الفصل العاشر

إيحاء التمثيل

من رأى أفلاطون، فيما وضع على لسان أستاذه سقراط، أن الحكاية تنشئ العادة. قال: «أو لم تشاهد أن الحكاية، سواء أكانت تقليدًا للحركات البدنية أو نبرات الأصوات أو أساليب التفكير، إذا واظب عليها المرء منذ الحداثة، تحور عادة وطبيعة ثانية؟».

وكانت أدوار النساء في ذلك العصر يؤديها الرجال فعاب سقراط ذلك وزجر الشبان الشرفاء عن «محاكاة» المرأة، فتاة كانت أو عجوزًا، وسواء أكانت تنتقص رجلا أم تتمرد على الاَلهة أو تكابد المصائب والآلام والأوجاع. وهم (أى الشبان) أحق بأن يردعوا عن تقليد امرأة تعاني مرضًا أو حبّا أو وضعًا.

وأما أدوار الرجال فليس يجوز في رأى سقراط لممثلها تقليد الأرقاء أو الجبناء أو غيرهم من الناس «حين يشتم بعضهم بعضًا أو يركبه بالمجون أو حين ينطقون بالبذاء والفحش أو يقترفون من المعايب فيما بينهم أو ضد غيرهم ما اعتاده أمثالهم بالقول أو بالفعل. ومن رأيي أيضًا أنه لا ينبغي لنا أن نعودهم أن يحاكوا المجانين في كلامهم أو أفعالهم لأنه إذا كان من الصواب ألا تنقصهم الدراية بالمجانين والأشرار من الرجال والنساء فليس من الرأي أن يقتدوا بهم أو يقلدوهم».

•••

هذه خلاصة وجيزة لرأى سقراط، أو أفلاطون تلميذه على الأصح، فيما تجوز وما لا تجوز محاكاته، وما يحسن أن ينهى الشبان عن تمثيله ويزجروا عن تقليده. والعلاج عنده أن تكون الرواية مزيجًا من التمثيل والقصص، وأن يقتصر التمثيل على الأدوار التي تنطوي على النبل والسمو وما هو من ذلك بسبيل، ويذهب القصص بالأدوار الوضيعة. وواضح من ذلك أنه يرى أن لتمثيل الدور مرة بعد أخرى أثرًا في نفس من يؤديه. وليس يعنينا هنا علاجه الذي وصف ليصون للجماعة فضائل نفوسها وليوقيها أسواء التمثيل مع استبقاء ما يسعه استبقاؤه من مزاياه المستفادة من الحكاية ومن الشعر فيه، فإنها طريقة للتوفيق لا سبيل إليها في هذا العصر الذي لا شك في أن نطاق التعاطف الإنساني فيه أوسع وأرحب منه في عصر أفلاطون. ولقد كانت عناية أفلاطون بتربية ما نسميه الآن «السوبر مان»، ومن أجل هذا كان يجب أن يوقيه ما يخشى أن يفسد عليه صورته التي رسمها له في خاطره، وما عن قلة إجلال لأفلاطون أن نعجب لـ«سوبر مان» لا يخرج إلى الدنيا إلا في مثل صوب النبات أو في بيوت من الزجاج ترد عنه عادية الرياح والقر والأمطار!! وماذا عسى أن يبلغ مناعته ومن الجلد والقدرة على احتمال الحياة ومغالبة صروفها وفتنها وبوائقها؟

وما لهذا نكتب. وإنما الذي نريد أن نقوله هو أنه لا يخالجنا شك في أن للتمثيل أثره القوى في نفوس أهله رجالا كانوا أو نساءً، ومعلوم أنه ليس كل ممثل بصالح لكل دور، وأن بعض الأدوار هي في أيدي بعض الممثلين أنجح. ونحسب أن مما هو في حكم البديهي أن الصفات البدنية وحدها — من طول أو قصر، وضآلة أو جسامة، ووسامة أو دمامة وسائر ما يجرى هذا المجرى مما يتعلق بالصوت والنظر — ليست كل ما يتطلبه أداء الأدوار المختلفة، بل إن القدرة على استعارة الشخصية الروائية وإفراغها على النفس والجسم، تستدعى استعدادًا وتحتاج إلى وجود مقدار من التناسب ودرجة من التطابق. وليس معنى ذلك أن دور الخسيس لا يجيد أداءه إلا الخسيس من الناس بطبعه وفطرته، ولكن معناه أن أصلح الممثلين له أقدرهم على فهمه وعلى الإحاطة بجوانبه وعلى سهولة التسرب فيه. ومن هنا يسعك أن تقول إنه ما من ضرب من التمثيل يوفق المرء في أدائه إلا وثم مقدار من التقارب بين هذا الضرب وبين لابسه.

وما أظن بالممثلين الذين قد يطلعون على هذا الفصل إلا أن بعضهم سيحمى من ذلك أنفه وينزو في رأسه الغضب على والمقت لى. وما أحب أن يسوء أحدًا كلام لى في هزل أو جد، ولكن من العسير على أن أصدق أن امرءًا يحسن ما لم يركب في طبعه ذرة من الاستعداد له، وقد يعزى هؤلاء ويكسر سورة غضبهم أن أقول لهم إن الناس في الاستعداد للخير والشر متقاربون على كثرة ما يتفاوتون، وإننا جميعًا من طينة الأرض «وأين عن طينتنا نعدي؟» كما يتساءل ابن الرومي، إن كان مثل هذا الهراء البديهي يعزى نفسًا أو يطفئ غضبًا!

كذلك من العسير أن أصدق أن يظل الممثل يستعير نوعًا من الشخصيات معينًا وأن يفعل ذلك شهرًا بعد شهر وعامًا في أثر عام أن يخرج بعد ذلك كما دخل. وألا يكون من آثار ذلك توكيد بعض الخصائص فيه أو بروز بعض السمات. عرفت فيمن عرفت من الممثلين المرحوم أحمد فهيم أفندي وكان ذلك في أخريات أيامه فلفتني فيه من صوته وهيئته إذ يمشي أو يقف أو يلتفت أو يحدق ببصره مشابه مما يؤدى على المسرح من أدوار الملوك والنصحاء الأمناء المخلصين ومن إلى هؤلاء، وكثيرًا ما تمنيت لو أنى كنت عرفته — رحمة الله عليه — قبل أن يبلغ أثر التمثيل فيه هذا المبلغ. وعلى أن من التعسف أن يلجئنا ما نقدر أن يلقانا به بعض القراء من إنكار الدهشة — لا التفكير — إلى سوق الأمثلة الفردية وهي مما لا يدخل في الطوق أن يسوق الكاتب منها الكفاية.

وبحسبنا وبحسب القراء أن نرتد جميعًا إلى الأصل، وهو «الإيحاء» ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في بيان وقع النفس في النفس ولكنا، إيضاحًا لغرضنا نقول: إن كل حركة باعثها الإرادة وإن الإرادة تفضي ببواعثها على الحركة إلى الجهود المدركة للفكر أو لغير المدركة من الجانب الإحساسى. فإذا كان مصدر هذه الجهود التي تغذى الإرادة بالنشاط ليس ذهن الفرد نفسه بل ذهن أجنبي عنه، وبعبارة أخرى إذا صارت إرادة المرء طوع رأى سواه أو عاطفته فإن ما يصدر عن أولهما يكون موحى به إليه. وقد فسر نورداو هذا الإعداء في فصل طويل ممتع سبق به كل علماء النفس، ويلخص رأيه أو نظريته في أن «الإيحاء هو نقل الحركات الذرية من ذهن إلى ذهن على النحو الذي تنتقل به اختلاجات سلك إلى سلك غيره بجواره، أو كما يفضي الحديد المحمى إلى آخر بارد بحركات ذراته. ولما كانت كل الآراء والخوالج تنطوي على حركات لذرات الذهن فإن مما يستتبعه نقل حركات الذرات أن تنتقل الآراء والخوالج معها».

وأظهر ما يكون ذلك في التنويم المغناطيسي. فإن المنوم يستطيع مثلا أن يقول للنائم: «غدًا صباحًا في الساعة الثامنة ستمضي إلى منزل فلان بشارع كذا وتضربه بسكين مطبخ تحملها معك»، وهو مثل متطرف ضربه نورداو لمثل ما صحت التجربة فيه. قال: «ثم يفيق المنوم ويمضي إلى سبيله وهو لا يعي شيئًا مما جرى حوله في نومه، وقد لا تكون له معرفة ما بفلان هذا، ولعله أيضًا لم يمش قط بشارع كذا، وعسى ألاّ يكون قد آذى في حياته ذبابة. ولكنه في صباح اليوم التالي يتناول سكين المطبخ — وقد يسرقها إذا كان لا بد له من ذلك للحصول عليها ويذهب إلى شارع كذا ويقرع باب فلان هذا في الساعة الثامنة تمامًا ويوشك أن يضربه لولا أن فلانًا يكون قد أنذر من قبل بالتجربة وأحيط بها خبرًا فاتخذ لها ما ينبغي من الحيطة».

وقد قلنا إن هذا مثل فيه شئ من التطرف؛ لأن الثابت أن الإيحاء لا يبلغ هذا المبلغ من القوة إلا في المرضى دون الأصحاء، وفى الضعفاء دون الأقوياء. وواضح من هذا المثل أنه لكي يتخذ الذهن لنفسه حركات ذهن آخر ويعدى بآرائه وعواطف وبواعث إرادته يجب ألا يكون هو مجالا لحركات من ضرب آخر قوية أو أقوى من تلك التي يراد نقلها والإعداء بها … وبعبارة أخرى ينبغي ألا يكون مجدّا في التفكير، ومثال ذلك السلك المهتز الذي أشار إليه نورادو، لا يثير في سلك آخر مثل اهتزازاته إلا إذا كان هذا الآخر ساكنًا أو ضعيف الاختلاجات. فعلى قدر ضعف الذهن يكون تأثره بحركات ذهن غيره. وعلى قدر قوته ونشاطه تكون مقاومته. على أن حركات أذهان عدة — ولو كانت ضعيفة — إذا اجتمعت وتجاوبت بإحساس واحد قد تكون أقوى من حركات ذهن واحد قوى، ومن هنا كان تأثير الجماعة المحتشدة في الفرد وحملها إياه على تيارها على الرغم من مغالبته لفعلها في نفسه، ومن هنا أيضًا تكون ضيعة العقول القوية في المجالس النيابية وأشباهها إذا زخرت نفوس الأكثرية بعباب إحساس واحد أو متقارب.

والتمثيل حين ترجعه إلى الأصل، استيحاء لما يدل عليه الكلام، وقوامه إخلاء الذهن مما يشغله في العادة وإحلال الحالة النفسية التي يراد استعارتها محله أو بعبارة أخرى إنامة العواطف والخوالج والآراء الشخصية على قدر ما يستطيع المرء أن يفعل ذلك والاعتياض منها آراء وعواطف وخوالج أخرى، وتمكين هذه المستعارات من استغراق النفس بإخلاء المجال لها، وهذه أصلح الحالات النفسية للإيحاء، وهي قريبة شبه بحالة النائم نومًا مغناطيسيّا حين يكون الجهاز العصبي بحيث لا تؤدى ذرات الذهن من الحركات إلا أضعفها، وحين تكون من أجل ذلك غير مستقرة التوازن فيسهل بأيسر باعث دفعها إلى حركة يعينها نوع الباعث وقوته. فالممثل الذي يؤدى الدور مرة بعد أخرى يقع تحت تأثير الشخصية التي يستعيرها بضع ساعات كل ليلة ويكون استعداده لتقبل الإيحاء منها أقوى على التكرار كما يكون النائم أشد خضوعًا وأعظم طواعية في يد منومه على الإعادة.

وليس من الضروري أن يكون المرء أخبر الناس بنفسه وأقلهم خديعة في أمرها، ولولا ذلك لكان الممثلون أنفسهم أقدر على بيان الأثر الذي تخلفه أدوارهم التي يؤدونها وأعرف بمداه. ولكن المرء أسرع في العادة إلى إنكار الإيحاء لتوهمه في أول الخاطر أن الإقرار به يغض منه وإن كان متبادلا شائعًا وكان فعله ظاهرًا في التوافه والصغائر ظهوره في الأمور الجسيمة. وكيف تفسر عدوى الثؤباء وكون كثرة المؤاكلين أشحذ لشهوة الطعام، وما إلى ذلك إذا لم تفسره بالإيحاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤