ساعة … التحرك

خبرٌ صغير في إحدى الجرائد الصباحية هو الذي دفع «أحمد» للذهاب إلى قسم المعلومات في المقر السري، ليحصل على بحث عن «حرب الميكروبات» … كان الخبر يقول: «إن الثروة الحيوانية في إحدى الدول العربية مُهدَّدة بالفناء، فالحيوانات يُصِيبها مرضُ النوم حتى يُفقِدها القدرةَ على الحركة، كما فقدت شهيتها … وتظل جائعة حتى تنتهي!» جلس «أحمد» في غرفته يقرأ ذلك البحث، إلا أنه لم يكد يستغرق فيه، حتى دخلت «إلهام»، وعلى وجهها ابتسامة طيبة، وسألته ماذا يقرأ، فأخبرها ثم دقَّ الجرس معلنًا لاجتماع سريع.

جاء صوت رقم «صفر» مرحِّبًا بالشياطين، ثم صمت قليلًا، ليقول: إن جرائد الصباح حملت خبرًا صغيرًا اليوم … إن الخبر يقول، إن الثروة الحيوانية لإحدى الدول العربية مهددة بالفناء!

عاد إلى الصمت مرة أخرى، وعندما بدأ يتكلم، ظهرت خريطة جمهورية السودان، وما حولها من دول أخرى، فوق اللوحة المستطيلة المضيئة.

وأكمل رقم «صفر»: إن الخبر الذي نُشر جاء متأخرًا، لقد حاولت جمهورية السودان إخفاء الخبر مؤقتًا، حتى تصل إلى نتيجة، وحتي يمكن أن تضع يدها على شيء، وقد وصلت إلينا، منذ شهور، نتائج الجهود المضنية التي تبذلها جمهورية السودان، لتتغلب على هذا المرض الخطير الذي يكاد يفني ثروتها الحيوانية … إن ما يحدث بالضبط، هو أن الحيوانات هناك لا تأكل، لأنَّها تصاب بمرض يطلق عليه اسم «مرض النوم»، وهذا المرض يحدث نتيجة جرثومة، تدخل جسم الحيوان عن طريق جهازه التنفسي فتصيبه بالمرض، وتشل حركة جهازه الهضمي أيضًا، وتكون النتيجة في النهاية هي موت الماشية بأعداد ضخمة، حتى أصبح التخلص من جثثها مشكلة أخرى، فهذه الجثث التي تتعفن وتتحلل يمكن أن تنشر أمراضًا تؤثر على السكان هناك!

صمت رقم «صفر»، وبدأت بعض الأسهم الحمراء تنتشر فوق الخريطة لتحدد المساحة التي تقع فيها تلك الحرب، وفي نفس الوقت قال رقم «صفر»: إننا نعرف أن شركة عربية كبيرة كانت ستقوم في السودان برأسمال عربي، لاستصلاح الأراضي الشاسعة هناك، حيث تجود الزراعة، لوجود المياه والمناخ المناسبين … وقد أُعدت الدراسات، لقيام هذه الشركة التي تساهم فيها الدول العربية كلها، والتي تحتاج للإنتاج الزراعي، ثم فجأة، ظهر مرض النوم، الذي أوقف قيام الشركة مؤقتًا … فبجوار الشركة الزراعية، كانت ستقوم شركة صناعية لتعليب المنتجات الزراعية والحيوانية … وقد أثبتت تحريات عملائنا أن هناك عصابة خلف انتشار مرض النوم بين الحيوانات للقضاء عليها، وبهذا المفهوم، لا تكون الحرب ضد الثروة الحيوانية السودانية فقط، بل إنها أيضًا ضد الدول العربية كلها، التي تقوم باستيراد احتياجاتها الزراعية والحيوانية من دول غربية وشرقية متعددة.

توقف رقم «صفر» عن الاسترسال في الحديث قليلًا، واختفت الأسهم الحمراء من فوق الخريطة، ثم ظهرت انفجارات صفراء اللون، أشار إليها رقم «صفر» بقوله: هكذا يحدث مرض النوم؛ فإن أفراد العصابة يقومون بتفجير قنابل خاصة، عديمة الصوت، تحمل ملايين الجراثيم والبكتريا، في مساحة معينة، وهم يأخذون اتجاه الريح، لحمل هذه الجراثيم المدمرة إلى حيث توجد الأعداد الكبيرة من الماشية، التي تتنفسها فتصاب بالمرض في دقائق، حيث تؤثر هذه الجراثيم على جهازها التنفسي والهضمي.

ظلت الانفجارات تتوالى على الخريطة، بينما كان الشياطين يتابعونها … كانت الذرات الصغيرة البالغة الدقة تنتشر مع الرياح، لتغطي مساحة واسعة، وبسرعة حسب قوة الرياح … ثم ظهرت أسهم صغيرة، تحدد كيفية انتشار الجراثيم، وفي جانب من الخريطة ظهر رسم توضيحي لبقرة، تتنفس، ثم تلك الحركات العصبية التي تصيبها، حتى تنام، ثم تنتهي.

كان رقم «صفر» يقلب بعض التقارير التي وصلت إلى المقر من عملاء رقم «صفر»، أخيرًا قال: إن المعروف أن عددًا من الشركات الأجنبية يعمل في السودان، وهذا ما يجعل مهمتكم عسيرة، ففي الوقت الذي تقوم فيه بعض الشركات بإقامة منشآت هناك، مصانع، أو مزارع حديثة، يمكن أن تكون هناك شركات أخرى، تتحرك في اتِّجاه عكسي، بمعنى أنها تقوم بشن تلك الحرب!

صمت رقم «صفر»، وكان الشياطين قد انتهوا من متابعة ما يحدث فوق الخريطة، وأخذوا يستمعون، فقال رقم «صفر»: إن ما يحدث في جمهورية السودان، لا يحدث في أي دولة أخرى مجاورة لها، فالهدف محدد، كما أن العدوى يمكن أن تمتد إلى جمهورية مصر، فإن سرعة الرياح يمكن أن تنقل تلك الجراثيم إليها، فالحدود واحدة كما ترون.

صمت قليلا ثم أضاف: إن حرب الميكروبات ليست جديدة في تاريخ البشرية، فالبعض يعودون بها إلى ما قبل الميلاد، غير أنها أصبحت سلاحًا فعالًا في الحرب العالمية الثانية، وكان الألمان، أول من فكر فيها … وقد استخدمتها أمريكا في حرب فيتنام على نطاق واسع، ضد الحياة كلها، الإنسان، والحيوان والنبات، حتى إنها كانت تبيد قرى بأكملها، أو غابات بأكملها، حتى يظهر الثوار …

وخطورة هذا السلاح الرهيب أن استخدامه لا يتوقف عند حدود الدول الكبرى فقط، فالدول الصغرى هي الأخرى يمكن أن تستخدمه لأنه قليل التكاليف، بالقياس إلى تكاليف الأسلحة الأخرى … إنني في النهاية لا أريد أن أحدثكم عن تاريخ هذا السلاح المخيف، ومع «أحمد» دراسة واسعة عنه … وقسم المعلومات في المقر يضم وثائق هامة، إن كنتم تحتاجون معرفة كل شيء عن هذا السلاح!

عندما كانت أعين الشياطين تلتقي عند «أحمد» كان رقم «صفر» يقول: لقد استطاع «أحمد»، بحاسة شمه القوية للخطر، أن يتبين مغامرتنا القادمة!

ابتعد صوت أقدام رقم «صفر»، بينما استغرق الشياطين في خواطرهم … إلا أن «إلهام» قالت: أهنئك يا عزيزي «أحمد»!

ابتسم «أحمد»، وقال: إن التهنئة مؤجلة حتى الانتهاء من المغامرة!

ضحك «باسم»، وقال: أرجو ألا ننام نحن أيضًا.

فضحك بقية الشياطين.

علقت «زبيدة»: إنها حرب غريبة فعلًا، أن ينام الإنسان إلى الأبد! وفي منتهى الراحة!

قال «أحمد»: إنهم يسمونها الحرب المريحة!

قال «رشيد»: ومتى كانت الحرب مريحة؟ إنها خسارة في النهاية، فما دامت هناك حرب، فهناك خسائر في الطرفين!

عاد رقم «صفر»، ليقول لهم: لقد قُتل أحد الخبراء الذين دعتهم حكومة السودان، لبحث ما يحدث. إن البروفيسور «داندي» الذي قُتل يعتبر واحدًا من أهم الخبراء في الحرب الكيماوية، وهناك ثلاثة آخرون في السودان الآن يقومون بأبحاثهم على تلك الحرب، وما دام قد قُتل واحد، فمن الضروري أن تحدث محاولات أخرى للتخلص من الباقين … يبدو أن العصابة الجديدة فرع في العصابة الأصلية «سادة العالم».

مرت لحظات صمت، ولم يكن عند الشياطين ما يمكن أن يسألوا عنه، وأخيرًا قال رقم «صفر»: أتمنى لكم التوفيق.

سألت «ريما» «أحمد»: هل هناك فارق بين «حرب الكيماويات» و«حرب الميكروبات»؟

مرت لحظة قبل أن يجيب «أحمد»: لا يوجد فارق، إنها في النهاية الحرب المريحة!

«ريما»: ولماذا سُميت هذه «حرب الكيماويات»، وتلك «حرب الميكروبات»؟

«أحمد»: الكيماويات تشمل الغازات السامة والخانقة والمُسيلة للدموع والملونة … أما الميكروبات فتشمل البكتريا والجراثيم. وهي سلاح كامل، بين أسلحة الجيوش اليوم.

قالت «هدى»: لكن هذه الأسلحة، محرمة دوليًّا!

ابتسم «أحمد» وقال: في الحرب، لا يوجد شيء محرم … إنَّها الدمار في النهاية، الدمار للإنسان، وحضارته.

عندما أصبح «أحمد» في حجرته عاد بسرعة إلى البحث الذي كان يقرؤه، وعَلَت الدهشة وجهه، فقد وقعت عيناه على رقم تفحصه طويلًا، ثم أخذ يقرأ الفقرة التي احتوت الرقم، كانت الفقرة تتحدث عن عدد الجراثيم والبكتريا التي توصَّل إليها سلاح الحرب الغريبة، كان الرقم ١٦٠، وردد «أحمد» بينه وبين نفسه: إلى هذا الحد يقوم الإنسان بتدمير نفسه؟!

لم يكد ينتهى من جملته، حتى كانت تعليمات رقم «صفر» قد وصلت إليه، مكتوبة بالحبر السري فوق اللوحة الصغيرة المثبتة أعلى جهاز الإرسال.

كانت التعليمات تحدد المجموعة التي سوف تتحرك، وكانت المجموعة تضم: «أحمد»، و«عثمان» و«مصباح»، و«زبيدة»، و«خالد»، وكانت ساعة التحرك «م».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤