البداية … المشهد الطبيعي

أخذت السيارة القديمة طراز «فورد ٣٦» تتدحرَج على الأرض غير الممهَّدة، والمغامرون الخمسة داخلها يتزحلقُون من فوق الكراسي إلى الأرض تارة، ويَقفزون فيخبطون في السقف تارةً أخرى.

وقال «عاطف» بصوت مُرتفع ليعلو فوق صوت المحرِّك المُزعج: يبدو أننا نركب «خلاطًا» وليست سيارة … وأعتقد أنَّنا في النهاية سنتحوَّل إلى عصير!

وكانت «لوزة» تُحاول الإمساك بأيِّ شيء داخل السيارة حتى لا تقع و«نوسة» تُمسك في ظهر مقعَد السائق وكأنها ستَغرق … بينما «تختخ» قد استفاد من سِمنته وجلس بجوار السائق يهتزُّ قليلًا … ولكن لا يسقط، وقد رقد «زنجر» فوق ركبتَيه وهو يُحاول فهم ما يحدث في هذا المكان العجيب.

وسأل «تختخ» السائق العجوز: متى سنَصل إلى «برج البرلُّس»؟

رد السائق من تحت شاربه الكثيف: توكَّل على الله!

قال «تختخ»: إنني متوكِّل على الله يا سيِّدي … ولكن أليس لهذا الطريق نهاية؟

قال السائق: لكلِّ شيء نهاية يا ولدي!

لم يجد «تختخ» فائدة من استمرار المناقشة … وأخذ يُفكِّر في هذه الرحلة المُفاجئة في نهاية شهر سبتمبر إلى قرية «برج البرلُّس» … هذه القرية الصغيرة التي تقع على شاطئ البحر المتوسط … وعلى شاطئ بحيرة «البرلُّس» معًا بعد مصيف «بلطيم» بنحو عشرة كيلومترات … هذه الكيلومترات العشرة أرض صَخريَّة رمليَّة حجريَّة وَعرة لم تمتدَّ لها يدُ الإصلاح … وليس من سبيل إلى «برج البرلُّس» إلا هذا العذاب في السيارة القديمة فوق الأرض المتوحِّشة.

كان خال «عاطف» المهندس هو صاحب الدعوة … فقد جاء لإقامة سور مُرتفِع من الأسمنت المسلح ليَحميَ القرية الصغيرة من البحر الذي اعتادَ كلَّ سنة أن يأكل قطعة من أرضها حتى انكمشَت وتناقصَت مساحتها، وسقط كثير من منازلها وابتلعته الأمواج.

وبرغم هذا العذاب الذي يَلقاه المُغامرون الخمسة فقد كانوا سعداء بالعودة إلى «برج البرلُّس» مرةً أخرى … وقد سبق لهم أن زارُوها في لغز الغابة الملعونة، وقضوا فترةً ممتعةً بين البحر والبحيرة.

ووصلت السيارة إلى أرضٍ رمليةٍ مُبتلَّة … وتماسَكَت ولم تَعُد تهتز، وارتاح كل واحد من المغامرين الخمسة مكانه لأول مرة … وكان «محب» يَجلس بجوار نافذة بلا زجاج، يتأمل المشهد الطبيعي المحيط به في إعجاب … كانت الكثبان الرمليَّة تَرتفِع مُخفيةً وراءها البحر الذي يبدو ويختفي بقدر ارتفاع الكثبان وانخفاضها. وفي أحضان الكثبان الرمليَّة برزت أشجار نخيل قصيرة محملة بالبلح الأحمر المستدير، أو الأصفر السماني … وإلى اليسار كانت مياه «بحيرة البرلُّس» تمتد إلى ما لا نهاية … هادئة سمراء، تقطُعها الأشرعة البيضاء المسرعة من كل اتجاه.

وأخيرًا بدت مساكن «برج البرلُّس» القصير، وارتفع في الفضاء صوت صفَّارة ماكينة الطحين الرتيب، توت، توت، توت …

وأحسَّ «محب» بنوع من السلام يغمر قلبه، وقارنَ بين ازدحام «القاهرة» الرهيب وبين هذا الفراغ الرحب … وتمنَّى أن يبقى في هذا المكان الهادئ المُسالم إلى الأبد.

دخلت السيارة القرية، وسارت بمحاذاتها عند شاطئ البحيرة حيث الطريق الوحيد الذي يمكن أن يتَّسع لها. ثم دارَت حول حافة القرية، وعادَت تَقطَع طريقًا مُوازيًا لشاطئ البحر. وفجأةً كركر المحرِّك، وأعمل السائق العجوز يدَيه وقدمَيه في الآلات، وتوقَّفَت السيارة تمامًا، وأخذت تنفث بخارًا ناعمًا من مقدمتها وكأنها عدَّاء توقَّف بعد السباق، وأخذ يَلتقِط أنفاسه.

وقال السائق مشيرًا بيده إلى منزلٍ مُكوَّن من طابقين: المهندس يسكن هنا!

وشكره الأصدقاء … وأخرج «تختخ» جنيهًا أعطاه له حسب الاتفاق، ثم حملوا حقائبهم ونزلوا أمام باب المنزل … وتجمَّع عدد من الأولاد والبنات يدفعهم حب الاستطلاع … وتقدَّم «عاطف» ودقَّ باب المنزل … وانتظر لحظات … ثم دقَّ مرةً أخرى … وقال أحد الأولاد: المهندس خرج!

التفت «عاطف» إلى الولد وقال: متى خرج؟

الولد: من الصباح الباكر … سرقوا الأسمنت!

عاطف: سرقوا ماذا؟

الولد: سرقوا الأسمنت! والمهندس عند العمدة.

وفي هذه اللحظة ظهر ولد يجري … وتقدَّم من الأصدقاء مبتسمًا وهو يقول: مرحبًا بكم … المهندس سيأتي حالًا … وقد أرسلني بالمفاتيح!

ومدَّ يده بمفتاح المنزل، وأخذه «عاطف» ودسَّه في القفل، وكانت «لوزة» التي لفَت انتباهها كلمة سرقة قد اقتربَت من مجموعة الأولاد وسألت الذي تحدَّث: تقول إن سرقةً حدثَت؟

رد الولد: نعم … سمعْنا أنهم سرقُوا الأسمنت …

لوزة: أسمنت من؟

الولد: الأسمنت الخاص بالرصيف البحري.

وفهمت «لوزة» أنه الأسمنت الذي تأتي به الوزارة لإقامة حاجز الأمواج، والمسئول عنه المهندس «ناجي» خالها.

وكان «عاطف» قد فتَح الباب ودخل المغامرون الخمسة … وكانوا مُتعبين؛ فقد بدءوا رحلتهم في السادسة صباحًا وهم الآن بعد الظهر … وأسرعوا إلى دورة المياه يغتسلون، في حين أن «لوزة» تطوف بهم قائلة: حدثت سرقة! سرقة!

قال «عاطف»: لقد سمعنا … وهل تصدقين ولدًا صغيرًا يقول أي كلام؟

لوزة: ولماذا يكذب؟

قالت «نوسة» مُبتسمة: هل جئتِ للراحة وأكل السمك يا «لوزة» … أم للبحث عن لصوص الأسمنت والطوب؟!

لوزة: من الممكن أكلُ السمك … ومطاردة اللصوص!

قال «تختخ» وهو يُمشِّط شعره: يا عزيزتي «لوزة» اصبري قليلًا حتى نرتاح من المشوار.

لوزة: أنا شخصيًّا مرتاحة … وعلى استعدادٍ للعمل فورًا!

التفت إليها «عاطف» وهو يفتح نافذة تطلُّ على البحر وقال: إذن اذهبي فورًا وطاردي لصوص الأسمنت!

وأخذ «عاطف» نفَسًا عميقًا ثم قال: اطردي من ذهنك حكاية مطاردة اللصوص؛ فنحن لسنا من رجال الشرطة … إنها هواية فقط أن نُساعد رجال العدالة، أما أن تُصبح حياتنا كلها مُطاردات ومغامرات … فهذا شيء غير معقول!

نظرت «لوزة» حولها في ضيق، ثمَّ استلقَت على أحد المقاعد في الشرفة المطلة على البحر … ومضت تتأمل المشهد الطبيعي أمامها.

كانت هناك مساحة رملية أمام المنزل، تَنتهي عند شاطئ البوغاز الموصل بين البحر وبحيرة «البرلُّس» … وقد رست على شاطئ البوغاز أنواع من المراكب بين صغيرة وكبيرة بعضها بالشراع، والآخر بالمحرِّك. وبعد البوغاز الذي يبلغ اتِّساعه نحو ثلاثين مترًا، كانت تمتد الصحراء الرمليَّة، وتَنتهي بعيدًا عند الأفق … وعلى اليمين البحر بزُرقته الصافية … وعلى اليسار البحيرة بلونها الرماديِّ.

كان مشهدًا يشرح النفس فعلًا … ولكن «لوزة» كانت تُفكِّر في لصوص الأسمنت … كيف يسرقون؟ إن الأسمنت ثقيل الوزن … فكيف يسرقه اللصوص؟ وما هي الكمية التي يسرقونها حتى يُحقِّقوا مبلغًا من المال؟ لا بدَّ أنهم لصوص أغبياء. فعادةً ما يسرق اللصوص ما خفَّ حمله وغلا ثمنه … أما الأسمنت فمما ثقل وزنه … ورخص ثمنه.

وظهرت «نوسة» على باب المطبخ تحمل صينية الشاي … وتسابق المغامرون كلٌّ منهم يَحمل كوبًا مملوءًا بالشاي الساخن … وقال «عاطف» ساخِرًا: بينما تقوم «نوسة» بعمل الشاي تقومُ «لوزة» بعمل الألغاز.

صاحت «نوسة» به: إنَّني لا أسمح بالتهجُّم على «لوزة» … إنها خيرُ مَن في مجموعة المغامرين الخمسة … ولا تنسى أنها حلَّت ألغازًا كثيرة حارتْ فيها أكبر العقول.

ووافق «تختخ» و«محب» بحماس على هذا الرأي … واحمرَّ وجه «لوزة» خجلًا أمام هذا الإطراء وقالت: أنا آسفة إذا كنتُ أضايقكم بأفكاري!

تختخ: على العكس … إنكِ تُدخِلين الحماس إلى قلوبنا … ولكن دعينا فقط نَرتاح قليلًا … ثم نرى هل يُمكن التدخُّل في حكاية سرقة الأسمنت أولًا!

وقبل أن تردَّ «لوزة» … سمعوا طرقًا على الباب، وأسرع «عاطف» لفتحِه … وكان خاله المهندس «ناجي» يقف على الباب.

أسرع جميع المغامرين إليه يُسلمون عليه … فقد كان من ألطف الشخصيات وأقربها إلى قلوبهم، وكان قد سافر إلى إنجلترا لدراسة الهندسة وحصل على أرفع الدرجات العلمية، ولكن برغم هذه المكانة، احتفظ برقتِه وتواضعه، واشتهر في أسرة «عاطف» بظرفه الشديد … حتى قالوا إن «عاطف» ورث خفة الدم عن خاله.

احتضنهم جميعًا … وصاح بهم: مرحبًا بكم في «برج البرلُّس» … نرجو أن تكون قد أعجبتكم!

ردَّت «نوسة»: إنها أجمل مكانٍ في العالم … وقد جئناها من قبل.

ناجي: آسف لأنني لم أكن في انتظاركم … فقد حدَث شيءٌ استدعى ذهابي إلى العمدة وقضاء بعض الوقت هناك.

لوزة: لقد عرفنا السبب … سرقة الأسمنت!

ناجي: مدهش … إنكم كمُغامرين تصلُون إلى المعلومات بسرعة!

محب: الأولاد الصغار قالوا لنا.

هز المهندس «ناجي» رأسه مُتضايقًا، وقال: شيء مُؤسِف فهذه القرية الآمِنة تتعرَّض لموجة سرقات متَّصلة … وليس هنا قسم شرطة … العمدة وبعض الخفراء … وحتى الآن ما زال الفاعل مجهولًا.

قالت «لوزة» متحمِّسة: ما رأيك في أن نتدخَّل لحل هذا اللغز؟

التفت إليها المهندس «ناجي» مبتسمًا ثم نظر إلى الأصدقاء وقال: لقد جئتُم في إجازة … فلا تدعوا هذه المسألة تشغلكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤