه. كنتُ أضع بعضًا من رجالي عند كلِّ مخرجٍ وكانوا يَرتدون ملابس مدنية. وفي كلِّ الأحوال كنتُ أترك الجُرذان يهربون دون أن يُقبَض عليهم، مُتسلِّلين بحذَرٍ شديد في الليل، لكنَّنا كنَّا دائمًا ما نرصُد الشخص الذي نريده، ونقبِض عليه في كلِّ الحالات تقريبًا في مكانٍ آخر، بعد أن نتتبَّعه من وَكْره. في كلِّ الأحوال، كان ضُبَّاطي المرتدون ملابسَ رسميةً يَجدون المَخبأ مُظلِمًا وخاليًا، ويتركونه والحيرة بادِيَة عليهم. غير أنَّ المُصادَفة المُتمثِّلة في القبض على أحد الأعضاء الموجودين في تلك الاجتماعات على نحوٍ سريٍّ في جُزء آخر من باريس في ليلة الإغارة من جانب الشرطة، مع السماح له بالعبور لروسيا، لم يبدُ قطُّ أنها أثارَتِ الشكَّ في عقول المُتآمرين.

أعتقد أن طريقة لاسُلطويِّي لندن أفضلُ بكثير. ولَطالما رأيتُ أن العدميَّ الإنجليزي أخطر اللاسُلطويِّين جميعًا؛ فهو باردُ الأعصاب ولا تأخُذه الحماسة؛ ومن ثَمَّ نادِرًا ما يُقبَض عليه من قِبل شرطته. إن السُّلطات في لندن لا تُواجِه أيَّ مُعارضةٍ عند الهجوم على أيٍّ من أماكن تجمُّع اللاسلطويِّين؛ فهم يَجدون غرفةً مُضاءةً جيِّدًا بداخلها زُمرة يرتَدون ملابس رَثَّةً ويلعبون الورَق على طاولات رخيصةٍ من خشَب الصنوبر. ولا يُوجَد أيُّ مالٍ ظاهر. وفي واقع الأمر لن يَجدوا سوى القليل جدًّا من العُملات المعدِنية إذا جرى تفتيش الجمع كله؛ لذا فإن الشرطة لن تستطيع اتِّهام اللاعبين بموجَب قانون المُقامَرة. هذا بالإضافة إلى أنه من الصعب في كلِّ الأحوال اتِّهام أحدٍ بموجب هذا القانون؛ لأنَّ المُتَّهم سيتعاطف معه كلُّ مَن في البلد. لطالما رأيتُ أن مِن غرائب الطبيعة الإنجليزية أن قاضيًا يُمكن أن تبدوَ على وجهه علاماتُ الصرامة بينما يُغرِّم رَجُلًا فقيرًا مُعدِمًا بتُهمة المُقامرة، وهو يُدرِك أنه في يوم السِّباق التالي (إذا لم تكن المَحكمة مُنعقِدة) سيكون — مُرتديًا ملابسه الرياضية المُلائمة، ونظَّارتُه المُكبِّرة مُتدليةٌ عندَ وِركه — في المنطقة العُشبيَّة المُجاورة لمِضمار السِّباق يدعَم فرَسَه المُفضَّل.

بعد أن جرى تقديمي للحاضرين في اجتماع اللاسُلطويين الباريسيين، ظللتُ قاعدًا — دون أن يتطفَّل عليَّ أحدٌ — على مِقعدٍ بانتظار انتهاء الإجراءات الروتينية، والتي توقَّعت أن يجري بعدَها تقديمي للرجُل الذي اختِيرَ لإلقاء القُنبلة. أنا رَجُل حسَّاس للغاية، وبجلوسي هناك في هدوء، أدركتُ أن هناك شخصًا يتفحَّصُني على نحوٍ دقيق أكثر مِن المُعتاد؛ مما أعطاني شعورًا بعدم الراحة. وفي النهاية، وفي شِبه الظلام قُبالتي رأيتُ عينين حادَّتَين كعينَي النِّمر تُحدِّق بنحوٍ ثابتٍ تجاهي. رددتُ التَّحديق بأقصى رَباطة جأشٍ يُمكنني استِجماعُها. ومال الرجل بجسمه للأمام، كما لو أنه أُعجِب بنظرةٍ واثقةٍ مثل نظرته، وظهر أكثر فأكثر في دائرة الضوء.

ثم تلقيتُ صدمةً احتاج منِّي إخفاؤها إلى استِجماع كلِّ قُدرَتي على ضبط النفس. إن الوجه الشَّرِسَ والمُنهَك، كان لشخصٍ يُدعى أدولف سيمار، الذي كان مُساعدي الثاني في جهاز الخدمة السرِّيَّة الفرنسي في أثناء عامي الأخير من عملي. كان شابًّا رائعًا ومُبشِّرًا في ذلك الوقت، وبالطبع، كان يَعرفُني جيدًا. هل استطاع إذَن أن يكشِف تنكُّري؟ بدا هذا الأمر مُستحيلًا؛ فما كان له أن يتعرَّف على صوتي؛ حيث إنَّني لم أقُل شيئًا بصوتٍ عالٍ منذ دخولي للمكان، وقد نطقتُ هامِسًا بكلِماتي القليلة التي وجَّهتُها لرئيس الجماعة. لقد حيَّرني وجود سيمار هناك؛ فبِحلول ذلك الوقت، كان من المُفترَض أن يكون بمنصبٍ رفيع في الجهاز. إذا كان هنا الآن بِصِفته جاسوسًا، فسيرغَب بالتأكيد في معرفة كلِّ تفاصيل وجودي في هذا المكان؛ حيث إنَّني أنا صاحب خُطَّةِ هُروب المُجرم. لكن إذا كانت هذه هي مُهمَّته، فلماذا يَجذِب أنظار كلِّ أعضاء الجماعة بتفحُّصه الشديد هذا؟ لم يكن لديَّ خوفٌ من إمكانية تعرُّفه عليَّ بصِفتي فالمونت؛ إذ كان تنكُّري مِثاليًّا جدًّا. وحتى إذا كنتُ هناك بشكلي الحقيقي، فأنا لم أرَ سيمار ولا هو رآني منذ عشر سنوات، ويَعترِي مظهر الفردِ تَغييرات كبيرة أثناء تلك الفترة الطويلة. غير أنَّني تذكرتُ بقلقٍ أن السيد وايت تعرَّف عليَّ، وها أنا قد تعرَّفتُ الليلة على سيمار. لم أستطِع تحريك مِقعدي الثابت إلى الخلفِ أكثر؛ لأنه كان مُلتصقًا بالفِعل بالحائط.

لكنَّ سيمار، على العكس، كان يجلِس على أحد الكراسي المُنفرِدة القليلة الموجودة في المكان، وهذا ما أتاح له التحرُّك به للأمام على نحوٍ مُنتظم ليتَمكَّن من الاستمرار في مراقبتي، وهو الأمر الذي جذَب الآن انتباه الآخرين مِثلما جذَب انتباهي. وكلَّما تقدَّم لم أستطع منع نفسي من الإعجاب بكمال تَنكُّرِه فيما يتعلَّق بالملابس. لقد كان نموذجًا مِثاليًّا للمُتشرِّد الباريسي. والأدهى أنه كان يرتدي على رأسه قبَّعةً خاصَّةً بعصابة الأباشي، التي تُعدُّ أخطر العِصابات التي يمكن أن تُبتلى بها أيُّ مدينةٍ مُتحضِّرة. أستطيع تَفهُّم أنه حتى وسط اللاسُلطويِّين المارِقين يُمكن أن يكون لتلك العلامة على الانضمام لتلك العصابات مغزًى كبيرٌ. شعرتُ أن عليَّ — قبلَ أن ينتهيَ الاجتماع — أن أتحدَّث إليه، وقرَّرتُ أن أبدأَ حوارنا بأن أسأله عن سبب تحديقه المُستمرِّ فيَّ. لكن حتى تلك اللحظة كان من الضروري أن يتقدَّم الحوار ببطء. فما كنتُ أجرؤ على التلميح بأنه ينتمِي لجهاز الخدمة السرية؛ ومع ذلك، لو كانت السلطاتُ مسئولةً عن تلك الخطة، لكان من الضروري تمامًا أن نعمل معًا، أو على الأقلِّ أن أعرِفَ أنهم يتجسَّسون عليهم وأُعدِّل مَسار عَمَلي طِبقًا لذلك. إن حقيقة أن سيمار كان يظهر بوجهه الحقيقي دون تنكُّرٍ لم تكن ذات أهميَّةٍ كبيرة كما قد يبدو الأمر في نظر الإنسان العادي.

من الآمن دائمًا بالنسبة للعميل السريِّ أن يُحافظ على مَظهرِه الطبيعي إذا كان ذلك مُمكنًا؛ لأن اللِّحيَة أو الشنب أو الشعر المُستعار مُعرَّض لاحتمال التمزُّق أو عدم الثبات. وكما أوضحت سابقًا، فإن تجمُّع اللاسلطويين حدثٌ يَسودُه جوٌّ من الشك. أعرف مرَّاتٍ جرى فيها الانقضاض على شخصٍ غريبٍ بريءٍ فجأةً، في وسط الوقائع المهيبة للاجتماعات، من قِبل اثنين أو ثلاثة من الأعضاء المُتهوِّرين الذين كادوا ينتزِعون شعرَ لِحيَته مِن وجهه؛ لأنهم شعروا بأنه مُستعار؛ لذا، ما دام سيمار يظهر بلِحيَته الهزيلة وشعره الأشعث، فقد كان يعني هذا أنه كان يتواصَل مع قيادته بطريقةٍ غير مُباشرة. أدركتُ، من ثَمَّ، أن بانتظاري بعضًا من العمل الدبلوماسي الحسَّاس جدًّا إذا تَسنَّى لي أن أعلم منه وضعه الحقيقي. وبينما كنتُ غارِقًا في حيرتي هذه، تبدَّدت هذه الحيرة فجأة بفضْلِ ما قام به رئيس المجموعة، وحلَّت محلَّها حيرة أخرى.

قال الرئيس: «أيسمَح الأخ سيمار بالتَّقدُّم للأمام؟»

أَنزل مرءوسي السابق عينيه عنِّي، وقام ببطءٍ من كرسيه، وتحرَّك ببطءٍ تجاه طاولة الرئيس.

قال هذا المسئول لي بنبرةٍ هادئة: «الأخ دوشارم، أقدِّمُك للأخ سيمار الذي مطلوب منك أن توفِّر له مكانًا آمنًا عندما يُفجِّر الموكب.»

حوَّل سيمار عينيه الجاحِظتين المُريبتين باتِّجاهي، وكشفت ابتسامةٌ عريضة عن أسنانه التي كانت تُشبِه أسنانَ الذئب. مدَّ يدَه فنهضتُ كي أُصافِحه. لم يُصافِحْني بقوَّةٍ وكانت عيناه المُتسائلتان تحوم حولي طوال الوقت.

قال: «إنك لا تبدو كفؤًا لهذه المُهمَّة. ماذا تعمَل؟»

«مُعلِّم لغة فرنسية في لندن.»

قال سيمار بامتعاضٍ وقد بدا أنه لم يكن مُعجبًا على الإطلاق بمظهري: «أف! أعتقد أنك لستَ مُقاتلًا جيدًا.» ثم قال بامتعاض للرئيس: «إن رجال الشرطة سيقبِضون على هذا الرَّجُل بسرعة.»

ردَّ الرئيس بحزم: «إن الجماعة الإنجليزية بالكامل تُزكِّي بشدَّةٍ الأخ دوشارم.»

قال: «أوه، الإنجليز! أنا لا أُقيم لهم وزنًا. ومع ذلك، فهذا لا يُهم.» وهزَّ كتفيه تعبيرًا عن اللامبالاة ثُمَّ عاد إلى كرسيِّه ثانية، تاركًا إيايَ واقفًا هناك في حالةٍ ذهنيَّةٍ مُحرَجَةٍ للغاية؛ كما لو أن عقلي كان يدور في دوَّامة. إن وجود هذا الرجل بمظهره الحقيقي كان مُحيِّرًا بما يكفي، لكن وجوده هنا باسمه الحقيقي كان ببساطة مُدهِشًا. سمعتُ بالكاد ما قاله الرئيس. بدا أنه قال شيئًا مُفادُه أن سيمار سيأخذُني لغُرفته حيث نستطيع أن نتناقَشَ بشأن خُططنا. والآن نهض سيمار من كرسيِّه وقال للرئيس: إن علينا أن نذهب إن لم يكن مطلوبًا منا أيُّ شيء. وبناءً على ذلك تركنا مكان الاجتماع معًا. تفحَّصتُ رفيقي عن قُرب. كانت هناك الآن حماسةٌ مُتردِّدة في أفعاله. ودون أن ينطِق بكلمةٍ، أسرع بي لأقربِ مقهًى حيثُ جلسنا إلى طاولةٍ حديديةٍ صغيرة على الرصيف.

صاح بغِلظة: «أيها النادِل، أَحضر لي أربعَ كئوسٍ من شراب الأفسنتين. ماذا ستشرب يا دوشارم؟»

«قهوة بالكونياك، إذا سمحت.»

صاح سيمار قائلًا: «هراء. الأفضل أن تتناوَل الأفسنتين.»

ثم لعَنَ النادِل لِبطئه. وعندما أتت كئوس الأفسنتين، أمسك بأوِّل كأس، وقد كانت مُمتلئةً للنِّصف، وتجرَّع الشراب كما هو دون تخفيف، وهو شيء لم أرَهُ من قبلُ قط. وبالنسبة إلى الكأس الثانية من الشراب، فقد صبَّ الماء باندفاعٍ من الدَّورَق، وهو شيء آخر لم أرَه أيضًا من قبلُ قط، ووضع قِطعتَين من السُّكَّر فيه، ووضع فوق الكأس الثالثة مِلعقةً مطليَّة مُسطَّحة ومثقوبة، وكوَّم السُّكَّر على هذا الحاجز ثمَّ سمح للماء بالمرور بدقَّةٍ كبيرة، وهذه هي الطريقة الصحيحة لإعداد هذا المَزيج الرائع. وبعد أن انتهى من تناوُل الكأس الثالثة، وضع المِلعقة المثقوبة على الكأس الرابعة وبدأ الآن يرتَشِف على نحوٍ أكثر هدوءًا من الكأس الثالثة مع ترك الماء يسيل ببطءٍ في الكأس الأخيرة.

ثم وقع أمام عينيَّ تغييرٌ أعجَبُ من التحوُّل التدريجيِّ لشراب الأفسنتين الشفَّاف إلى سائلٍ برَّاقٍ غير شفاف؛ فقد تحوَّل سيمار ببطء، تحت تأثير الشراب، إلى سيمار الذي كنتُ أعرِفه منذ عشر سنوات. مُذهل! فمِثلما تَحوَّل في السنوات الماضية من إنسانٍ إلى وَحْش، فقد بدأ الآن يعود لطبيعته البشرية ويتخلَّص من هذا الوَحْش. ارتَسمتْ على عينيه المُحدِّقتين تَعبيراتُ الودِّ الإنسانية. لقد اتَّضح لي على نحوٍ كامِلٍ حلُّ اللُّغز دون طرحِ أيِّ سؤالٍ أو تقديم أيِّ إجابة. لَم يكن هذا الرجُل جاسوسًا، وإنما لاسُلطوي حقيقي. وبِغَضِّ النظَرِ عن الطريقة التي حدَث بها هذا، فقد أصبحَ أحد ضحايا شراب الأفسنتين، وهو واحد من عديدين أعرِفُهم، على الرغم من أنني لَم أقابل قطُّ أحدًا قد تدهورَتْ حالته كما فعل. كان يَتناوَل كأسَه الرابعة وطلبَ كأسين أُخريَين عندما بدأ في الحديث.

قال، وقد ارتَسمتْ على وجهه النَّحيف ابتسامة أشبَهُ بالابتسامة المُحتَضِرة: «نخبنا. أرجو ألَّا تكون قد تضايقتَ مِمَّا قُلتُه في الاجتماع.»

ردَدْت: «أوه، لا.»

قال: «هذا صحيح. كما ترى، لقد كنتُ أنتمي في السابق لجهاز الخدمة السرية، ولو كان رئيسي لا يزال في منصبه اليوم، لوَجدنا أنفُسنا سريعًا في زنزانةٍ بارِدة. فما كان لنا أن نخدَع يوجين فالمونت.»

عندما قال تلك الكلماتِ مُتحدِّثًا بصِدق، اعتدلتُ في جِلستي على الكرسيِّ الذي كنتُ أقعُد عليه، وأنا مُتأكد من أن تَعبيرًا عن السعادة قد لاحَ على وجهي، ولولا أنني قد كبَتُّه على الفور، لكان أمري قد انكشف.

سألتُ بنبرةٍ من اللامبالاة المُصطنعة: «مَن يوجين فالمونت؟»

أومأ برأسه بحكمةٍ وهو يَمزِجُ كأسه الخامسة.

«ما كنتَ ستسأل هذا السؤال لو كنتَ مُقيمًا في باريس منذ عدَّة سنوات. لقد كان كبير المُحقِّقين التابعين للحكومة، وكان يَعرِف عن اللاسُلطويِّين، نعم، وعن عصابة الأباشي أيضًا، أكثر منِّي ومنك. لديه ذكاء أكثر من جميع من يَعملون ويُثرثِرون هناك اليوم. لكن نظرًا لحماقة الحكومة، كما هو الحالُ بالنسبة لكلِّ الحكومات، فقد استَغنتْ عنه. ولأنني كنتُ مُساعِده، فقد استغنَوا عنِّي أيضًا. لقد استغنَوا عن كلِّ فريقه، واختفى هو أيضًا. لو أنني استطعتُ العثور عليه، فما كنتُ لأجلس معك هنا الليلة؛ لكنه كان مُحقًّا في الاختفاء. لقد فعلَتِ الحكومة كلَّ ما تستطيع للنَّيْل من كلِّ من كانوا أصدقاء له، وأنا بالخُصوص كنتُ على وشكِ الموت جُوعًا، وإلقاء نفسي في نهر السين، وهو أمرٌ كنتُ أحيانًا أتمنَّى فِعله. أيها النادِل، كأس أخرى هنا من الأفسنتين. لكنَّني تدريجيًّا أصبحتُ أحبُّ الفقر الشديد، وها أنا ذا على الحالة التي رأيْتَني عليها؛ فأنا أُفضِّل الفقر والأفسنتين على العَيش في لوكسمبورج بدونهما. لقد انتقمتُ لنفسي من الحكومة عدَّةَ مرَّاتٍ من ذلك الحين؛ فأنا أعرِف طُرُقَها وكثيرًا ما استطعت خداع الشرطة. وهذا ما جعل اللاسُلطويِّين يَحترمونني. هل تعرِف كيفَ انضممتُ إليهم؟ كنتُ أعرف كلَّ كلماتِ السرِّ خاصَّتهم، ودخلتُ على نحوٍ مُباشِرٍ إلى أحد اجتماعاتهم، بمفردي وبملابِسَ مُمزَّقة.

قلت: «ها أنا ذا. أدولف سيمار، المُساعد الثاني السابق ليوجين فالمونت، كبير مُحقِّقي الحكومة الفرنسية.»

وجدت عشرين سلاحًا مُصوَّبًا تجاهي على الفور، لكنَّني ضحكت.

صحتُ قائلًا: «أنا أتضوَّر جُوعًا وأريدُ شيئًا آكُله وشرابًا أتناوَله. وفي مُقابِل كلِّ هذا، سأوضِّح لكم كلَّ مَنافِذ الهروب خاصَّتكم. ارفعوا كرسي الرئيس وستجدون بابًا خفيًّا يُؤدِّي إلى شارع بلان. أنا واحد منكم وسأخبركم بكلِّ حِيَل الشرطة.»

تلك كانت بدايتي معهم، ومن تلك اللحظة، بدأَتِ الشرطة في إبعاد جواسيسها عن نهر السين، وقد تركونا الآن وشأننا. وحتى فالمونت نفسه، ما كان لِيستطيع فِعل أيِّ شيءٍ ضِدَّ اللاسُلطويين منذ انضمامي إليهم.»

أوه، عجبًا لغرور الطبيعة البشرية الذي لا يُصدَّق! هذا الهمَجيُّ يذكر عيوب فالمونت، الذي كان قبلها بنصف ساعةٍ يُصافِحه داخل الدائرة الداخلية لجماعته! لكن قلبي لانَ للمُتشرِّد الذي ذَكرَني وذَكر مَناقبي.

أصبح الآن إبعاد سيمار عن المقهى وشراب الأفسنتين مُهمَّةً صعبةً ومقلقةً بالنسبة إلي؛ فكأس تلوَ الأخرى من هذا الشراب القوي أعادته تقريبًا إلى مستواه الفكري السابق، ولكنها الآن جعلته ينهار ثانيةً بسرعة. يجِب أن أعرف مكان غُرفته، غير أنَّني لو انتظرتُ أطول من ذلك فسيكون الرجل في حالة غفلةٍ بسبب السُّكر؛ مما سيجعل من المُستحيل أن يُرشدني لغرفته، بل من المُحتمَل أيضًا أن يجعل الشرطة تقبض علينا نحن الاثنين. جرَّبتُ معه الإقناع، لكنه سخر مني، فحاولت التهديد وحينها تَجهَّم ولعَنَني باعتباري خائنًا من إنجلترا. في النهاية، غلبه الشراب تمامًا، وسقط رأسه على الطاولة المعدِنية ووقعتِ القُبَّعة ذات اللون الأزرق الداكن على الأرض.

•••

شعرتُ باليأس، لكنَّني الآن تعلَّمتُ درسًا مُفادُه أن الإنسان إذا ترك مدينة، حتى ولو لفترةٍ قصيرة، فإنه لا يعرف كيف يتصرَّف داخلها. ناديتُ على النادل وقلتُ له:

«هل تعرف صديقي هذا؟»

ردَّ النادل: «أنا لا أعرِف اسمه لكنَّني رأيته عدَّة مراتٍ في هذا المقهى. يُصبِح غالبًا على هذا الحال عندما يمتلك مالًا.»

«أتعرِف أين يعيش؟ لقد وعد بأن يصحبَني معه إلى هناك، وأنا غريب في باريس.»

«لا تقلق يا سيدي. ابقَ هادئًا، وأنا سأتصرَّف.»

بناءً على ذلك، خرج إلى الرصيف أمام المقهى ومنه إلى الشارع وأطلَق صافرةً خفيضةً ومُميَّزة. لقد كان المقهى الآن شِبهَ خالٍ؛ لأن الوقت كان مُتأخِّرًا جدًّا أو بالأحرى مُبكرًا جدًّا. وعندما عاد النادل، همستُ له بشيءٍ من القلق قائلًا:

«أنت لم تَستدعِ الشرطة. صحيح؟»

صاح بازدراء: «لا! أنا بالتأكيد لم أستدعِ الشرطة.»

أخذ يُدخل الكراسي والطاولات الخالية في غير اكتراث. وبعد بضع دقائق، جاء باختيال إلى المقهى اثنان من أكثر الأوغاد الذين رأيتُهم حقارةً ودناءة، وكان كلٌّ منهما يرتدي قُبَّعةً ذات لونٍ أزرق داكن، وكانت حافَتُها التي تُغطِّي العينين لامعة؛ وكانت القُبَّعتان مُماثِلتين تمامًا للقُبَّعة التي كانت مُلقاةً أمام سيمار. لقد علا شأن عصابة الأباشي وانتشرت في جميع أنحاء باريس بعد رحيلي، وقد أخطأ سيمار قبل ساعةٍ في التأكيد على أن فالمونت كان عالمًا بأوكارهم. إن رئيس الشرطة الحالي في باريس وبعضًا ممن سبقوه في المنصب يعترفون بأن هناك صعوبةً في التَّعامُل مع هؤلاء السفَّاحين المُحنَّكين، وكم كنتُ أودُّ بشدَّةٍ التدخُّل في هذه العملية مُتَّخذًا جانب القانون والنظام. لكن هذا لم يحدُث للأسف؛ ولذلك فإن العصابة في نموٍّ وازدهار.

ضرب المُتشرِّدان بغلظةٍ رأس سيمار المُنكفئ بقبَّعتِه، وبنفس الغِلظة أوْقَفاه على قدَميه.

قلت: «إنه صديق لي وقد وعدَني بأن يأخُذني إلى منزله.»

قال أحدهما: «حسن! اتبعنا.» أخذتُ الآن أسير عبر شوارع باريس في الصباح مُتَّبعًا ثلاثةً من السفاحين، لكنَّني كنتُ أعلم أنني كنتُ حينها آمِنًا أكثر ممَّا لو كنَّا في وَضح النهار، وشمس الظهيرة تسطع علينا. لقد كنتُ آمنًا من جِهَتَين؛ فلم أكن أخشى أذى لصوص مُنتصف الليل، ولم أكن مُعرَّضًا لخطر القبض عليَّ من قِبل الشرطة. إن كلَّ الشرطيين الذين قابلناهم تجنبونا، وحوَّلوا أنظارهم في لامبالاةٍ إلى الجانب الآخر من الشارع. عرجنا إلى حارة ضيِّقة ثم إلى أخرى أضيق منها، وهي التي أدَّت إلى ساحة. دخلنا مبنًى مُرتفِعًا وصعدنا خمسَ مجموعاتٍ من درجات السُّلَّم حتى وصلنا إلى بسطة، حيث فتح أحد الرجلين بابًا أدَّى إلى غرفةٍ شديدة التواضع لدرجة أنها لم يكن لها حتى قِفل يُخفي حالة البؤس التي كانت عليها. ثم ألقَيا بقوةٍ سيمار الغائب عن الوعي على الأرض وترَكانا دون حتى تحيَّة وَداع. إن عصابة الأباشي تهتمُّ بأفرادها — بطريقةٍ أو بأخرى.

أشعلتُ عود ثقابٍ ووجدتُ جزءًا من شمعةٍ محشورًا في فُوَّهة زجاجة أفسنتين قابعة على طاولة خَشِنة المَلمَس يعلوها لوحٌ مِن خشب الصنوبر. أضأتُ الشمعة ونظرتُ في أنحاء الغُرفة البَشِعة. كان يُوجَد في أحد الأركان كومةٌ من قِطَع القماش البالية، التي من الواضح أنها كانت سرير سيمار. سحبتُه إلى هناك، ورقدَ هناك وهو غائب عن الوعي، وكان هو نفسه أشبهَ بحزمةٍ من قِطَع القماش البالية. وجدتُ كرسيًّا أو بالأحرى مقعدًا صغيرًا؛ لأنه كان بلا ظهر. جرَرْتُ الطاولة وأغلقتُ بها الباب الذي كان بلا قِفل، وأطفأتُ الشمعة، وجلست على المِقعد الصغير، مُسنِدًا ذِراعي على الطاولة ورأسي على ذراعي، ونمتُ في سلامٍ لفترةٍ طويلة بعد طلوع الشمس.

استيقظ سيمار في أسوأ حالةٍ مِزاجية مُمكنة. ألقى على مَسامعي مجموعةً مُتنوِّعةً من الشتائم البذيئة. وكأن هذا ليس كافيًا، أزاح قِطَع القماش البالية التي كان نائمًا عليها وأخرج لدائرة الضوء شيئًا مُستديرًا لونه أسود يُشبِه قَذيفةَ مدفعٍ كرويةً صغيرة، وأخبرني أنها هي القُنبلة المصنوعة من حِمض البيكريك، والتي كان من المُفترض أن تقتل أصدقائي الإنجليز الذين كان يُكِنُّ لهم أكبر قدْرٍ مُمكنٍ من الازدراء والبُغض. ثم عدَّل وضع جِسمه وجلس وبدأ يعبثُ بتلك الكرة المُميتة، وهو يعلم، وأنا كذلك، أنه إذا أفْلتَها من يديه، فستكون تلك نهايتنا.

هززتُ كَتِفَيَّ استهجانًا مما يفعله، واصطنعتُ برودًا كنتُ بعيدًا كلَّ البعد عن الإحساس به. لكنني في النهاية وضعتُ حدًّا لهذا المزاح الخطير بأن قلتُ له إنه لو خرج معي، فإنني سأدفع ثمن إفطاره وأُعطيه كأسًا من شراب الأفسنتين.

كانت الأيام القليلة التالية هي الأصعب في حياتي؛ فلم أَعِش من قبلُ بهذا القُرب من قنبلةٍ مصنوعة من حِمض البيكريك، الذي يُعَدُّ إحدى أكثر الموادِّ المُتفجِّرة فتكًا وغموضًا. سرعان ما اكتشفتُ أن سيمار كان مُدمِنًا للأفسنتين لدرجةٍ لا أستطيع معها أن أفعل له شيئًا؛ فهو لا يُمكن رشوته ولا مُداهنته ولا إغراؤه ولا تهديده. ذات مرَّة، في واقع الأمر، عندما كان يتحدَّث بإعجابٍ تحت تأثير الشراب عن يوجين فالمونت، تملَّكتْني فكرةٌ مجنونة بأن أعلن له عن هُويَّتي، لكنني بعد لحظةٍ من التفكير اتَّضح لي عدم جدوى هذا المسار؛ فلم يكن هناك سيمار واحد كان عليَّ أن أتعامَل معه، ولكن كانت له ستُّ شخصياتٍ أو أكثر؛ فقد كان هناك سيمار المُفِيق وسيمار نصف المُفيق وسيمار رُبع المُفيق، وسيمار الثَّمِل وسيمار نصفُ الثَّمِل وسيمار ربع الثَّمِل وسيمار الغارِق في الثَّمالة. إن أيَّ اتِّفاقٍ يُمكن أن أُجريه مع أيٍّ من هذه الشخصيات الستة ما كانت الشخصيات الأخرى لتلتَزِم به. إن الشخصية الآمِنة الوحيدة التي يكون عليها سيمار هي عندما يفقد الوعي من فرط تناوُلِ الشراب؛ لذا قرَّرتُ أن أجعل سيمار يَسكر بشدَّةٍ في صباح يوم العملية، لكنَّ خُططي تبدَّدتْ في اجتماع للَّاسُلطويين، وهو الذي تم لحُسن الحظِّ في مساء أحد الأيام بعد فترةٍ قليلةٍ من وصولي، وهذا منحني وقتًا لتحديد أبعاد الخطة التي جرى تنفيذها بالفعل. إن كلَّ عضوٍ من أعضاء جماعة اللاسُلطويين كان يعرف بإدمان سيمار الشديد للأفسنتين، وكانت هناك مَخاوِف صريحة من إمكانية عدم قُدرته على تنفيذ المُهمَّة في يوم العملية، مع تأخُّر الوقت لإحلال بديل له؛ لذا اقتُرح وجود عضوٍ أو عضوين بطولِ مسار مَوكب الضيوف وبحوزَة كلٍّ منهما قنبلة جاهزة للانفجار في حالة فشل سيمار في مُهمَّته. اعترضتُ بشدَّةٍ على هذا الاقتراح وأكدتُ لهم أن سيمار سيكون مُستعدًّا لإلقاء القنبلة. لم أجد صعوبةً كبيرة في إقناعهم بما أراه لأن كلًّا منهم، في نهاية الأمر، كان يخشى أن يكون من ضِمن المُختارين، حيث كان هذا الاختيار يعني فِعليًّا حكمًا بالإعدام. أكدتُ لهم أن القنبلة سيَجرى إلقاؤها وفُهم من ذلك ظاهريًّا أن سيمار إن لم يقُم بالمُهمة، فسأقوم أنا بها.

بعد إزاحة هذا الخطر، أخذتُ بعد ذلك قياسات القنبلة المصنوعة من حمض البيكريك وقدَّرتُ وزنها. ثم ذهبتُ إلى فنيٍّ أعرفه، والذي كان خبيرًا في مجال الألعاب النارية وما شابه، وكان حِرَفِيًّا عبقريًّا يصنع الألعاب النارية الهائلة الرائعة التي تراها أحيانًا في باريس. لقد قدَّمتُ لهذا الرجل، باعتباري يوجين فالمونت، خدمةً كبيرة، وكان من غير المُحتمَل أن ينساها؛ ففي أثناء أحد أحداث العنف التي قام بها اللَّاسُلطويون، ألقى شرطيٌّ غبيٌّ القبض عليه، وعندما تدخَّلتُ كان الرجل على وشكِ أن يُعدَم. فقد كانت فرنسا، أو بالأحرى باريس، ترتعِدُ في واحدٍ من أحداث الرُّعب التي مرَّتْ بها، وكانت تحتاج إلى ضحايا. صحيح أن هذا الحِرَفِيَّ القصير البريء قد زوَّد المُجرمين بالمواد والمَشورة، لكنَّ أيَّ أحمق كان يُمكن أن يرى أنه فعل هذا بسذاجة؛ فقد طُلبت منه المُساعَدة وقدَّمَها بدعوى أن عُملاءه كانوا يُقدِّمون عرضًا بالألعاب النارِيَّة للهواة، الأمر الذي كان صحيحًا بما يكفي، لكن العرض أدَّى إلى موت ثلاثة أشخاص، وكان هذا مقصودًا من قِبل مَن نفَّذوه؛ لذا وقفتُ بجانب هذا المُواطِن عندما كان في قِمَّة يأسِه وقدَّمتُ هذا الدليل على براءته لمن هم أعلى منِّي مما جعلهم يُطلِقون سراحَه وهم كارِهون على مَضَضٍ شديد. ذهبتُ الآن لهذا الرجل بقياساتي الخاصة بالقُنبلة وتقديري لوزنها.

قلت له: «سيِّدي، هل تذكر يوجين فالمونت؟»

ردَّ بحماسةٍ أسعدتني: «وهل يمكن أن أنساه أبدًا؟»

«لقد أرسلني إليك وهو يلتَمِس منك مُساعدتي، وتلك المساعدة ستُعادِل الجميل الذي أسداه إليك.»

ردَّ الحِرَفِي: «أنا مُستعد، مُستعد للمُعاونة ما دام الأمر غير مُتعلِّق باللاسُلطويين أو صناعة القنابل.»

«إنه مُتعلِّق على وجهِ التحديد بهذين الأمرين. أريدُ منك أن تصنع قُنبلةً غير مؤذية، وهي التي ستمنَع حدوث ضررٍ كبير من قِبل اللاسُلطويين.»

حينها، تراجع الرجل القصير للخلفِ وأصبح وجهه شاحبًا.

أبدى اعتراضه قائلًا: «مُستحيل. لقد سئمتُ القنابل غير المؤذية. لا، لا، وعلى أيِّ حال، كيف لي أن أتأكَّد أنك من طرَفِ يوجين فالمونت؟ لا يا سيدي، أنا لن أُخدَع للمرَّةِ الثانية.»

حينها، سردتُ له بسرعةٍ كلَّ ما فعله فالمونت من أجله، وحتى كرَّرتُ حواراته الأكثر خصوصيَّةً معه. اندهش الرجل بشدَّةٍ لكنه تماسَك.

وقال: «أنا لا أجرؤ على فِعل هذا.»

كنَّا بِمُفردنا في هذا المَتجر الخلفي، فسِرتُ إلى الباب وأغلقتُ الترباس. ثم بعد لحظةٍ من السكون، استدرتُ ومددتُ يدي اليُمنى على نحوٍ درامي وصحت: «انظر، ها هو يوجين فالمونت!»

اندَهشَ صديقي بشدَّةٍ مما جعلَه يترنَّح ويسند ظهره للحائط، واستمررتُ في عرضي بنبرةٍ جادَّة: «يوجين فالمونت الذي بكشفه لتنكُّره يضع حياته في يديك كما كانت حياتك في يديه. والآن يا سيدي، ماذا ستفعل؟»

ردَّ قائلًا: «سيِّد فالمونت، أنا سأفعل أيَّ شيءٍ تطلبه منِّي. لو أنني رفضتُ قبل لحظة، فقد كان هذا بسبب أنَّني اعتقدتُ أن يوجين فالمونت غير موجود الآن في فرنسا ليُصلِح خطئي إن ارتكبتُ واحدًا.»

عدتُ إلى تَنكُّري وقلتُ له إنني أريد بديلًا غير مؤذٍ لتلك القنبلة المصنوعة من حمض البيكريك، واقترَح على الفور استخدام كرةٍ من الفخَّار، يكون وزنُها في مثل وزن القنبلة، ويُمكن تلوينُها لتُشبِهها تمامًا.

«والآن سيد فالمونت، هل تُريد أن يَصدُر دخان من تلك القنبلة الزائفة؟»

قلت: «نعم، بأكبر قدرٍ يُمكنك ضغطه داخلها.»

صاح قائلًا بحماسة فنانٍ فرنسيٍّ حقيقي: «هذا من السهل تنفيذه.» وأضاف: «وهل يجوز لي أن أُضيف بعض الأشياء القليلة التي من ابتكاري، والتي ستُدهِش أصدقاءك الإنجليز، وستُسعِد أصدقائي الفرنسيين؟»

قلت: «سيدي، افعل ما تشاء. أنا أثِقُ في مهارتك في إتمام هذه المُهمَّة على خير وجه.» وبعد أربعة أيام، حصلتُ على الكرة الزائفة واستبدَلتُها بالقنبلة الحقيقية، وأَلقيتُ، دون أن يراني أحد، القنبلة من على أحد الجسور في نهر السين.

في صباح يوم مسير المَوكب، كان عليَّ أن أجعله يَشرَب عدَّة كئوسٍ من الأفسنتين لأجعله يصِل لنُقطةٍ يمكن عندها الاعتماد عليه، وإلا فإن قلقه وعزمه على إلقاء القنبلة، وسُخطه على كلِّ الحكومة، كانا من المؤكَّد أن يؤدِّيا لفضح أمرِنا قبل أن تأتي اللحظة الحاسِمة. لقد كان خوفي الوحيد يتمثَّل في عدَم قُدرَتي على إيقافه عن الشُّرب بمجرَّد أن يبدأ، لكن بدا بصورةٍ ما أن أيام رِفقتنا الحميمية، والتي كانت بَشِعةً بالنسبة إليَّ، كانت تُعيد من جديدٍ التأثير الذي كنتُ أمتلكه عليه في الماضي، وبدا غير مُدرِكٍ على نحوٍ تامٍّ لاستسلامه بنحوٍ أو بآخر لرَغَباتي.

كان موكبُ الضيوف مُكوَّنًا بالكامل من عرباتٍ تجرُّها خيول، يركب في كلٍّ منها أربعة أشخاص؛ بحيث يَجلس إنجليزيان في المِقعد الخلفيِّ ويجلس فرنسيَّان أمامهما. اصطفَّ جمعٌ غفيرٌ على جانِبَي الطريق، يهتفون على نحوٍ صاخب. ألقى سيمار قُنبلته في وسط المَوكِب تمامًا. لم يَصدُر صوت انفجار، بل انكسرتِ الكرة ببساطةٍ كما لو كانت إبريقًا من الفخَّار ثم تصاعَدَ منها عمودٌ كثيفٌ من الدخان شديد البياض. في المنطقة المُجاوِرة مُباشرة، توقَّف الهِتاف على الفور وانتقلت كلمة «قنبلة» المشئومة من شفاهٍ لأخرى في همساتٍ خائفة؛ ونظرًا لأن عمليَّة الإلقاء لم تُلاحَظ في وسط الهَيَاج الشعبي، فقد قبضتُ بقوَّةٍ على رسغ سيمار، وأمرتُه بألَّا يلفِتَ الأنظار إليه برغبته الناتِجة عن الذُّعر والمُتمثِّلة في الهروب الفوري.

همستُ في أُذنه قائلًا: «قف ساكنًا أيها الأحمق!» وقد أطاعني وهو يرتَجِف.

وقف الحصانان اللذان وقعتْ أمامهما القنبلة للحظةٍ على قوائمهما الخلفيَّة، وبدا عليهما علامات الفزَع والجُموح، لكن سائق العربة أمسك بلجامِهما بحزم، ورفع يدَه حتى يتوقَّف الرَّكب خلفه مؤقتًا. لم يُحرِّك أحدٌ في العربات ساكنًا، ثم فجأةً تبدَّدَ التوتُّر بفعل هتافٍ كبير ومُتزامن. تعجَّبتُ من هذا وحوَّلت عينيَّ من الحصانين الخائفين إلى عمود الدخان الباهِت الموجود أمامنا، ورأيت أنه على نحوٍ ما تحوَّل إلى زَهرة زنبق كالا ضخمة، خالصةِ البياض، وانبثق من أسفلِ هذا، الزنابق التي ترمُز إلى فرنسا، ذات ألوانٍ رقيقة. بالطبع، ما كان يُمكن أن يحدُث هذا إذا كان هناك أدنى قدْرٍ من الريح، لكن الهواء كان ساكنًا جدًّا لدرجة أنَّ الارتجاج الناتِج عن الهتاف جعل زهرة الزنبق الضخمة تهتزُّ بِخفَّة وهي تنتصبُ مُتَّزنةً على نحوٍ مُدهش؛ زهرة زنبق السلام وتُحيط بها الزنابق التي ترمُز إلى فرنسا! كان هذا هو التصميم، وإذا سألتني كيف نُفِّذ، فيُمكن فقط أن أُحيلك للحِرَفيِّ الذي أنجزَه، وأقول لك: إن أيَّ شيءٍ يُحاول شخصٌ فرنسيٌّ أن يقوم به يُنجِزه على نحوٍ فني.

والآن وقف هؤلاء الإنجليز الرابطو الجأش، الذين كانوا يجلسون دون حِراكٍ عندما اعتقدوا أنه جرى إلقاء قنبلة، في عرباتهم ليَحصُلوا على رؤيةٍ أفضل لتلك الظاهرة الهوائية، وأخذوا يهتفون ويُلوِّحون بقُبَّعاتهم. أخذتِ الزهرة تتضاءلُ وتختفي في تجمُّعاتٍ صغيرة من السحاب كانت تمرُّ فوق رءوسنا.

قال سيمار مُتذمِّرًا ومُرتعدًا وأعصابه مُدمَّرة، شأنه تمامًا: «أنا لا أستطيع البقاء هنا لفترةٍ أطول. أرى أشباح من قتلتُهم تحوم حولي.»

«إذن تحرَّكْ، لكن لا تُسْرع.»

لم تكن هناك صعوبة في نقله إلى لندن، لكنَّه كان يتناول طوال الطريق كئوسًا من الأفسنتين، وعندما وصلْنا محطَّة تشارينج كروس، كان عليَّ أن أُساعده على استقلال عربة أجرة؛ نظرًا لأنه كان شِبهَ غائبٍ عن الوعي. أخذته مُباشرةً إلى مبنى الإمبريال ثم إلى شقَّتي، حيث فتحتُ باب الغرفة التي كانت بمنزلة زِنزانةٍ وطرحته بالداخل؛ لينام حتى يزول أثرُ سُكره، ويقتات على الخبز والماء عندما يَستفيق.

حضرت في تلك الليلة اجتماعًا للاسُلطويين وذكرتُ بالتفصيل قصَّةَ هروبنا من فرنسا. أعرف أننا كنَّا مُراقَبين؛ ولذلك لم أُغفل أيَّ تفصيلة. قلتُ لهم إنَّني أخذتُ سيمار مُباشرةً إلى شقَّة واحدٍ من أبناء بلدي؛ يوجين فالمونت، الرجل الذي وفَّر لي فرصة عمل، ووعد بفِعل كلِّ ما يستطيع من أجل سيمار، بدايةً من مُحاولة مُساعدته للإقلاع عن عادة مُعاقرة الأفسنتين، حيث إنه قد انهار بدنيًّا؛ بسبب إدمانه الشديد لهذا الشراب.

من المُثير للاهتمام ذِكر تفاصيل النِّقاش الذي حدثَ بعدَ بضع ليالٍ بشأن فشَل العملية. قال العُلَماء من بيننا: إن القنبلة قد صُنِعت منذ فترة طويلة جدًّا فحدَث تفاعلٌ كيميائي بداخلها أدَّى إلى إضعاف تأثيرها، ورأى بعض الأعضاء المؤمنين بالخُرافات أن مُعجزةً قد حدثت وتركوا المنظمة على الفور. علاوةً على ذلك، سهَّل الأمورَ اختفاءُ الرجل الذي صنع القُنبلة، في اليوم السابق على سير المَوكب، والذي من الواضح أنه قد أصابه فزَعٌ شديد من جرَّاء ما حدث، وقد انقطعتْ أخباره منذ ذلك الحين. كان غالبية اللَّاسُلطويين يعتقدون أنه صَنع قُنبلةً زائفة، وأنه اختفى هربًا من انتقامهم وليس تجنُّبًا لعدالة القانون.

لن يحتاج سيمار إلى دخول المُطهِّر في العالم الآخر للتطهُّر من ذنوبه؛ فقد جعلتُه يعيش على الخُبز والماء لشهرٍ في زنزانتي. طلب في البداية تناوُل الأفسنتين مع بعض التهديد، ثم خنَع وأخذ يَستجْدِيني ويتوسَّل إليَّ لأجعله يشربه، وبعد ذلك مرَّت به فترة من الإحباط واليأس، لكن في النهاية بدأت بِنيَةُ جسمه القوية بطبيعتها في استعادة قوَّتها وبناء نفسها من جديد. أخذته في مُنتصف ليل أحد أيام حبسه ومَنحتُه سريرًا في غُرفتي بحيِّ سوهو، مع الحِرص أثناء نقله على ألَّا يتعرَّف على الإطلاق على المكان الذي حُبس فيه. في تعاملي معه، كنتُ دائمًا ذلك الرجل العجوز، بول دوشارم. قلتُ له في صباح اليوم التالي: «لقد تحدَّثتَ عن يوجين فالمونت، وقد علمتُ أنه يعيش في لندن وأنصحُك بأن تزوره؛ فلرُبما يستطيع إيجاد عملٍ لك.»

طار سيمار فرحًا، وبعد ساعتين استقبلتُه في شخصيَّة يوجين فالمونت في شقَّتي، وجعلته مُساعدي على الفور. ومنذ ذلك الحين، اختفى بول دوشارم مُعلم اللغة الفرنسية من الوجود، وهجَرَ سيمار الشيئَين اللذين كان يُدمِنهما؛ الفكر اللاسُلطوي وشراب الأفسنتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤