سرقوا «علي»

قال «تختخ» مُوجِّهًا حديثه إلى العبيط: ألقِ هذه الطوبة بعيدًا! لم يردَّ العبيط، ولم يُلقِ الطوبة، بل أخذ يَنظُر إلى المُغامرين بعينه الكبيرة في تأمُّل وتركيز … وزاد توجس «لوزة»، وشدَّدت قبضتها على يد «تختخ»، وقد عاد «محب» يَصيح بالأولاد: ابتعدوا!

وأخذ الأولاد يتراجعون في هدوء، حتى انسحبوا بعيدًا … عاد «تختخ» يقول للعبيط: ألقِ هذه الطوبة!

ولكن العبيط ظلَّ متشبِّثًا بقطعة الطوب التي يحملها … كأنها سلاحه الوحيد في مواجهة الأولاد … ثم فجأة تقدم العبيط من «نوسة» … وأمال رأسه الضخم ناحيتها وقال: هاتي قرش!

فزعت «نوسة» ولكنها ظلَّت في مكانها، ومضى العبيط يُردِّد: أنا «شعبان» … هاتي قرش!

ومدَّت «نوسة» يدها في جيبها وأخرجت قرشًا وضعتْه في يده الممدودة، التي قبضت على القرش في رضًا وسعادة، وقال «شعبان» العبيط: أقول لك حاجة!

قالت «نوسة» برقَّة: تُريد قرشًا آخر؟

ابتسم «شعبان» عن أسنان طويلة صفراء، وقال: «علي.»

قالت «نوسة»: من هو «علي»؟

قال العبيط: سرقوا «علي»!

وانتبه المغامرون لهذه الكلمة … وتقدم «محب» من «شعبان» وقال له: هل يَسرقُون «علي»؟

ودون أن يُجيب «شعبان»، استدار وانطلق مُسرعًا وهو يقول: «علي» … «علي» … سرقوا «علي»!

وأخذ المغامرون الخمسة يَضحكون … ماذا يقصد «شعبان» مما قال؟ هل يُريد أن يبلغهم رسالة؟! عن أيِّ شيء؟ ومن أيِّ شخص؟ أم أنه مجرَّد هراء لرجل عبيط؟!

انطلق العِملاق مُسرعًا في اتجاه القرية، وكان الأولاد قد انصرفوا وتركوه … ولم تمضِ لحظات حتى غاب عن عيون المغامرين.

وانطلق «عاطف» ضاحكًا وقال: يبدو أن «شعبان» العبيط يعمل مخبرًا سريًّا!

ولم يضحك أحد؛ فمضى «عاطف» يقول: ما لكم تقفُون مذهولين؟! ماذا حدث؟

لوزة: ألم تسمع ما قاله «شعبان»؟

عاطف: ماذا قال «شعبان»؟! مجرَّد رجل عبيط يهذي!

لوزة: ولكنه ذكر كلمة سرقة!

عاطف: وماذا يعني هذا؟ هل إذا قال كلمة تُصبح حقيقة؟! إنكم تعيشون في أوهام إذا تصورتم أن كلام هذا العبيط يعني شيئًا.

قال «تختخ»: لقد نسينا «زنجر» تمامًا … أين هو؟

تلفَّت «محب» حوله وقال: صحيح … أين «زنجر»؟! لقد رأيته عندما كنا ندخل حلقة الحاج «علي» لشراء السمك، وبعدها لم أرَه.

لوزة: وماذا تنتظر؟ تعالوا نبحث عنه فورًا.

وانطلق الأصدقاء في طريقهم إلى حلقة الحاج «علي» وهم يتحدثون عن «شعبان» … وقال «تختخ» مُفسِّرًا حديث «شعبان»: لا بدَّ أن أحد الذين سُرقوا اسمه «علي» … وقد سمع «شعبان» اسمه … فهو يردده دون وعي.

وعندما اقتربوا من حلقة الحاج «علي» شاهدوا منظرًا عجيبًا … كان عدد كبير من الكلاب يُكوِّن حلقة واسعة … وهي جميعًا تنبح بشدة … وفي وسط الدائرة كان «زنجر» يقف وحده، لم يكن ينبح، ولكن كان شعره الأسود الكثيف منتصبًا … وقد أحنى رأسه إلى أسفل دليلًا على استعدادِه للصراع، وكان بعض الصِّبية والمارة يتفرجون على المشهد العجيب.

كان واضحًا أن «زنجر» مُحاصَر بأكثر من عشرة كلاب … وأن الكلاب مُتردِّدة في الهجوم عليه، وإن كانت الدائرة تضيق تدريجيًّا …

أسرع «تختخ» يجري وخلفه «محب» و«عاطف» ولم يَكدْ «زنجر» يشمُّ ويرى صديقَيه حتى رفع رأسه وأطلق نباحًا طويلًا حزينًا، كأنما يقول لهما إنه غير راضٍ … وإنه عاتبٌ عليهما وعلى بقية المغامرين لأنهم نسوه نحو ساعة أو أكثر.

أسرع «تختخ» يَجتاز دائرة الكلاب … وقفز «زنجر» على صدرِه كعادته … واقترب المُغامرون الخمسة، وأخذوا يَطردُون الكلاب التي ولَّت هاربة …

وشاهدهم الحاج «علي» فقال لهم: إنَّ السمك جاهز … والأرز سيَصل ساخنًا خلال لحظات … أين المهندس «ناجي»؟

رد «تختخ»: سيأتي في موعدِه!

ووقفوا يُربتون على «زنجر» … ويصالحونه … ومن بعيد شاهدوا الأولاد و«شعبان» وسمعوا صياحهم: العبيط أهه … أهه …!

وقالت «لوزة» مندفعة: تعالوا نُحدِّث «شعبان» مرةً أخرى … لقد أشار إلى حادث سرقة، واسم شخص!

تختخ: لا أظنُّك يا «لوزة» تُصدِّقين أن شخصًا عَبيطًا يُمكن أن يعرف شيئًا ذا قيمة … إنَّه يهذي لا أكثر ولا أقل كما قلت لكِ، ولا بدَّ أن أحد الذين سُرقوا اسمه «علي»!

لوزة: ولكن هناك حوادث سرقة وقعت في القرية!

محب: أرجوكِ يا «لوزة» … دعينا نقضي إجازة هادئة … وقد اتفقنا على أن نرتاح بعض الوقت ثم نبحث هذه الحكاية!

وسكتت «لوزة» وهي ساخطة … كأن قلبها يحدثها أن كلام «شعبان» ليس هراءً، وأنه يقصد أن يوصل لهم رسالة.

وغابت زفة الأولاد والعبيط العملاق … واتجه الأصدقاء إلى مركب قديم مُلقًى بجوار شاطئ البحر وجلسوا عليه … وأخذوا يتأمَّلون البوغاز الذي يصل البحر بالبحيرة، وقد تناثَر على شاطئه بعض الأولاد يصطادون السمك بالصنانير.

كان جوًّا مثاليًّا … هواء … وشمس … ومياه … ورمال … وهدوء … وأحسَّ المغامرُون بالسلام والسكينة … حتى «زنجر» نَسيَ الخناقة التي كان سيخوضُها وجلس هادئًا يتثاءب، ويستمتع مثل المغامرين بالشمس والهواء.

في موعدِه حسب الاتفاق وصل المهندس «ناجي» يَحمل بعض أكياس الفاكهة التي تشتهر بها منطقة «برج البرلُّس» … وبعده مباشرةً وصلت بنتان تَحملان الطعام، وكانت رائحة السمك المشوي تتصاعَد في الجو … وسال لُعاب «تختخ» الأكول … فلم يَكدْ يَدخُل المنزل ويُوضَع إناء السمك المشوي على المائدة حتى كشفه … واختار سمكة من نوع «القاروص»، ومدَّ أصابعه فنزَع قشرها … وانهال بأسنانه عليها.

صاح «عاطف»: حاسب … مَن يأكل وحده …

وقبل أن يُتمَّ جملته، كان «تختخ» يحمل السمكة مُسرعًا إلى الشرفة … وارتفع الضجيج والضحك من الجميع … وقامت «نوسة» و«لوزة» بإعداد مائدة الطعام، وتولَّى «محب» إعداد السلطة من طماطم «البرلُّس» الشهيرة، وهي ثمرة صغيرة الحجم شديدة الحلاوة.

وجلس الجميع حول المائدة الصغيرة … وارتفعت الأيدي ونزلت، وفي أثناء ارتفاعها ونزولها كانت الأسماك اللذيذة الساخنة تَنزلِق إلى البطون الشابَّة الجائعة.

وقال «تختخ» وهو يُلقي بشريحة ضخمة من السمك في فمه: هذه ألذُّ أكلة أكلتها في حياتي.

قال «عاطف» ساخرًا: هذه جملة تقولُها مع كل أكلة … كأنك لم تأكل من قبل!

محب: الحقيقة أنها أسماك ممتعة!

المهندس: إنَّ بحيرة «البرلُّس» مشهورة بسمكها … كما هي مشهورة أيضًا بالفسيخ!

وفجأةً قالت «لوزة»: هل تذكر يا خالي اسم الذين سُرقُوا في حوادث السَّرقات الأخيرة؟

توقف «ناجي» لحظات عن مَضغِ الطعام ثم قال: لا، لا أذكرُهم جميعًا في الحقيقة … ولكن لماذا هذا السؤال؟

ردَّت «لوزة» بسؤال آخر: هل بين الذين سُرقوا شخص اسمه «علي»؟

نظر المهندس لحظات ثم قال: لا … لا أذكر هذا الاسم، وإن كنتُ لستُ مُتأكِّدًا!

ومرةً أخرى سأل المُهندس: لكن لماذا «علي» بالذات؟

قالت «لوزة»: لقد قابلنا «شعبان» اليوم!

ابتسم المهندس قائلًا: «شعبان» العبيط!

لوزة: نعم … وقد تحدَّث عن سرقة شخصٍ يُدعى «علي»!

المهندس: وماذا يعني هذا عندكم أيها المُغامرون الخمسة؟!

لوزة: يعني!

عاطف: يَعني أنَّنا نُصدِّق كل شيء … حتى هذا الأبله المِسكين!

المهندس: لا تأخذي كلام «شعبان» مأخذ الجد … إنه يهذي طول النهار بأي كلام يخطر على باله!

محب: بالمناسبة … هل لهذا العملاق العبيط مكانٌ يأوي إليه؟

المهندس: لا … إنه ينام في أي مكان يختاره … وكثيرًا ما يختفي أيامًا لا أحد يعرف أين هو!

نوسة: هل هو عبيط فعلًا؟

التفتَ إليها المهندس مُندهشًا وقال: طبعًا، إنَّه لكذلك … وقد سمعت من أهل القرية أنه أصيب بالبله منذ كان طفلًا … وهو الآن يتجاوَز الستين من عمره!

تختخ: مدهش … إنَّ شكله وصحته القوية لا تَدُلَّان على هذه السن!

المهندس: هكذا حياة الخُبلاء عادةً … إنَّه يأكل ما يجد … وينام حيث يشاء … ويجري عندما يريد … خالي الذهن من مشاكل الدنيا وهمومها … لهذا يبدو شابًّا في الثلاثين برغم سنه الكبيرة.

لوزة: بالمناسبة … هل هو شرير؟! إن بعض هؤلاء الناس يكون شريرًا!

المهندس: على العكس، إنه شديد الوداعة، ولكن الأولاد يستثيرونه ويدفعونه إلى الهرب … وأحيانًا يمسك بقِطعة طوب، ولكنه لا يستخدمها مطلقًا.

وفي هذه اللحظة سمعوا دقًّا على الباب … وأسرع «محب» يَفتحه … وعلى العتبة ظهر أحد الخفراء وقال للمهندس: إن ضابط الشرطة يطلب سيادتك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤