رعونة

غادر المتنبي بغداد والغيظ يمزِّق فؤاده، والغل تغلي في نفسه مراجله، لقد كان يظن أن الأدباء والشعراء سيتنافسون في إجلاله وتكريمه، ويتسابقون إلى التقاط كل كلمة تخرج من فيه كأنما هي قرآن مبين، ويقتتلون على نيل الحظوة عنده والتقرب إليه، ولقد كان يتخيّل أن الخليفة سيسرع إلى ملاقاته مرحبًا محييًا، وأن معز الدولة سيسعى إليه على الأقدام راجيًا متملقًا، وأن الخلافة ستخلي له قصرًا على دجلة من قصور العباسيين يطل منه على رعية مخلصة لأدبه تردد حمده في الغدو والآصال، ولقد كان يتوهم أنه وقد أصبح العلم الفرد في دولة البيان ستجد فيه دار الخلافة علمًا خفّاقًا يجمع حولها أقطار العربية، وداعية منقطع النظير يعيد الأوطان المتمردة إلى أحضان بغداد، كان يحلم بكل هذا وهو رجل بعيد الأحلام، وكان يقدر كل هذا وهو رجل ما أصاب مرة في تقدير، وطالما منى نفسه بعد أن خاب في أن ينال ضيعة أو يحكم ولاية أنه بعد أن يمد جناحي نفوذه على عرش الخلافة، سيصبح الآمر في الولاة الناهي في الملوك، فهل حصل من هذه الأوهام على شيء؟ لم يسمع الخليفة السجين أن شخصًا يدعى بالمتنبي زار بغداد، ولم يقبل معز الدولة أن شاعرًا مستجديًا تيّاهًا يطأ بساطه، وتكبّر عليه المهلبي وعزفت نفسه عن أن يطلب منه شعرًا، ثم أغرى به شعراءه، فمزقوا عرضه واعتقلوه في داره فلم يكن يخرج منها إلا خائفًا يترقّب. هذا ما لقيه في دار الخلافة، لم تر لمواهبه شبحًا، ولم تلمح لنبوغه أثرًا، ولم تجد فيه إلا شاعرًا طليح أسفار كلّت يداه من طرق الأبواب. جالت هذه الأفكار بنفس المتنبي وهو يقطع الطريق عدوًا بين بغداد والكوفة عائدًا إلى موطنه سيفًا محطمًا، وأملًا حائرًا، وحطامًا بشريًّا، فزفر في حزن وأسى، وقال:

وقت يضيع وعمر ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم!
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم

وبعد أيام بلغ الكوفة فألقى بها عصا التسيار، وعزم على أن يعيش بها كما يعيش سُراة المدينة، وخلع ثياب الشاعر ولبس عدّة الفارس وسلاحه، وعاد إلى قضاء وقته بين الصيد ومجالسة الأدباء والأشراف، وحاول أن ينسى طموحه، وأن يسخر من آماله، وأن يرضى من الغنيمة بالإياب، ويقنع بعد طول الجهاد بالطعام والشراب. وبينما كان يومًا عائدًا إلى داره إذ رأى ابنه محسدًا يسرع إليه ويهمس: سيدي سعد الدولة هنا.

– سعد الدولة؟ ابن سيف الدولة؟

– نعم يا أبي، لقد حضر منذ ساعة. فأسرع المتنبي إلى لقائه، وما كاد يراه حتى انكبّ عليه يعانقه ويقبله ويرحب به. وكان أبو المعالي سعد الدولة في نحو الثالثة عشرة وسيمًا قسيمًا تظهر عليه مخايل البطولة، وتنطق في وجهه ملامح العروبة، فاتجه إليه أبو الطيب، وقال: كيف حال مولاي سيف الدولة؟

– لقد تركت أبي مريضًا، ولكن المرض لم يمنعه من الخروج إلى لقاء الروم الذين أغاروا على طرسوس. إنهم لا يتركوننا لحظة للراحة وتجفيف العرق يا أبا الطيب! ولقد كاد أبي يضيق بهم ذرعًا. ثم أخرج من كمه رسالة، وقال: هذه رسالة أبي إليك. فقرأ المتنبي فإذا فيها: من سيف الدولة أبي الحسين بن حمدان إلى أبي الطيب أحمد بن الحسين:

أما بعد فإني أحمد الله إليك؛ وأطلب لك العافية والسلامة. علمت بتركك الأسود وشكرت الله على نجاتك من هذا الطاغية. وإني أبعث إليك بابني وهو أغلى ما في الحياة عندي، لأرجوك في العودة إلى حلب، لقد تغيّرت بعدك الأحوال يا أبا الطيب، وقويت شوكة الروم وطمى طغيانهم، وتخاذل الناس حولي وسئموا القتال. والإسلام والعروبة في حلب أحوج ما يكونان إلى صوتك الرنّان، وشعرك الفيّاض بالقوة والحماسة ليلهب العزائم ويوقظ الهمم. لقد كان وجودك إلى جانبي بحلب طالع يمن عليَّ وعلى المجاهدين في الإسلام، ولقد كانت أيامك أيام انتصار وفتوح ملأت الدنيا بوصفها، وخلّدت في التاريخ ذكرها. أقبل علينا أبا الطيب، فإن السيوف تهتز في أغمادها شوقًا إليك، ومجالس الأدب تكتم أنفاسها انتظارًا لقدومك. أقبل يا شاعر العرب. وإذا كانت في نفسك مني غضاضة، فإني أقول لك الآن ما قلته لي من قبل:

وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه
محا الذنب كل المحو من جاء تائبًا

قرأ المتنبي الرسالة فتقاطرت الدموع من عينيه، ثم قبّلها مرات وقال: إنني لولا العوائق لطرت إلى مولاي سيف الدولة. ثم أطرق طويلًا مفكرًا مهمومًا وهو يستمع لحديث نفسه وهي تقول: يطلبك الآن سيف الدولة بعد أن نبذك وازدراك وتغاضى عن إساءة أهله وعشيرته لك، وبعد أن ضجر بإقامتك ومل ثواءك؟ يطلبك بعد أن صرف وجهه عنك تيّاهًا، وترك ابن خالويه يقذفك بالمفتاح في وجهك دون أن يلقى منه نكيرًا؟ لا يا أبا الطيب لست ألعوبة في أيدي هؤلاء الأمراء ينبذونها كلما ملو اللهو بها. عرّفهم أبا الطيب أن نفسك أقوى من نفوسهم، وأن كرامتك فوق كرامتهم، وأنك إذا انصرفت نفسك عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل. على أنك قد لقيت من الشعر ما كفاك، ومن هؤلاء الأمراء المتقلبين ما تئن اليوم تحت أثقاله، لا يا أبا الطيب، لا تذهب إلى حلب، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين!

ثم اتجه إلى سعد الدولة وقال: يقيم مولاي عندنا أيامًا ليستريح، وربما تبعته إلى حلب. وأقام سعد الدولة بالكوفة حينًا، ولما عزم على الرحيل ودّعه الشاعر وألقى في رحله قصيدة لأبيه من أروع ما نظمه في سيف الدولة منها:

ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول
كيف لا تأمن العراق ومصر
وسراياك دونها والخيول؟
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول؟
قعد الناس كلهم عن مساعـ
ـيك وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
من عبيدي إن عشت لي ألف كا
فور ولي من نداك ريف ونيل

وعاد المتنبي إلى حياة الملل والفراغ، وكان صديقه الحسن العلوي يكثر من ازدياره، ويجتهد في تسليته والترويح عنه، فبينما كانا في أحد الأيام بظاهر الكوفة إذ رأيا شابًّا في نحو العشرين قوي العضل وثيق البناء قصير القامة غليظ الوجه عابس نظرات العينين، يبدو كأنه ساخط على الوجود ومن في الوجود، ووراءه طائفة من الأعراب في أسمال وأخلاق، وهم يسيرون خلفه في رهبة ومهابة، كما تسير العبيد خلف السيد المطاع. ومر الشاب ومن معه بالمتنبي وصاحبه، فلم يزد على أن رفع بصره إليهما في اشمئزاز، ثم ابتسم ابتسامة سخرية وازدراء. فقال المتنبي: من هذا الوغد الجافي يا سيدي الشريف؟

– هذا ضبة بن يزيد، وهو فتى قرمطي شرير خبيث، لو أراد الشيطان أن يتخذ لروحه مكانًا ما اختار لها غير جسمه. إن هؤلاء القرامطة يا سيدي لم يتمسكوا بمذهبهم عن رأي وعقيدة، ولكنهم قوم صعاليك فتَّاكون نهَّابون، عز عليهم أن يروا بعض الناس في نعمة ويسر، فأوغروا صدور الفقراء على الأغنياء، وزينوا لهم نبذ طاعة كل حاكم، وأحلوا لهم السلب والنهب والقتل وكل ما يندى له الجبين من رذائل. وقد وجدت دعوتهم قبولًا عند شذَّاذ الأعراب الذين كانوا يقتلون ويسلبون في خوف وحذر، فأصبحوا الآن يقتلون ويسلبون عن عقيدة ودين. هؤلاء القرامطة كارثة على الإسلام يا أبا الطيب.

– بلا شك، وإني أعتقد أن هذه الثورات ليست إلا فتنًا سياسية ابتدعها أعداء العرب لإضعاف دولة العرب، وألبسوها ثوب المذاهب الدينية.

– هذا صحيح. وضبة هذا يسيطر على فريق من صعاليك بني كلاب، وأظن أنهم يدبِّرون خطة للهجوم على الكوفة، وقد أخذ أغنياء المدينة يحتاطون لأموالهم، ويعدون العدة لصدهم.

– سأمحو بسيفي هذا وساوس عقولهم إن كان لهم عقول.

ومرّت شهور ولا حديث للمدينة إلا غارات القرامطة، وتخوف الناس من وحشيتهم وقبح أفاعيلهم، وفي صباح أحد الأيام زار الحسن العلوي دار أبي الطيب وكان مضطربًا مهتاجًا، فحيَّاه المتنبي، وقال: ما الخبر يا سيدي؟ اجلس واهدأ قليلًا.

– لن أجلس يا أبا الطيب. فإن الفرصة قد أمكنت من هذا الوغد ضبة، وقد سيّر إلى بعض رجالي رسولًا يطلب النجدة ويقول: إنهم قد ضيقوا عليه الخناق، ولا يحتاجون إلا إلى بضعة فرسان للتغلب عليه وعلى أنصاره. قم يا أبا الطيب واركب معنا.

– هذا هو اليوم الذي كنت أتمناه على الأيام فقد صدئ سيفي في غمده.

وركب أبو الطيب والشريف على رأس شرذمة من الفرسان، وما كادوا يصلون إلى ميدان المعركة حتى فر رجال ضبة شماطيط، والتجأ إلى حصن منيع أحكم إغلاق بابه، وأطل من نافذة ضيقة به وأخذ يسب ويلعن ويصيح: أين متنبيكم هذا الكاذب المنافق الجبان؟ أين ابن عبدان السّقاء حتى أبصق في وجهه بصقة تذكره بالماء الذي كان يحمله أبوه؟ أين هذا الدعيُّ الفاجر لأعلمه أن امتشاق الحسام غير نظم الكلام؟ فصاح الشريف: مرحى بمن يفر من الحراب، ويقاتل بالسباب. إنك في الحق أجبن من فأر. ولكنك في الشتم أجرأ من أسد.

– إنني أقدم إذا كان الإقدام عزمًا، وأحجم إذا كان الإحجام حزمًا. فصاح المتنبي: على شرط أنك لا ترى الإقدام عزمًا في يوم من الأيام.

– اخسأ يا دعي كندة. والله إن سيفي ليحن إلى رأسك، ولكنه يخشى أن يدنس بدمائك.

فمال الشريف على المتنبي، وقال: لقد جاوز الكلب الحد وبلغ الغاية في الإقذاع، اهجه يا أبا الطيب، اهجه من صنف كلامه ونوعه، ومزق عرضه كما تمزق النعل الخلق. فجلس المتنبي هنيهة ثم أخذ ينادي ضبة وهو في حصنه بأقبح الألقاب، وينشده قصيدة قذرة الألفاظ والمعاني قذفه فيها بكل ما حققه من السباب، ورماه ورمى أمه بما يتعفّف عن ذكره أبذأ الناس لسانًا. وعاد جماعة المحاربين ولم يبلغوا من ضبة مأربًا، ولم يجرد أبو الطيب سيفه من قرابه.

وقال أحدهم: لقد كانت قصيدة عجيبة، وأغلب ظني أنها ستثير ضجيجًا في بني كلاب.

وقال ثان: لعلها تؤدب هؤلاء القرامطة وتصرفهم عن غيِّهم.

وقال ثالث: إني أخشى ما أخشاه أن تصل هذه القصيدة إلى أذن فاتك الأسدي. فالتفت المتنبي في انزعاج، وقال: ومن فاتك الأسدي هذا؟

– فاتك الأسدي رجل قرمطي، وهو خال ضبة بن يزيد، وهو لص بطّاش مغامر يستحل دم الحجاج في الحرم، والقصيدة كلها قذف في أخته وثلم لعرضها، ولا أعتقد أنه يسكت عن هذا أو بعض هذا. فتهافت المتنبي ساخرًا، وقال:

إذا صلت لم أترك مصالًا «لفاتك»
وإن قلت لم أترك مقالًا لعالم

واستمر أهل الكوفة في خوف وذعر من القرامطة، وعلمت فاطمة زوج المتنبي بخبر ضبة، وتساقط إلى سمعها بعض أبيات من القصيدة فتوجست شرًّا، ولم تستطع أن تحادث زوجها في الأمر.

وبعد أن أشهر تجددت ثورة القرامطة وتجمعوا حول زعمائهم بظاهر الكوفة، وصمموا على الهجوم على المدينة، فالتف كبراؤها حول أبي الطيب وجهزوا فصيلة من الفرسان والرجالة لقتالهم، وقد كانوا أرسلوا إلى بغداد رسولًا لطلب المعونة، وخرج أبو الطيب وعبيده للقتال وحارب أيامًا فأثخن في أعدائه، وانتهت المعركة، وفرَّ بنو كلاب، وعاد الشاعر الفارس منصورًا مظفرًا. وجاء جيش بغداد بعد أيام فخلع قائده «دلير» على المتنبي وأجزل له العطاء، وأنشده أبو الطيب قصيدة في الميدان، وقد كان ممتطيًا جواده منها:

ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة؟
ولا بد دون الشهد من إبر النحل

وسارت القصيدة في البوادي، وسخط الأعراب على أبي الطيب لمدحه دلير الديلمي، ومرت شهور ضاق فيها الشاعر بالكوفة، وتمنى لو وجد إلى سواها منفدًا، وفي يوم طرق بابه فارسان كان أحدهما يحمل رسالة من أبي الفضل بن العميد وزير عضد الدولة «بأرجان» يدعو فيها الشاعر إلى الرحيل إليه، ويبذل له الوعود الحسان، وكان الثاني رسولًا من قبل سيف الدولة يلح عليه في الذهاب إلى حلب، ويغريه بكل وسائل الإغراء، وقد فكّر المتنبي في الرسالتين وأطال التفكير، فمرة تدفعه عروبته إلى الرحيل إلى حلب وإلى السخط على الديلم وكل من يتصل بالديلم، ومرة ينفر كما ينفر المهر الشموس ويأبى أن يعود إلى رجل أهين في حضرته فلم يدفع عنه، وترك أعداءه وحسّاده يثلبون عرضه حتى اضطر إلى قصد الأسود الذي هدم حياته وأهدر كرامته. وانتهى بالمتنبي العزم إلى أن يعتذر إلى سيف الدولة بأبيات، وأن يقصد ابن العميد. وما كاد يلقي الخبر على زوجته حتى غشيتها غاشية من الحزن والتطير وصاحت: لا تذهب يا أبا الطيب. بالله عليك لا تذهب. إن أنفاسي لم تهدأ بعد مما لاقيت من فراقك الطويل، وإن خفقات قلبي لا تزال تأبى أن تظن أنك بجانبي، ولو كنت ممن يتقون المخاطر، ويتوقون المهالك، لكان حزني لفراقك حزن امرأة غاب عنها زوجها وبقيت تمني نفسها بلقائه، ولكنك رجل إذا ابتلعتك القفار تحدّيت الموت، وسخرت من الخطوب، ولم تبال بالأسود ولا بالحيات السود.

فربت أبو الطيب ذراعها في رفق وقال: لا تخافي يا فاطمة فالطريق آمنة، ولن أغيب عنك طويلًا.

– إن الوساوس تقتلني يا سيدي، وإني أشعر في هذه المرة — ولا أدري لم أشعر — بشيء يكاد يقف له قلبي، فبالله عليك لا ترحل يا أبا الطيب.

– هذه وساوس شيطان يا فاطمة فاصرفيها عنك. ثم مدّ إليها ذراعيه في رفق فعانقته باكية مكلومة الفؤاد، وأخذت تردد الحسرات، وتزوِّد بالدعوات، فاجتذب نفسه من ذراعيها وأسرع إلى الباب، فرأى عبيده قد أعدوا كل شيء للرحيل. ففصل من الكوفة ومعه ابنه محسد وعبده مفلح في أول صفر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قاصدًا أرجان، وهو يقول:

شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم

– كل شيء ينال بالصبر والحزم.

وبعث المتنبي إلى ابن العميد غلامًا يعلمه بقدومه، وكان ابن العميد مضطجعًا في دسته وحوله كبار رجاله، وقد علم في الصباح بقرب قدوم المتنبي، فالتفت إلى نديمه العلوي العباسي.

– إننا ننتظر من أبي الطيب شعرًا أبلغ وأروع مما قاله في سيف الدولة وكافور.

– حقًّا إنه كان ينثر درره فوق من لا يميزون الدر من الحصى، أما وقد جاء ينشد «الجاحظ الثاني» الذي امتلك زمام الأدب، ودانت له رقاب البلاغة، فيجب أن يفكر طويلًا قبل أن يقول، وأن يبرز من بدائعه ما لم يمر بخيال شاعر.

– أتعرف أن الأديب أحيانًا تفوته الإجادة إذا حرص على أن يجيد؟

– كيف يا سيدي؟

– إنه إذا حاول الإتقان التجأ إلى التعمق والتعمل، وأدركته حال عصبية من التشكك تحول بينه وبين فطرته السليمة، وقد لمح المتنبي الذي لم يفته شيء من خواطر النفوس هذا المعنى إذ يقول:

أبلغ ما يطلب النجاح به الطبـ
ـع وعند التعمق الزلل

وبينما هما في الحديث إذ دخل الحاجب يؤذن بقدوم المتنبي وأنه ينتظر بظاهر المدينة، فوثب ابن العميد من مضجعه وأمر حجّابه وقواده باستقباله، فسار الموكب وعاد بأبي الطيب بين مظاهر الحفاوة والإكرام، ولما مثل بين يدي ابن العميد قام له وقرّب إليه كرسيًّا عليه وسادة من ديباج، وقال: لقد شرفت بك بلاد فارس يا أبا الطيب، ولقد كنا في شوق إليك وإلى شعرك وأدبك، وكنا نتلقط أخبارك ونتزود بما يطير إلينا من أشعارك بعد أن ملأت شهرتك الدنيا وشغلت الناس، إن شعرك أصبح حديث كل لسان، ومستشهد كل أديب، فلقد ماتت إحدى أخواتي، فورد عليَّ نيف وستون رقعة في التعزية ما منها إلا وقد صدِّر بقولك:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

فوقف المتنبي إجلالًا لهذا الثناء وقال: أدبي يا سيدي قطرات من بحرك الفياض، ولمحات من عبقريتك النادرة. فابتسم ابن العميد واهتزّ للمديح، ثم سأله عما لقيه في طريقه وما لاقاه في سفره، فأفاض في وصف الطريق وما احتمله من عناء ونصب، ثم أسرع فقال: وقد هوّن كل هذا رجاء مولانا والأمل في لقائه، وبحث في كمه فأخرج درجًا كتب فيه قصيدة فوقف وأنشدها بين يدي ابن العميد، وكان الجمع حاشدًا، وإعجاب السامعين شديدًا، والثناء على الشاعر متواليًا، ووصله أبو الفضل بمائتي دينار وبسيف من أثمن السيوف وأغلاها، وأفرد له دارًا وخص به خدمًا وعبيدًا. وكان الشاعر يزوره في كل يوم ويظهر الابتهاج والسرور، ويحمد الله الذي وفقه إلى قصده. واقتنص ابن العميد الفرصة فقرأ على أبي الطيب كتابه الذي سماه «ديوان اللغة»، وكان يعجب لحفظه وغزارة علمه بالأوابد والنوادر. وأراد يومًا أن يتبسط مع أبي الطيب ويداعبه، فقال: إن لي نظرات ومآخذ على قصيدتك التي أنشدتها. فدهش المتنبي، وقال: ما هي يا سيدي؟

– لقد قلت:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك ما لم يجر دمعك أو جرى

ثم قلت بعد هذا البيت:

كم غر صبرك وابتسامك صاحبًا
لما رآه وفي الحشا ما لا يرى

وهذا تناقض بيّن، فقد أخبرتنا في البيت الأول أن حبك وبكاءك ظاهران سواء أصبرت أم لم تصبر، وسواء أجرى دمعك أم لم يجر، ثم عقبت بأن صبرك خدع الناس وأخفى عليهم وجدك وهيامك. فأسرع المتنبي وقال: تلك حال وهذه حال، غاية الأمر أن البيت الثاني متقدم في الوجود على البيت الأول؛ لأن هذا المحب في أول أمره وقبل أن يضنيه الهوى، ويغيّر حاله الهيام، كان يغر من رآه، ولكنه بعد أن ألحّ عليه السقم لم ينفعه الجلد ولم يُغن عنه الصبر، فبدا هواه لكل ناظر.

– هذا طريق ملتو لا تدرج فيه العقول. ثم ماذا تقول في مخالفتك بين مصراعي البيت الأول؟ فقد أتيت في المصراع الأول بإيجاب بعده نفي، وفي المصراع الثاني بنفي بعده إيجاب.

– إنها مخالفة في اللفظ لا في المعنى يا سيدي؛ لأن من صبر لم يجر دمعه، ومن لم يصبر جرى دمعه. فقهقه ابن العميد وصاح: لن تُغلب يا أبا الطيب، فإن لك في كل مضيق منفذًا يخفى على كل عين.

وذهب المتنبي إلى داره وقد آلمه النقد فالتقى بابن حمزة، وقال: لقد ألقى عليَّ سيدك الرئيس اليوم درسًا في الأدب والنقد. ثم أخبره بما دار في المجلس فهوّن عليه الأمر، وقال: إنها ممازحة أديب. فصاح المتنبي: لا أحب هذه الممازحات.

– لقد أكرمنا الرجل وأحسن مثوانا، فيجب أن نغضي عن بعض ما لا نحب، بل يجب أن نعترف له بالسبق في ميدان الأدب في شيء من المجاملة والتواضع.

وجاء عيد النيروز وهو عيد يحتفل فيه الفرس بقدوم الربيع، وينثرون الورود في كل مكان، وينظمون من الأزهار عقودًا وتيجانًا، فأعد المتنبي قصيدة من أروع الشعر وأبدعه خيالًا وأحلاه رنين نغم، هنأ فيها أبا الفضل بالنيروز، واعتذر عن بعض تقصيره في قصيدته الرائية، وقد جاء في القصيدة الجديدة:

نحن في أرض فارس في سرور
ذا الصباح الذي نرى ميلاده
عظمته ممالك الفرس حتى
كل أيام عامه حسّاده
ما لبسنا فيه الأكاليل حتى
لبستها تلاعه ووهاده
عند من لا يقاس كسرى أبو سا
سان ملكًا به ولا أولاده
عربي لسانه فلسفي
رأيه فارسية أعياده

وقضى الشاعر شهرين في ضيافة ابن العميد محفوفًا بصنوف الإكرام والرعاية، ولكن نفسه الملول أبت عليه أن يركد في مكان كالماء الآسن، فاغتنم لقاء الرئيس واستأذنه في الرحيل، ولكن ابن العميد فاجأه بأن عضد الدولة ملك شيراز أرسل يلح في قدومه إليه، ويتشوف إلى لقائه، وأنه بعث إليه بهدايا لم تظفر بمثلها الملوك. فاضطرب المتنبي، وقال: بالله يا سيدي دعني من هؤلاء الديلم. إنني شاعر عربي وما أنزل الله الشعر على قلبي إلا لأكون لسان العرب، وعنوان العرب، ومعيد مجد العرب.

– إن عضد الدولة رجل ديلمي النسب حقًّا، ولكنه عربي النفس عربي النزعة، وهو أديب شاعر يناصر العلم ويرفع شأن دولة العرب، وسيصل إليك من عطائه وصلاته فوق ما يتوهّم خيال شاعر.

– بالله عليك يا سيدي لا تغرني بهذه الوعود، فإني ملقى من هؤلاء الملوك، ملدوغ من جحورهم مرات. ولولا مطامحي ما أصغيت إلى أكاذيبهم، ولعشت في خير حال، أقصد الواحد منهم بعد الآخر، فأتوجه إليه بآيات خالدات من الشعر الذي تحسده لآلئ البحار، فإذا نال مني لا يبتغي تنكر لي، وصرف عني وجهه في صلف وكبرياء.

– إن عضد الدولة ليس من هذا الصنف يا أبا الطيب، إنه رجل خُلق ليكون ملكًا، وملك خلق ليكون رجلًا، فلو أقمت عنده ما أقمت لكان في يوم وداعك أحفَّ منه بك في يوم استقبالك.

– ولكني يا سيدي رجل ملول شديد الضجر مولع بالنقلة، وهذا لا يرضي هؤلاء الملوك الذين يلذ لهم احتباسي على الرغم مني، فإذا قبلني على أن أقيم عنده كما أشاء، وأرحل عنه متى أشاء توجهت إليه.

وكاتب ابن العميد عضد الدولة بشروط المتنبي، فقبلها فشد الرحال إلى شيراز كارهًا، وقد زاد به الحنين إلى زوجه، وعادت إليه أطياف للشام وحلب، ومر في طريقه بشعب «بوان» وهو غيضة كثيرة الأدواح الملتفة المزهرة، والأشجار المثمرة، والمياه المتدفقة، وهو أحد متنزهات الدنيا الأربعة، وقد أوحى هذا الشعب إلى أبي الطيب بروائع المعاني، وهاج في نفسه ذكريات دمشق والعروبة وما للعرب من كرم ومجد حين يقول:

ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرًا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أواني
وأمواه تصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
ولو كانت دمشق ثنى عناني
لبيق الثرد صيني الجفان

ثم عاوده الحنين إلى زوجته وإلى الشام عامة، فقال:

شامية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محياها
فقبلت ناظري تغالطني
وإنما قبلت به فاها
فليتها لا تزال آوية
وليته لا يزال مأواها
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤادًا رمته عيناها
ما نفضت في يدي غدائرها
جعلته في المدام أفواها

ولما كان على نحو أربعة أميال من شيراز أرسل عضد الدولة وجوه دولته لاستقباله، وبلغ القصر في هذا الموكب الحافل فأحسن عقد الدولة لقاءه، وأنشده أبو الطيب قصيدة نال عليها أجزل الصلات وأنفس الهدايا. وكان من شهود الحفل أبو علي الفارسي وعبد العزيز الجرجاني، وهما من كبار رجال اللغة والأدب، وأقام في ذرا ممدوحه زهاء ثلاثة أشهر كان فيها موضع الإكرام والحفاوة، ولكنه كان ضجرًا كثير القلق، يمل النعيم وينزع إلى المخاطر، ولقد كان يعبِّر عن نفسه حقًّا حين قال:

أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان

فلما طغت عليه السآمة دخل على عضد الدولة واستأذنه في السفر وألحّ، ولم يجد الرجل بدًّا إلا أن يأذن له، وعاد المتنبي إلى داره فأخبر ابن حمزة ومحسدًا بعزمه، وأمر مفلحًا أن يستعد بعد ثلاثة أيام، فقال مفلح: سأعد كل شيء يا سيدي غير أني أود أن أخبر مولاي بأمر يزعجني، وقد يكون تافهًا، وقد يكون من وساوس نفسي.

– ما هو؟

– رأيت قبل أن نرحل من أرجان أعرابيًّا يطوف حول دارنا ويكثر التلفت والنظر، فلم آبه له ولكني عدت فرأيته هنا بالأمس فسألته عن شأنه، فقال: إنه رجل فقير رحل من العراق إلى فارس طلبًا للرزق، ولكنه لم يجد عملًا، ثم سألني عن موعد عودة سيدي إلى العراق، فلما قلت له: إني لا أعلم، وأظهرت الريبة في أمره، قال: إنه لا يملك راحلة، وإنه يطمع في أن يحمله سيدي معه إلى العراق، وإنه لذلك يسأل عن موعد سفره، فزجرت الرجل وأبعدته عن الدار.

– لا أرى من بأس في أن نحمل الرجل. فقال ابن حمزة: لا تتسرع يا أبا الطيب، فقد يكون الرجل نذير شر، وقد يكون جاسوسًا عليك من أعدائك بعثوا به إلى فارس ليخبرهم بيوم رحيلك إلى العراق.

– هراء. إنني أتسلح بشجاعتي لا أبالي بمن علم بمقامي أو رحيلي. على أن المتنبي قد ساوره شيء من الخوف. وطافت بنفسه ذكريات ضبة وخاله فاتك، ولكن هذا الخوف لم يدم طويلًا، فهز كتفيه في استخفاف، ثم طلب إلى مفلح أن يعد ورقًا وأقلامًا، وقام إلى حجرته فكتب قصيدة يودع بها عضد الدولة، وركب إليه في الصباح وأنشده القصيدة، فأجزل عطاءه وأحسن توديعه. وبينما كان المتنبي وصحبه وعبيده يستعدون للرحيل إذ لمحوا فارسًا على جواد أشهب يسبقهم إلى طريق العراق، فصاح مفلح: هذا هو الأعرابي الذي كان يحوم حول دارنا بأرجان فقال محسد: ويل للوغد. حقًّا إنه كان يترقّب موعد سفرنا ليعوف الطريق الذي نسلكه. وقال ابن حمزة: هذا هو الذي ظننته. وامتطى المتنبي جواده وهو يقول:

فزل يا بعد عن أيدي ركاب
لها وقع الأسنة في حشاكا
وأنَّى شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤