خط الأسمنت

قال «تختخ» وهو يحدث «لوزة» وهو مُنهمك في فحص الأرض: هل رأيتِ هذا الرجل من قبل يا «لوزة» في أثناء وجودك هنا أمس؟

لوزة: تقصد الرجل الذي يراقبنا؟

تختخ: نعم.

لوزة: لا … لم أره من قبل!

تختخ: مُدهِش … هل عرف أيُّ شخص معلومات عنَّا؟

لوزة: لقد لاحظ الضابط وجودي في أثناء المعاينة … ولاحظ اهتمامي وأسئلتي فسأل خالي عنِّي … فقال له خالي إنَّنا مجموعة من المغامرين من هواة حلِّ الألغاز!

تختخ: هل كان معكم أحد؟

لوزة: نعم … الخفراء … وبعض الأشخاص الغرباء!

تختخ: هل تذكرينهم؟

لوزة: ليس كلهم!

انحنى «تختخ» فجأةً وأزاح بيده بعض الرمال، وأخذ يهزُّ شيئًا في الأرض، ثمَّ عاد فتركه مكانه، وأهالَ عليه الرمال مرةً أخرى … وأخذ يَمشي تجاه الشاطئ في خطوات مُنتظمة، ثمَّ مضى يسير بمُحاذاة الشاطئ فترة، وتوقَّف عند نُقطة معيَّنة، ثمَّ غمس إصبعه في مياه البحر وقربه من أنفه … وكان بقية المغامرين واقفين يرقبونه وقد أدركوا أنه يبحث عن شيء ما … وأنه وجد ما يبحث عنه.

وبعد أن فحص «تختخ» المكان فحصًا جيِّدَا … انحنى مرةً أخرى على الأرض وأمسك شيئًا صغيرًا جدًّا … وأخرج من جيبه كيسًا صغيرًا من الورق نفَخَه ثم وضع الشيء الصغير فيه … وثنى الكيس بحرصٍ ثم وضعه في جيبه … وألقى نظرة أخيرة على المكان، ثم قال: هيا بنا نتبع خط الأسمنت!

ومشى الأصدقاء بجوار الخط الذي أشارت إليه «لوزة» كان يمضي في خط واضح فوق الرمال، وكما صوَّرت «لوزة» إنها شيكارة أسمنت تمزَّقت وتسرَّب منها الأسمنت على طول المسافة من الشاطئ عبر التلال، وكان «تختخ» يسير في استغراق ولكنه استطاع — كما استطاع بقية المغامرين — أن يلحظ الرجل وكلبه يتنقَّلان في خطٍّ موازٍ لهم.

وتوقف «تختخ» عند مكانه، وأشار إلى شيء من بقايا روثٍ حمارٍ جافٍّ … ولاحظ المغامرون إشارته ثم مضى يتبع خط الأسمنت.

كان الخط يسير بشكل مُنتظِم عبر التلال الصغيرة … وبين النخيل القصير المحمَّل بالبلح، ولم يتردَّد «تختخ» أن يَمدَّ يدَه تحت بعض النخيل بين فترةٍ وأخرى يَلتقِط بلحة وقعت هنا وهناك، ويقول: إنه بلحٌ «رطب» من أحلى ما يكون!

وقال «عاطف»: هل هو من أدلة البحث عن اللصوص؟

ردَّت «نوسة»: يبدو ذلك … فإنَّ «تختخ» شديد الاهتمام به.

لم يُلقِ «تختخ» بالًا إلى سخرية «عاطف» ومضى يَلتقِط البلح ويَمسحه بمنديله ثم يقذفُه إلى فمه وابتسمت «لوزة» وهي تقول: ألا تخشى أن يكون ملوَّثًا؟

تختخ: ليس به أي تلوث … لقد سقط من النخلة على الرمال النظيفة لم تقف عليه ذبابة … ولا أمسكت به يدٌ غير نظيفة!

واستمرُّوا يَسيرون في الصمت المخيِّم على الصحراء … لا يسمع فيه إلا صوت البحر البعيد كوشوشة هامة.

أخيرًا هبطوا التلَّ الأخير ووصلوا إلى الأرض المُستوية، وبدت قرية «شورى» على البعد … واستمر خط الأسمنت واضحًا حتى وصلُوا إلى منزلٍ تحت البناء، منزل صغير التفَّت حوله بعض النسوة في ملابس سوداء … وقد بدا عليهن الحزن، وتوقف «تختخ» ينظر إلى المنزل لحظات، ثم نظر إلى بعض شيكارات الأسمنت بجواره، وأخذ يَعدُّها … كانت عشر شيكارات.

ونظرت النسوة إلى المغامرين، وحجَّبن وجوههن في خجل، وابتسم «تختخ» لهن ثم أشار للأصدقاء، فساروا مبتعدين.

كانوا قد تعبوا من كثرة المشي، وارتفعت حرارة الشمس … فأشارت «نوسة» إلى مقهًى صغير على شاطئ البحيرة وقالت: ما رأيكم في جلسة قصيرة للراحة؟

تختخ: فكرة طيبة!

واتجهوا إلى المقهى، وكان الصيادون كالعادة يجلسون على الأرض وأيديهم تعمل في شباكهم … وحياهم الأصدقاء فردوا التحية بأحسن منها، واختار المغامرون مائدة صغيرة على الشاطئ مباشرة، جلسوا حولها وطلبوا زجاجات الكوكاكولا، ولكن «الجرسون» اعتذرَ بعدم وجود أيِّ شيء عدا القهوة والشاي، فطلبُوا شايًا وجلسوا يتأمَّلون البحيرة الساكنة وقد انطلقت فوق مياهِها السمراء عشرات من الأشرعة البيضاء.

كان «محب» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» يتوقَّعون أن يتحدَّث إليهم «تختخ» عما فعَله على الشاطئ … إنهم لم يرَوا الشيء الذي كان مُختفيًا في الرمال، ولم يروا الشيء الصغير الذي وضعه «تختخ» في المظروف الأبيض … وكانوا جميعًا متشوقين أن يفسر «تختخ» تصرفاته على الشاطئ … ولكنهم احترموا صمته العميق، وانصرافه إلى تأمل مياه البحيرة.

وعندما جاء «الجرسون» بالطلبات قال له «تختخ»: هل تعرف صاحب البيت الجديد الذي يُبنى هناك على بُعد أمتار من المقهى؟

رد «الجرسون» بصوت متألم: طبعًا أعرفه … مسكين قبضوا عليه بتُهمة سرقة الأسمنت.

تختخ: وهو لم يَسرِقه طبعًا؟

الجرسون: أبدًا يا أستاذ … إنه رجل طيب … عم «عرفات» رجل طيب!

تختخ: إن القانون يهتم بالأدلة والقرائن أكثر من مسائل الطيبة وغيرها!

الجرسون: لا أفهم ماذا تقصد يا أستاذ … رجل طيب كيف يَسرق؟

تختخ: هذا الأسمنت الذي اشتراه … متى اشتراه؟

الجرسون: أمس يا أستاذ.

تختخ: في موعد السرقة نفسِه؟

الجرسون: لسوء حظِّه نعم … وقد أحضره ليلًا أيضًا!

تختخ: هل رأيته وهو يحضره؟

الجرسون: لا يا أستاذ … فقد كُنا قد أغلقنا المقهى … ولكني سمعت أنه نقله من «بلطيم»!

تختخ: ومن كان معه؟

الجرسون: كان معه ابنه وشقيقه.

تختخ: للأسف شهادتهما لا تكفي … فمن الطبيعي أن يشهد الأخ والابن لصالحه.

الجرسون: والله مظلوم يا أستاذ … مظلوم واسأل أيَّ شخصٍ في «شورى» وسيقول لك إنه رجل طيب لا يؤذي ذبابة!

تختخ: هل تعرف رجلًا طويل القامة مفتول الشاربَين، يلبس شالًا أحمر، ويحمل بندقيَّة ويصطحب كلبًا من نوع «الأرمنت» كبير الحجم؟

بدا الارتباك على «الجرسون» لحظات ثم قال: إنه ليس من «شورى»!

تختخ: من أين هو إذن؟

الجرسون: لا نَعرف … ولكن نسمع إنه من «نبروه».

تختخ: واسمه؟

الجرسون: اسمه «سيد الديب»!

وشكر «تختخ» «الجرسون» ودفع له الحساب، ونفَحَه بقشيشًا سخيًّا، ثم عاد إلى صمته من جديد … ولكن «لوزة» لم تستطع صبرًا وقالت: ما هي الحكاية يا «تختخ»؟ إنني بصراحة لا أستطيع صبرًا على صمتك هذا … ما هي الأدلة التي كنت تبحث عنها عند الشاطئ؟! وماذا وجدت منها؟! خاصة هذا الذي وضعته في المظروف الأبيض الصغير؟

ابتسم «تختخ» وقال «للوزة» مُداعبًا: ما هي المسافة في تقديرك بين مكان حدوث سرقة الأسمنت وقرية «شورى» حيث نجلس الآن؟

زمَّت «لوزة» شفتَيها وقالت: إنك لم تجب عن سؤالي.

قال «عاطف» ضاحكًا: إنه يُمثل دور أبو الهول … وأخشى أن يتحوَّل بعد قليل إلى صخرة، خاصَّةً في مثل هذه الرمال!

نظر «تختخ» إلى «عاطف» وقال: ما هيَ هذه المسافة يا «عاطف»؟

عاطف: نحو ثلاثة كيلومترات!

نوسة: أكثر … ربما أربعة أو خمسة … فالطريق متعرِّج، ويمرُّ بتلال كثيرة!

تختخ: بالضبط … إنَّه يتراوح بين أربعة كيلومترات وخمسة!

لوزة: وماذا يعني هذا في رأيك؟

تختخ: يعني أشياء كثيرة!

محب: مثلًا؟

تختخ: مثلًا … هل تكفي شيكارة الأسمنت الواحدة لتصنَع خطًّا من الأسمنت بمسافة أربعة كيلومترات، أو حتى ثلاثة؟

بدت الحيرة على وجوه المغامرين الأربعة … وقالت «نوسة» مُتسائلة: ماذا تعني بالضبط يا «تختخ»؟

تختخ: واضح جدًّا أن شيكارةً واحدةً لا تكفي … إنَّ المسافة تحتاج إلى خمس أو ستِّ شيكارات على الأقل، فهل كانت شيكارات الأسمنت كلها مقطوعة؟! وإذا كانت مقطوعة، هل كلها موضوعة بزاوية واحدة بحيث تُكوِّن كلها خطًّا واحدًا لمدة أربعة كيلومترات؟

قفزت «لوزة» وصاحت: تَقصِد أن خط الأسمنت دليل مُزيَّف!

تختخ: بالطبع مزيَّف … وقد تمَّ بشكلٍ يوحي بأن من سرق الأسمنت قد نقله من مكان الحادث إلى هذا البيت … فإذا عرفنا أن كمية الأسمنت ضخمة ولا يمكن نقلها في ليلة واحدة على حمار أو حتى عشرة حمير وإذا لاحظتُم، أن شيكارات الأسمنت عند منزل الرجل سليمة لم تُقطع فإن هذا الدليل يُصبِح مشكوكًا فيه!

عاطف: ومقصود به اتِّهام الرجل لإبعاد التهمة عن أشخاص آخرين!

تختخ: تمامًا … والمطلوب الآن أن نُقنع ضابط الشرطة بهذا الدليل أو هذه الأدلة، وفي الوقت نفسه نطلب منه الإبقاء على الرجل مقبوضًا عليه!

بدت الدهشة على وجوه الأصدقاء وقالت «نوسة»: كيف نُبقي بريئًا في السجن، ونحن نملك أدلة تبرئته؟!

نظر إليها «تختخ» باستخفاف وقال: كيف يَخفى عنكم قصدي من هذا؟!

محب: فهمت … إنك تقصد أن يظلَّ الفاعل الأصلي مطمئنًّا على أنه ضلَّل رجال الشرطة، فلا يأخذ حذره!

تختخ: بالضبط … ولهذا فإنَّني سأفعل شيئًا آخر … لن أقول لضابط الشرطة شيئًا الآن … ولنتركه يظنُّ أنه قبض على الفاعل … فإنَّ المعلومات قد تتسرب إلى الفاعل الأصلي من قسم الشرطة حيث يتردَّد عدد كبير من الناس، ربما يسمعون عن هذا الموضوع، ويبلغون الفاعل الأصلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤