لغز الشبح المشتعل

١

وقف هتشينسون هاتش، الذي يَعمل صحفيًّا، بِجوار مَكتب مُحرِّر الأَنباء المَحليَّة، يُدخِّن وهو ينتظر بفارغ الصبر ذلك السيد النشيط المُفعَم بالحيوية كي يُبلغه بعددٍ من الأمور. لطالما كان مُحرِّرو الأنباء المحليَّة مُنشغلِين بأمورٍ كثيرة؛ إذ تُعد مِهنة قياس نَبض العالَم مِهنةً كثيرة الأعباء. وأخيرًا ظهر مُحرِّر الأنباء المحلية هذا من وسط كَومةٍ من الأشياء الأخرى، والتقط ورقةً كتب عليها بعض الرموز الهيروغليفية الغريبة، التي تُمثِّل صورته الخاصة من فن الكتابة.

سأل: «هل تخشى الأشباح؟»

أجاب هاتش: «لا أعرف. لم يسبق أن قابلتُ أحدها.»

قال المُحرِّر مُوضحًا: «حسنًا، تبدو قصةً جيِّدة. إنه بَيتٌ مسكون. لا أَحد يستطيع العيش به؛ إذ تقع به وقائعُ غريبةٌ من شتَّى الأَنواع، من ضَحكاتٍ شيطانيةٍ وتأوُّهاتٍ وأشياءَ أخرى. المَنزل مملوك للسيد إرنست ويستون، ويَعمل سمسارًا. من الأفضل أن تَتَّجه إليه بنفسك وتُلقي نظرةً عليه. إذا وَجدتَ الأَمر مُبشِّرًا، يُمكِنك أن تُمضي به ليلةً لِكتابة مقال الأحد. لستَ خائفًا، أليس كذلك؟»

أجابَ هاتش وهو لا يزال يبتسم قليلًا: «لم أَسمعْ من قبلُ أن شبحًا أَصاب أحدًا بأذًى. وإذا أصابني هذا الشَّبح بأذًى، فسيُصبح الخَبر أَفضل.»

وهكذا اتجَهَت الأَنظار إلى أَحدث الألغاز المُروِّعة لبلدةٍ صغيرةٍ تقع بجوار البحر، لَم تَخلُ تمامًا في الماضي من الأَلغاز المُروِّعة.

في غُضون ساعتَين كان هاتش هناك، وسرعان ما وجد منزل ويستون القديم؛ إذ كان معروفًا. كان عبارةً عن هيكل من طابقَين قَويِّ البِناء، يقف شامخًا منذ ستين أو سبعين عامًا على مُنحدرٍ صَخريٍّ يُطِل على البحر، في مُنتصف قطعة أرض تبلغ مساحتها عشَرة فدادين أو اثنَي عشَر فدانًا. كان مَهيبًا حين تنظر إليه من بَعيد، ولكن عند مُعاينته عَن كَثَبٍ تجده مُهدَّمًا آيلًا للسقوط، من الخارج على الأقل.

ودُون أن يسأل أحدًا في القرية، صَعِد هاتش طريق المُنحدَر الصَّخريِّ مُتجهًا إلى المنزل القديم، مُتوقِّعًا أن يجد أحدًا قد يمنحه الإذن بمُعاينته، ولكنْ لم يكنْ يُوجد أَحد؛ بل كانت الكآبة والظلام المُطبِقانِ يُخيِّمان عليه، وكانت جميع النوافذ والأبواب مُؤصَدةً بقوة.

لَم تَلقَ طَرقاتهُ القَويةُ على الباب الأماميِّ أيَّ استجابة، ثُمَّ أَخذ يَهُز مِصراع إحدى النوافذ دون جَدوى. بَعدها لَفَّ حَول المنزل مُتجهًا إلى الخَلف، وهُناك وَجد بابًا رَاح يَطرُقه، ولكنْ بلا مُجيب أيضًا. حاوَلَ فَتْحه، ودَخلَ. وَقفَ في المَطبخِ، كان رَطبًا، باردًا يَسودهُ الظلامُ بِفعلِ النوافذ المُغلَقة.

أَلقى نظرةً خاطفةً على هذه الغُرفة، ثُمَّ مضى في طريقه عَبْر رَدْهةٍ خَلفيةٍ مُتجهًا إلى غُرفة الطعام، أصبَحَت مَهجورةً الآن، بَعدَ أن كانت في وقتٍ ما مكانًا مُريحًا ومُجهَّزًا بأَثاثٍ أَنيق. كانت أَرضيتها الخَشبيَّة الصلبة يُغطِّيها التراب، وكانت البرودة التي خَلَّفها هَجْر المكان تَسوده بالكامل. لم يكن ثَمَّةَ أَثاث، لا شيء إلا الأتربة التي تراكَمَت تلقائيًّا.

من هذه النقطة، من عند باب غرفة الطعام، استَهلَّ هاتش ما هو أشبه بِدراسةٍ لِلطِّراز المعماري الداخلي للمكان. كان على يَساره باب؛ كان بابَ حُجرة المُؤَن وأدوات المائدة الخاصة بكبير الخَدَم. وكان يُوجد مَمرٌّ يُفضي إلى المطبخ الذي كان قد غَادرَه لِتوِّه، على بُعد ثَلاث خُطوات.

كان أَمامه مُباشَرةً مِرآةٌ ضَخمةٌ على الجِدار بين نافذتَين، بِارتفاعِ سَبعِ أَقدام، أو ربما ثَمان، وعَرضٍ مُماثِل. وعلى الجدار الذي في نهاية الحُجرة إلى يَساره وَجدَ مِرآةً أُخرى بالحَجم نَفسه. ومِن غُرفة الطعامِ مَرَّ إلى الغُرفة المُجاورة عَبر مَدخلٍ واسع، جَعل الغُرفتَين وكأنَّهما غُرفةٌ واحدةٌ تقريبًا. كانتِ الغُرفةُ الثانيةُ، حَسَب اعتِقاده، أَقربَ إلى غُرفةِ مَعيشة، ولكنْ لم يَكنْ بها أيضًا أيُّ شَيءٍ خلاف الأتربة المُتراكِمة، ومِدفأةٍ ذاتِ طِرازٍ قديمٍ ومِرآتَين طويلتَين. كانتِ المِدفأةُ إلى يَساره مُباشَرة عندما دَخلَ، وكانتْ إِحْدى المِرآتينِ أمامَه مُباشَرة بينما الأُخرى إلى يَمينه.

في نهاية الغُرفة، بِجوار المِرآة، وَجد مَمرًّا ذا حجمٍ أَكبرَ قليلًا منَ المُعتاد، كان فيما مَضى يُغلَق ببَابٍ مُنزلِق. عَبَر هاتش هذا المَمرَّ إلى بَهو استقبال المنزل القديم. وهنا، إلى يَمينه، كان يُوجد البَهوُ الرئيسيُّ الذي يَتصِل ببَهو الاستِقبالِ بِواسطة مَمَر، وعَبْر هذا المَمَر رأى سُلَّمًا عَريضًا قَديمَ الطِّراز يُؤدِّي إلى الطابق العُلوي. وإلى يَسارِه وَجد بابًا مُغلقًا ذا حَجمٍ عادي، حاول أن يفتحه، وفتحه بالفعل. حدَّق داخل غُرفةٍ كبيرة خَلْف هذا الباب. كانت هذه الغُرفة هي المكتبة، وكانت تفوحُ برائحة الكُتبِ والخَشَب الرَّطْب، ولمْ يكن بها أي شيء، ولا حتى مَرايا.

خَلف البَهو الرئيسيِّ كان ثَمَّةَ غُرفتان فقَط، إحداهما غُرفة رسم لها الأبعاد العَريضة التي كان أهلنا القدماء يعشقونها، فَقدَت أَجزاؤها المُذهَّبة بَريقها، وغَطى التُّراب زَخارفها الرائعةَ. وخَلْف هذه الغُرفة، قُرب الجُزء الخَلْفي من المنزل، كانت تُوجد رَدْهةٌ صَغيرة. لمْ يكُن بها ما يَلفِت انتباهه، فصَعِد إلى أعلى. وبَينَما هو ماضٍ في طريقه استطاع أن يَصل بِبصره عَبْر المَمَر إلى بَهو الاستقبال وُصولًا إلى باب المكتبة الذي كان قد تَركَه مُغلقًا.

كان الطابقُ العُلوي يحوي أَربعة أو خمسة أَجنحةٍ فَسيحة. رأى هنا أيضًا وَلَع مَالك المنزل بِالمَرايا مَرَّة أُخرى في الغُرف الصغيرة المُخصَّصة لارتداء الملابس. وبَينَما كان يَمُر بالغُرفة تِلو الأخرى رَسَّخَ تَرتيبها جَميعًا في ذهنه، ثُمَّ على الورق لدراستِه، وذلك حتى يَستطيع، إن استَدعى الأَمرُ، مُغادَرةَ أي جُزء من المنزل في الظلام. لمْ يكن يعرف إن كان هذا سيحدُث أم لا، لكنه مع ذلك قد يكون ضَروريًّا، ومن هُنا جاء الاهتمام؛ وهو الاهتمام ذاتُه الذي أَبْداه وهو في الطابق السُّفلي.

بَعد مُعايَنةٍ سريعةٍ أُخرى للطابق السُّفلي، خرج هاتش مُتخذًا الطريقَ الخَلفيَّ المُؤدِّي إلى الإسطبل. كان على بُعد بِضع مئاتٍ من الأَقدام خَلف المنزل، وكان ذا طِرازٍ مِعماريٍّ أَحدَث. كان الجزء العُلوي، الذي يَتمُّ الوصول إليه عَبْر سُلَّمٍ خارجي، يَحوي غُرفًا مُعدَّةً للخَدم. أَلقى هاتش نظرةً على هذه الغُرف، ولكنَّها بَدَت هي الأخرى مهجورةً لِسنواتٍ عَديدة. أمَّا الجزء السُّفلي من الإسطبل فقَد وَجدَه مُعدًّا لإيواءِ نِصف دزينة من الخُيول، إلى جانب ثلاث أو أربع مصائد.

«لا يُوجد هنا ما يُخيف أحدًا.» كان هذا هو ما دار بِذهنهِ عندما غادَر هذا المكانَ القديم وعاد أدراجَه إلى القَرية. كانت الساعةُ الثالثةَ بَعد الظُّهر. كان هدفُه أن يَعرفَ كُل ما يُمكِنه الوصولُ إليه عن «الشبَح»، والعَودة في تلك الليلة لمُتابعةِ التطوُّرات.

اتَّجهَ إلى مَكتب الاستعلامات المَعهود لِلقرية، والذي تَمثَّل في شُرطيِّ البلدة، وهو رَجلٌ عَجوزٌ أَشيبُ في السِّتينَ من عُمره، كان يُدرك أَهمِّيته بِوَصفه مُديريَّة الشرطة بأَكملِها، وكان يَحفَظ عن ظهر قَلبٍ كل المَعلومات وكل ما يُقالُ من نَمائم، وإنْ طالها التَّحريف بِدرجةٍ ما، على مَدى أَجيالٍ عديدة.

ظَلَّ العَجوزُ يَتحدَّث على مدى ساعتَين — إذ كان يَسعد بالحديث — وبَدا توَّاقًا لفُرصةٍ رائعةٍ كتلك التي أتاحها له الصحفي. استَخلص هاتش منَ الحديثِ تلك الأشياء التِي قد تكون ذاتَ قِيمةٍ في مَقاله؛ وهي ما أراد.

حَسَب ما قاله الشُّرطي، يَبدو أن منزل ويستون ظَل مَهجورًا لخمس سنوات، مُنذ وَفاة والد إرنست ويستون، المالِك الحاليِّ للمَنزل. ولكنْ قبلَ أسبوعَين من ظُهور الصحفيِّ هُناك، جاء إرنست ويستون بِرُفقةِ أَحدِ المُقاولِين لمُعاينةِ المَنزلِ القديم.

قال الشُّرطي بحَصافةٍ: «نَفهَم من هذا أن السيد ويستون سوف يَتزوَّج عمَّا قريب، وفي اعتِقادِنا أنه بِصَدد تَجهيزِ المَنزلِ لِيكونَ منزلَه الصيفيَّ مُجددًا.»

سَألَ هاتش، بوصف ذلك خبرًا: «مَن سيَتزوَّج في اعتقادِك؟»

كانت إجابته: «الآنسة كاثرين إيفرارد، ابنة كيرتس إيفرارد، أَحدِ المَصرفيِّينَ ببوسطن. أَعلمُ أنه اعتاد مُواعَدتَها قبل وفاة العجوز، ويقولون إنها مُنذ ظهورها في نيوبورت وهو يقضي معها وقتًا طويلًا.»

قال هاتش: «آه، فَهمْتُ. كانا على وَشكِ الزَّواجِ وجاءا إلى هنا؟»

قال الشرطي: «هذا صحيحٌ، ولكن لا أَعرفُ متى؛ نظرًا لظُهور قِصةِ الشَّبحِ هذه.»

قال هاتش: «آه، نعم، الشبح. حَسنًا، ألم تبدأ أَعمال الإصلاح مُجدَّدًا؟»

أجاب: «بلى، ليس بالداخل. كان ثَمَّة بعضُ الأَعمالِ في الأَساس — خلالَ فَترة النهار — ولكن لَيسَ الكثير، وأَعتقِد أنه سيمُر وقتٌ طويلٌ قبلَ الانتهاءِ من العمل برُمَّته.»

«ما قِصةُ الشَّبحِ إذن؟»

قال الشُّرطي العَجوز: «حَسنًا.» ثُمَّ مَسَّد ذَقنَه مُتأمِّلًا وأَكملَ قائلًا: «تَبدو قِصةً عَجيبةً. بَعد بِضعةِ أيَّامٍ من مَجيءِ السيد ويستون إلى هنا، جاءت مَجموعةٌ منَ العمال، مُعظمُهم إيطاليُّون، من أَجلِ العمل، وقَرَّروا النَّومَ في المنزل — كنوع من التخييم — إلى أن يَتسنَّى لهم إصلاحُ تَسريبٍ في الإِسطبل والدُّخولُ إليه. وقد وَصلوا في وقت مُتأخر بَعد الظهيرة، ولم يَقوموا بالكثير في ذلك اليوم سوى دُخولِ المَنزلِ، وصَعدوا جميعًا إلى الطابقِ العُلويِّ لقَضاءِ لَيلتِهم. في حَوالي الساعةِ الواحدةِ سَمِعوا بَعضَ الضجيجِ في الطابقِ السُّفلي، انتَهى بسماع شَتى أنواعِ الجَلبة والصَّرخاتِ والتأوُّهاتِ، وبِطبيعةِ الحالِ نَزلوا لتَفقُّد الأَمر.

حينئذٍ شاهَدوا الشَّبح. كان في بَهو الاستِقبال، حَسبَ أَقوالِ بَعضِهم، بَينَما قَال آخرونَ إنَّه كانَ في المَكتبة، ولكنَّه كان مُوجودًا على أيِّ حال. وغادَر الجَمعُ برُمَّته بأَسرع ما يُمكن، وناموا على الأَرض في تِلك الليلة، وفي اليوم التالي حَملوا مُتعلقاتهم وعادوا إلى بوسطن. ومُنذ ذلك الحين لم يسمع أَحدٌ عنهم شيئًا.»

«أيَّ نَوعٍ من الأَشباحِ كان هذا؟»

قال الشُّرطي: «آه، كان شَبحًا لرجُل يَبلغُ طُوله تِسعَ أقدام، وكان مُشتعِلًا من رَأسهِ حتى قدمَيه وكأنه يَحترق. كان في يَده سكِّينٌ طويلٌ وكان يُلوِّح مُهددًا إيَّاهم بِها. لم يَتوقَّفوا كثيرًا للمُجادَلة، ورَكضوا بعيدًا، وفي أَثناءِ رَكضهم سَمعوا الشَّبحَ يَضحكُ ساخرًا منهم.»

ردَّ هاتش بتعليقٍ ساخرٍ نوعًا ما: «أظُن أنه كان مُستمتعًا. هل رأى أيٌّ من سُكان القَرية هذا الشَّبح؟»

أجاب مُقطِّبًا: «كَلا، أعتقد أننا على استعدادٍ للوثوق بهم في هذا الشأن.» ثم أَردفَ يَشرحُ في تردُّد: «لأنه لم يَسبق أن ظَهر شَبحٌ هنا من قبلُ قَط. إِنَّني أخرج وأفحص المكان بعد الظهيرة كل يوم، ولكن كُل شيء يبدو على ما يُرام، ولم يسبق لي أن ذهبتُ إلى هناك ليلًا؛ فهذا بَعيد تمامًا عن خَط سَيري المُعتاد.»

قال هاتش متأملًا: «شَبحُ رَجل بِيده سكِّينٌ طويل. مُشتعل، كأنه يَحترِق؟ يبدو ذلك مثيرًا. إنَّ الشَّبحَ الذي يَعرف عَملَه جيدًا لا يَظهَر مُطلقًا إلَّا في مَكان وَقعتْ فيه جَريمةُ قَتل. هل سَبق أن شَهد ذلك المنزلُ جريمةَ قَتل؟»

أجاب العَجوز: «حِين كنتُ صبيًّا صغيرًا سَمعتُ أن جريمة قَتلٍ — أو شيئًا من هذا القَبيل — قد وَقعَت هناك، ولكنْ لا أظُن أنَّ أَحدًا هنا يتذكَّرها ما دمتُ لا أَتذكَّرها أنا. لقَد وَقعَت ذاتَ شِتاء ولم تكُن عائلة ويستون هُناك. ثَمَّة شيءٌ آخرُ أيضًا عن مُجوهراتٍ وألماس، ولكني لا أَتذكَّرُه.»

سأل الصحفي: «حقًّا؟»

«أَجلْ، شيءٌ يَتعلَّق بِشخصٍ حاولَ سَرقةَ الكثير من المُجوهرات، بَلغَت قيمتُها مائة أَلف دولار. لا أَعرِف أحدًا أَعار الكثيرَ من الانتباهِ لهذه المسألة. فقد سَمعتُ عنها فقَط حين كنتُ صبيًّا، أيْ مُنذ خمسينَ عامًا على الأَقل.»

قال الصحفي: «فَهمْت.»

في التاسعة مساءَ تلك الليلة، وتَحت غِطاءٍ من الظلام الحالِك، تَسلَّق هاتش المُنحدرَ الصَّخريَّ مُتجهًا نَحو مَنزل ويستون. وفي الواحدة جاء يَركض هابطًا التلَّ وهو يَنظر نَظراتٍ خاطفةً من فوق كتِفهِ من وقتٍ لآخر. كان وَجهُه شاحبًا إثرَ خوفٍ لم يَعرفْه من قبلُ قَط، وكانت شَفتاهُ شاحبتَين أَيضًا. وما لَبِث هتشينسون هاتش، ذلكَ الشابُّ الواهنُ القُوى، أنْ دَخل غُرفتَه في فُندق القَرية حتى أضاء مِصباحًا بيدَين مُرتجفتَين، وجَلس بعينَين مُحدِّقتَين حتى طُلوع الفَجر.

لقَد رأى الشَّبحَ المُشتعل.

٢

كانت الساعةُ العاشرةَ صباحًا حين قام هتشينسون هاتش بزيارةِ البروفيسور أوجستس إس إف إكس فان دوسن، المعروف بآلةِ التَّفكير. كان وَجهُ هاتش لا يَزال شاحبًا، ويَكشفُ عن أنه لم يَنمْ إلا قليلًا، إن كان قد راوَد النومُ جَفنه منَ الأساس. أَخذ آلةُ التفكير يُحدِّق فيه لِلحظة بعينَين نِصف مُغمضتَين عَبر نظَّارته السَّميكة، ثُمَّ اتَّخذ مَقعدًا.

تساءل: «حَسنًا، ما الأَمر؟»

قال هاتش مُعترفًا بعد دقيقة: «أنا خَجلانُ من القُدومِ إليك. إنه لُغزٌ آخر.» وكان في حَديثه نَبرةُ تَردُّد يَشوبُها الحَرج.

«اجلِس وأَخبِرني به.»

اتخَذ هاتش مَقعدًا مُقابِلًا للعالِم.

وقال أخيرًا بابتسامةٍ خَجولة: «لقد كنتُ خائفًا، خائفًا إلى حدٍّ مُريع بَشع. وجئتُ إليك لأَعرفَ ما الذي أَخافني.»

صاح آلةُ التفكير مُندهشًا: «يا إلهي! يا إلهي! ما الأَمر؟»

رَوى له هاتش قِصةَ المنزل المسكون من بِدايتها كما يَعرفُها؛ كيفَ عايَن المَنزل نهارًا، وما وَجَده بِالضبط، وقِصةَ الجَريمة القَديمة والمُجوهرات، وحقيقةَ أن إرنست ويستون بِصدَد الزواج. وكان العالِم يُنصِت باهتمام.

قال هاتش: «كانتِ الساعةُ التاسعةَ مَساءً في تلك الليلةِ التي ذَهبتُ فيها إلى المَنزل لِلمَرَّة الثانية. ذهبتُ مُتأهبًا لشيءٍ ما، ولكنْ ليس لِمَا رأيتُ.»

قال الآخرُ مُنفعلًا: «حَسنًا، استَمِر.»

«دخلتُ المنزل وَسَط ظلام دَامس. اتخذْتُ مَوضعًا على دَرجات السُّلم؛ إذ كانوا قد أَخبروني أنَّ … أنَّ … هذا الشيءَ — يُشاهَد من السُّلم، وفكَّرتُ أن المكانَ الذي شُوهِد فيه مَرةً سوف يُشاهَد فيه مَرَّةً أُخرى. كنتُ قد افترضتُ أنه ظِل، أو ضَوءُ القَمر، أو شيءٌ من هذا القَبيل؛ لذا جَلستُ مُنتظرًا في هُدوء. لستُ شَخصًا عَصبيًّا بطَبعي؛ أَعني أنَّني لم أكُن كذلكَ قطُّ حتى تلكَ اللحظة.

لم أُحضر معي أيَّ مَصدر للضَّوء. كان الوقتُ الذي انتَظرتُه هناك يَبدو بلا نهاية؛ إذ ظَللتُ أُحدِّق بنَظري داخل غُرفةِ الاستقبال في اتجاهِ المَكتبة. وأخيرًا، وبَينَما كنتُ أُحدِّق في الظلام، سَمعتُ ضَوضاء، أَجفلَتْني قليلًا، ولكنَّها لم تُخِفني؛ لاعتقادِي أنه فأرٌ يَجري على الأَرض.

ولكنْ بَعد فَترة من الوقت سَمعتُ أَبشعَ صَيحة سَمعها إنسانٌ على الإطلاق. لم تكُن أَنينًا ولا صَرخةً — مُجرَّد — مُجرَّد صَيحة. حينئذٍ، عندما هَدأَت أَعصابي قليلًا، إذا بِشكلٍ — شَكلٍ أَبيضَ مُتوهجٍ يَحترق — يَظهر منَ العَدم أمام عَيني في غُرفة الاستِقبال. كان يَتشكَّل بالفِعل وتَتجمَّع أَجزاؤه بينما كنتُ أَنظر إليه.»

ثُمَّ تَوقَّف لبُرهة، وعدَّل آلةُ التفكير وَضعيَّته قليلًا.

«كان شَكلًا لرجُل، حَسبما بَدا، طولُه حَوالي ثَماني أَقدام. لا تظُن أَنَّني أَحمق. أنا لا أُبالِغ. كان أَبيضَ تمامًا وبَدا يَشعُّ نورًا فاتحًا سماويًّا طيفيًّا، كان يزدادُ ابيضاضًا كُلما نظرتُ إليه. لم أَرَ لهذا الشيء وَجهًا، ولكنْ كان له رَأس. بَعد ذلك رأيتُ ذراعًا مَرفوعةً وكان في يَده خنجَرٌ مُشتعلٌ كاشتعال الشَّبح.

في هذه اللحظةِ تَحوَّلتُ إلى جَبانٍ مَذعورٍ صاغر؛ لم يكُن خَوفي مِما رأيتُه، بل كان من غَرابته. وبعد ذلك، وبينما كنتُ لا أَزالُ أَنظر إليه، رَفع — الشيءُ — يَده الأُخرى، وأمامَ عَيني كَتب في الهواء بإصبعه — انتَبِه، على سَطح الهواء — كلمةً واحدة: «احذَر!»»

سأل آلةُ التفكير: «أكان خَطَّ رجُل أم امرأة؟»

أعادتِ النبرةُ العمليةُ هاتش إلى أرض الواقع، بعدها تَملَّكه الخوفُ مُجددًا، فضَحكَ بِفُتور.

وقال: «لا أَعرف، لا أَعرف.»

«أَكْمِل.»

«لم أَعهدْ نَفسي جبانًا من قبلُ، وبِالتأكيد لستُ طفلًا كي أَخاف من شيءٍ يُحدِّثني عقلي بأنه ليس مُمكنًا، وعلى الرغم من خوفي، أجبرتُ نفسي على التَّحرُّك. فكَّرتُ أنه لو كان الشيءُ رَجلًا، فلستُ خائفًا منه رغم الخنجَر وكلِّ شيء؛ ولو لم يكُن رجلًا، فلن يَستطيعَ أن يُصيبني بأذًى.

قَفزتُ الدَّرجاتِ الثلاثَ إلى أسفلِ السُّلم، وبَينَما كان الشيءُ واقفًا هناك مُشهرًا خنجَره، ويُشير بإِحدى يدَيه نَحوي، هُرعتُ نَحوه. أَعتقِد أنَّني لا بُد وأنَني صَرختُ؛ إذ لديَّ شكٌّ في أَنَّني قد سَمعتُ صَوتي. ولكن ما إذا كنتُ قد سَمعتُه بالفِعل أم لا، لستُ …»

وتَوقَّفَ مرَّة أُخرى. كان واضحًا أنه يَبذل جهدًا للَمْلَمة شتات نفسه. كان يَشعر وكأنه طفل؛ وكانتْ عَينا آلةِ التفكير الباردتان نِصف المُغمضتَين مُسلَّطتَين عليه في استنكار.

«بعد ذلك اختَفى الشيءُ بمُجرَّد أن بَدا أنني قد وضَعتُ يَدي عليه. تَوقَّعتُ أن أَتلقَّى منه طَعنة خنجَر. وفَجأةً، وأمام عَيني، وبينما كنتُ أُحدِّق به، إذ بي أَرى نصفه فقط. سَمعتُ الصيحة مُجدَّدًا، واختَفى النِّصفُ الآخر، وصارَت يَدي قابضةً على الهواء.

لم يكُن ثَمَّة شيء في المكان الذي كان الشيءُ واقفًا فيه. كنتُ مُندفعًا بشدَّة، لدرجة أنَّني تَجاوزتُ النُّقطة التي كان الشيء واقفًا فيها، ووجَدتُ نَفسي أَتخبَّط في الظلام في غُرفة لم أُميِّزْها لِثانية. ولكنِّي عَرفتُ الآن أنها المَكتبة.

في هذا الوقت كان الذُّعر قد أفقَدني صوابي. فحَطمتُ إحدى النَّوافذ وخَرجتُ منها. ومن هناك، وحتى وصولي إلى غُرفتي، لم أَتوقفْ عن الرَّكض. لمْ أَستطع. فلمْ أكُن لأَعود إلى غُرفة الاستِقبال ولو مُقابلَ كل ملايين العالَم.»

أَخذَ آلةُ التفكير يَعبثُ بأَصابعِه في كَسل، بينما جَلس هاتش يُحدِّق به وفي عينَيه تَساؤُل قَلق مُتلهِّف.

وأخيرًا سَأل آلةُ التَّفكير: «إذنْ حين رَكضتَ وانصرف الشيء أو اختَفى وجدتَ نفسك في المَكتبة؟»

«نَعمْ.»

«إذن لا بُد أنَّك قد رَكضتَ من غُرفة الاستقبال عَبر الباب دُخولًا إلى المكتبة؟»

«نعم.»

«هَل تَركتَ ذلك الباب مُغلقًا في ذلك اليوم؟»

«نعم.»

عاد الصمتُ مَرةً أُخرى.

سأل آلةُ التفكير: «هل شَممتَ أيَّ شيء؟»

«لا.»

«أتظُن أن الشيء، كما تُسمِّيه، لا بُد وأنه كان عند الباب؟»

«نَعم.»

«الأَمرُ السيِّئ أنك لم تُلاحظ الخَط؛ بمعنى إن كان يَبدو خَطَّ رجُلٍ أم امْرأة.»

أجابه: «أظُن أنَّ لديَّ عُذري في إغفال ذلك في تلك الظروف.»

تابَع آلةُ التفكير حديثه قائلًا: «قُلتَ إنك سمعتَ شيئًا اعتقدتَ أنه لا بُد أن يكون فأرًا. ماذا كان هذا الشيء؟»

«لا أَعلمُ.»

«هل كان به أيُّ صَرير؟»

«لا، لَيسَ ذلك ما لاحظتُه.»

فكَّر العالم: «لقَد مرَّتْ خَمس سنوات مُنذ كان المنزل مأهولًا. كم يَبعد عن الماء؟»

«إنَّ المكان يُطل على الماءِ، ولكنَّ الطريق من الماء إلى المنزل عِبارةٌ عن مَصعدٍ مُنحدرٍ يَبلغ طوله حوالي ثلاثمائة ياردة.»

بَدا هذا الوصف المُتعلِّق بمُلابَسات ما حدث مُقنعًا لآلةِ التفكير.

«حين عاينتَ المنزل نهارًا، هل لاحظتَ إن كانت أيٌّ من المَرايا مُغبرة؟»

كانتْ إجابتُه: «أَعتقِد أنها جَميعًا كانت مُغبرَّة. فما من سبب يدعو لأن تكون غَير ذلك.»

قال العالم في إصرار: «ولكنك لم تلاحظ أن بعضًا منها كان مغبرًا؟»

«كلَّا، كُل ما لاحظتُه هو وُجودها فحَسب.»

جَلس آلةُ التفكير طويلًا يُحدِّق في السَّقف، ثُمَّ سأل فجأةً:

«هل رأيتَ السيد ويستون، مالك المنزل؟»

«كلَّا.»

«اذْهب لرُؤيته واعرِف ما سيقولُ عن المكان، وجريمةِ القتل، والمُجوهرات، وكُل ذلك. ستَختلِف الظروف لوِ افترضْنا، مَثلًا، أن هناك ثَروةً من المجوهرات مُخبَّأةً في مكانٍ ما، أليسَ كذلك؟»

قال هاتش: «بلى، بلى.»

«مَن هيَ الآنِسةُ كاثرين إيفرارد؟»

«إنها ابنةُ أَحد المَصرفيِّين هنا ويُدعى كيرتس إيفرارد. كانت مَلِكة جمال نيوبورت لِموسمَين. أَعتقِد أنها الآن في أوروبا، رُبَّما لِشراء جِهاز العَروس.»

قال آلةُ التفكير، وكأنَّه يُنهي الحديثَ: «اعرِفْ كُل شيء عنها، وما سيقوله السيد ويستون، ثُم عُد إلى هنا.» ثُم أضاف: «آه، بالمُناسَبة، ابحَثْ في تاريخ عائلة ويستون. كَم كان عَدد الوَرثة؟ ومَن هُم؟ كَم كان نَصيب كلٍّ منهم. كُل هذه الأَشياء. هذا كُل شيء.»

انصَرفَ هاتش، وقَد صارَ أَكثرَ هُدوءًا واطمئنانًا عمَّا كان عليه عند وصوله، وبَدأ العملَ في اكتشاف كُل تلك الأُمور التي طَلبها آلةُ التفكير، وقَد باتَ واثقًا الآنَ أنه سيكون هناك حَلٌّ للُّغز.

في تلك الليلة مارَس الشَّبح المُشتعل حِيَلًا جديدة؛ فقَد ذَهب شُرطي البَلدة، مَدعومًا بستة من أَهل القَرية، إلى المكان في مُنتصف الليل، وكان الشَّبح بنفسه في انتظارهم في الفِناء. ومَرةً أُخرى شُوهد الخنجر، وسُمِعت الضحكة الشبحيَّة والصيحة المُريعة مُجددًا.

صاح الشرطيُّ في تَوتُّر: «استَسلِم وإلَّا أَطلقتُ النار.»

كان الردُّ ضحكة، ثُمَّ شَعر الشرطي بشَيءٍ دافئ المَلمس يَتناثَر على وَجهه، وشَعر به آخرون من الجَمع أيضًا، وراحوا يُجفِّفون وجوههم وأياديهم، وبواسطة ضَوء المصابيح الضعيفة التي كانوا يَحملونها تفَحَّصوا مناديلهم وأياديهم. بَعد ذلك فَرَّ الجمعُ في فَوضى عارمة.

لقَد كان الدِّفء الذي استَشعَروه هو دِفءَ الدَّم؛ دَم أَحمر حَديث.

٣

عَثر هاتش على إرنست ويستون يَتناول الغَداء مع سَيد آخر في الواحدة من ذلك اليوم. قُدِّم السيِّد الآخرُ إلى هاتش بأنه جورج ويستون، أَحدُ أبناء عُمومته. وعلى الفَور تَذكَّر هاتش جورج ويستون بِسبب أعمالٍ بعَينها غَير مألوفةٍ قام بها في نيوبورت قبلَ موسم أو نَحو ذلك؛ وكذا بوصفه أَحدَ وَرثة مُمتلَكات عائلة ويستون الأصلية.

تذكَّر هاتش أيضًا أنه في الوقت الذي كانت فيه الآنسةُ إيفرارد تَحظى بِمكانةٍ بارزةٍ اجتماعيًّا في نيوبورت، كان جورج ويستون أَكثرَ خُطَّابِها غَيرةً. وأُشيعَ أنهما كانا مُرتبطَين بعلاقةِ خِطبة، ولكنها قُوبلتْ باعتراض من والدها. نظر هاتش إليه بفُضول؛ كان وَجهه يَحمل مَلامح التهتُّك وعدم الاستقامة على نَحو واضح، ولكنْ كان يَحمل لَمحةً لا تُخطئها عين من دماثة وكياسة رجلِ المجتمع الكريم الأصل.

كان هاتش يَعرف إرنست ويستون مثلما كان ويستون يَعرف هاتش؛ فقد التقيا كثيرًا خلال السنوات العشْر التي عَمل فيها هاتش مُراسلًا صحفيًّا، وطالما كان ويستون مُجاملًا له. كان الصحفي في ريبة بشأن إثارة الموضوع الذي كان يَبحثُ عن إرنست ويستون من أجله، ولكنَّ السِّمسار نفسه هو من أثاره وهو مُبتسم.

سَأل بِلُطف: «حَسنًا، ماذا لديك هذه المَرَّة؟ الشَّبح الذي ظَهر على ساحل الجنوب، أم زَواجي الوَشيك؟»

أجاب هاتش: «كِلاهما.»

تَحدَّث ويستون طَوعًا عن خِطبته الآنسة إيفرارد، وقال إنَّها كانت ستُعلَن بَعد أسبوع، وهو الوقتُ المُقرَّر أن تعود فيه إلى أمريكا قادمةً من أوروبا، ومن المُزمَع أن يَتمَّ الزواج بعد ثلاثة أو أربعة أشهر، دون تحديد الموعد.

سأل الصحفيُّ: «وأَعتقِد أن المنزل الريفيَّ كان يُعَد لكي يكون منزلًا صيفيًّا؟»

«أَجلْ. لقَد كنتُ أعتزم عمَل بعض الإصلاحات والتغييرات هناك، وتَأثيثَه، ولكنِّي الآن أَعرِف أن شبحًا قد تَدخَّل في الأَمر وتَسبَّب في تأجيله.» ثُمَّ تَساءلَ وعلى وَجهه ابتسامةٌ واهنة: «هل سمعتَ الكثير عن قصة الشَّبح هذه؟»

أجاب هاتش: «لقَد رأيتُ الشَّبح.»

سَألَ السِّمسار: «رأيتَه؟»

ردَّد جورج ويستون الكَلماتِ ومالَ إلى الأَمام كي يُنصِت لما يُقال، وقد تَجدَّد الاهتمامُ في عينَيه. أَخبرَهما هاتش بما حَدث في المنزل المَسكون بكل تفاصيله، وأَنصَتا بكُل اهتمام، بنَفس الدرجة من الحماس واللَّهفة.

صاح السِّمسار مُندهشًا حين أنهى هاتش حَديثَه: «يا إلهي! وبمَ تُفسر ذلك؟»

قال هاتش بنَبرة مُباشِرة وصارمة: «ليس لديَّ تفسير. لا يُمكِنني تَقديم حَلٍّ مُمكِن. أنا لست طِفلًا كي أُخدعَ بوهمٍ عادي، ولستُ بالطبيعة التي تَجعلُني أَتوهَّم أشياء، ولكنْ لا يُمكِنني تقديمُ أيِّ تفسير لهذا.»

قال جورج ويستون: «لا بُد أنها خُدعةٌ من نَوعٍ ما.»

قال هاتش: «كنتُ واثقًا من هذا، ولكن إن كانت خُدعةً، فهي أَبرعُ خُدعة رَأيتُها على الإطلاقِ.»

تَطرَّق الحَديثُ إلى قِصة المُجوهرات المَفقودة القديمة، ومأساةٍ وَقعتْ في المنزل قَبل خَمس سنوات. كان هاتش يُوجِّه الأسئلةَ بتَوجيهٍ من آلةِ التفكير، لم يكُن هو نفسه يَفهم مَغزاها، ولكنَّه طَرحها.

قال السِّمسار صَراحةً: «حَسنًا، إن القِصةَ الكاملة لذلك الأَمر، أَعني المأساةَ التي حَدثتْ هُناك، من شَأنها أن تَفتحَ فَصلًا قَديمًا في عائلتي ليس به ما يُخجل بالطبع، ولكنَّه يَظل شيئًا لم نَلتفتْ إليه كثيرًا لِسنوات. رُبَّما كان جورج أَكثرَ دِرايةً منِّي به؛ فقد كانت والدتُه، التي كانت عَروسًا آنذاك، تَسمعُ القِصةَ من جَدَّتي.»

نَظرَ إرنست ويستون وهاتش في تَساؤلٍ إلى جورج ويستون، الذي أَشعلَ سِيجارةً جديدة ومالَ على الطاولة نَحوهما. كان مُتحدثًا رائعًا.

بَدأَ الحَديث قائلًا: «كنتُ أَسمعُ أُمي تَحكيها، ولكن ذلك مُنذ وقتٍ طويل. ولكنْ، حسبما أذكر، يَبدو أن جَدِّي الأكبر، الذي شَيَّد المنزل، كان رَجلًا ثَريًّا بمقياس تلك الأيام؛ إذ بلَغتْ ثَروتُه حوالَي مليون دولار.

كان جُزء من هذه الثَّروة، لنقُل حوالي مائة ألف دولار، في شكل مجوهرات، جاءت مع العائلة من إنجلترا. الكثير من تلك القِطع ستكون أغلى قِيمةً مما كانت عليه آنَذاك؛ بسبب قِدَمها. أستطيع القول إنها لم تَكن تُلبس إلَّا في المُناسَبات الرسميَّة، ربما مَرَّةً في العام.

من فَترة لأُخرى بَدتْ مُشكلة الحفاظ عليها في مَأمنٍ مُشكلةً عصيبة. كان ذلك قبلَ ظُهور صناديق الودائع الآمنة. فابتَكرَ جَدِّي فكرة إخفاء المجوهرات في المكان القَديم على ساحل الجنوب، بَدلًا من الاحتفاظ بها في المنزل الذي كان يَملكه في بوسطن. وهكذا أَخذَها إلى هُناك.

في هذا الوقت كان الناس يُضطَرون إلى السَّفر عَبْر ساحل الجنوب، جنوب بلدة كوهاسيت على أيِّ حال، عَبْر مركَبة الجياد. كانت عائلة جَدِّي آنذاك في المدينة، حيث كان الوقتُ شِتاءً؛ لذا خاض الرحلة بِمُفرده. كان يعتزم الوصول إلى هناك ليلًا، كي لا يَلفت الأنظار إليه، لإخفاء المجوهرات في مُحيط المنزل، على أن يُغادر إلى بوسطن مُجدَّدًا في تلك الليلة نفسها بواسطة أبدال من الجياد كان قد أعدها. ولم يَعرف أَحدٌ ماذا حَدث تحديدًا بعد أن غادر مَركبة الجِياد، جنوب كوهاسيت، إلا عن طريق الحَدْس.»

تَوقَّف المُتحدِّث لبُرهة وأعادَ إشعال سِيجارته.

«في صباح اليوم التالي وُجد جَدِّي الأَكبرُ فاقد الوَعي ومُصابًا إصاباتٍ خَطيرةً في شُرفة المنزل، وقد تَهشَّمتْ جُمجمتُه. وفي داخل المنزل عُثر على رجلٍ مَيِّت. لم يكن أحد يَعرف هُويَّته؛ إذ لم يَسبق لأحد ممَّن يَقطُنون في مُحيط عِدَّة أَميال من المكان أنْ رآه.

أدَّى هذا إلى ظُهور تَخمينات من شَتى الأَنواع، كان أَكثرها مَنطقيَّة، والذي طالَما كانتِ العائلةُ مُتقبِّلة له، أنَّ جَدي الأَكبرَ ذَهب إلى المنزل في جُنح الظلام، والتَقى هناك بشخص كان مُتوقفًا هناك في تلك اللَّيلةِ لِلاحتماءِ منَ البَرد القارِس، وأنَّ هذا الرَّجل علم بأمر المجوهرات، وحاوَل سَرقتها منه، ودارت بينهما معركةٌ هناك.

قُتل الغريب في هذه المَعركة داخل المنزل، وحاوَل جَدِّي أن يُغادِر المنزل بَعد إصابته بَحثًا عن الإغاثة، فانْهارَ في الشُّرفةِ حيث وُجد، ولَقيَ حَتفَه دون أن يَسترد وَعيه. هذا كل ما نَعرفُه أو نَستطيعُ تَخمينَه على نَحو مَنطقي بشأن تلك المسألة.»

سأل الصحفي: «هل عُثر على المُجوهَرات؟»

«كلا؛ فلم تكن بحَوزة الرجل الميِّت، ولم تَكُن بحَوزة جدِّي.»

سأل إرنست ويستون: «من المَنطقي إذن أن نَفترض وُجود شخص ثالث، وأنه هرب بالمجوهرات؟»

«يَبدو الأَمرُ كذلك، ولِفترةٍ طويلةٍ كانت هذه النظريَّة مَقبولة. وأَظنُّها مقبولة الآن، ولكن ثَمَّة بَعض الشَّك يَكتنِفها بالنظر إلى حقيقةِ وجود آثار أقدامٍ لشخصَين فقَط تُؤدِّي إلى داخل المنزل دون وجود أيِّ آثار أَقدامٍ خارجةٍ منه. كان الجليد كثيفًا على الأرض، وإذا لم يَكن ثَمَّة آثارُ أقدامٍ خارجةٍ منه، فمن المُستحيل بالطبع أن يكون أَحدٌ قد خَرج منه.»

خَيَّم الصمت مُجددًا، وأَخذ إرنست ويستون يَرتشِف قَهوتَه ببُطء.

وأخيرًا قَطعَ إرنست ويستون الصمت قائلًا: «يَبدو من ذلك أنَّ المجوهرات قد أُخفِيت قبلَ وُقوعِ هذه المأساة، ولم يُعثَر عليها مُطلقًا.»

ابتَسمَ جورج ويستون.

ثم قال: «لقد خَضع المكانُ للتفتيش بين الحِين والآخر طَوال عِشرينَ عامًا، وَفقًا لرواية والدتي؛ فقد حَفرتْ كُل بوصة من القَبو، وتَمَّ تفتيش كل رُكن وزاوية يُمكِن البحث فيها. وفي النهاية أصبح الأمر برُمَّته ذِكرى في أذهان مَن يَعرفونه، وأَشُك إن كان قد أُشير إليه مُجددًا حتى هذه اللحظة.»

سأل السِّمسارُ: «وحتى الآنَ لن يكونَ للبحث أيُّ جَدوى، أليس كذلك؟»

ضَحِك جورج ويستون بِصوتٍ عالٍ.

ثُمَّ قال: «ربما، ولكن يُخامرني بعضُ الشَّك؛ فالشَّيءُ الذي ظَل يُنقَّب عنه على مدى عشرين عامًا لن يُعثَر عليه بسُهولة.»

بَعد فَترة من الوقت تَقبَّل الجميعُ الأَمر وتغافَلوا عنه.

قال السِّمسار أخيرًا: «ولكن مَسألة الشَّبح هذه. أنا مُهتمٌّ بتلك المَسألة. لِنفترضْ أننا سنُشكِّل فريقًا للبحث عن الشبح ونَتوجَّه إلى هناك اللَّيلةَ. إن مُقاوِلي يقول إنَّه لا يَستطيعُ إحضارَ عُمال للعمل هناك.»

قال جورج ويستون: «كنتُ سأَسعَد بالذهاب إلى هناك، ولكنَّني أَتدرَّب من أَجل حفلِ فاندرجيفت الراقصِ المُقامِ في بروفيدنس اللَّيلة.»

سأل السِّمسار: «ماذا عنك يا هاتش؟»

قال هاتش: «نعم، سأَذهَب.» ثُمَّ أضاف مبتسمًا: «كفَردٍ ضِمن فريقٍ.»

سأل السِّمسار: «حسنًا، لنفترضْ إذنْ أنَّ الفريق سيَتكوَّن منَ الشُّرطي وأنتَ وأنا؟ هل نَذهب اللَّيلة؟»

«اتَّفقْنا.»

وبَعد إجراءِ الترتيبات اللازمة لمُقابلة السِّمسار في وقتٍ لاحقٍ من بَعد ظُهر ذلك اليومِ، هُرِع إلى آلةِ التَّفكير. أَنصتَ العالِم إليه ثُمَّ استأنفَ اختِبارًا كيميائيًّا كان يُجريه.

سأل هاتش: «ألا يُمكِنك أن تَذهبَ معَنا اللَّيلة؟»

قال الآخر: «لا؛ فأنا ذاهبٌ لقراءة ورقةٍ بحثيَّةٍ أمام إحدى الجمعيَّات العلمية وإثباتِ حماقة أحد الكيميائيِّين في شيكاجو. وسوف يَستغرق منِّي فترة المساء بأكملها.»

قال هاتش في إصرار: «أيناسبك غدًا ليلًا؟»

«لا، الليلة التي تَليها.»

كان ذلك يوافق الجمعة ليلًا، وكان ذلك وقتًا مُناسبًا تمامًا بالنسبة إلى المَقال المقرَّر نَشره يوم الأحد. اضطُر هاتش للقَبول بهذا، ولكنه توقَّع أنه سيَتوصَّل إلى حلٍّ يُنهي به الأمر كُله. لم يَخطُر بباله قَط أنَّ أيَّ مُشكلة في الواقع تَتجاوز القُدرات العقليَّة للبروفيسور فان دوسن.

استقل هاتش وإرنست ويستون قطارًا ليليًّا في مساء ذلك اليوم، وعند وصولهما إلى القرية أخذا يَستثيران حَميَّة شُرطي البلدة.

سألاه: «هل ستذهب معنا؟»

سألهما في المقابل قائلًا: «وهل كِلاكما ذاهب؟»

«أَجل.»

فقال الشرطي توًّا بلا تَردُّد: «إذن سأذهب.» وضَحك ضحكة ازدراء وقال: «هذا الشبح! سوف يكون في السجن بحُلول الصباح.»

قال ويستون مُحذرًا إياه: «لا تُطلِق أيَّ نيران الآن. لا بد أن يكون ثَمَّة شخصٌ ما وراء هذا مُختبئًا في مكانٍ ما؛ نحن نَعي ذلك، ولكن ليس لدينا دِرايةٌ مُؤكَّدةٌ بوجود جريمة. وأسوأ جريمة قد يكون قد ارتَكبَها هي التعدِّي على أملاك الغَير وانتهاك الحرمات.»

أجاب الشرطي، الذي كان لا يزال يَتذكَّر حين أُلقيَ الدَّم — الدَّم الدافئ — في وجهه: «سوف أتعامل معه على النَّحو الصحيح. ولستُ واثقًا للغاية من عَدم وجود جريمة.»

في حَوالَي الساعة العاشرة من تلك الليلة، دخل الرجال الثلاثة إلى المنزل البغيض في جُنح الظلام، واتَّخذوا مَوضعًا على الدَّرج حيث كان هاتش جالسًا حين رأى الشيء، أيًّا كانت ماهيَّته. وانتظروا هناك. كان الشرطي يَتحرَّك في عصبيَّة من حينٍ لآخر، ولكن لم يكُن أيٌّ من الاثنَين الآخرَين يُعيره أيَّ انتباه.

وأخيرًا ظَهر الشيء. كان ظُهوره مَسبوقًا بصوت شَيءٍ يَجري على أرضيَّة المنزل، ثُمَّ فجأةً ظَهر شكلٌ أبيضُ مُشتعلٌ بدأ يَتحوَّل إلى كِيان مُتكامل في غُرفة الاستِقبال. كان كما وصَفَه هاتش تمامًا لآلة التفكير.

نظَر الرجال الثلاثة مَذهولِين بينما رفع الشكلُ إحدى يديه مشيرًا إليهم، وكَتب كَلمة في الهواء، في الهواء فِعليًّا. كانت الإصبع تُلوِّح فحسب، وهناك كانت الحروف تَطفو أمامهم مُشتعلةً في الظلام الدامس. وفي هذه المَرَّة كانت الكلمة: «الموت».

تَذكَّر هاتش، الذي كان يقاوم بخوفٍ تَملَّكه مُجددًا، بصُعوبةٍ أن آلة التفكير قد سألَه إن كان الخَط لرجل أم امرأة؛ ومن ثَمَّ راح يُحاول لكي يتحقق من ذلك. كانت الكلمة وكأنها مرسومة على سَبُّورة، وكانت الحروف مَثنيَّة على نحو غريب من أسفل. وراح يَتنشَّق ليرى إن كانت ثَمَّةَ رائحةٌ من أيِّ نوع. ولكن لم يكن هناك أيُّ روائح.

فجأةً شَعرَ بحركةٍ سريعةٍ قويَّةٍ من جانبِ الشرطي من خَلفه. كان ثَمَّة جَلبَةٌ ووَميضٌ يَبرُق في الهواء؛ فأدرك أنَّ الشرطي أطلق النار على الشيء. حِينئذٍ جاءت الصيحة والضحكة — كانت ضحكة شبه ساخرة — اللتان سمِعهما من قبلُ. تباطأ الشَّبَح في حَركتِه لبُرهةٍ، وبَعدها اختفى وسَط الظلام الحالك مَرةً أخرى أمام عينَيه. لم يكن هناك شيء في المكان الذي كان واقفًا فيه.

لم تُؤتِ طلقة الشرطي أيَّ أَثَر.

٤

عَبَر الرجال الثلاثة — وقد عَصفَت بهم الحَيرة والارتباك — التلَّ في اتجاه القرية عائدِين إلى المنزل القديم. لم يكن إرنست ويستون، مالك المنزل، قد تَفوَّه بشيء من قَبلِ ظهور الشيء هناك في غُرفة الاستقبال، أم كان في المكتبة؟ لم يكن متأكدًا، ولم يَستطعْ أن يُحدِّد. وفجأةً التَفت إلى الشرطي.

«لقد أخبرتُك ألا تُطلق النار.»

قال الشرطي: «لا بأس. لقد كنتُ هناك بصفتي الرسمية، ولي أن أُطلِق النار وَقتَما أشاء.»

قال هاتش: «ولكن الطَّلْقة لم تَمسَّه بسُوء.»

قال الشرطي في تباهٍ: «أُقسِم أنها قد اخترقَتْه مُباشَرة. إنني أُجيد التصويب.»

كان ويستون يجادل مع نفسه. لقد كان رجُل أعمالٍ صارمًا؛ لم يكن عقلُه من تلك النوعيَّة التي يُمكِن أن تَخدعَها. ولكنه الآن كان يَشعُر أنه مُخدَّر؛ فلم يكن بمقدوره تَصوُّر أيِّ تفسير لِما رآه. وعاد مرَّة أُخرى يُحدِّق في الصحفي بتعبيرٍ أَجوفَ في غُرفته في الفُندق الصغير، حيث أَمضَيا ما تَبقَّى من الليل.

«هل يُمكِنك تَخيُّل أيِّ وسيلة يُمكِن أن يتمَّ بها الأمر؟»

هَز هاتش رأسه نَفيًا.

تابَع السمسار حديثه بابتسامةٍ مُتوتِّرة: «إنه ليس شَبحًا بالطبع، ولكن … ولكن أنا آسف لأنَّني ذهبتُ إلى هناك. لا أظُن أن العمل سيَسير هناك كما تَصوَّرْت.»

كان نومُهما متقطعًا، وحين استيقظا استقلَّا قطارًا في الصباح الباكر للعَودة إلى بوسطن. وبينما كانا على وَشكِ الافتراق عند مَحطة الجنوب، كان لِلسمسار كلمةٌ أخيرة.

قال بنبرة حازمة: «سوف أَحُل لُغز هذا الشيء. أَعرِف شَخصًا على الأَقلِّ لا يهابُه؛ إن كان يَهاب أيَّ شيء. سوف أُرسله إلى هناك ليُراقب المَشهد ويَعتني بالمكان. اسمه أوهيجان، وهو رجلٌ أَيرلَنديٌّ مقاتل. وإذا حدث أن اشتَبكَ هو وذلك، وذلك الشيء معًا …»

تَوجَّه هاتش مُباشَرةً إلى آلة التفكير ليُطلِعه على آخر التطوُّرات، مثل تِلميذٍ لدَيه مُشكِلةٌ مَيئوسٌ منها. تَوقَّف العالِم عن عَمله طويلًا بما يكفي ليِسمعَ ما يقوله.

سأله: «هل لَاحظتَ خَط اليَد؟»

كانت إجابته: «نعَم، بقَدْر ما أَستطيع مُلاحظة خَط يدٍ يَسبح في الهواء.»

«أكان لرجلٍ أم لِامرأة؟»

كان هاتش في حَيرة من أمره.

قال: «لا أَستطيع أن أَحكُم. كان يَبدو خطًّا أَسودَ عريضًا، بصَرفِ النظَر عن نَوعه. أَذكُر الحَرف الأوَّل بوضوح.»

«هل كان فيه أيُّ شيء من خَط يَد السمسار؟ ما اسمه؟ إرنست ويستون؟»

«لم أرَ خطه من قبلُ قط.»

قال آلة التفكير موجهًا إياه: «إذن أَلقِ نظرة على شيء منه، خاصةً الحرف الأوَّل.» وبَعد بُرهة من الصمتِ أردف قائلًا: «أنت تقول إن الشكل كان أَبيضَ ويَبدو مُشتعلًا؟»

«نَعم.»

«هل يَشِع منه أيُّ ضوء؟ بمعنى هل يُمكِن أن يُضيء غُرفةً مثلًا؟»

«لا أَفهمُ قَصدك.»

شَرحَ آلة التفكير قائلًا: «حين تَدخلُ غُرفة ومعك مِصباح، يُضيء الغرفة. فهل يَقومُ هذا الشيء بهذا؟ هل يُمكِنك أن تَرى الأرضياتِ أو الجدرانَ أو أيَّ شيء بفعلِ ضَوءِ الشكل ذاته؟»

أجاب هاتش على نَحو قاطع: «لا.»

قال العالِم وكأنَّه يُنهي الحديث: «سوف أَذهبُ معك غدًا ليلًا.»

أجاب هاتش: «أَشكرُك.» وانصَرفَ.

في اليوم التالي، عند الظهر تقريبًا، تَوجَّه إلى مكتب إرنست ويستون، وكان السِّمسار مَوجودًا بالداخل.

سأله: «هل أَرسلتَ رجُلك أوهيجان؟»

قال السِّمسار شِبه مُبتسمٍ: «نعم.»

«وماذا حدث؟»

«إنَّه بالخارج. سوف أَدعُه يَدخُل ليُخبِرك بنفسه.»

اتجه السِّمسار نحو الباب وتَحدَّث إلى أحد الأشخاص ودَخلَ أوهيجان. كان رجلًا أيرلنديًّا ضَخم الجثة، ذا عينَين زرقاوَين، ووَجهٍ يَنتشر فيه النَّمشُ على نَحوٍ واضح، وشَعرٍ أَحمر. كان من هؤلاء الرجالِ الذين يَبدو على وجوههم أنهم مُثيرون للمتاعب، ويَسعَدون حين تَتحوَّل هذه المَتاعبُ إلى عِراك. كانت الابتسامةُ لا تُفارق شفتَيه، ولكنَّها الآن ذَوتْ قليلًا.

قال السِّمسار: «أَخبِر السيد هاتش بما حَدثَ الليلةَ الماضية.»

أَخبَره أوهيجان بما حَدث. لقد حاول هو الآخرُ الإمساكَ بالشكل المُشتعِل. وبَينما كان يَركُض نَحوه، اختَفى، طُمس، تلاشى، ذَهب، ووَجدَ نفسَه يَتخبَّط في ظلام غُرفة المَكتبة. ومِثلما فعل هاتش، سَلكَ أَقربَ طريق للخروج، وقد تَصادَف أن كان عَبر نافذةٍ مُهشَّمة.

تابع قائلًا: «وبالخارج، بَدأتُ أُفكِّر في الأمر، ولم أَرَ شيئًا يدعو للخوف، ولكنَّك لم تكُن تَستطيعُ أن تُقنعني بذلك حين كنتُ بالداخل. أخذتُ مصباحًا في إحدى يدَيَّ ومُسدسًا في الأُخرى، وأخذتُ أَتجوَّل في جميع أنحاء ذلك المنزل. لم يكن ثَمَّةَ شيء؛ لو كان هناك شيء لاكتَشفناهُ في الحال، ولكن لم يكُن يُوجَد شيء؛ لذا تَوجَّهتُ إلى الإسطبل أولًا، حيث وَضعتُ سريرًا صغيرًا نقَّالًا في إحدى الغرف.

صَعدتُ إلى هذه الغُرفة — كانت الساعة حَوالَي الثانية — وأخلدتُ إلى النوم. بدا لي أنَّ ساعةً أو نَحوَ ذلك قد مرَّتْ حين استيقظتُ فجأة، كنتُ أعرف أن شيئًا سيَحدث. وليُسامِحني اللهُ إن كنتُ كاذبًا، ولكن كانت هناك قِطَّة؛ خَيال قِطَّة في غُرفتي كانت تَجري هنا وهناك كالمَجنونة. وبطبيعةِ الحال نَهضتُ لأَستطلِع الأمر، وهُرِعتُ نَحو البابِ، فسبَقَتْني القطةُ إليه، وقَطعَتْ ظلام الليل بشُعاعٍ مُشتعِل.

كانت القِطة تَبدو شَبيهة بالشيء الذي كان بالداخل؛ أَعني أنها كانت تَشِع ضوءًا أبيض وكأنه مُتقِد. عُدتُ إلى الفِراش في حالة من الغَثَيان، لأتَخلَّص من كُل هذا.» وأردف معتذرًا لويستون: «كما رأيتَ يا سيِّدي، لم يكُن ثَمَّة أيُّ شيء أستطيعُ أن أَضعَ يَدِي عليه.»

سأل هاتش مبتسمًا: «أهذا كُل شيء؟»

«إنها البداية فقَط. حين استيقظتُ في صباح اليوم التالي كنت مُقيدًا بقوة في سريري. كانت يَدايَ مُكبَّلتَين وكذلك قَدمايَ، وكل ما استطعتُ فِعلَه هو الاستلقاءُ في مَوضِعي والصُّراخ. بَعد فترة، بَدتْ سنواتٍ، سَمعتُ شخصًا بالخارج وزاد صُراخي أَكثرَ من ذي قبلُ. بعد ذلك جاء الشرطيُّ وفَكَّ قُيودي. رَويتُ له كُل ما حَدثَ، ثُمَّ جئتُ إلى بوسطن. وبَعد إذنك يا سيد ويستون، أنا مُستقيل. أنا لا أَخشى أيَّ شيء أستطيعُ قتاله، ولكن حين لا يُمكِنني أن أَقبِض عليه … حسنًا …»

في وقتٍ لاحقٍ انضَمَّ هاتش إلى آلة التفكير، واستقلَّا قطارًا إلى القرية الصغيرة المُطلَّة على البحر. وفي الطريق طَرح آلةُ التفكير بِضعة أسئلة، ولكنَّه لاذ بالصمت في أغلبِ الوقت، يُحدِّق من النافذة. احتَرمَ هاتش صَمتَه، واكتَفى بالإجابةِ عن الأسئلة.

كان أوَّل هذه الأسئلة: «هل اطَّلَعتَ على خَطِّ يد إرنست ويستون؟»

«نعم.»

«هل رَأيت حرفًا شبيهًا بما كتبه الشيء؟»

أجاب قائلًا: «لا يَختلف كثيرًا عن الذي كتبه الشيء، ولكنَّه ليس مُطابقًا له.»

كان سؤاله التالي: «هل تعرف أيَّ شخص في بروفيدنس يَستطيعُ أن يُزوِّدك ببعض المعلومات؟»

«نعم.»

«اتَّصِل به هاتفيًّا حين نَصلُ إلى هذا المكانِ ودعْني أَتحدَّث إليه قليلًا.»

بَعد نصف ساعة كان آلة التفكير يتحدث عَبر الهاتف المحلي إلى مُراسل الجريدة التي يَعمل بها هاتش في بروفيدنس. لم يُفصِح عما قال أو ما عَرفَه هناك إلى الصحفيِّ الحائر، ولكنَّه خَرجَ بَعد عِدَّة دقائق، ثُمَّ دخل مرَّةً أخرى إلى كُشك الهاتفِ، وظَل هناك لنِصفِ ساعةٍ أخرى.

قال: «الآن.»

ذَهبا معًا إلى المنزل المسكون. وعند مَدخل الأرض المُحيطَة بالمنزل، خَطرَ لآلةِ التفكير شيء آخر.

فأَمرَه قائلًا: «أَسرِع إلى الهاتف المَحلِّي واتَّصِل بويستون. اسأَلْه إن كان يَملِك زَورقًا بُخاريًّا أو إن كان ابنُ عَمِّه يَملِك واحدًا؛ فقَد نحتاج إليه. واعْرِف منه أيضًا نَوع الزَّورَق؛ يَعمل بالكَهرباء أم البنزين.»

عاد هاتش إلى القرية وتَركَ العالِم بمُفرده جالسًا في الشُّرفة يُحدِّق عَبْر البحر، لِيعودَ هاتش وهو لا يَزال على الوَضعِ نفسه.

سأله: «ماذا فَعلْت؟»

أخبره الصحفي قائلًا: «إرنست ويستون لا يَملك زَورقًا بخاريًّا. أما جورج ويستون فلدَيه زَورقٌ كَهربائي، ولكن لا يَستطيعُ إحضاره لأنه في مكان بعيد. قد أَستطيعُ إحضار واحدٍ من مكانٍ آخر إذا كُنتَ بحاجةٍ ماسَّةٍ إليه.»

قال آلة التفكير: «لا علَيك.» كان يتحدَّث وكأنَّه قد فقَد الاهتمامَ بالأمر.

انطَلَقا معًا واستدارا حَول المنزل مُتجهَين صَوبَ باب المطبخ.

تساءل هاتش: «ما الخطوة التالية؟»

فأجاب برَدٍّ مُثير للدَّهشة: «سوف أَجِد المُجوهَرات.»

كرَّر هاتش: «تجدها؟»

«بالتأكيد.»

دَخلا إلى المنزل عَبْر المطبخ، وأَخذَ العالِم يَجول ببصَرهِ هنا وهناك، وعَبْر غرفة الاستقبال، والمكتبة، انتهاءً بالرَّدهَة الخَلْفية. وهنا وَجدَ بابًا مُغلقًا في أرض الغرفة يُؤدِّي إلى قَبْو.

في القَبو وجَدا أكداسًا من النُّفايات. كان رَطبًا وباردًا يُغلِّفه الظلام. وَقفَ آلة التفكير في المُنتصف، أو في أَقربِ نقطة مُمكِنة إلى المُنتصف؛ إذ كانت قاعدةُ المَدخنة تَشغلُ هذا الحَيِّز، وكان فيما يَبدو يقوم بعمليَّة حسابيَّة في ذهنه.

ومن تلك النقطة راح يَدورُ حَول الجُدران، التي كانت مَبنيَّة بِناءً متينًا من الحِجارة، وكان يَنحني ويُمرِّر أَصابِعه عَبْر الأحجار أثناء سَيْره. وأَكملَ جَولتَه بَينَما وقف هاتش يُراقبه. ثُمَّ أعاد الجَولة مرَّة أُخرى، ولكن هذه المرَّة وهو رافع يديه فوق رأسه، مُتلمسًا الجُدران بعِناية. وكَرَّر ذلك عند المَدخنة، مُتجولًا بعِناية حَول كُل جُزءٍ من المَبنى.

صاح في حِدَّة: «يا إلهي، يا إلهي! أنت أَطولُ مني يا سيِّد هاتش. رَجاءً تَحسَّس قِمَّة هذه المَدخنة، وانظُر إن كانتِ الأحجار مُثبَّتة بقُوَّة.»

حينئذٍ بَدأ هاتش جَولة حول المَدخنة، وأخيرًا اهتَز واحدٌ من الأحجار الضخمة التي تُؤلِّف هذه القاعدةَ تحت يده.

قال: «إنه مُتقلقِل.»

«اخلَعْه.»

وخَرج الحجرُ بَعد قَدْر من الشَّد.

وكان الأمر التالي: «ضَع يَدك في مَوضِعه وأَخرجْ ما تَجدُه.» امتثل هاتش للأمر، وبالفعل وَجدَ صُندوقًا خَشبيًّا، مِساحتُه حَوالَي ثماني بوصاتٍ مُربَّعة، وناوله لآلة التفكير.

صاح السيِّد: «هاه!»

وبِجذبةٍ سريعةٍ تَفتَّتَ الخَشبُ المُتحلِّل، وخرج من الصُّندوق المُجوهَرات التي ظلَّت مَفقودةً لِخمسينَ عامًا.

٥

تَفجَّر كُل ما كان بداخل هاتش من إثارةٍ وكَبتٍ طويلٍ في ضحكةٍ شبه هيستيرية. انحنى وأخذ يُلملِم المُجوهَرات المُتساقِطة من الصندوق وناوَلها لآلة التفكير، الذي ظَل يُحملِق فيها في دهشةٍ غَير حادَّة.

تساءل العالِم: «ما الأمر؟»

طَمأنَه هاتش قائلًا: «لا شيء.» ولكنَّه ضَحِك مرَّةً أُخرى.

رُفع الحَجرُ الثَّقيلُ الذي أُخرِج من مكانه وأُعيد إلى وضعه مُجددًا، وعادا معًا إلى القرية، وقد امتَلأت جُيوبُهما بقِطَع المجوهرات المفقودة منذ زمن.

سأله هاتش: «كيف فعلت ذلك؟»

وكانت الإجابة المُبهَمة: «اثنان واثنان أربعة، لقد كانت مُجرَّد عمليَّة جَمع.» وتوقَّفا قليلًا بينما كانا يسيران، ثم أردف قائلًا: «لا تُفصِح عن شيء بشأن العُثور على هذا، أو حتى تُشِر إليه من قريب أو بعيد، حتى أُعطِيَ لك الإذن بذلك.»

لم يكُن هاتش يَنوي هذا. لقد رأى في عَين خَياله قصَّةً رائعةً مُثيرةً ومُدهشةً تَطغى على صفَحات جَريدتِه عن الأشباح المُشتعِلة والكَنزِ الدفينِ — مُجوهرات تُقدَّر قِيمتُها ﺑ ١٠٠ ألف دولار. مَبلغٌ مُذهلٌ جَعلَه يَترنَّح. بالطبع لم يكُن سيَبوحُ بشيء عنه، ولا حتى كان سيُشِير إليه. ولكن حِين يقول شيئًا عنه …!

في القرية وَجدَ آلةُ التفكير الشُّرطيَّ، فسأله: «لقَد عَرفتُ أن بعض الدماء قد أُلقِيت عليك في منزل ويستون في الليلة قبلَ الماضية.»

«نعم. دِماء — دماءٌ دافئة.»

«ومَسحْتَها بمِنديلك؟»

«أَجل.»

«هل مَعك المِنديل؟»

رَدَّ في تَشكُّك: «أعتقد أنني يُمكِن أن أُحضِره. ربما يكون قد غُسل.»

رَدَّ آلة التفكير: «يا لكَ من داهية! ربما كانت هناك جريمة وتُبدِّد أنت الدليلَ الوحيد عليها؛ بُقع الدم.»

انتَبهَ الشرطي فَجأةً.

قال: «يا إلهي! انتَظِر هنا وسوف أَذهَب لأَرى إن كان يُمكِنني العُثورُ عليه.»

اختَفى عن الأنظار ثم عاد بالمنديل بَعد قليل. كان عليه سِتُّ بُقعِ دم، تَحوَّل لَونُه إلى البُنِّي الداكِن.

تَوجَّه آلةُ التفكير إلى صَيدليَّة القرية وتَحدَّث مع مالِكها حديثًا مُقتضبًا، واختفى بعدها داخل غرفة تركيب الأدوية الكائنة خَلْف الصيدلية وظَل بها لساعةٍ أو أكثر. حتى حل الظلام، ثُمَّ خرج وانضم إلى هاتش الذي كان يَنتظِر مع الشرطي.

لم يَطرَح الصحفي أيَّ أسئلة، ولم يَتطوَّع آلة التفكير بدوره بالإدلاء بأيِّ معلومات.

سأل آلةُ التفكير الشرطي: «هل الوقت مُتأخِّر لحُضور شخص من بوسطن؟»

«لا. يُمكِنه أن يَستقِل قطار الثامنة ويكونَ هنا في حَوالَي التاسعة والنصف.»

«سيد هاتش، هلَّا تفضَّلت بإرسال برقيَّة إلى السيد ويستون — إرنست ويستون — تَطلُب منه الحضور الليلة. أَبلِغه أن الأمر ذو أهميَّة قُصوى.»

بدلًا من إرسال برقيَّة، تَوجَّه هاتش إلى الهاتف وتَحدَّث إلى ويستون في ناديه. أَوضَح له السِّمسار أن الرحلة ستتعارض مع خُططٍ أُخرى له، ولكنَّه سيأتي. في هذه الأثناء كان آلةُ التفكير يتحدَّث مع الشرطي، وأعطاه ما يُشبِه التعليمات، مما أَذهَل الشرطي على نَحوٍ واضحٍ ومُفرِط؛ إذ ظلَّ يُردِّد «يا إلهي!» بحماس كبير.

قال آلة التفكير: «لا كلمة ولا تلميح عن الأمر لأيِّ شخص، خاصَّة أفراد أسرتك.»

وكان ردُّه: «يا إلهي!» وذهب الشرطي لتناول العشاء.

تناوَل آلةُ التفكير وهاتش عَشاءهما في شُرود في تلك الليلة في «فندق» القرية الصغير. ولم يَكسِر هاتش الصَّمت إلا مرةً واحدة.

قال: «لقد طلبتَ منِّي الاطِّلاع على خَط ويستون. بالطبع كنتَ تَعلم أنه كان برُفقَتي أنا والشرطي حين رأينا الشيء؛ لذا كان من المُستحيل أن …»

قاطَعَه آلة التفكير: «لا شيء مُستحيل. لا تَقلْ ذلك من فضلك.»

«أَقصِد بما أنه كان معنا …»

قاطعَه العالم قائلًا: «سوف نُنهي قصَّة الشبح الليلة.»

وَصلَ إرنست ويستون في قطار التاسعة والنصف، ودخل في حوارٍ طويلٍ وجادٍّ مع آلة التفكير، بينما سُمح لهاتش بالانتظار بمُفرده. وأخيرًا انضَمَّا إلى الصحفي.

قال آلة التفكير آمِرًا: «خُذ معك مُسدسًا بأيِّ حال من الأحوال.»

تساءل ويستون: «هل تَعتقد أن ذلك ضروري؟»

أجابه مُؤكدًا: «ضروريٌّ — بلا أدنى شك.»

تركهما ويستون بعد فترة. تساءل هاتش أين ذهب، ولكن لم يكن ثَمَّة أيُّ معلومات في الأُفق. كان يَعرف عمومًا أن آلة التفكير ذاهبٌ إلى المنزل المَسكون، ولكنَّه لم يكُن يَعرف متى، بل لم يكُن يَعرف حتى إن كان سيُرافِقه.

وأخيرًا انطَلقا، وكان آلة التفكير يَحمِل مِطرقةً كان قد استعارها من صاحب المنزل الذي يسكُن به. كان الليل مُعتمًا تمامًا، حتى الطريق تحت أقدامهما لم يكُن منظورًا. تَعثَّرا كثيرًا بينما كانا يَتسلَّقان المُنحدر في طريقِهما نحو المنزل، الذي كان واضحًا في الأفق على نَحوٍ باهت. ثُمَّ دخلا إلى المنزل عن طريق المَطبخ، مُرورًا إلى الدَّرج في البَهو الرئيسي، وهناك أشار هاتش في الظلام إلى مكانٍ رأى فيه الشَّبحَ المُشتعِل مرَّتَين.

قال آلة التفكير آمرًا: «ادخُل غرفة الرسم الموجودة هنا بالخَلْف. لا تُصدِر أيَّ ضجيج.»

ظَلا ينتظران لِساعاتٍ، دُون أن يَرى أحدُهما الآخر. سَمع هاتش قلبه وهو يَخفِق بقوة، كان يتمنى لو كان يُمكِنه رؤية الرجل الآخر، وبَعد جهد تَعافى من توتُّرٍ مُتزايد ألمَّ به، وظل منتظرًا. كان آلة التفكير يجلس في ثباتٍ تامٍّ على السُّلم، مُمسكًا المطرقة في يده اليمني، مُحدقًا في الظلام بثبات.

وأخيرًا سَمع ضَوضاء خافتة للغاية تكاد تكونُ مُنعدِمة؛ ربما كانت من وَحيِ خياله. كانت أَشبهَ بصوت شيءٍ يَنزلِق على الأرض، وصار مُنتبهًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. ثُمَّ جاء الضوء الضبابي المُخيف في غُرفة الاستقبال، أم لَعلَّه كان في المكتبة؟ لم يستطع أن يُحدِّد. ولكنَّه ظل يَنظُر ويَنظُر مُنتبهًا بكُل حواسِّه.

تزايَد الضوء وانتشر تدريجيًّا، كان بياضًا ضبابيًّا بدا كضَوءٍ واضح، إلا أنه لم يكُن يُنير أي شيء من حوله. رآه آلة التفكير دون أن يهتز له عَصَب؛ رأى الضبابَ يتنامى على نحو أوضح في مَواضِعَ مُعيَّنة، ورأى هذه الخطوط تَتحوَّل تدريجيًّا إلى جَسد شَخص كان في مُنتصف ضَوءٍ أبيض.

ثُمَّ أخذ الضباب يتضاءل، ورأى آلةُ التفكير مَعالِم الشكل واضحة. كان شكلًا لجسدٍ طويل، يرتدي مِعطفًا، يُغطي رأسَه شيءٌ أشبه بقَلنسُوةٍ، وكانت مُضيئة أيضًا. وبينما كان آلةُ التفكير يَنظُر إليه، إذا به يرى ذراعًا مَرفوعةً ورأى في اليد خنجرًا. كانت وضعيَّة الجسد تُوحي بتهديد واضح. ولكن آلة التفكير لم يكُن متوترًا على الإطلاق، فقط كان مُنتبهًا.

وبينما كان ينظُر، إذا باليد الأخرى للشبح تُرفع وبدت وكأنها تُشير نحوه مباشرة. أَخذتِ اليد تتحرَّك في الهواء مُسبِّبة تشكُّلَ خُطوطٍ عريضة، ورأى آلة التفكير كلمة «الموت» مكتوبة في الهواء بأَحرُف مُضيئة طافية في الهواء أمام عينَيه. ثم أخذ يَطرُف بعينَيه في شَك، ثم جاءت صَرخةٌ ضاحكةٌ شيطانيَّةٌ غريبةٌ من مكانٍ ما. زَحفَ العالِم ببُطء نزولًا عَبْر درجات السلَّم مُرتديًا في قدمَيه الجورب فقَط، وصامتًا مثل الشبح ذاته، بينما لا تزال المِطرقة في يده. وأخذ يَزحَف ويَزحَف في اتجاه الظِّل. ولمَّا لم يكُن هاتش على علم بتحرُّكات آلة التفكير، فقد وَقفَ في انتظار شيء لم يكُن يَعرِف ما هو. ثُمَّ حدث الشيء الذي كان بانتظاره. فقَد حدثَتْ جلَبةٌ عاليةٌ مُفاجئة كأنَّ زجاجًا قد تَهشَّم، وأخذ الشبح والكتابة يتضاءلان، ثُم تَفتَّتا واختَفيا. وفي مكان في المنزل القديم كان ثَمَّةَ صَوت خُطواتٍ متسارعة. وفي النهاية سَمع الصحفي اسمَه يُنادَى بصوتٍ خافت. وكان المنادي هو آلة التفكير.

«سيد هاتش، تَعالَ إلى هنا.»

تَحرَّك الصحفي، مُتخبطًا في الظلام في طريقه إلى حيث صدر الصوت. وإذا بشيء لا يُمكِن مُقاومتُه يَهوي فَوقَه، ونَزلَتْ على رأسِه ضربة مُدوِّية، فومَضتْ أضواءٌ برَّاقةٌ أمام عينَيه وسقَط على الأرض. وبَعد فَترة، ومن مسافةٍ بعيدة على ما يَبدو، سَمِع صوت طَلقةِ مُسدسٍ خافتة.

٦

استَردَّ هاتش وعيَه بالكامل بواسطة الضوء المُختلِج لعُود ثِقاب كان يَحمِله آلة التفكير في يده قُرب عينَي هاتش. كان آلة التفكير يُحدِّق فيه في قلق بينما كان مُمسكًا برُسغِه الأيسر. وفي الحال استجمع هاتش نفسَه مرةً أخرى، ونهَض جالسًا فَجأةً.

تساءل: «ما الأمر؟»

رد على سؤاله بسؤال قائلًا: «كيف حال رأسك؟»

توجَّع هاتش ثُمَّ فجأةً تَذكَّر تلك الأحداثَ التي سَبقَت الضربةَ التي تلقَّاها على رأسِه مُباشَرة: «آه، بخير، أقصد رأسي. ماذا حدث؟»

قال آلة التفكير بحِدَّة: «انهض وتعالَ معي. يُوجد رجلٌ مصابٌ بطلقٍ ناري هنا.»

نهض هاتش واتَّبعَ ظِل العالِم الهزيل عَبْر الباب الأمامي، في اتجاه الماء. وَمضَ ضَوءٌ بالقُرب من الماء ما جعله يَنعكِس على نحوٍ باهت؛ وصفَتِ السماءُ نوعًا ما، وكان القَمرُ يَشقُّ طريقه ببُطء وسَط السُّحب.

تساءل هاتش أثناء سيرهما: «ما الذي ضربني؟» ثم أخذ يَدعَك رأسه في أسَف.

قال العالِم: «إنه الشبح. أظُن أن رَصاصةً قد أصابَته على الأرجح — أقصد الشبح.»

حينئذٍ ظَهرَ شُرطي البَلدةِ من وسَط ظلمةِ الليل واقتَربَ منهما.

«من هناك؟»

«البروفيسور فان دوسن والسيد هاتش.»

قال الشرطي وفي صوته نَبرة رضًا: «لقد أمسك السيد ويستون به ببراعة. لقد حاول الخروج من الطريق الخلفي، ولكنَّني أَحكمتُ غَلقَه، كما قُلتَ لي، وخرج من الباب الأمامي. حاول السيد ويستون إيقافه، فَرفَع السكينَ كي يَطعنَه؛ حينها أطلق السيد ويستون النار. أظُن أن الطَّلقةَ قد تَسبَّبَت في كَسر ذراعه. والسيد ويستون معه الآن هناك.»

التَفتَ آلة التفكير إلى الصحفي.

وقال له آمرًا: «انتظِرني هنا مع الشرطي. لو أنَّ الرجل مُصاب بأذًى، فهو يحتاج إلى رعاية إذن. لقد كنتُ طبيبًا في وقت من الأوقات، وبإمكاني إسعافُه. لا تأتِ حتى أستَدعيَك.»

ظل الصحفي والشرطي منتظرَين لفترةٍ طويلة. راح الشرطي يتحدث مُنفِّسًا عن كل ما عاناه من مَرارةٍ مكبوتة طَوال الأيَّام الماضية. وأَنصتَ إليه هاتش في نفاد صبر؛ فقد كان مُتلهفًا للنزول إلى هناك حيث يُوجَد آلة التفكير وويستون والشبح.

بعد نصف ساعة اختَفى الضوء، ثم سُمعت حركة المياه السريعة العنيفة، وكأن زورقًا بخاريًّا قويًّا يناور، وانعكَسَ جسدٌ طويلٌ على صفحة المياه.

قال هاتش مناديًا: «هل كل شيء على ما يُرام هناك؟»

وجاءت الإجابة: «على ما يُرام.»

عاد الصمت يُخيِّم على المكان، ثم ظهر إرنست ويستون وآلة التفكير.

سأل هاتش: «أين الرجل الآخر؟»

كرر الشرطي السؤال: «الشبح؛ أين هو؟»

أجاب السيد ويستون بسلاسة: «هَربَ في الزَّورق البُخاري.»

صاح هاتش والشرطي معًا في تعجُّب: «هرب؟»

كرَّر آلة التفكير منفعلًا: «نعم هَرب. سيد هاتش، لنعُد إلى الفندق.»

اتَّبعَ هاتش الرجلَين الآخرَين في صَمتٍ يُنازعه شعورٌ حادٌّ بخَيبة الأمَل. وسار الشرطي بجواره صامتًا أيضًا. وأخيرًا وصلوا إلى الفُندق وتَمنَّوا ليلةً سعيدةً للشرطي الذي خيَّمتْ عليه حَيرةٌ مَشُوبة بالحُزن والكَمد.

قال وهو يَنصرِف بعيدًا في جُنح الظلام: «يا إلهي!»

جلس الرجالُ الثلاثةُ في الطابق العُلوي، وكان هاتش ينتظر سَماعَ القصَّة على أَحرَّ من الجمرِ. أَشعلَ ويستون سيجارةً واضطَجع للخَلْف؛ أمَّا آلة التفكير، فقد جلس ضامًّا أنامله معًا يتأمل السقف.

ثم تساءل: «سيد ويستون، أنت تعلم بالطبع أنني قد تدخلت في هذا الأمر لمساعدة السيد هاتش؟»

وجاء الرد: «بالتأكيد. سوف أطلب منه فقط معروفًا حين تنتهي.»

غيَّرَ آلة التفكير جلسته قليلًا، وعَدل نظَّارته السميكة ليرمُقهم بنظرةٍ طويلةٍ مُريحة، وروى القصة من بدايتها كعادته دائمًا عندما يروي قصة. وإليكم ما روى:

«جاءني السيد هاتش في حالة من الخوف الشديد والبؤس وأخبرني باللغز. لا داعيَ للخوض في تفاصيل مُعاينته للمنزل، وكل تلك التفاصيل. يكفي أن أقول إنه لاحظ وجود أربع مرايا كبيرة في حجرة الطعام وحجرة المعيشة بالمنزل وأخبرني عنها، وإنه قد سَمع قصصًا تفصيليةً عن مأساة وقعت في المنزل القديم وعن مُجوهَرات مفقودة تُقدَّر قيمتها بمائة ألف دولار أو أكثر، وأخبرني بها.

أخبرني برحلته إلى المنزل في تلك الليلة، وعن رؤيته الفعليَّة للشبح. كنت أَعرِف من قبلُ أن السيد هاتش شابٌّ مُتَّزنٌ وهادئ، لا يميل إلى تَخيُّل أشياء ليس لها وجود، ويُجيد التحكُّم في نفسه؛ لذلك عرفتُ أن أيَّ قَدْر من الدَّجَل لا بد أن يكون من البراعة، بل من البراعة الفائقة، كي يصيبه بمثل هذه الحالة الذهنيَّة.

رأى السيد هاتش، مثلما رأى آخرون، شبحًا في غرفة الاستقبال بالقرب من باب المكتبة، أو في المكتبة بالقرب من غرفة الاستقبال، لم يستطع أن يحدد بالضبط. كل ما كان يَعرِفه أنه قريب من الباب. قبل ظهور الشبح كان قد سمع ضوضاء خافتة عَزاها إلى فأر يَجري على الأرض. ولكن المنزل لم يكن مَأهولًا لخمس سنوات، ونادرٌ — بل لا يُمكِن مطلقًا — أن تَبقى القوارض في منزل واحد لفترةٍ طويلة كهذه إذا لم يكن مأهولًا. إذن ما سر هذه الضوضاء؟ أهي ضوضاء مَصدرُها الشبح نفسه؟ وكيف؟

والآن ليس معروفًا للعلم إلا ضَوءٌ أبيضُ واحد فقط من النوع الذي وصفه السيد هاتش، يبدو من غير المهم أن نُسمِّيه، وهو عِبارةٌ عن فوسفور مُتَّحدٍ مع تُراب القَصَّار والجلسرين ومادةٍ كيميائيةٍ أو اثنتَين؛ ومن ثَمَّ فلن يشتعل في الحال كما يفعل في صورته النقيَّة حين تَتعرَّض للهواء. وللفوسفور رائحة قويَّة للغاية إذا كان الشخص على مسافة عِشرينَ قدمًا مثلًا. فهل شَمَّ السيد هاتش أيَّ شيء؟ كلَّا.

والآن صار لدينا العديد من الحقائق، وهي أن الشبح عند ظهوره يُصدِر ضوضاء بسيطة، وأن للفوسفور خاصيَّة الإضاءة، وأن السيد هاتش لم يَشمَّ رائحة الفوسفور حتى عندما رَكضَ عَبْر النقطة التي ظهر فيها الشبح. اثنان واثنان أربعة؛ لقد رأى السيد هاتش الفوسفور عند اجتيازه المنطقة التي رآه فيها، ولكنه لم يَشمَّه؛ ومن ثَمَّ فهو لم يكن له وجود. لقد كان ما رآه مُجرَّد انعكاس — انعكاس للفوسفور. حتى الآن تسير الأمور على نحوٍ جَيِّد.

لقد رأى السيد هاتش إصبعًا تُرفع وتَكتُب كلمةً مضيئة في الهواء. ومَرةً أخرى لم يكن هذا هو ما رآه فعليًّا؛ بل كان انعكاسًا له. ومما عَزَّز هذا الانطباع الأوَّل الذي تَكوَّن لديَّ حقيقة أنَّ جزءًا من الشبح قد اختفى حين هُرِع نحوه؛ إذ اختَفى النصف الأوَّل منه، على حَدِّ قوله، ثم النصف الآخر؛ ولذلك لم تُمسِك يداه المُمتدَّتان إلا الهواء.

من الجَليِّ أن تلك الانعكاسات قد تَكوَّنتْ على شيء، ربما مِرآة باعتبارها السطح الانعكاسي العادي الأَمثَل. غير أنه مَرَّ بالفعل بالنقطة التي رأى فيها الشبح ولم يَصطِدم بأيِّ مرآة، ووجد نفسه في غرفةٍ أخرى، هي المكتبة، بعد المرور عَبْر بابٍ كان قد أغلقه بنفسه في عصر ذلك اليوم، ولم يَفتحْه منذ ذلك الحين.

على الفَور بَرزتْ لي مرآة تُطابِق كل هذه الشروط. لقد رأى الشبح عند الباب، ثم رأى نصفه فقط، ثم اختفى بالكامل، ومَرَّ عَبْر المكان الذي كان الشبح مَوجودًا به. وكُل هذا كان سيَحدُث بسهولة في وجود مرآةٍ كبيرة، تَعمل كبابٍ مُنزلق، ومَخفيَّة في الجدار. هل هذا واضح؟»

قال السيد ويستون: «واضح تمامًا.»

وقال هاتش في لهفة: «أَجلْ، استَمِر.»

«هذا المرآة المُنزلقة أيضًا ربما أَحدَثتِ الضوضاء التي تَصوَّر السيد هاتش أنها فأر. وكان السيد هاتش قد أخبرني سابقًا بوجود أربع مرايا في حجرة المعيشة وحجرة الطعام، وبواسطة هذه المرايا، ومن مَوقِعها الذي أخبرني به، استطعتُ بسهولة أن أفهم كيف تَكوَّن الانعكاس.

وهكذا فسَّرتُ في عقلي كيفية ظهور الشبح عمومًا. لكن ما سبب وجوده هناك؟ بَدت هذه المشكلة أكثر صعوبة. من المُحتمل أن يكون قد وُضع هناك من أجل التسلية والترفيه، ولكنني لم أَتقبَّل هذا الاحتمال تمامًا. لماذا؟ يَرجِع ذلك جزئيًّا إلى أنه لم يكن أحد قد سمع عنه حتى ذهب العُمال الإيطاليون إلى هناك. لماذا ظهر لحظة ذهابهم لبَدء العمل الذي أمرهم به السيد ويستون؟ هل كان الهدف إبعاد العمال؟

ثارت هذه التساؤلات في ذهني بهذا الترتيب. بعد ذلك، عندما أخبرني السيد هاتش عن مأساة وقعت في المنزل ومجوهراتٍ مَخفيَّة، طلبتُ منه معرفة المزيد عن هذَين الأمرَين، ولفتُّ انتباهه إلى حقيقة أن الأمر سيكون غريبًا وغامضًا لو أن هذه المجوهرات لا تزال موجودة في مكانٍ ما في المنزل القديم. لنفترض أن شخصًا ما على دراية بوجودها كان يبحث عنها، ويَعتقد أن بإمكانه العثور عليها، وأراد شيئًا من شأنه إبعاد أيِّ مُتطفِّلين، أو مُشرَّدِين، أو أهل القرية ممن قد يتواجدون هناك ليلًا. شبح؟ ربما.

لنفترض أن أحدهم أراد أن يُلصِق بالمنزل القديم سمعة من شأنها أن تَثني السيد ويستون عن مباشرة أعمال الإصلاح وإعادة التأثيث. شبح؟ ربما مرة أخرى. بل قد يُفسَّر وجود هذا الشبح في عقلٍ ضَحلٍ كمحاولةٍ لمنع زواج الآنسة إيفرارد والسيد ويستون؛ لذلك كُلِّف السيد هاتش بجمع كل الحقائق المُمكِنة عنك يا سيد ويستون، وعن أفراد عائلتك. فكَّرتُ أن أفراد عائلتك هم على الأرجح من يعلمون بأمر المجوهرات المفقودة، أكثر من أيِّ شخصٍ آخر، بعد انقضاء خمسين عامًا على اختفائها.

حسنًا، بفضل ما عرفه السيد هاتش منك ومن ابن عمك جورج ويستون تَرسَّخ في عقلي على الفور الدافع لوجود الشبح. لقد كان، كما افترضتُ، مُحاوَلة لإبعاد العمال، ربما لمرةٍ واحدةٍ فقط، أثناء بحث دائر عن المجوهرات. كما كانت المأساة القديمة التي وقعت في المنزل ذريعةً جيدةً لتعليق مسألة الشبح عليها. ثَمَّة عقلٌ نابِهٌ تَصوَّر ذلك، وثَمَّةَ عقلٌ نابِهٌ وضع الفكر في حيِّز التنفيذ.

والآن مَن أكثر شخص على دراية بأمر المجوهرات؟ إنه ابن عمك جورج يا سيد ويستون. هل نَمَى إليه أيُّ مَعلومات جَديدة بشأن هذه المجوهرات مُؤخرًا؟ لا أعلم. ولكن فكَّرتُ أن ذلك قد يكون مُمكنًا. لماذا؟ بِناءً على تصريحه بأن والدته، التي كانت عروسًا آنذاك، قد عَلمتْ بقصة المسألة برُمَّتها من جَدَّته، التي كانت تَذكرها أكثر من أيِّ شخص آخر، والتي ربما سَمعتْ جَدَّه وهو يتحدث عن المكان الذي يَنوي إخفاء المُجوهَرات به.»

توقَّف آلة التفكير قليلًا، وعدَّل وضعه، ثم تابع الحديث:

«رفض جورج ويستون أن ينضمَّ إليك يا سيد ويستون أنت والسيد هاتش في فريق البحث عن الشبح، كما أطلقت عليه؛ لأنه قال إنه ذاهب إلى حفلٍ راقص في بروفيدنس في تلك الليلة. لكنه لم يذهب إلى بروفيدنس، وهو ما عَرفتُه من مراسلكم هناك يا سيد هاتش؛ ومن ثَمَّ ربما يكون جورج ويستون قد ذهب إلى هناك على أيِّ حال.

بعد أن تَفقَّدتُ الموقف هناك خطر لي أن الطريقة الأكثر ملاءمة لشخص يرغب في تحاشي رؤيته في القرية، مثلما فعل المجرم الذي كان يلعب دور الشبح، هي الذهاب إلى المكان والخروج منه ليلًا في زورقٍ بخاري. فقد كان يُمكِنه بسهولة أن يَركُض في الظلام ويَهبط على سَفْح المُنحدر، دون علم أحد في القرية. هل كان جورج ويستون يمتلك زورقًا بخاريًّا؟ نعم، لديه زورق كهربائي يعمل بلا أيِّ صوت تقريبًا.

من هذه النقطة صار الأمر برُمَّته بسيطًا نسبيًّا. عَرفتُ كيف كان الشبح يظهر ويختفي — وهو ما أخبرني به المنطق البحت الذي يقف وراءه — وبنظرةٍ واحدة إلى المنزل من الداخل اقتنعتُ بالأمر بما لا يدع مجالًا للشك. وهكذا صِرتُ أعلم الدافع وراء وجود الشبح، ألا وهو البحث عن المجوهرات، وأعلم، أو ظننتُ أني أعلم، اسم الرجل الذي كان يبحث عن المجوهرات، الرجل الذي يملك المعرفة الوافية والفرصة الكاملة، الرجل الذي كان عقله بالذكاء الكافي لوضع الخطة. وكانت الخُطوة التالية بعد ذلك إثبات ما تَوصلتُ إليه. وكان أول شيء فعلته هو العثور على المجوهرات.»

رَدَّد ويستون العبارة بابتسامةٍ خافتة: «العثور على المجوهرات؟»

قال آلة التفكير في هدوء: «ها هي.»

وهناك، وأمام عينَي السمسار المُفعمتَين بالدهشة، أخرج المُجوهرات المفقودة منذ خمسين عامًا. لم يكن ويستون مُندهشًا، بل كان مُتسمرًا في مَوضِعه من الذهول، وجلس يُحدِّق في كَومة المجوهرات المتلألئة في صمت، إلى أن استعاد صوته في النهاية.

سأله: «كيف فَعلتَ ذلك؟ وأين كانت؟»

كانت إجابته: «استخدمتُ عقلي، هذا كل ما في الأمر. لقد دخلتُ المنزل القديم لأبحث عنها في المكان الذي كان صاحب المنزل على الأرجح سيُخبِّئها فيه تحت كل الظروف؛ ولذلك وجدتها.»

قال السمسار مُتلعثمًا: «ولكن … ولكن …»

قال آلة التفكير مُنفعلًا: «الرجل الذي أخفى هذه المجوهرات أخفاها هناك مؤقتًا فقط، أو على الأقل كان هذا هدفه. فلم يكن بطبيعة الحال سيُخفيها في المشغولات الخشبية الخاصة بالمنزل؛ لأن الخشب يمكن أن يحترق، ولم يكن ليدفنها في القَبو؛ لأنه خضع لتفتيشٍ دقيق. والآن لا يوجد في ذلك المنزل شيء إلا المشغولات الخشبيَّة والمداخن القائمة فوق القَبو. ولكنه أخفاها في المنزل، والدليل على ذلك أن الرجل الذي قَتله قُتل داخل المنزل، وأن الأرض خارج أسوار المنزل، المُغطَّاة بالثلج، أظهرت وجود آثار قدمَين إلى داخل المنزل دون وجود آثار تقود إلى خارجه؛ لذلك أخفاها في القَبو. أين؟ وسط البناء الحجري. لم يكن ثَمَّة مكانٌ آخر.

لم يكن، بطبيعة الحال، سيُخفيها على مستوى العين؛ لأن المكان الذي سيَنزع منه الحجر ويُعيده إليه سيكون واضحًا للعيان حال القيام ببحثٍ دقيق؛ لذلك كان سيَضعُها إما فوق أو تحت مستوى العين، فوضعها بالأعلى. وقد انتُزع حجرٌ كبيرٌ مُتقلقِل في المَدخنة، وهناك وُجد الصندوق وبداخله هذه الأشياء.»

حَدَّق السيد ويستون في آلة التفكير وفي عينَيه تعبيرٌ جديد من الدهشة والإعجاب.

«بعد العثور على المجوهرات وإنهاء هذا الأمر، لم يَعد مُتبقيًا إلا إثبات نظرية الشبح باختبارٍ عملي. فأرسلتُ لك يا سيد ويستون؛ لأنني فَكَّرت بما أنه لم تُرتكَب جريمةٌ فعليَّة، فقد يكون من الأفضل أن أترك الجاني لك. وعند حضورك دخلتُ إلى المنزل المسكون ومعي مِطرقة — مِطرقة عادية — وانتظرتُ على درجات السُّلم.

وأخيرًا ضحك الشبح وظهر، فزحفتُ هابطًا درجات السلَّم حيث كنتُ جالسًا مُرتديًا الجوارب دون الحذاء. كنتُ أعرف ماهيَّته، وما إن وصلتُ إلى الشبح المضيء، حتى تَخلَّصتُ منه إلى الأبد بتهشيمه بواسطة مِطرقة، حَطَّمتُ مرآةً جرارةً كبيرةً كانت تنزلق في الباب داخل الإطار، كما كنت أعتقد. أَفزعَ صوتُ الارتطام الرجُل الذي يقوم بتحريك الشبح من أعلى صندوق، مما جعله يظهر طويلًا للغاية، وانطلق إلى الخارج عَبْر المطبخ، كما دخل. كان الشرطي قد أغلق ذلك الباب بعد دخول الرجل؛ لذا استدار الشبح وتَحرَّك صوب الباب الأمامي للمنزل، وهناك هُرع نحو السيد هاتش واصطدم به، وخرج من الباب الأمامي، الذي وجدتُ بعد ذلك أنه غير مُغلق بإحكام. وأنت تعرف البقية؛ كيف وجدت الزورق البخاري، وانتظرته هناك، وكيف حضر إلى هناك، و…»

أكمل ويستون: «حاوَل أن يطعنني. فاضطُررت إلى إطلاق النار عليه دفاعًا عن نفسي.»

قال آلة التفكير: «حسنًا، إن الجرح سطحي. سوف تتعافى ذراعه قريبًا. أظُن أن رحلةً صغيرةً إلى أوروبا لمدة أربع أو خمس سنوات، على نفقتك الخاصة، في مقابل المجوهرات، قد تجعله يستعيد عافيته.»

قال السمسار بهدوء: «كنت أُفكِّر في ذلك. بالطبع لا يمكنني رفع دعوى قضائية.»

قال هاتش: «إذن كان الشبح هو …؟»

قال السمسار: «جورج ويستون، ابن عمي. في هذه القصة أُمور أتمنى أنْ تدرك أنَّ من الأنسب ألا تُقال، إذا كان بمقدورك أن تفعل ذلك دون أن يكون فيه ظلم لك.»

فَكَّر هاتش في الأمر.

وأخيرًا قال: «أعتقد أن هناك أمورًا هكذا.» والتَفتَ إلى آلة التفكير وقال: «لكن أين كان الرجل الذي يُحرك الشبح؟»

وكان الرد: «في غرفة الطعام، بجوار حجرة مؤن فضيَّات كبير الخدم. كان يُغلق باب هذه الحجرة، ويرتدي الثوب المُغطَّى بالفعل بالفوسفور، ويخرج ببساطة. كان الظل ينعكس على المرآة الطويلة الموجودة أمامه مباشرة، عندما تدخل غرفة الطعام من الخَلف، ومن هناك ينعكس على المرآة في الجدار المقابل في حجرة المعيشة؛ ومن ثَمَّ ينعكس على المرآة المنزلقة في الباب الفاصل بين بَهو الاستقبال والمكتبة. وهذه هي المرآة التي حَطَّمتُها.»

«وكيف كانت الكتابة تتم؟»

«آه، تقصد تلك؟ بالطبع كان ذلك يتم من خلال عكس الكتابة على قطعة من الزجاج الشفَّاف كانت تُوضع أمام الشبح عندما يتخذ وضعه، مما يجعلها مقروءة بوضوح لأي شخص قد يرى الانعكاس الأخير في بَهو الاستقبال.»

تابع هاتش حديثه قائلًا: «وماذا عن الدماء التي أُلقيتْ على الشرطي والآخرين حين كان الشبح في الفِناء؟»

«كانت دماء كلب. اتضح ذلك من اختبار أجريتُه في الصيدليَّة. لقد كانت محاولة يائسة لإبعاد أهل القرية. أما شبح القطة وتكبيل الرقيب فهي أمور نُفِّذت بسهولة.»

جلس الجميع صامتِين لبُرهة. وفي النهاية نهض السيد ويستون، وشكر العالِم على استعادة المجوهرات، وتمنى للجميع ليلةً طيبةً وَهمَّ بالخروج. كان هاتش يَتبعه دون تفكير. وعند الباب التَفتَ للوراء لتوجيه سؤال أخير.

«كيف لم تتسبب الرصاصة التي أطلقها الشرطي في كسر المرآة؟»

أجاب قائلًا: «لأنه كان مُتوترًا واصطدمت الرصاصة بالباب المجاور للمرآة. لقد استخرجتُها بواسطة سكِّين. طابت ليلتك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤