رقيب خلف التلال

بدا الضِّيق على وجه المهندس «ناجي» لحظة … وتوقف عن بلع اللقمة التي كانت في فمه وقال: مسألة مهمة؟

الخفير: لا أدري يا سيدي … ولكن يبدو أنهم وجدوا دليلًا.

ناجي: قل له إنني سأَحضُر فورًا!

وانصرف الخفير وقام المهندس «ناجي» يغسل يديه وهو يقول: آسفٌ جدًّا … ولكني مُضطرٌّ لأن أرى ماذا يريد حضرة الضابط!

تضايَقَ المُغامرون أيضًا … فقد كان الطعام مُمتعًا مع المهندس الشاب الظريف، وقالت «لوزة»: سآتي معك!

المهندس: أرجوكِ … أتمِّي طعامك!

ولكن «لوزة» كانت قد غادرت مكانها على المائدة، وانطلقت تَغسل يديها … وبعد لحظات كانت تغادر المنزل مع المهندس … أما بقية المغامرين … ومعهم «زنجر» فقد استمروا في تناول طعامهم الشهي.

قال «عاطف»: أعتقد أن «لوزة» ستكون حزينة جدًّا إذا توصل رجال الشرطة إلى اللص أو اللصوص الذين سرقوا الأسمنت والمنازل والصائغ. وهي لم تَخرُج مع خالي إلا لكي تعرف، هل توصلت الشرطة إلى حل اللغز أو لا؟

قال «محب» وهو يستعدُّ لمغادرة المائدة: إنَّها في الحقيقة أكثرنا نشاطًا واهتمامًا بحل الألغاز … ولعلَّ نصف الألغاز التي اشتركنا فيها كانت هي المُتحمِّسة رقم واحد للاشتراك فيها.

وبعد فترة انتهى المُغامرون من تناول طعامهم … واشتركوا معًا في تنظيف المائدة وإعداد الشاي … ومرَّت فترة دون أن يظهر المهندس أو «لوزة» وقالت «نوسة»: لا بد أن نخرج للبحث عنهما!

وأسرع المُغامرون الأربعة وخلفهم «زنجر» إلى مقر العمدة … وهناك علمُوا أنَّ المهندس و«لوزة» … قد ذهَبا مع الضابط إلى مكان سرقة الأسمنت التي تبعد بضعة كيلومترات عن القرية. ولم تكن هناك وسيلة للانتقال، وفضَّل المُغامرون أن ينتظروا عودة المهندس و«لوزة» عند مدخل القرية. ومرَّت الساعات حتى بدأت الشمس في المغيب دون أن يظهر لهما أثر … وبدأ الشكُّ يَتسرَّب إلى نفوس المُغامرين، ولكن مع هبوط الظلام سمعُوا صوت كركرة سيارة قديمة في الطريق إلى القرية، وأسرعوا إليها … وكان بها المهندس و«لوزة»، وقد بدا عليهما الإجهاد … ولم تَكد «لوزة» تطلُّ من النافذة وترى الأصدقاء حتى قالت: لقد وجدنا بعض الأدلة.

قال «تختخ» مُتضايقًا: ما هذا التأخير؟

لوزة: لقد سرنا مسافة طويلة … فقد كان المطلوب أن يعرف خالي إذا كان الأسمنت الذي عثرُوا عليه من نوع الأسمنت المسروق.

نوسة: وهل عرفه؟

المهندس: من الصعب معرفة أيِّ اختلاف في أنواع الأسمنت؛ فكلُّها متشابهة!

وركب المغامرون و«زنجر» السيارة التي أوصلتْهم المنزل … وبرغم أن الكهرباء كانت قد دخلت قرية «برج البرلُّس»، إلا أنها وصلت إلى بعض الحارات فقط … ولم تصل إلى المنازل … لهذا أشعل المهندس لمبة جاز كبيرة … وبعد أن اغتسل هو و«لوزة» جلسا يرويان ما حدث.

قال المهندس: لقد عثر الضابط على شريط من الأسمنت على الرمال … يصل ما بين مكان السرقة وقرية مُجاوِرة تُدعى «شورى» وقد انتهى الشريط عند منزل شخص يُدعى «عرفات» يقوم ببناء منزل، ووجدنا عنده كمية من الأسمنت!

محب: إنه دليل قوي!

المهندس: فعلًا وقام الضابط بالقبض على الرجل والتحقيق معه لإثبات مصدر الأسمنت!

تختخ: وماذا كان رده؟

المهندس: قال إنه اشترى الأسمنت من تاجر في «بلطيم» … وذهبنا إلى «بلطيم» ولكن وجدنا التاجر الذي أرشد عنه «عرفات» مُسافرًا إلى «المنصورة» والمحل مغلق، ولم نتمكَّن من معرفة الحقيقة!

تختخ: إذا كان «عرفات» هو اللص … أو من اللصوص، فهذا يعني أنهم نقلوا الأسمنت من مكان السرقة إلى منزل الرجل عبر تلال الرمال … فهل وجدتُم آثار أقدام على طول شريط الأسمنت؟

ردت «لوزة»: لقد خطر ببالي الخاطر نفسه … وأخذت أتابع طوال الطريق أيَّ آثار، ولكني لم أجد آثارًا واضحة في الرمال، إلا ما يُشبه آثار حفر صغيرة في بعض الأماكن … ومن المؤكد أن الرياح قد أزالت الآثار!

تختخ: هل كان شريط الأسمنت واضحًا؟

لوزة: نعم … واضح جدًّا!

تختخ: ماذا يُشبه بالضبط؟ أقصد كيف تصورت ما حدث؟

لوزة: تصورت أن شيكارة أسمنت قد قطعت أثناء حملها وظلَّ الأسمنت يتسرَّب منها طوال الطريق!

وساد الصمت … وكانت الريح في الخارج قد اشتدَّت، وبدا صوت الأمواج واضحًا، وقال المهندس «ناجي»: والآن ماذا تأكلون في العشاء؟

نوسة: عشاء! … بعد هذا الغداء المُشبع … مستحيل!

ووافق الجميع «نوسة» على رأيها، واقترح المهندس «ناجي» أن يلعب دور شطرنج مع «تختخ» لقطع الوقت … وتحمَّس المغامرون للفكرة، أخرج المهندس علبة الشطرنج، وبدأت المباراة، واستمرت فترة طويلة، ولاحظ المغامرون أن «تختخ» — وهو أستاذ في اللعبة ليس في مستواه — كانت بعض نقلاته خطأً، وأدركوا أنه مشغول البال.

وقد كان «تختخ» مشغول البال حقًّا، حتى عندما جاء موعد النوم، ظل يتقلب في فراشه فترة طويلة قبل أن يستسلم للنعاس.

•••

في الصباح استيقظ المغامرون فوجدوا المهندس «ناجي» قد خرج، وقال لهم إنَّ الإفطار سيصلهم مع أحد رجاله في التاسعة … وفعلًا وصل الرجل يحمل صينية أعدَّ عليها إفطارًا شهيًّا من الفول المدمس والبيض.

وقال «تختخ» بعد أن انتهوا من إفطارهم: سنَذهب لمعاينة مكان حادث سرقة الأسمنت عند شاطئ البحر!

نوسة: وكيف سنذهب؟

تختخ: مشيًا على الأقدام … إنَّ المسافة لا تزيد على خمسة كيلومترات، وستكون رياضة مفيدة في هذا الجو المشرق.

وسرعان ما كان المغامرون الخمسة يغادرون المنزل، ويدورون حول صفِّ المنازل، ويتجهون غربًا في اتجاه مكان السرقة حيث ذهبت «لوزة».

وما كادوا يصلون إلى طرف القرية حتى شاهدوا العبيط يجري كعادته وخلفه بعض الأولاد وعندما اقتربوا منه أسرع إليهم يمد يده كالعادة صائحًا: هات قرش!

قال «تختخ»: كل يوم ستأخُذ قرشًا يا «شعبان»؟

رد «شعبان»: هات قرش!

وابتسم «تختخ» وهو يضع يده في جيبه ويعطيه قرشًا … في حين أخذت «لوزة» تتطلع إليه دون خوف هذه المرة بعد أن عرفت أنه مُسالم ولا يؤذي أحدًا، وعندما وضع «تختخ» القرش في يده، لمعت في عينه الواسعة نظرة ماكرة، فقالت «لوزة» تسأله: «علي» سرقوه؟

رد بسرعة: سرقوا «علي»!

لوزة: من الذي سرقه؟

شعبان: سرقوا «علي»!

ومدَّت «لوزة» يدها بقرشٍ آخَر له … ولدهشتها الشديدة رفَض أن يأخذه وقال: معي قرش.

لوزة: خذ قرشًا آخر … وقل لي مَن الذي سرق «علي».

أخذ ينظر إليها وفجأةً مدَّ يده وأمسك بيدها، وأحسَّت «لوزة» برعدة تسري في بدنها … ولكن «شعبان» ببساطة انحنى وقبَّل يدها الصغيرة وقال: «علي» سرقوه؟!

ثم مضى مبتعدًا وراقبه المغامرون وهو يختفي في أزقة القرية الضيِّقة.

وقالت «لوزة»: إنه عبيط فعلًا!

وقال «عاطف» باسمًا: وهل كنتِ تظنِّين أنه يتعابط … أو يتهابل!

لوزة: هل لمحت النظرة التي ومضَت في عينه؟

محب: فعلًا نظرة غريبة ماكرة.

تختخ: هيا بنا!

واستمروا في سيرهم بجوار شاطئ البحر … كانت الريح هادئة، والبحر ساكنًا والشمس متوسطة الحرارة وهي تصعد في الأفق، وأحسُّوا بالنشاط والحيوية … وقالت «نوسة»: لاحظتُ أمس في أثناء دور الشطرنج أنك مشغول البال يا «توفيق» … في أي شيء تفكر؟

رد «تختخ» على الفور: في المعلومات التي نقلتها لنا «لوزة»!

لوزة: حكاية سرقة الأسمنت والأدلة؟

تختخ: نعم … شيء يدعو للتأمل.

ونبح «زنجر» في هذه اللحظة؛ فقد بدا بين تلال الرمال كلب ضخم في حجم ذئب كبير، وأخذ يلعق فمه بلسان لامع، ويَحفر الرمال بقدمه، واصل «زنجر» النباح، في حين ظلَّ الكلب الضخم ساكنًا، وانحنى «تختخ» فوق «زنجر» قائلًا: اهدأ يا «زنجر» … إنه لم يَبدأك بالعداء.

وظهر خلف الكلب رجل يحمل بندقيَّة … كان طويل القامة أسود الملابس، يَربط رأسه بشالٍ أحمر … أخذ ينظر إلى المغامرين لحظات، ثم اختفى خلف التلال الرمليَّة وتبعَه كلبه.

استمرَّ المغامرون في طريقهم … واستمر «زنجر» ينبح، فقال «محب»: ماذا حدث ﻟ «زنجر»؟

رد «تختخ»: إنَّ الرجل وكلبه يتبعاننا خلف التلال!

نوسة: شيء غريب … ماذا يُريد منَّا هذا الرجل؟

وظهر رأس الرجل خلف تلٍّ رملي ثم اختفى … ومضى المُغامرون يسيرون.

وقال «تختخ» ﻟ «زنجر»: كُفَّ عن النباح يا «زنجر» … نحن فهمنا ما تريد!

وهز «زنجر» ذيله في ضيق … وأحنى رأسه ومضى ساكنًا، وإن كان يتوقف بين لحظة وأخرى ويرفع أنفه في الهواء يتشمَّمُه بعمق ثم يعوي في هدوء.

سار المغامرون وقد سيطر عليهم الإحساس بأنهم مُراقَبون، وبعد فترة أشارت «لوزة» إلى بقعة على شاطئ البحر تُكوِّن شبه خليج هادئ، وقالت: هنا حدثت السرقة!

واقترب المغامرون من المكان، ووقفوا يفحصون ما حولهم … ورفع «زنجر» أنفه في الهواء وأخذ يتشمَّم … ويعوي في حزن وكآبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤