الفصل الثاني عشر

الخطابة والكتابة

زارني مرة رجل كالعصفور! ولست أعنى أنه صغير في رأى العين أوالعقل، ولكنما أعنى أنه في حديثه كالفزع، لا يكاد يواقع موضوعا حتى يتركه إلى غيره ويثب عنه إلى سواه … وسألني فجأة وبلا مناسبة تقتضي ذلك: «ما أحسن تعريف للكاتب؟». ومن عادتي حين أجالسه أن أنظر إلى شفتيه دون سائر وجهه، وما رأيته قط يهم بأن يدير لسانه في فجوة فمه إلا توقعت أن يبدهنى بجديد … ففي مجلسه إمتاع التنقل وفى حديثه لذة المفاجأة، ولكنه يتعب الجليس بما يكلفه من الجهد في التماس الصلة في ذهنه بين المسائل التي ليس بينها في الظاهر أوهى علاقة … فلما ألقى إلى سؤاله ابتسمت ودعوت الله أن يلهمني الجواب قبل أن يطير إلى موضوع آخر! وذكرت قصة «الجريمة والعقاب» لصاحبها ديستويفسكي ووصف السكير فيها وكيف كان يعب في «الفودكا» ثم يروح ينثر الأسئلة شمالا ويمينًا ولا ينتظر الجواب! وعجبت لهذا الصاحي الذي له طبيعة ذلك السكران! واشتاقت نفسي أن أداعبه فقلت: «أتريد جوابًا لسؤالك؟».

قال: وهل في ذلك شك؟ إذن فيم أسألك؟

قلت: فإن لى شرطًا؟

قال: ماذا؟

قلت: ألاّ تطالبني بإيضاح.

فأطرق قليلا ثم رفع إلى وجهًا كالدرهم المسيح، ونظر إلى بعينين مظلمتين كالكهفين وقال بلهجة المستسلم إلى قضاء الله وقدره: «قبلت».

فقلت، وتكلفت السمت والوقار والجد، وزويت ما بين عيني، وغرزت عنقي بين كتفي، كأنما أوشك أن أفضى إليه بخبر ضخم، أو أنطق بحكم.: «الكاتب، ياسيدى، هو الذي لا يكون وحده حين يكون وحده»!!

فحملق مبهوتًا، ثم هز رأسه يمنة ويسرة، ونهض عن كرسيه ومد إلى يده في صمت، ومضى عنى حاسبًا أنى أسخر منه! وقد انقضت سنوات طويلات، ولكن صاحبنا لا يلقاني بعدها إلا صامتًا ولا يناولني يده إلا مطرقًا ولا يغتفر لى هذه الدعابة الخفيفة التي ركبته بها قديمًا!

كان هذا منذ سنين كما قلت، ولا أدرى ماذا أذكرنيه الآن، غير أنى لا أرى اليوم فيما قلت له حينئذ شيئًا من الهزل ولا أعد كلمتي تلك التي أسخطته إلا جدّا صرفًا وإن لم أكن أعنى ما أعنى الآن … فقد صارت الدنيا في نظري مدرسة حقيقية سوى أنها سخيفة! يتلقى المرء دروسه فيها حين يكون بين الناس سابحًا معهم على متن الحياة يصارع أمواجها ويغالب أثباجها، حتى إذا كر إلى الشاطئ وارتمى على رماله ليريح أعضاءه ويستجم لخوض العباب مرة أخرى شرع يفكر فيما لقيه ويجيل نظره فيه كالتلميذ، بعد أن ينصرف عن المدرسة، يقلب صفحات كتبه ودفاتره ليستظهر ما فيها ويثبته في ذاكرته، ولكنها كما قلت مدرسة سخيفة يقضى فيها المرء حياته ليتعلم كيف يعيش، وتتصرم أيامه وهو لم يحذق الدرس ولم يفز بالجائزة!

ولا شك عندي في أنه لا خير فيمن يحس حين يكون وحده أن حوله فراغا. ألا يهتف به هاتف أو يطوف به طائف من ماض؟ أو ينجم عنه في سماء نفسه نجم من أمل أو فكرة أو خاطر أو خيال؟! إنه إذن ليس سوى طفل كبير كل حيويته في أعضائه. فلندعه يبحث عن ترب له يلاعبه!

كان «بيكون» رحمه الله، أو صنع به ما شاء، يقول: «إن بعض العقول ملائم لما يمكن إرساله دفعة واحدة أو في زمن وجيز، والبعض يخلق مناسبًا لما يبدأ بعيدًا ولا ينال إلا بالسعي الطويل». والطراز الأول هو طراز المحدثين والخطباء، والثاني نمط الكتاب. ولقد سمعت في حياتي خطباء كثيرين لا يزال بعضهم ينعم بالحياة وبحنجرته، ولكن أقواهم وأعلاهم لسانًا وأبلغهم تأثيرًا كان كالطبول التي قالت القردة عنها فيما روى ابن المقفع في كليلة ودمنة: «لعل أفشل الأشياء أضخمها صوتًا». وكان يخيل لى إذ أسمعه يخطب الجماهير كأن في وجهه زوبعة ثائرة أو بركانًا فائرًا، وكأنه حين كان ينهض ليتكلم «بلاس» الذي حدثتنا الأساطير أنه خرج من رأس «جوبيتر» شاكيًا مستعدّا تام السلاح. وكان كلما مضى في كلامه يعلو ويبهر كالنار المندلعة، ويقنع السامعين، لا بالحجة والبرهان، بل بقوة انتفاء شكله في نفسه، وكان يجزم ولا يتردد. ويبت ولا يتلعثم، ويقرر ولا يناقش، ويعد ما شاء أقضية مفروغا منها ومسلمًا بها، وينزع المقاومة بكلمة أو نظرة أو إيماءة أو ابتسامة أو دقة على المنضدة، كأنما كانت لألفاظه وهو يطلقها أظافر وأنياب حداد تمزق الظلم الذي قام متمردًا عليه وتبعثر أشلاءه للوحوش والكلاب … وإذا ذكر بلاده وفجائعها خلته «أنطونيوس» واقفًا على جثة «قيصر» ليدفع حجارة رومية إلى الثورة والانتقاض … وكانت عينه تلتمع بنور الوطنية وصدره يعلو ويهبط جائشًا بالعواطف العامة كالعباب الزاخر. ثم كنت أتلو خطبته في المساء أو الصباح فأعجب لتفهها وفراغها وخلوها من كل روعة أو جمال … وأكاد أقول إنها غير ما سمعت أذناي منه؛ لأنها ليست سوى الرماد الذي صارت إليه النار التي كانت تزغرد في مسمعي ولأن الإشارات المقوية ليست هنا، ولا الصوت الفاتن الذي يسحر المرء عن نفسه، ولا النظرات الموحية ولا الوقفة الناطقة ولا الجماعة المتعاطفة المعدية.

ولعل أقوى الخطباء فعلا في نفوس الجماهير وأبلغهم تأثيرًا لا يكون إلا أشبههم بها وأقربهم إليها وأقدرهم لذلك على النزول إلى مستواها. وليس في وسع الخطيب إذا شاء أن يبلغ من السامعين ما يشتهى، أن يجاوز الطرح أو يهوى إلى الأعماق ويطلب الأغوار، وإلا جاوز محيطهم وحلق فوقهم وغاب عن نظرهم فلم يلحقوا به. وتأمل ما تظنه أقوى خطبة سمعتها وقل لى من أي شئ تراها مبنية؟ أليس قوامها الألفاظ المبتذلة والعبارات المذالة وما ألفت الجماهير أن تسمع وتتأثر به وتنفعل له؟ وهذه المبتذلات أفعل بألباب الجماهير لأنها لا تكلفهم مشقة ولا تدعهم حيارى ولا تتركهم فاغرين أفواههم كالبلهاء، ولا يحول دون وقوعها في نفوسهم حائل من تعويص أو عمق أو دقة أو سمو خيال أو لطف تصور، ولأنها تحرك المزاج العام وتشيه ولا تصدمه، ومن هنا لم تكن بالخطيب حاجة إلى العمق أو الابتكار، وكلما كان أدنى إلى طبقة الأوساط العاديين كان هذا خيرًا له ولهم وأجدى عليه وعليهم، فإن حائك الجيش — كما يقول «نورداو» — لا يفصل ثيابه على قد جندي ممشوق القوام من معارفه بل على الطول المتوسط. ويقول نورادو، وليس أصدق مما يقول:

«تصور أربعمائة من طراز جوته، وكانت، وهلمهولتز، شيكسبير، ونيوتن، وأضرابهم محشودين في مكان واحد ليبحثوا شأنًا عمليّا ويبدوا آراءهم فيه! قد تختلف خطبهم عن الخطب التي تلقى في المجالس النيابية — وحتى هذا مشكوك فيه — ولكن ما يخلصون إليه من النتائج ويتفقون عليه لا يتعرض لمثل هذا الاختلاف. فلماذا؟ لا لسبب سوى أن كلا منهم — فضلا عن خصائصه التي تفرده وتكسبه شخصيته الممتازة — قد ورث خصائص الجنس التي يشاركه فيها، لا زملاؤه المحشودون معه وحدهم، بل كل نكرة من نكرات الشوارع أيضًا. ونقول بعبارة أخرى إن بين الناس العاديين شيئًا مشتركًا لا تكاد تتفاوت قيمته نرمز له بهذا الحرف «أ» وأن الأفراد الممتازين يجمعون بين هذا المشترك وشئ آخر خاص يختلف باختلافهم وينبغي أن نرمز له بحرف مختلف في كل حالة مثل «ب» و«ج» و«د» إلخ. والآن فلنفرض أن أربعمائة من العبقريين اجتمعوا فإن النتيجة اللازمة تكون أن يجتمع عندنا أربعمائة «أ» وباء واحدة وجيم واحدة ودال واحدة وهكذا. فلا يسفر ذلك إلا عن أمر واحد هو أن تحرز الألفات الأربعماية نصرًا مبينًا على الباءات والجيمات والدالات المفردة … أي أن ما هو مشترك بين الجماعة يتغلب على ما هو من الخصائص اليتيمة التي لم تتأم. ولقد تعلمنا منذ زمن بعيد في المدارس أن المختلفات لا تقبل الجمع، وهذا في الواقع هو السبب في أن من الممكن أن نتصور مجتمعًا من الأفراد العاديين لا من الآحاد النوابغ. ومن المستطاع — إذا طرحت الأمر للتصويت — أن تحصل على رأى أغلبية في مذاق توابل الكرنب! أما في قيمة نظريات الحياة فلا سبيل إلى ذلك. والأرجح في الاحتمال — إذا أحصيت الأصوات على هذه النظريات — أن تفوز كل نظرية بصوت واحد هو صوت صاحبها!!».

ولكن للكاتب شأنًا مختلفًا جدّا، عليه أن ينضج ما يريد أن يفضي إلينا به ويطلعنا عليه وإلا كان لا شئ. والوقت أمامه فسيح لتلمس المواد وللعبارة عما يدور في خاطره ويتمثل لخياله، والقراء مستعدون أن ينتظروا ويصبروا حتى يهتدى إلى ما يبغي ويوفق إلى ما يشتهى. وهو مطالب بأن يؤدى ولا يمطل دينه للحقيقة وللطبيعة. إذ كان لا يخاطب نفوس الجماعة المتعاطفة بل عقل الفرد، والناس ينظرون إليه نظر التلميذ إلى المعلم لا الظهير إلى الظهير، فمن حقهم أن يتقاضوه الدقة والعمق وموافقة الصواب وتحرى الحقيقة وحسن البيان وعلو اللسان وأن يكشف لهم عما أفاده الدرس والتحصيل والنظر وما ذخر على الأيام من كنوز الفكر وأن ينصف نفسه وعقله ومواهبه وأن يجيل لحظه في سماء فكره لا في وجوه الجماهير، وليس ما يطلبه الكاتب على طرف اللسان أو حد القلم بل هو ملفوف في طيات القلب ومنقوش على صفحات العقل طبقة فوقها طبقة ودونها طبقة يرفعها الخيال والفكر واحدة إثر أخرى ويلتمس لها العبارة التي تجلوها في أحسن حلاها وأقواها.

وعسى من يقول: ولكن للخطيب مشجعًا كافيا من ثناء الناس عليه في وجهه وتصفيقهم له وما يراه من الموافقة ويحسه من القبول وما يشهد من قدرته على حمل الناس على رأيه … وليس كذلك الكاتب المسكين الذي يسهر الليل لمن ينامون عنه ويكد قريحته للناعمين بالراحة. فنقول نعم يلقى الخطيب من يصفق له ويهتف، ويدخل السرور على نفسه أن يلمس أثر كلامه ويحس وقعه ويشهد ذلك بعينيه وبكل جارحة فيه. ولا شك في أن الكاتب قد حرم هذا وما يجرى مجراه. غير أن هذا لا يضيره، وبحسبه من التشجيع أنه أمين وفى للحقيقة والطبيعة وله قوة يحسها من نفسه ويحسها الناس منه.

ولقد كان هو قارئا قبل أن يكون كاتبا، وليس يخفى عليه ولا من الغريب عنه ما يجده القارئ من المتعة وما يفيده من الغبطة. والخطابة فن أجوف، إذا اعتبرت القيمة الحقيقة للكلام لا التأثير الذي تحدثه والوقع الذي يكون لها، فمن حقها أن يكون الجزاء عليها التصفيق الوقتي وما إليه من الأعراض الزائلة. وفن الكتابة أسمى وأجل فجزاؤه من جنسه معنى سام لا مظهر خشن عامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤