هات قرش … هات قرش

هبَّت الريح من ناحية البحر … وسمعا الصوت العميق الحزين يَصدُر من الطاحونة وقال «تختخ»: هل عرفت سر هذا الصوت؟

محب: لا!

تختخ: إنَّه يصدر من الطاحونة كلما هبَّت الريح … فهذه المروحة القديمة التي كانت تُدير الطاحونة صَدِئت تروسها … وكلما هبَّت الريح وحركتها أصدرت الصوت، أو ربما يُحركها أحد بيديه.

محب: تقصد «شعبان»؟

تختخ: بالضبط … لقد شهد «شعبان» هذه الطاحونة وهي تعمل بالمروحة وهو صبيٌّ، وهو يأتي أحيانًا فيُدير المروحة ويسمع الأصوات التي كان يسمعها قديمًا!

محب: هل سمعتَ ما قاله؟

تختخ: نعم … سرقوا «إسماعيل» … ومعنى ذلك أنَّ شخصًا يُدعى «إسماعيل» سيُسرق الليلة، ولكن أي «إسماعيل»؟ … إنَّ في القرية على الأقل عشرين أو ثلاثين شخصًا يَحملون هذا الاسم!

محب: ومع ذلك فهذه فرصتنا لمعرفة اللصوص، تعال نقابل المهندس «ناجي» ونشرح له ما حدث، لعله يساعدنا!

وقاما متعبين واتجها إلى القرية التي نامت مبكرة كعادتها، وعندما وصلا إلى المنزل، وجدا المهندس «ناجي» والأصدقاء في غاية القلق، واستقبلوهما بعاصفة من الأسئلة، خاصة عندما لاحظا ثياب «محب» المبتلة وآثار الخدوش التي أصيب بها.

قالت «نوسة» مرتاعة: «محب» … يجب أن تغير ثيابك فورًا … ستصاب …

وقبل أن تتم جملتها، أخذ «محب» يَعطس بشدة، وأسرعت شقيقته «نوسة» تحضر له ثيابًا جافة، وفي هذه اللحظة سمعوا دقًّا على الباب … وأسرع «عاطف» يفتحه … وعلى الباب ظهر ضابط الشرطة وخلفه أحد رجاله.

قال الضابط: آسف لإزعاجكم … ولكنِّي أريد الحديث مع المهندس بخصوص السيارة التي كانت تحمل الأسمنت … السيارة ومواعيد قيامها من «المنصورة» إلى «بلطيم»؛ فهناك معلومات عن خط سيرها تخالف ما قاله السائق!

قال «تختخ» وهو يوسع مكانًا للضابط بجانبه: أعتقد أن السيارة شُوهدت بين منتصف الليل والفجر على طريق «بلطيم-المنصورة»!

دهش الضابط وقال: كيف عرفت؟

تختخ: إنَّني أفكِّر أن سرقة الأسمنت لم تكن مقصودة لذاتها، إنما المقصود هو السيارة!

انتبه الضابط لحديث «تختخ» وأحاط المغامرون «تختخ» الذي قال: إنَّ الأسمنت كما فهمت من المهندس «ناجي» لا يُساوي أكثر من ٤٠٠ جنيه … ولا أظنُّ أن عصابة ضخمة تضع هذه الخطَّة الخطرة من أجل هذا المبلغ الذي يحصل عليه نشَّال واحد في أتوبيس مزدحم!

الضابط: معك حق!

تختخ: لهذا فكرت أن المقصود بالسرقة لم يكن الأسمنت، ولكن السيارة.

قال «ناجي»: ولكنهم لم يسرقوا السيارة فهي ما زالت موجودة!

تختخ: إنهم لم يسرقوا السيارة للاحتفاظ بها … ولكن لاستخدامها فقط!

ساد الصمت لحظات ثم مضى «تختخ» يقول: لقد عثرتُ على وتدٍ مما يُستخدم لربط السفن إلى البر في مكان الحادث، وهذا الموضع ليس من المواضع التي تقف فيها السفن، ومعنى هذا أن سفينة وصلت إلى هذا المكان لغرض معيَّن!

الضابط: فهمت!

تختخ: وأنا أيضًا فهمت، خاصةً عندما عثرت على هذا!

ومد «تختخ» يدَه في جيبه وأخرج المظروف الأبيض الصغير، وأخرج منه عُقْب سيجارة من نوع «فيليب موريس» وقال: هذا النوع من السجاير ذي الفلتر الفحم قليل استخدامه … والعقب طازج لم يمر عليه وقت طويل، وهذا دليل على وجود شخصٍ غريب في المنطقة، ولهذا أرجِّح أن العملية عملية تهريب مخدرات!

وسكت «تختخ» ونظر إلى الضابط الذي بدا مبهورًا بهذا التحليل، وقال: لقد حللت لغزًا غامضًا حقًّا … فقد أبلغتني إدارة مكافحة المخدرات أنَّ كمية كبيرة منها تمَّ تهريبها عن طريق ساحل «البرلُّس»، ولكني لم أجد أثرًا مُطلقًا لهذه العملية.

قال «تختخ»: لقد وصلت المركب التي تَحمل المخدرات إلى الشاطئ، وقام المُهرِّبون بالاستيلاء على السيارة، ونقلوا إليها المخدرات … ولما كانت السيارة تابعة للقطاع العام وتقوم يوميًّا بهذه الرحلة فلن تكون موضع اشتباه، ونقلوا المخدرات إلى «المنصورة»، وقد غطوها من باب الاحتياط ببعض شيكارات الأسمنت، ثم عادت السيارة إلى مكانها.

والتقط «تختخ» أنفاسه وقال: وإنِّي أعتقد أن سائق السيارة ضلع في هذه العملية … فقد فهمت أنَّه أصيب في التاسعة مساءً، موعد وصوله إلى مكان الحادث، وظلَّ مُغمًى عليه حتى الصباح … وقد علمتُ أنه كان في حالة صحية طيبة … وليس به إلا أثر ضربة خفيفة على رأسه … وهي لا تكفي لإصابته بالإغماء لمدة عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة متصلة!

قال «محب» الذي تَغطَّى ببطانية ثقيلة: وهناك عبيط القرية!

الضابط: «شعبان»؟ ما دخله في كل هذا؟

محب: أمس الأول قال لنا إنَّ «علي» سرقوه … وصباح اليوم علمنا أنَّ الحاج «علي» قد سُرق منه مبلغ ٦٠٠ جنيه … والليلة منذ ساعات قليلة قال لنا «شعبان» إنَّهم سرقوا «إسماعيل» … وأعتقد أن شخصًا يُدعى «إسماعيل» سيُسرق الليلة!

الضابط: مُدهِش جدًّا … لماذا لم تقولوا لي هذه المعلومات من قبل؟

تختخ: بصراحة لقد بدأنا نشكُّ منذ رأينا خط الأسمنت الواصل بين مكان الحادث ومنزل «عرفات» في «شورى»، فقد كان واضحًا أنه دليل مزيف تمَّ اصطناعه لاتهام «عرفات»، ولكنَّنا نُفضِّل أن يظل «عرفات» في الحبس بضعة أيام حتى يظنَّ الفاعل الأصلي أنه بعيد عن الاتهام فيتصرَّف بغير حذر … وفعلًا قام اللصوص بسرقة الحاج «علي»، وهم الليلة سيَسرقون من يُدعى «إسماعيل»، وهذه فرصتك يا حضرة الضابط للقبض على العصابة … المهربين واللصوص معًا.

الضابط: إنكم أولادٌ مُدهِشُون وفي غاية الذكاء، كيف توصلتم إلى كل هذه المعلومات والاستنتاجات؟

ضحك المهندس «ناجي» وقال: لقد نسيتُ أن أُقدِّمهم لك، إنهم المغامرون الخمسة، وهم معروفون في أوساط الشرطة في القاهرة … إنهم من خيرة مَن يحلُّ الألغاز الغامضة والقضايا المحيِّرة.

الضابط: أنتم أصدقاء المفتش «سامي»؟

تختخ: نعم!

قام الضابط وحيَّاهم واحدًا واحدًا بشدِّ أيديهم ثم قال: سأخرج الآن … وإن كنت لا أستطيع معرفة جميع من اسمهم «إسماعيل» في القرية … وليس معي إلا جنديٌّ واحد هو الذي جئت به من القسم!

قالت «لوزة» مبتهجة: سنُساعدك في القبض على اللصوص!

الضابط: هذه مهمة خطرة فاتركيها لنا!

تختخ: إذا استعنت بالخُفراء وبنا، فسنُكوِّن فريقًا قويا للمراقبة!

وأشار «تختخ» إلى «زنجر» قائلًا: وهذا الكلب الأسود يُمكن أن يقوم بعمل عشرة رجال في تعقب اللصوص!

وهز «زنجر» ذيله، وأحنى رأسه في تواضُع، وكأنه فهم ما يقوله «تختخ» عنه.

وخرج الجميع عدا «محب» الذي استسلم للنوم، وبقيت معه «لوزة» و«نوسة» …

وقال الضابط: لنذهب أولًا إلى العمدة … لعله يُعرِّفنا بمن اسمه «إسماعيل» ويملك ما يستحق السرقة!

ساروا معًا في الحواري الضيقة حتى وصلوا إلى منزل العمدة الذي كان لا يزال مستيقظًا فاستقبلهم مُرحِّبًا … وشرح له الضابط ما يُريد … فأطرق العمدة لحظات ثم قال: ليس بين مَن اسمهم «إسماعيل» في قريتنا مَن يملك شيئًا يستحق السرقة، عدا التاجر المعروف «إسماعيل عقدة».

الضابط: أعرف مكان دكانِه وسط القرية … أرجو أن تُحضِر الخفراء وتلحق بي.

وتفرق الجميع، واتفقوا على اللقاء عند سوق القرية حيث يقع دكان التاجر «إسماعيل» … وبعد ربع ساعة كانوا يقفون في ظلِّ مسجد «سيدي غانم» الكبير، وكانت الريح تهبُّ بشدة … وحضر العمدة ومعه ثلاثة خفراء، وزَّعهم الضابط على أماكن المراقبة، ومرَّ الوقت بطيئًا … ونظر «تختخ» إلى ساعته كانت تشير إلى منتصف الليل تمامًا.

كان هناك سؤالان في رأس «تختخ» لم يَستطِع التوصل إلى إجابتهما … فأخذ يُفكِّر حتى نسي أين هو، وفجأة … أحسَّ بيد الضابط تضغط على ذراعه … ونظر أمامه … وبجوار فنطاس البنزين الكبير الذي يتوسط السوق ظهر رجل يسير في حذر ثم اتَّجه رأسًا إلى باب الدُّكان ووقف قليلًا … ثم أشار بيده فظهر رجلان آخران.

وأخرج الضابط مسدَّسه … وأعدَّه للإطلاق … ثم همس في أذن «تختخ»: لا تتحركوا سنقبض عليهم ببساطة!

وتقدم الضابط من ناحيته … وظهر الخفراء من أماكنهم … وأخذت الدائرة تضيق حول اللصوص الثلاثة الذين نجحوا بسرعة في فتح باب الدَّكان وبدءوا في اقتحامه … وفجأةً صاح الضابط: قف عندك!

وشاهد «تختخ» رجلًا يجري … ثم سمع طلقة رصاص، وفجأةً اشتعلت النيران في فنطاس البنزين؛ فقد أصابته الطلقة … وساعدت الرياح على انتشار اللهب سريعًا، وبدا السوق كأنه قطعة من جهنم … وعلى ضوء النيران شاهدوا أحد اللصوص يطلق مسدسه في كل اتجاه … وفجأةً اندفع «زنجر» كالقذيفة، وقفز على اللص وأعمل أنيابه في ذراعه، وصرخ الرجل، واندفع إليه الضابط ولوى ذراعه بسُرعة فوقع على الأرض … وسرعان ما كان الخفراء يَقبضون على اللصَّين الباقيَين.

واستيقظ عدد كبير من السكان على صوت الطلق الناري … وأخذوا يَشتركون في إطفاء النيران.

وفي هذه اللحظة ظهر «شعبان» العبيط، كان يضحك وهو يتفرَّج على النيران، ويقترب منها دون خوف … وعندما شاهد «تختخ» و«عاطف» اقترب منهما سريعًا وقال: هات قرش … هات قرش!

وابتسم «تختخ» وهو يضع في يده بضعة قروش، وأشار إلى دكَّان «إسماعيل» وقال: سرقوا «إسماعيل»! ضحك «شعبان» ضحكتَه المُدوِّية وقال: سرقوا «إسماعيل»!

كان أحد السؤالين اللذَين يشغلان ذهن «تختخ» هو كيف عرف «شعبان» هذه المعلومات؟! وعندما قال هذا ﻟ «عاطف» قال «عاطف»: لن تَعثُر على إجابة أبدًا … ولكنِّي أرجِّح أنَّه في أثناء تجواله الليلي عرف مكان العصابة وسمعهم وهم يتحدثون عن السرقات!

تختخ: هذا معقول جدًّا، بقيَ السؤال الثاني … ما هي علاقة عصابة اللصوص بعصابة التهريب … إنَّ المهربين عادةً لا يعملون باللصوصيَّة!

وكان الضابط الشابُّ قد حضر وسمع السؤال فقال: هذا السؤال خطر ببالي وأنت تَروي استنتاجاتك … وسوف نعرف هذا من التحقيقات … وسيكون من السهل القبض على المهربين … بواسطة سائق السيارة!

تختخ: المُعتقد أن السرقات لم تكن مقصودة لذاتها، ولكن لشغل الشرطة عن عملية التهريب!

وجاء الخفراء باللصوص، وتذكَّر «تختخ» الرجل ذا الشال الأحمر والكلب المتوحِّش إذ لم يكن بينهم، فسأل الضابط عنه وأعطاه أوصافه.

قال الضابط ضاحكًا: إنه أحد رجال مُكافحة المخدرات … جاء إلى المنطقة للبحث عن عملية التهريب التي تمَّت عند الساحل.

تختخ: نسيتُ أن أقول لكم إنكم ستجدون شيكارات الأسمنت مُلقاةً في البحر عند منطقة الساحل … فمن المؤكد إنها لم تنقل من هذا المكان … وبالطبع لقد غرقت ولن يُمكن الاستفادة منها.

وبينما كانت النيران تنطفئ … والضابط يشكر «تختخ» و«عاطف» ويربت على ظهر «زنجر» … كان «شعبان» العبيط ينظر إلى «تختخ» و«عاطف» بعينه الواسعة الكبيرة … ولمح «تختخ» في العين لمحة من الرضا والسعادة، فمدَّ يدَه في جيبه ليعطيه بضعة قروش أخرى … ولكن العبيط ابتسم وفتح يده وقال: معي قرش … معي قرش …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤