بعض المعلومات

قال «تختخ» وهو يرشف رشفة عميقة من الشاي: هذا هو قرارنا على كل حال، ولكن يُهمنا فقط أن نسمع منك ما حدث إذا لم يكن هذا يضايقك!

قال المهندس وهو يتناول كوب شاي صنعته «نوسة»: هذه القرية نادرًا ما يحدث فيها حادث سرقة … أولًا لأن الناس فقراء ليس عندهم ما يُسرَق … ثانيًا أن أهل القرية يَعرفون بعضهم بعضًا … ولو ظهر بينهم لصٌّ لعرفُوه على الفور.

وتنهَّد المهندس وهو يشرب الشاي ثم قال: وقد جئت هنا كما تعرفون منذ نحو شهرين لبناء السور أو حاجز الماء لأحمي القرية من طغيان البحر عليها … وقد أنجزنا عملًا كثيرًا … ولاحظت خلال هذه الفترة أن كميات من المُؤَن — أقصد الأسمنت والحديد — تنقُص أحيانًا، وبالطبع هناك احتمالات أن يكون النقصُ عاديًّا في الشحن، أو التفريغ، أو ونحن نعمل … فالجو رطب والأسمنت يتحجر بسرعة، لهذا لم يَلفِت الأمر انتباهي. ولكن في الوقت نفسِه سمعتُ عن وقوع سرقات في المحلات الصغيرة في القرية، وأنتم تعرفون طبعًا أنه لا يوجد هنا قسم للشرطة، وكل ما تُمثِّله قوة الأمن هو مجموعة من الخفراء، والعمدة وقد بدءوا فعلًا البحث عن مرتكب هذه السرقات.

وتوقف المهندس «ناجي» قليلًا ثم مضى يقول: وبالطبع لم يصلوا إلى شيء … فهم لا يملكون أي وسائل للبحث العلمي كما يحدث في أقسام الشرطة … فليس هناك بصمات، ولا بحث عن أسلوب تصريف المسروقات … وابتسم المهندس «ناجي» وقال: والعمدة بالطبع لا يُريد أن يظهر بمظهر العاجز؛ فحتى الآن لم يبلغ شرطة «بلطيم»، وهو المركز الذي تتبعه «برج البرلُّس»، ولكن في اليومين الأخيرين حدثَت سرقتان كبيرتان!

وبدأ المغامرون يَنتبهون أكثر وقال المهندس: جاء صائغ متجول معه كمية من المصوغات الذهبية للبيع … وكان ينام عند أحد أصدقائه … وفي الليل هاجمه عددٌ من الأشخاص لم يستطع معرفتهم بسبب الظلام، وشدوا وثاقه، وسرقوا ما معه من مصوغات.

وبعد وقفة قصيرة قال المهندس «ناجي»: وبالطبع لم يسكت الصائغ، وأسرع بإبلاغ العمدة أولًا … ثم أسرع بإبلاغ قسم شرطة «بلطيم» … وبدأ التحقيق الذي لم ينتهِ إلى شيء … ثم حدثت أمس السرقة الثانية.

ونظر المهندس «ناجي» إلى المغامرين، فوجدهم جميعًا صامتين يستمعُون في انتباه فقال: هذه المرة سُرقَت كمية ضخمة من الأسمنت … حمولة سيارة ومقطورة، حدث هذا أمس ليلًا … وعلمت في الصباح فذهبتُ لإبلاغ العمدة … الذي لم يجد بُدًّا من الاتصال بقسم الشرطة وإبلاغه بما حدث.

فقال «تختخ» متسائلًا: هذا كل شيء؟

المهندس: نعم … وحتى الآن ليس هناك أثر للصوص، برغم أن العمدة ورجاله قاموا بكل ما يمكن عمله في هذه الحالات من تحريات وبحث ولكن اللصوص لم يظهروا، كأنهم مجرَّد أشباح.

محب: وكيف تمَّت عملية سرقة الأسمنت؟

المهندس: كانت السيارة تحمل الأسمنت من محطة سكة حديد «بلطيم» إلى القرية، وفي الطريق إلى هنا، فإن الطريق يقترب أحيانًا من البحر برغم أنه مُحاذٍ للبُحيرة.

محب: لقد لاحظتُ هذا.

المهندس: وبالطبع كانت السيارة بحُمولتها الثقيلة تسير ببطء … وفجأةً قفز رجلان فوقها، فضربوا الحارس الذي يجلس فوق الشحنة، ثمَّ قفزوا بجوار السائق وضربوهُ أيضًا … وعندما أفاق الاثنان كانت حمولة السيارة قد اختفَت.

عاطف: ولكن ثقلُ هذه الكمية مِن الأسمنت يحتاج إلى وقتٍ طويل، وسيارة أخرى لنَقلها.

المهندس: هذا ما قاله ضابط الشرطة … وهو يظنُّ أن الحمولة لم تذهب بعيدًا، وأنه سيتمكَّن من استعادتها، والكشف عن اللصوص سريعًا … وهو ورجالُه منذ الصباح في مكان الحادث.

وابتسم المهندس «ناجي» ووقف قائلًا: دعونا من حديث السرقات؛ فهذه مهمَّة رجال الشرطة، وهيَّا ندبر أمر الغداء!

عاطف: هل نجد هنا «جمبري» … إنني أتمنى أن أتغدَّى «جمبري» مشويًّا وسلطة طحينة!

ناجي: أنت وحظك … فالجمبري يكثر أحيانًا، وأحيانًا يختفي فترة طويلة، على كل حالٍ سنذهب للبحث في «الحلقة»!

لوزة: حلقة!

ناجي: نعم … إن مكان بيع الأسماك هنا يُسمونه الحلقة!

وبعد لحظات كان الجميع يسيرون في حواري القرية الضيقة وحولهم عدد من الصبية الصغار، ووصلوا إلى شارع «القاشة»، وهو الشارع الرئيسي في القرية، ويُحاذي شاطئ البحر حيث تنتشر المقاهي الصغيرة، ومحلات البقالة … وحلقات بيع السمك … وكان الصيادون يَجلسون على الأرض الرمليَّة، يُرتِّقون شباكهم التي مزقتها الأسماك الكبيرة، وكان المهندس «ناجي» يتبادل معهم السلام والتحية وهم يدعُونه لتناول القهوة والشاي، فيشكرهم معتذرًا.

ووصلوا إلى حلقة سمك «الحاج علي» ورحَّب بهم الرجل كثيرًا، وسبقهم إلى ثلاجات السمك الخشبيَّة الكبيرة … وسأله المهندس «ناجي» عن الجمبري، فأجاب ضاحكًا: للأسف لم يظهر أمس ولا اليوم … عندنا بوري وبلطي وثعابين وقراميط وبساريا.

ووقف المغامرون أمام ثلاجة كبيرة رُصَّ فيها السمك الطازج كل نوع على حِدة، وبجوار الثلاجة وقف شابٌّ مفتول العضلات يكسر الثلج بمطرقة خشبية ثقيلة … واختار كل واحد نوع السمك الذي يُفضِّله، وقال الحاج «علي» إنه سيقوم «بشيِّ» السمك وإعداد الأرز الأحمر والسلطات، وإرسال كل هذا إلى منزل المهندس بعد ساعتين.

وخرج الأصدقاء من حلقة السمك، وقال المهندس «ناجي»: تعالوا تفرجوا على المشروع!

وساروا بجوار شاطئ البحر في نهاية القرية، ثم انحرفوا عند اللسان الممتد داخل البحر … وشاهدوا على الفور كُتَل الأسمنت الضخمة متراصة بجوار بعضها البعض.

وصاحت «نوسة»: ياه … إنَّها ضخمة جدًّا!

ابتسم المهندس وهو يقول: إنَّ البحر يلتهمها كما يلتهم طفل جائع قطعة شيكولاتة باللبن والبندق.

نوسة: كيف؟

المهندس: إنَّ تحت أقدامكم، وفي جوف البحر عشرات، بل مئات من هذه الكتل تم صبُّها في السنوات السابقة … ولكن البحر بجبروتِه وإصراره يظلُّ يضرب في الشاطئ حتى يُزيل الرمال التي تقف عليها الكتل الأسمنتيَّة … وشيئًا فشيئًا تَنحدِر هذه الكتل إلى جوفِ الرمال، ثم إلى جوف البحر … وتَختفي كأنَّها لم تكن.

عاطف: شيء مُدهِش!

المهندس: لهذا وضعنا مشروع هذا العام على أساس تلاصُق الكتل الأسمنتيَّة بحيث تُكوِّن رصيفًا هائل الحجم من الصعب سحبه تحت الرمال … ولعلَّ التجربة تنجح هذه المرة!

وساروا بجوار الرصيف الأسمنتيِّ الضخم، وكان العمال كخليَّة النحل يقومون بخلط الخرسانة في الأجهزة الضخمة، ويَصبُّونها داخل القوالب الخشبية الكبيرة، ووقف المهندس «ناجي» يتحدث إلى مساعدِه … ومع رئيس العمال.

وقال «تختخ»: سنتركك تقوم بعملك … وموعدنا في المنزل بعد ساعتَين!

المهندس: أظنكم تعرفون الطريق!

ابتسم «عاطف» وقال: إنَّ الذي يتوه في هذه القرية الصغيرة، كأنه يتوه في فنجان شاي.

وانصرف المغامرون فقالت «لوزة»: تعالوا نذهب إلى مكان الحادث!

تختخ: ولكنه بعيد من هنا يا «لوزة» بمسافة طويلة … ونحن جَوعى ونُريد أن نعود والسمك ما زال ساخنًا!

عاطف: إنكَ هذه المرة تُفكر بمعدتِك، وليس بعقلك يا «تختخ»!

تختخ: أنتم أحرار … مَن يُريد أن يذهب فليذهب، أما أنا فسوف أتمشَّى على الشاطئ حتى مَوعِد الغداء.

قالت «لوزة» بتعاسة: ألن نتدخَّل في هذه السرقات؟

ابتسم «تختخ» وربت على كتفها قائلًا: سنتدخَّل طبعًا!

قفزت «لوزة» أمامه وقالت: صحيح؟

تختخ: طبعًا … ولكن بحيث لا نُفسد هذه الرحلة الجميلة … سنُقدِّم مشورتنا إلى العمدة، ورجال الشرطة إذا طلبوها!

نوسة: إنهم لن يطلبوها طبعًا، فلن يُصدِّق أحد أننا نستطيع حلَّ لغز لا يَستطيع الكبار حلَّه.

تختخ: سنقوم بتحرياتنا وأبحاثنا، ثم نُقدِّم لهم النتيجة جاهزة … وهم أحرار أن يَقبلوا أو يَرفُضوا.

لوزة: فلنبدأ تحرِّياتنا من الآن!

تختخ: دعي اليوم يَمضي دون عمل … نأكُل ونستمتع بالبحر والهواء، ونَنام جيِّدًا … وما زال في الوقت مُتَّسع للعمل.

ولكن أمل «تختخ» في يوم هادئ تبدَّد سريعًا؛ ففي هذه اللحظة، وهم يقفون عند لسان الرمال الضيِّق الداخل في قلب البحر، ظهرت مجموعة من الأطفال يُطاردون رجلًا هائل الحجم … وكان الرجل يَجري دون أن يهتمَّ به أحد من السائرين، والأولاد الصغار يصيحُون خلفه في نغمة واحدة منظمة: العبيط أهه … العبيط أهه … أهه!

وتقدَّم الرجل سريعًا من المُغامرين الخمسة … وكلَّما اقترب بدتْ تفاصيله أكثر. وارتعدَت «لوزة» وهي تراه يقترب مُمسكًا بقطعة من الطوب … كان عملاقًا طويل القامة … بارز العظام تحت ثَوبِه المُكوَّن من جوال قديم من الخيش مُمزَّق في أماكن كثيرة … طويل الشعر يَمتزج فيه الأبيض بالأسود، وتتدلَّى جدائلُه على أكتافه، وقد برز شعر ذقنه وشاربه إلى الأمام، مُنقلب السحنة … إحدى عينيه أصغر من الأخرى.

وأسرعت «لوزة» إلى «تختخ» وأمسكت بيده فقال لها: لا تخافي … إنه عبيط القرية، وعادةً ما يكون في القرية المصريَّة رجلٌ من هذا النوع!

لوزة: إنه مُخيف جدًّا!

تختخ: ولكنه عادةً طيب القلب، ولو كان شرسًا لما هرب من هؤلاء الأطفال … فلا تَخافي.

واقترب العملاق حتى أصبح أمامهم، وقال لاهثًا وبصوت مُتقطِّع وهو يشير إلى المُطارِدين الصغار: أبعِدُوا الأولاد!

وتقدَّم «محب» من الأولاد وقال لهم بهدوء: ابتعدوا!

ووقف الأطفال في أماكنهم. وأخذوا ينظُرون إلى المغامرين الخمسة بفضول ودهشة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤