في المصيدة!

قال «تختخ»: أعتقد أنَّنا وقعنا في فخٍّ لا فَكاك منه!

محب: تعالَ نَرجِع!

تختخ: أظن أن اللصوص قد أغلقوا الفتحة التي دخلنا منها بطريقة ما ولن نستطيع الخروج، والحل الوحيد أن نستمر في التقدم … فإذا وصلنا إلى الطاحونة فسنجدُ وسيلة للخروج أو جذب الأنظار إلينا!

وظلا يسيران والمياه تتزايد حتى وصلت إلى أعلى الساقين، وأصبحا يسيران بصعوبة، وفجأة قال «محب»: انظر يا «تختخ»!

تختخ: أين؟

محب: على اليمين!

ونظر «تختخ» إلى حيث حدَّد «محب» وشاهد بقعا كبيرة من الضوء في حجم عجلة السيارة … وقال «محب»: ما هذا؟

تختخ: في الأغلب فتحة بئر … يتسلَّل منها ضوء النهار … هيا نتجه إليها!

وسارا يخوضان في المياه حتى وصلا إلى بقعة الضوء، ونظرا إلى فوق، وكانت فوهة بئر كما توقع «تختخ» بالضبط … ونظرا إلى أعلى … كانت فتحة البئر ترتفع عن الأرض بنحو عشرة أمتار.

قال «تختخ»: لقد كُنا نسير في خطٍّ مائل منحنٍ إلى أسفل، هذا يُفسِّر وجود المياه، فهذه بئر مهجورة … ولا تنسى أنَّ هذه القرى كلها كانت تَشرب من مياه الآبار حتى عهد قريب.

محب: هل تظن أن من الممكن تسلق الفتحة؟

تختخ: هذا هو الحل الوحيد!

وأخذا يتحسسان جدران البئر، وكان الظلام أقل كثافة، فعثرا على بعض النتوءات في الجدار الدائري وقال «محب»: سأُجرِّب أنا!

واستخدم «محب» عضلات جسمه الرياضي في القفز على الحائط، ثم أخذ يبحث عن أحجار بارزة يمسك بها، ثم يضع قدميه عليها، ومضت فترة دون أن يتقدَّم إلا قليلًا وبدأت دائرة الضوء تضيق … وفجأة ارتفع صوت الأنين الحزين العميق … واختلَّ توازن «محب» وسقط من على جدار البئر، ولحُسنِ الحظ لم يكن قد ارتفع كثيرًا … وأسرع «تختخ» يمدُّ يده حيث سقط «محب» يساعده على الوقوف.

كانت المياه شديدة البرودة، ووقف «محب» يرتجف وهو يحسُّ بآلام في ساقيه وكتفه وذراعه، وقال «تختخ»: يجب أن نفكِّر قليلًا … فإنَّنا إذا استسلمنا للانفعال قد يؤدي هذا إلى عدم خروجنا من هذا المكان العجيب.

محب: هل تتصور أن الولد قد ضحك علينا، وقادنا إلى هذه المصيدة؟

تختخ: لا أظن؛ فقد بدا بريئًا جدًّا … ولكن لعلنا متبوعين.

محب: على كل حالٍ ليس أمامنا إلا العودة؛ فقد بدأت الشمس تغرب وبعد قليل سيعمُّ الظلام، ولن نتمكَّن من العثور على المدخل!

سكت «تختخ» وأخذ يُفكِّر ثم قال: هيا بنا!

وأخذا يتحسَّسان طريقهما للعودة، وكان الظلام قد تكاثَفَ، واعتمدا على أيديهما وأرجلهما في تحسُّس المكان … فلما غادَرا المنطقة المَغمورة بالمياه عرفا أنهما يسيران في الطريق الصحيح … وفجأةً عاد الصوت الحزين، وتوقفا يُنصتان، وقد خُيِّلَ إليهما أنهما يَسمعان صوتًا آخر يَصحب الصوت الحزين العميق … وسكت الصوت واستمرَّ الصوت الآخر واضحًا، وهمس «محب»: إنَّه صوت شخص يتحرَّك في مكان ما عند الطاحونة!

تختخ: أظن ذلك … ولعله «شعبان»!

محب: فلنُنادِ عليه!

وارتفع صوت «محب» في الصمت: «شعبان» … «شعبان»!

وتردَّد صدى الصوت في المكان المهجور … وعاد إليهما الصوت بعد لحظات عميقًا ومتسعًا … «شعبان» … «شعبان».

ووقفا يُنصتان، واختفى صوت الأقدام فقال «تختخ»: هيا نستأنف السير!

وسارا وقد بدآ يشعران بالتعب واليأس، وعاد صوت الخفافيش يظهر، وفي هذه المرة بدأت عشرات الأجنحة تَضرب وجهيهما … وأخذ كلٌّ منهما يُلوِّح بذراعِه محاولًا إبعاد الخفافيش عنه … وبدا لهما أنَّ الطريق إلى المدخل لا ينتهي … وأنَّهما دخلا طريقًا آخر كثير المنحنيات … وتذكرا أن طريق الدخول كان مستقيمًا … ومعنى هذا أنهما لا يسيران في الاتجاه الصحيح.

وأحسَّ «محب» أنه لا يستطيع أن يمضي أكثر … فقد كانت ساقاه تؤلمانه للغاية، وقال ﻟ «تختخ»: أريد أن أستريح قليلًا.

وجلسا معًا على الأرض … وقال «تختخ»: شيء عجيب تطوُّرات هذا الموقف … فلم أكن أبدًا أظن أنَّ هذا اللغز البسيط سيؤدي بنا إلى هذا المكان المخيف تحت سطح الأرض … ومع الخفافيش!

محب: هذا ثمن المغامرة!

تختخ: إنه ثمن فادح للغز بسيط لا يستحق كل هذا العناء!

وبرغم الموقف الغريب كان هناك سؤال يلحُّ على ذهن «محب» فقال: لم تَقُل لنا ماذا وجدت في مكان سرقة الأسمنت، لقد عثرتَ على شيء أخفيته في الرمال، وشيء صغير وضعته في مظروف أبيض، فما هما هذان الشيئان؟

تختخ: الأول وتد من الخشب، يُغرس في الأرض لربط سفينة فيه، وقد كان مثبَّتًا في الرمال بقوة فلم أستطع اقتلاعه منها، أما الثاني فكان عقب سيجارة من نوع خاصٍّ ليس مُنتشرًا في هذه الأنحاء!

محب: وماذا يعني هذا الوتد، وهذا العقب؟

تختخ: الوتد … فإني ما زلت أفكر … ما سبب وجود مركب في هذا المكان … إن تثبيت الوتد في الأرض معناه أنَّ المركب وقفت مدة طويلة، فماذا كانت تفعل في هذا المكان؟

محب: وعقب السيجارة؟

تختخ: معناه شيء واحد … وجود شخص غريب ليس من القرية!

محب: لعله عقب قديم!

تختخ: لا … إنَّه مازال نظيفًا، ولو كان قديمًا لابتل بفعل رطوبة الرمال، ولكنه طازج إلى حدٍّ كبير!

محب: هناك احتمال واحد!

تختخ: ما هو؟

محب: أن تكون المركب قد جاءت إلى هذا المكان لتَحمل الأسمنت!

تختخ: هذا ما فكرت فيه بالضبط … إنَّ الأسمنت لم يُنقَل من هذا المكان على سيارة أخرى … وإلا لرآه عدد كبير من الناس في أثناء نقله عبر القرى، ولكن نقله في مركب يَضمن ألا يراه أحد في الظلام!

محب: لو كان هذا الاستنتاج سليمًا لكانت خطة محكمة!

تختخ: وهذا ما يجعلني أشك في أن الأسمنت كان هدفًا لهذه الخطة المدروسة، فكمية الأسمنت كلها لا تُساوي أكثر من ٤٠٠ جنيه، فهل يضع أيُّ إنسان خطة تستخدم فيها السيارات والسفن وعدد كبير من الأشخاص لمجرَّد سرقة ٤٠٠ جنيه؟

محب: إذن ماذا تستنتج؟

تختخ: ما زلت أفكر في هذا كله!

محب: هل وضعتَ احتمالات؟!

وقبل أن يرد «تختخ» ارتفع صوت الأقدام مرة أخرى … وصحبه صوت الأنين الطويل الحزين … ووقف «تختخ» مُتحفِّزًا وقال: إن الصوت قريب منا جدًّا … إنَّ الشخص الموجود يتحرَّك بجوارنا.

وقام «محب» متحاملًا على نفسه، ونظر «تختخ» إلى ساعته ذات الميناء المُضيء وقال: تصوَّر … لقد أصبحت الساعة العاشرة ليلًا … معنى هذا أنَّنا قضينا في هذا المكان نحو أربع ساعات.

وأخذا يتحسَّسان طريقهما نحو مصدر الصوت، وفجأة لمست يد «تختخ» بابًا من الخشب … تحسَّسه كله … ثم دفعه إلى الأمام، ولكن الباب لم ينفتح، وحاول مرات ولكن الباب ظل صامدًا مكانه … وأخيرًا سخر «تختخ» من نفسه، فشدَّ الباب ناحيته فانفتح … وقال ﻟ «محب» هامسًا: باب … مدَّ يدك وامسك بيدي! وتلامست أيدهما في الظلام، وخطا «تختخ» داخل الباب، وتبعه «محب» وشمَّا على الفور رائحة دقيق، فهمس «محب»: إننا في الطاحونة الآن، وقبل أن يتمَّ جملته سمعا صوتًا يقول: أنا «شعبان»!

ارتجف الصديقان … فقد كان الصوت مفاجئًا وقريبًا، وقال «تختخ» على الفور: أين أنت؟

عاد صوت «شعبان» يرتفع في الظلام: أنا «شعبان» … سرقوا «إسماعيل»!

قال «تختخ»: «شعبان» … تعال هنا!

شعبان: هات قرش!

تختخ: سأعطيكَ قروشًا كثيرة … ولكن أخرجنا من هذا المكان!

سمعا «شعبان» يَضحك، ثم سمعا الصوت العميق الحزين، وقال «شعبان»: سرقوا «إسماعيل»!

تختخ: اسمع يا «شعبان» … أخرجنا من هذا المكان وسنُعطيك قروشًا كثيرة!

عاد «شعبان» يضحك ضحكته القوية وقال: هات قرش!

قال «محب»: لا فائدة من الحديث معه … إنَّه أبله ولن يفهم شيئًا مما نقول، تقدَّم إليه.

وتقدم «تختخ» وسمعا صوت أقدام «شعبان» تتحرَّك وتبعاه … أخذا يصطدمان بأشياء غريبة … أحجار … قطع من الخشب … وحبال تتدلى … ولكنَّهما ظلَّا يتبعان صوت قدميه.

وقال «تختخ»: خذ قرشًا يا «شعبان»!

وسمعا صوت الأقدام تقترب منهما، وشمَّا رائحة «شعبان» المميزة … وأدركا أنه قريب منهما جدًّا … ومد كل منهما يديه … وعثرت يد «محب» بيد «شعبان» الخشنة الضخمة وقال «شعبان»: هات قرش!

وأسرع «محب» يَبحث في جيبه … وأخرج عشرة قروش فضية وضعها في اليد الخشنة … وسمعا ضحكة «شعبان» ترنُّ في الصمت الموحش … ثم أمسك «محب» بيده وسار خلفه، ويده الأخرى في يد «تختخ»، ومشيا فترة وهما يتعثران، ثم انحرفا خلفه، وسمعا صوت حجرٍ كبير ينزاح من مكانه … وصافح وجهيهما ريح البحر الباردة، وسارا خطوات أخرى … ووجدا نفسيهما يُحدِّقان في النجوم …

قال «محب»: لقد نجونا!

تختخ: أين «شعبان»؟

وسمعا ضحكته العالية على بُعد أمتار منهما … ثم صوت قدمَيه وهو يجري.

وقال «محب»: لا فائدة … لقد هرب منَّا!

ارتمى «تختخ» على الرمال النديَّة، وبجواره ارتمى «محب» وأخذا يُحدِّقان في الظلام، وعلى البعد لمعت أنوار القرية الصغيرة.

وقال «محب»: يا لها من مغامرة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤