حصة

الفكرة شيء إنساني عجيب، فهي دائمًا تتطلَّب عملًا وجهدًا، وأحيانًا تخطر للإنسان فكرةٌ، فيظلُّ يستضعفها ويُهملها وهو كارهٌ ما وراءها من عمل حتى يقتلَها، وأحيانًا تخطر له فكرةٌ فيها جدة، وفيها روعة ولذة، فتقلب هدوءَه رأسًا على عقِب، وتنفخ فيه أطنانًا من النشاط.

وإسماعيل بيه الماحي واتتْه فكرة، وكان لا يدري من أين جاءته، ولا أي وحي هبط عليه بها، وكلُّ الذي يَدريه أنه كان ممدِّدًا في فراشه في الحجرة الزرقاء البحرية من «الفيللا» أو على الأقل هكذا وجد نفسه حين استيقظ، وهو لم يستيقظ مرة واحدة كخلق الله إنما استيقظ مرَّات، وكان في كل مرة يُراود نفسه: هل يصحو أم ينام كما كان؟ وإذا صحا فماذا يفعل، وماذا وراءه؟

وفي هذا اليوم لم يكن وراءه شيءٌ أهمُّ من النوم، ومن أجل هذا كانت استشاراتُه لنفسه لا تستغرق وقتًا طويلًا يعود بعدها لتستضيفه الملائكة.

واستيقظ مرة، وساءل نفسه كالعادة، ثم قرَّر أن ينام، ولكنَّ قرارَه كان خيالًا على وهمٍ؛ فإن جسدَه كان قد تشبَّع ولم يَعُدْ فيه مكانٌ لذرَّة نوم واحدة.

ولم يكن هناك حلٌّ إلا أن يتناوم، ويُقنع نفسَه بأنه في أحلى نُعاس، وهو في أتمِّ يقظة، وجازت الحيلةُ على جسده وفوتها على نفسه، إنما عيناه لم تحتملا أجفانَهما المضمومة طويلًا، فسرعان ما أزاحتا الأجفانَ وخرجتا إلى النور.

وسلَّم لعينيه المفتوحتين، وجابهتْه حينئذٍ مشكلةٌ عويصة، فهو لم يكن يعرف الوقت، وساعته التي على «الكومودينو» بجانبه واقفة لا حَراك بها، والضوء في ذلك الريف اللعين لا يعتمد عليه، فشعاعات الشمس قاسية فظَّة تنفذ من أسمك «شيش»، وتجعل السادسة تبدو كأنها الثانية بعد الظهر.

وتلوَّى في الفراش قليلًا وتثاءب، وماءَ، وشدَّ على جسده ملاءة السرير الزرقاء الرقيقة وأرخاها، وعرَّى ساقَه فأحسَّ بنسمة من البرودة تُغطِّيها، وعرَّى حينئذٍ الثانية.

وما كاد يستريح إلى البرودة التي تُلامس أطرافَه حتى جذَب الملاءة، فقد سمع أزيزَ ذُبابة، ثم رآها، وجاءت وراءها واحدةٌ ثانية.

وخلقت له الذبابتان مشكلةً أعقد، فمن أين يجيء الذباب؟ وكيف يقتحم الناموسية؟ أيكون فيها ثقب؟ أتكون قد بَلِيَت؟ أم تكون الذبابتان قد قضيتا معه الليلة داخل الناموسية؟ وما يُدريه أنهما اثنتان فقط؟ ألا يجوز أن ثالثتَهما قد حوَّمت حولَ فمه وهو نائم؟

وانقبض لهذه الخطرة، وانصرف عن المشكلة كلها إلى الوقت الذي لا يعرفه، كان عليه ليعلم الساعة أن يناديَ على عبده، وفي النداء مشقة، وقد لا يسمعُه أحدٌ أو قد تردُّ الستُّ تلومه على كسله، أو قد يضطر للنهوض من الفراش، وإذا نهض كان عليه أن يغتال الذبابتين بالمرة، وهذه مشقة أخرى.

من أجل هذا انصرف عن مشكلة الوقت أيضًا، وقنع بالتحديق في أرجاء الحجرة، وكان الظلام المضيء المنتشر فيها يشعُّ غموضًا أعجبه، ويصنع من زُرقة حيطانها ضِفافًا لبحيرة هادئة، وراح يَسبح في البحيرة على زوارق من أحلامه.

وفجأة واتتْه الفكرة.

وفي التوِّ اعتدل، ثم جلس على الفراش، وأزاح الملاءات الرقيقة الهفهافة، وخرج من الناموسية، وأصبح على السجادة، وغادر الحجرة وهو يقبض ذراعيه وينفضهما بقوة.

وكانت الستُّ هي أول مَن رآه، وقبل أن تفتح فمَها، سألها بلهفة: الساعة كام؟

– حداشر ونص يا سيدي.

– ياه.

وتركها قبل أن تفتح له فاهَا‎ مرةً أخرى، وأسرع إلى الحمَّام. ولم يمكثْ به سوى بضع دقائق وخرج، وكان عبدُه يتلكَّأ في الممر منتظرًا أن يسألَه عما إذا كان يحبُّ الفطار في الفراش أو على السفرة، وفوجئ عبده بالبيه وهو يأمره بصوتٍ عاجل أن يُحضر القبعة، وأسرع عبده يتلكَّأ ويُحضرها، وسمعت الستُّ الأمر فجاء صوتُها من بعيد وهي في الصالة الثانية: على فين؟

واحتار البيه قليلًا، ثم قرَّر أن يقول: آه، مفيش نازل تحت.

فردَّت عليه مستنكرة: دلوقت … ليه؟ فيه إيه؟ من غير فطار؟ وبالبيجامة؟

– ماليش نفس.

– طيب، خد الشاي بس.

– لا، أنا راجع أفطر.

وتناول القبعة من عبده وهو على أول درجة في السلم، ثم نزل مهرولًا وزعقات الست تتبعه وهو يردُّ عليها، وكلاهما لا يهتمُّ بما يقوله الآخر.

ولمحه عمُّ عبد الله الجنايني وهو يخطو أولى خطواته داخل الجنينة، فجاء مهرولًا بجسده القصير المنحني ووقف وبينه وبين البيه بُعدٌ غير قليل، وابتسم، وتجعَّد شعر ذقنه النابت الأبيض، وأطلَّت سنَّتاه الوحيدتان، المهدَّدتان في كل لحظةٍ بالانهيار، أطلَّتا من سعة فمه، وانطلق صوتُه يقول بارتعاشة فيها زمن طويل: الجنينة نوَّرت يا سعادة البيه، داحنا من زمان.

وردَّ عليه إسماعيل بك والنوم لا زال يهدج من صوته: اسمع أنت عزقت حوض الياسمين بتاع إمبارح؟

وابتسم عمُّ عبد الله بسنَّتَيه الأماميتَين قائلًا: أمال يا بيه.

– طيب وريهولي.

ومشى إسماعيل بك فوق «المشَّاية» كلها، بينما اكتفى عمُّ عبد الله بالقناة التي بجوارها، فراح يخوض في قاعها المبتلِّ، ويبتسم بين الحين والحين ويقول: من هنا يا بيه، اتفضل، الناحيادي، لا مؤاخذة.

ووصلَا أخيرًا حوضَ الياسمين، وتفحَّصه البيه بعيني صقر، ونصفُ وجهه تُظلِّله القبعة والنصف الآخر تلسعه الشمس، ودار حول الحوض وعم عبد الله يراقبه ببسمة طيبة فخورة كلُّها ثقة، وكأنه فنَّان يُباهي بما صنع، وضاعت ابتسامتُه حين توقَّف البيه عند ركن الحوض، وتملَّى في أرضه، ثم أشار إلى ناحية منه قائلًا في اتِّهام: دي، هنا، ده عزيق يا راجل!

واقترب عمُّ عبد الله، وحدَّق هو الآخر بنظره الذي على قده، ثم قال: آه، دي ريشة الحوض يا سعادة البيه، ما تتعزقش.

– مين قالك؟ مين علِّمك؟ إيش عرفك؟

وسكت عم عبد الله وهو لا يدري بماذا يُجيب، وتدلَّى فكُّه على قدْر ما سمحت به عضلاته المستهلكة وهو يسمع البيه يقول للمرة الثانية: أيوه، هات فاس.

– العفو يا بيه، داحنا …

– يالله.

– إنما … دا تعب على سعاد …

– تعب إيه راجل انته! دي رياضة، يالله روح.

وانطلقت من إسماعيل بيه كلمة «روح» كما تنطلق البندقية وفي أعقابها انطلق عمُّ عبد الله.

والبيه بينه وبين نفسه لم يكن في حاجة لأن يُكهرب الرجل هكذا ليستطيع تحقيق الفكرة التي واتتْه، وكان ممكنًا أن يطلب الفأس ببساطة ويعزق، ولكنه فعل ما فعل من قبيل التسلية، فمزاجه يومها كان رائقًا، وإذا لم يتسلَّ على عمِّ عبد الله فعلى من غيره يتسلَّى؟

وعاد عم عبد الله يجري وفي يده الفأس، وقبل أن يتناولَها البيه تردَّد الرجل لحظة، ثم تهته قائلًا: عن … عن إذن سعادتك.

ولم ينتظر الإذن، واندفع يجري، وعاد وقد غسل يد الفأس وأزال ما عَلِق بها من طين خشن جافٍ.

والتقط البيه الفأس في رشاقة كما يلتقط عصا «البلياردو»، وقد أحسَّ بخفَّة تكاد تطير به، وشعر بالريف، والصباح، وجو العِزبة، تُعيده في سرعة سحرية من السابعة والثلاثين حيث هو إلى السابعة عشرة، بل تكاد تصل به إلى السابعة.

وزرَّر سروال «البيجامة»، ثم رفع الفأس. وكانت — ككل الفئوس التي في عزبته — جافيةً فظَّة لها حدٌّ عريض ورأس غليظ. وأنزل البيه الفأس فنزلت على طول حافتها فلم تَغُرْ في الأرض قليلًا أو كثيرًا.

وحاول عمُّ عبد الله أن يتنحنح فلم يستطع، وقنع بأن يقول في صوتٍ يريد كتمَه وابتسامة كبيرة تطلُّ منها سنَّتاه الطيبتان: مش كده لا مؤاخذة يا بيه، لا مؤاخذة اعوجها شوية.

وجاءه الردُّ من بين ساقَي البيه وقد انحنى وظهره إليه: اسكت أنت، أنت مالك.

وارتقعت الفأس، وهوت وقد اعوجَّت إلى ناحية. وغوَّرت في الأرض هذه المرة. وسُرَّ البيه، وتحمَّس، ورفعها بسرعةٍ وأنزلها، وأخذه الحماس.

ووقف عم عبد الله يتفرج غيرَ مرتاح، فقد كانت هذه أول مرةٍ يرى فيها البيه منحنيًا، ويرى فيها سترة «بيجامته» وقد تهدَّلت، وتهدَّل ما تحتها، فبان جلدُه أبيض كاللبن الحليب. ولم يَطُلْ حرجُه فسرعان ما انفرج فمُه، وهزَّ رأسه وتوقَّف لبرهة، ثم عاد يبتسم ويكاد يضحك ويهزُّ رأسه من جديد.

وتنبَّه عمُّ عبد الله بعد مدة أن وقفتَه خلف البيه فيها شيء من قلة الذوق فتحرَّك ليواجهَه. وأدرك وهو يدور أن البيه ولو أنه لم يخبط إلا بالكثير عشرين خبطة، قد تعب، فالفأس كانت تغيب حتى يقتلعَها من الأرض، وتغيب حتى يقتلعَها من الهواء. ولم يعجب عم عبد الله أبدًا حين أصبح أمام البيه، فألفَى وجهَه قد صار قطعةً من الدم، والعرق يسيل بحورًا فوق حمرته، ورأسه لا يقلُّ دمًا وبحورًا عن وجهه، والقبعة كان قد ضاق بها فرماها، وأنفاسه تلهثُ وهي تُسابق بعضها البعض.

وضيَّق عم عبد الله جفونَه الأربعة، وانكمشت التجاعيدُ في وجهه فاتسعتْ زميلاتُها عند جبهته، واتخذت سيماه طابعَ الجد. وتقدَّم خطوتين فأصبح أمام البيه تمامًا، وقال وهو ينحني ويمدُّ يدَه ناحية الفأس: عنك يا سعادة البيه، عنك، ودا كلام.

وتسمَّر في مكانه حين جاءه جوابُ البيه كالرعد: اوعى، امشي.

ولم يكن لديه وقتٌ ليمشيَ فيه أو يختفيَ، وكذلك ما كان لديه وقتٌ يستغرب فيه من لهجته؛ فقد رفع البيه الفأس وهو ينتزع النفَس بكل قواه، ثم تعلَّقت الفأسُ فوق رأسه لا تريد أن تهبط، وشيئًا فشيئًا تراخت يدُه، وقذف بالفأس إلى ناحية، وجلس مرةً واحدة.

ولم يستطع الصبرَ على جلسته، فمدَّد جسدَه غيرَ حافلٍ بخشونة الأرض وما فيها من قلاقل وطوب، وعثرت أصابعُه الممتدة في كل اتجاه على شجيرة ياسمين نابتة، فاقتلعها وهو يجاهد ليملأ رئتَيه بالهواء.

وكان عم عبد الله في ذهولٍ تام، فالذي حدث كان كثيرًا عليه أن يواجهَه، أو يصنع شيئًا حين يواجهه. وكان لا يمكن أن يُصدق أن العشرين خبطة التي خبطها البيه ممكن أن تفعل مثل هذا في بني آدم.

وذهل أكثر حين لهث البيه ونفَسٌ يُحييه ونفَسٌ يُميته.

– آه، ياه … هنا … قلبي.

وتحرَّك عم عبد الله في شبْه يقظة متمتمًا: كفا الله الشر يا سعادة البيه، خير، خير إنشا الله.

واقترب حتى أصبح بجواره تمامًا، وانحنى وأمسك يدَ البيه في وجل، واستمرَّ يُتمتم ويقول: خير، خير إنشا الله.

وكانت طراوةُ اليد التي يُقلِّبُها ويشدُّ عليها غريبةً على يده، وجزع عمُّ عبد الله حين رأى ما أحدثتْه الفأس فيها من فقاقيع انفجر بعضُها واختلط سائلها الأبيض.

وأسبل البيه جفونَه، وقال في ضعف لاهث: اندهلي، اندهلي، الست … ﺣ … حالًا.

واندفعت ساقا عمِّ عبد الله تلفَّان على بعضهما وتجريان. ولم يكن جريُ عمِّ عبد الله سريعًا، فالرجل قد شاب وتلخلخ وجاوز السبعين من زمان.

ولما رجع لم تكن معه الستُّ وحدها، بل جاءت معها الستُّ الصغيرة، وعبده، وأم حياة الطباخة وكاتب الأنفار. وكانوا كلهم يهرولون، وعم عبد الله يحاول أن يريَهم الطريق. ووجدوا البيه مطروحًا لا حول له ولا قوة، وعيناه مغمضتان، ويدُه على قلبه والعَرَق يُغطِّيه.

وكانت أصواتهم عالية مختلطة تسأل عما حدث وتُخمِّن، وأحسَّ بهم البيه ففتح عينَيه، وضغط برفق على قلبه، وأزاح وجهَه إلى الناحية الأخرى، وكان لا يزال يلهث حين قال: آه، ذبحة، ذبحة صدرية يا نعمت، خلاص.

وبهتت الستُّ، وبدأت ذرَّاتُ العَرق تخترق الكِريمَ الذي فوق وجهها، واقشعرَّت شفتاها وهي تقول محاولة دون جدوى أن تبتسم: اخص عليك يا سمسم، ذبحة إيه يا شيخ!

وردَّ عليها بصوت ضعيف كلِيل: وحياتك ذبحة، آه، قلبي، جنبي، دراعي، دراعي منمل.

وأجابت الستُّ في لهفة: دي لازم يا شيخ ذبحة كدابة.

وكانت الستُّ الصغيرة تقول في نفس الوقت: ما تقولشي كده يا بابا، دانت تعبان بس، دي لازم الشمس، دي ضربة شمس.

وقال البيه في تبرُّم خافت: أبدًا يا ناس، أبدًا، بزي الشمال، الحقوني، هاتو دكتور، بسرعة، الحقوني.

وأسرعت الستُّ الصغيرة إلى الفيللا، بينما أشارت الستُّ الكبيرة إلى الباقين، وتعاونوا في حمْله دون أن تتحرك له شعرة، وابتعد الموكب في بطء، وكان يتوقف قليلًا، ثم يعود إلى المُضي، وكان صوت البيه يضعف قائلًا: قلبي، الحقوا … خلاص.

وكان صوت الستِّ يرتفع قائلًا: وطي صوتك، اسكت، الله، اسكت.

أما عبده وكاتب الأنفار وأم حياة، فكانوا واجمين وكأن على رءوسهم الأسَى.

وخلَّف الموكبُ وراءه عمَّ عبد الله والذهول لا يزال مستحوذًا عليه، والخواطر تذهب به إلى اليمين، ثم تُسرع به إلى أقصى اليسار، ثم تصطدم وتتبعثر لتتركَه حائرًا، تائهًا لا مخرج له.

ولم يمنعْه ذهولُه من الجلوس.

ولم تمنعْه حيرتُه من أن يُخرجَ علبة الدخان الصفيح من جيب «صيديريه» ويلفَّ سيجارة، ويقدح زِناده ويُشعلها.

ويبدو أن شدات الدخان راق لها بالُه، وأزاحت عن كاهله ذهولًا وهمًّا، فقد عادتْ إليه ابتسامتُه طائعةً مختارة.

وبعد أن رمى البقية الباقية من سيجارته، قام وتمشَّى إلى «السراية»، ولم يبرح نافذة «السلملك»، حتى غادر الطبيبُ المنزلَ، واطمأنَّ إلى أن الحكاية جاءت سليمة، وأنه لا ذبحةَ هناك ولا ضربة شمس.

وعاد من فوره إلى حوض الياسمين، وشمَّر عن ساعدَيه، ووضع ذيلَ قميصه في فتحة «الصديري»، وبصق في يده وأمسك بالفأس. وقال بصوته الراجف وهو يرفعها: هه، قال بهوات قال، أمال إحنا ما بتخدناش الدبحة ليه؟ دا كان زمان الواحد ادبح، وشبع دبح.

وهوَى بالفأس في ضربةٍ قويةٍ مزَّقت الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤