عواء الذئب

قضى الأصدقاء بعضَ الوقت على المَقهى … ثم اقترب موعد الغداء، فاتخذوا طريقهم إلى قرية «برج البرلُّس» واقتربوا من منطقة العمل قرب شاطئ البحر وكانت في انتظارهم مفاجأة … قال لهم المهندس «ناجي» وهو يقف بين العمال مُنهمكًا في العمل: لقد سرقوا الحاج «علي»!

وقع خبر سرقة الحاج «علي» على المغامرين الخمسة وقع الصاعقة … لقد تأكَّد الآن أن «شعبان» العبيط لم يكن هازلًا عندما قال: إن «علي» سيُسرَق … صحيح إنه لم يُفرِّق بين الفعل الماضي والمستقبل … ولكنه كان يعرف الحقيقة.

قالت «لوزة» ألم أقل لكم … إنَّ العبيط يعرف شيئًا!

محب: شيء لا يصدقه عقل! كيف عرف «شعبان» أنَّ الحاج «علي» سيُسرَق؟!

تختخ: لقد بدأت الحكاية تتعقد … فعندنا أدلة كثيرة، وبرغم هذا فالموقف غامض جدًّا!

لوزة: على العكس … إنَّ كل ما علينا الآن أن نبحث عن «شعبان» … وسنعرف منه من هم اللصوص!

محب: معقول جدًّا … هيا بنا!

صاح المهندس «ناجي» وهو يراهم يَنصرفُون: سيصل الغداء بعد نصف ساعة إلى المنزل، وسألحق بكم هناك!

ومضى الأصدقاء يسألون عن «شعبان»، وسمعوا عشرات الإجابات … كل واحد يقول: إنَّه رآه من فترة هنا … وآخر يقول إنه رآه هناك، وثالث يؤكد أنه شُوهد منذ دقائق قليلة قرب الجسر … ووراء كل إشارة أو مكان كان المغامرون ينطلقون، وفي كل مرة لم يكن «شعبان» موجودًا، وأخيرًا قرروا أن يتحدثوا مع الأولاد … إنهم يعرفون «شعبان» أكثر مما يَعرفه أي شخص آخر.

وتحدث معهم ولد صغير فقال: إنَّ «شعبان» غادر القرية في الصباح!

لوزة: وأين ذهب؟

الولد: لا أحد يدري أين يذهب «شعبان»، إنه يختفي أحيانًا أيامًا كاملة لا أحد يعرف مكانه … فهو في بعض الأحيان يَركب أي سيارة مارة ويذهب إلى «بلطيم» … خاصةً في يوم السوق ولا يعود إلا ليلًا ماشيًا.

محب: ماشيًا هذه المسافة كلها؟

الولد: طبعًا … إنه لا يتعب أبدًا، وهو أحيانًا يذهب مع الصيادين إلى البحيرة لصيد السمك، ويَبقى في بعض الجزر المنعزلة وحيدًا ولا يعود إلا بعد أيام.

نوسة: يبدو أنه رجلٌ بلا مكان.

وبعد أن تعب المغامرون من اللفِّ والدوران في حواري القرية، عادوا إلى المنزل ووجدوا المهندس «ناجي» ينتظرهم في الشرفة … وعندما صعدوا إليه قال: ما الذي أخركم حتى الآن؟

لوزة: إنَّنا نبحث عن «شعبان» العبيط!

ناجي: لماذا؟

لوزة: لقد قال لنا أمس إنَّهم سرقوا «علي»، واليوم قلت لنا إنَّه سُرق فعلًا.

ناجي: هكذا هذا العبيط … كثيرًا ما يقول كلامًا تُحقِّقه الأيام!

تختخ: هل تعتقد أنَّه كان يخرِّف؟

ناجي: الحقيقة لا أدري … ولكن سكان القرية يَنسبون إليه بعض الخوارق مثل التنبؤ بالمستقبل … وكثيرا ما تسأله السيدات إن كنَّ سيلدن ولدًا أو بنتًا ويقولون إنَّه دائمًا يقول الجواب الصحيح!

نوسة: شيء مدهش للغاية!

ناجي: ولكنهم في كلِّ القرى يَنسبون إلى البلهاء من أمثال «شعبان» كثيرًا من الخوارق … ولعلكم لا تنسون أن الريف ما زال به بعض العادات العجيبة!

لوزة: وكيف تفسِّر ما قاله «شعبان» يا «تختخ».

تختخ: الحقيقة لا أدري … وبالنسبة لي فإنَّني لا أصدِّق أنَّ أحدًا يمكن أن يتنبأ بالمستقبل — لا العبيط ولا العاقل — فالمستقبل بيد الله …

وقطع «تختخ» جملته ليسأل المهندس «ناجي»: ولكن من هو «علي» الذي سرقوه؟

ناجي: إنَّه الحاج «علي» … تاجر السمك الذي اشترينا منه السمك أمس!

عاطف: هذا الرجل الطيب؟

ناجي: نعم … كان عنده مبلغ ٦٠٠ جنيه سيدفع منها حساب الصيادين الذين يتعاملون معه، وكان يضعها في خزينة في دكانه في حلقة السمك … وفي الصباح ذهب فوجد الخزينة مفتوحة وقد اختفت النقود!

وانهمك الجميع في الأكل … وكان هذه المرة طبخة مشهورة في «برج البرلُّس» هي «الصيادية» وهي أرز مدفون فيه ثعابين الماء مقطَّعة إلى حلقات صغيرة.

وبعد تناول الطعام قال المهندس «ناجي»: سأنام قليلًا فإنَّني مرهق … فهل ستبقون أم ستخرجون؟

تختخ: سنخرج للبحث عن «شعبان»، إنَّني أريد أن أقابله؛ فقد أحصل منه على معلومات تفيدنا في البحث عن اللصوص!

ناجي: وهل توصلتم إلى شيء حتى الآن؟

تختخ: توصلنا إلى كثير!

ناجي: هل ستُخطرون الشرطة بما توصلتم إليه؟

تختخ: ليس الآن!

وغادر المغامرون المنزل وخلفهم «زنجر» لا يَدري لماذا كل هذا السير الطويل في حواري القرية … إنَّهم يبحثون عن شخص، فلماذا لا يقولون له وهو يَعثُر عليه سريعًا … واتفق المغامرون على أن ينقسموا إلى قسمَين «محب» و«تختخ» معًا والباقون معًا.

وما كاد «محب» و«تختخ» يسيران إلى الجسر حتى أسرع إليهما الولد الصغير الذي تحدثوا معه آخر مرة وقال لهما: لقد وجدت «شعبان»!

لوزة: أين هو؟

الولد: إنه مُختفٍ في طاحونة الغلال خارج القرية!

وأسرع «محب» و«تختخ» خلفه، وكان صوت صافرة الطاحونة واضحًا فلم تكن تبعد عن القرية بأكثر من كيلومتر.

كان الولد يمشي سريعًا وبجواره «محب» فسأله: كيف عثرت عليه؟

الولد: عندما عرفت أنكم تبحثون عنه أخذت أسأل كل من أعرف، وأخيرًا علمتُ من خالتي التي كانت تطحن بعض القمح أنها شاهدته يدخل الطاحونة، وأنا أعرف أين يختفي فيها!

محب: وهل الطاحونة كبيرة إلى هذا الحد؟!

الولد: إنها طاحونة كبيرة وقديمة … وأجزاء كثيرة منها مهجورة!

عندما وصلوا إلى قرب الطاحونة لاحظوا عددًا كبيرًا من الناس يغادرونها.

فقال «محب» للولد: ما هذا؟

قال الولد: لقد انتهوا جميعًا من الطحين، وسيُغلقون الطاحونة الآن!

محب: وكيف ندخل؟

الولد: إنني أعرف طرقًا كثيرة لدخولها؛ فنحن نلعب فيها عندما يغادر صاحبها.

كانت الطاحونة بناءً ضخمًا من الطوب والحجارة، تعلوها مروحة كبيرة تدور بالهواء كانت تدير آلات الطاحونة قديمًا … وتحيط بالمبنى القديم كميات هائلة من الأحجار والرمال، ولا شيء حولها بعد ذلك إلا الصحراء، وتقع على مسافة نحو كيلومتر من «بحيرة البرلُّس».

اقترب الثلاثة من الطاحونة وقد خرج كلُّ مَن فيها، وأغلق صاحبها بابها الكبير بقفل قديم تراكم عليه الصدأ … وبعد لحظات اختفى الجميع ولم يبقَ سوى الأولاد الثلاثة.

كان الولد متحمسًا جدًّا لمساعدة الأصدقاء، فقال له «تختخ»: إذا وجدنا «شعبان» هنا حقًّا فسوف نعطيك جائزة ظريفة!

الولد: إنني أُريد علبة ألوان!

محب: لقد أحضرت معي علبةً وسأُعطيها لك … بالمناسبة ما اسمك؟

الولد: اسمي «جمعة»!

محب: والآن يا «جمعة» … أين الطريق إلى داخل الطاحونة؟

جمعة: ستدخلُون من طريق سرداب البحر ولكن لن أدخل معكم فسأخرج مع أبي للصيد الآن!

ومشى «جمعة» … وخلفه «محب» و«تختخ» وداروا حول الطاحونة حيث وجدوا تلًّا رمليًّا تحيط به كميات ضخمة من الأحجار والأعشاب النامية.

وأشار «جمعة» إلى نخلة عجوز قد التصق جذعها بالأرض ونمتْ حولها الأعشاب، ودخل «محب» ثم «تختخ» وسارا في دهليز طويل … وشيئًا فشيئًا غاب ضوء الشمس وعمَّ الظلام الدهليز … وفجأة سمعوا أصواتًا كالصفافير الرفيعة … وخفقات مئات من الأجنحة، وتوقف «محب» مرتعبًا وقال: هل معك بطارية؟

تختخ: للأسف … نسيت أن أحضرها معي، فلم أتوقع أن ندخل مكانًا مُظلمًا في ضوء الشمس.

وزادت الصفافير، وخفق الأجنحة … ثم أحس «تختخ» و«محب» بالصفافير تقترب منهما بشدَّة، وأحسَّا بخفق الأجنحة حول وجهيهما وصاح «تختخ»: إنَّها مئات من الخفافيش أزعجها وجودنا!

محب: إنَّني أكره الخفافيش … وأخشى أن تَلتصق بوجهي!

تختخ: هل نخرج؟

محب: لا … سنتقدَّم.

ومضيا وكل منهما يضع ذراعيه حول وجهه ورقبته والخفافيش تطير وتصرخ في الدهليز المظلم … كانا يتحسَّسان طريقهما في الظلام وهما في غاية الدهشة … فلم يتوقَّعا أن يكون هناك دهليز مظلم إلى هذا الحد في وضح النهار.

وفجأةً سمعا صوتًا جعل الدم يتجمد في عروقهما … كان صوتًا حزينًا طويلًا يُشبه عواء ذئب وحيد … وتوقف الصديقان وقد شلَّهما الرعب … كان الصوت يأتي من أعلاهما … ومد «تختخ» يده إلى فوق، فاصطدمت بسقف حجري رطب!

قال «تختخ»: ما هذا؟

محب: لا أدري … إنه يُشبه صوت رجل يتعذب!

ومرةً أخرى خطر لهما أن يعودا … ولكن دماء المغامرة التي تَسري فيهما دفعتهما إلى التقدم بعد أن سكن الصوت … سارا مسافة وهما يتحسسان الجدران حولهما … وفجأةً وجَدا أنهما يخوضان في مياه قليلة الغور، وتوقَّفا لا يَدريان ماذا يفعلان! ومرة أخرى جاء الصوت الحزين الممدود من فوقهما … وتوقفا تمامًا وقد أحسَّا أنهما وقعا في مأزقٍ خطيرٍ.

وفكر «تختخ» أن الولد الصغير «جمعة»، لم يكن إلا طُعمًا أرسله اللصوص للإيقاع بهما في هذا المكان المخيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤