مقدمة حول تعمير الأرض

كثرت الاكتشافات الأركيولوجية لحفريات عظمية ومنتجات حضارية في نواحٍ كثيرة من العالم، وبخاصة في أفريقيا التي ما زالت الأدلة العلمية قوية على أنها كانت وطن ومنشأ الكثير من أصول «جنس الإنسان»، ومنها انتقل إلى بقية القارات عبر آسيا. لكن هذه الكشوف لم تغير الإطار العام التطوري؛ فقد أدت في أغلبها إلى زيادة معلومات تفصيلية هامة، أو رجحت رأي — أو بنية علمية — على آخر، ومن ثم إفادة كبيرة في دقائق التكيف، أو رفض وهجر منطقة جغرافية، بما فيها من تأثير المتغيرات الإيكولوجية للبيئة والمناخ على مصادر الغذاء المعتادة، بما يدفع إما إلى التكيف والتأقلم في اتجاه أو الهجرة إلى أماكن أخرى أكثر مناسبة لممارساتهم الغذائية، وفي كلتا الحالتين تدخل الجماعات منافسة حادة مع مجموعة بشرية أخرى فضلًا عن المنافسة مع حيوانات لاحمة على غذاء بدأ في الانكماش.

تعمير الأرض هو تساؤل بمعنى: كم استغرق ظهور الإنسان بمقدماته وفروعه المنقرضة والحية المعاصرة بالنسبة لعمر الأرض؟ فترة أقل من ٠٫٠٥٪. فالإنسان الحالي هو آخر الكائنات التي عمرت الأرض، ولكن له تأثيرات كبيرة على البيئة الطبيعية تكاد تصل إلى تدميرها، وربما تدمير نفسه، والآتي موجز سريع لتاريخ الأرض الجيولوجي والنباتي والحيواني وفي الذيل ظهور الإنسان.

بداية العمود الجيولوجي لعمر الأرض ±٤٥٤٠ مليون سنة، قسمها العلماء إلى أزمنة وحقب وعصور، مجملها على النحو التالي:
  • ما قبل الزمن الأول أو الأركي Archaic: ويشمل عصرين، هما ما قبل الكمبري Pre-Cambrian وعصر فانيروزويك Phanerozoic، شغلَا معًا أطول حقبة زمنية من ٤٥٤٠ مليون سنة إلى ٥٤٢ مليون سنة بنحو ٨٨٪ من عمر الأرض.

    قُسِّم هذا الزمن الطويل إلى ثلاثة أقسام كبرى، هي:

    الأغوار السحيقة Hadean، ثم القديم الأركي Archaen، ثم ما قبل فجر الحياة Protozoic. وخلال هذه الفترات تعرضت الأرض لضربات النيازك والشهب بكثرة بالغة؛ مما أدى إلى بداية تكوين الغلاف الغازي منذ فجر الحياة (٢٣٠٠ مليون سنة)، وعملية التمثيل الضوئي، وتكون شكل الحياة من أحادي الخلية إلى متعدد الخلية، وربما أصبحت الأرض كرة ثلجية للمرة الأولى.
  • الزمن الأول (باليوزوي Palaeozoic): شغل نحو ٢٩١ مليون سنة، وشمل عصور الكمبري والأوردوفيشي (معًا بدأ منذ ٥٤٢ مليون سنة) السيلوري (منذ ٤٥٩م) الديفوني (٣٥٠) الكربوني (٣٠٠)، وأخيرًا البرمي (٢٤٠).

    في هذا الزمن حدثت حركات أرضية واسعة، شملت الالتواءات الكاليدونية ثم الهرسينية والفارسكية. وفيه أيضًا بدأ ظهور الأمفيبيات والأسماك الغضروفية في السيلوري، ثم الفطريات في الديفوني، وانتقال الألجا الشاطئية إلى اليابس، ثم أشكال حياتية عديدة، وبخاصة في الكربوني، وانتشار الطحالب والسرخسيات والأشجار غير المزهرة والحشرات والزواحف والفقاريات، ثم أنواع من النخيل في البرمي.

  • الزمن الثاني (ميزوزوي Mesozoic): شغل نحو ١٨٦ مليون سنة، وشمل عصور: الترياسي منذ ٢٣٠ مليون سنة، ثم الجوراسي منذ ١٧٥، والكريتاسي منذ ١٤٠ إلى نهايته منذ ٦٥ مليونًا. فيه ظهر اليابس في صورة قارة مجمعة أُطْلِق عليها اسم بانجايا Pangaea في الترياسي، ثم بدأت بانجايا في التفصص إلى كتل قارية جديدة؛ مثل: جندوانا، وأركتس، وأنجارا. في الجوارسي ظهرت الديناصورات والطيور والأسماك ذات العظام، وفي الكريتاسي ظهرت الثدييات والنباتات ذات البذور والمزهرة، ونهاية عصر الديناصورات.
  • الزمن الثالث (كاينوزوي Cainozoic): شغل نحو ٦٣ مليون سنة مشتملًا على عصور الباليوسين (٦٫٢ ملايين سنة)، والإيوسين (٢٥ مليونًا)، والأوليجوسين (١١ مليونًا)، ثم فترة الحياة الجديدة Neogene وتشمل عصر الميوسين (١٧٫٧ مليونًا)، وأخيرًا البلايوسين (نحو ٣٫٥ ملايين سنة). وعلى الأغلب ترجع الأصول البعيدة للرئيسيات والهومونيديا إلى نحو ٣٥ مليون سنة مضت؛ أي في الأوليجوسين، لكنها تشعبت في أواخر الميوسين إلى فرعين مختلفين؛ حيث تطورت الهومونيديا منذ نحو ١٢ مليونًا، بينما بقيت الرئيسيات على حالها إلى اليوم.
  • الزمن الرابع Quarternary: ويشمل عصرين؛ هما: البلايوستوسين: بدأ من نحو مليوني سنة إلى ١١٥٠٠ سنة مضت، حيث يبدأ عصر الهولوسين منذ ذلك التاريخ وإلى الآن، شهد الزمن الرابع كل الأحداث المتسارعة في تطور الإنسان بكل تاريخه المدون، وذلك في فترة زمنية تعادل ٠٫٠٤٤٪ من تاريخ الأرض — أي أقل من نصف إلى ألف أو ١ : ١٠٠٠٠!

(١) موجز تطور جنس الإنسان

ملاحظة ضرورية: الكثير من تأريخ حفريات الإنسان القديم، هي قيم عائمة بين تاريخين متباعدين، بمعنى أن عمر حفرية أو سلالة ما قد تكون على الحد الأعلى أو الأدنى، إذا كان التأريخ استدلاليًّا بشواهد التركيب الجيولوجي أو البيولوجي المصاحب للحفريات أو الأثر. أما إذا كان التأريخ قد تحدَّد بوسيلة راديو كربون ١٤ أو بوتاسيوم أرجون للحفريات الموغلة في القدم؛ فإنه يصبح قريبًا من الصحة مع فروق معروفة أزيد أو أقل بنسبة ضئيلة.
fig1
شكل ١: After R. J. Wenke 1980, fig.3.5, P.74-75 with additions.

(١-١) مقدمات الهومينيديا البعيدة

(الشكل ٢) يلخص نتيجة أبحاث الباليونتولوجي الأمريكي إيلوين سيمونز Elwyn L. Simons في جبل القطراني شمال بحيرة قارون في الفيوم.
هناك اتفاق بين الباليونتولوجيين على أن مقدمات عائلة الرئيسيات الهومينويديا Hominoidea تلتقي بمجموعة تُسمَّى درايوبثيكس Dryopithecus، موجودة في أفريقيا وأوروبا وآسيا منذ أقدم من ٢٠ مليون سنة. لكن كشوف الفيوم أثبت قدمها منذ الأوليجوسين الأعلى باسم القرد المصري Aegyptopithecus، ثم أُضِيفَ إلى ذلك كشوف أخرى في ذات المنطقة بتاريخ أقدم يصل إلى نحو ٣٤ مليونًا باسم بروبليوبيثكس Propliopithecus (نشر سيمونز أبحاثه ١٩٦٧ باسم أقدم قرد و١٩٨٧ وجوه جديدة للقرد المصري).
وكما يظهر من الشكل أن البروبليوبثكس تطوَّر إلى القرد المصري في بضعة ملايين من السنين، وبعد ١٥ مليون سنة أُعطِيَ بعض الصفات المكونة للرئيسيات، وبعض صفات اتجهت وحدها إلى رامابثكس Ramapithecus (حفرياته في الهند وأفريقيا)، ومن ثم اتجه خط التطور للهومنيني إلى الإنسان لفترة نحو ١٢ مليون سنة.

تحقيق ذلك يعتمد على المزيد من الكشوف اللاحقة أو نفيها.

fig2
شكل ٢: 244 Histoire naturelle de l’homme. أصول الرئيسيات تعود إلى أواخر عصر الأولوجوسين بعد اكتشاف أستاذ الباليونتولوجي سيمون بجامعة بيل حفرية القرد المصري في الفيوم في جبل. ومنذ ذلك يعتقد القطراني، ونشر نتائجه عام ١٩٦٧ باسم «أول الرئيسيات»، الكثيرون أن حفرية الفيوم هذه كانت الأصول المشتركة بين خط الإنسان وخط باقي الرئيسيات منذ نحو ٣٤ مليون سنة، وأن الانفصال جاء منذ نحو ١٥ مليون سنة حينما بدأت أشباه الإنسان الأولى محاولات الوقوف على القدمين، وتحرير اليدين، وترتب على ذلك م. نمو الذاكرة وقدرات المخ Simon, E. L., 1967, “The Earliest apes” Aegyptopithecus.
محاولة تركيب خط التطور البشري وخط الرئيسيات (L’ANTHROPOLOGIE, Les dictionnaires du savoir moderne, centre d’Etude et de promotion de la Lecture, Paris 1972, p. 244).
fig3
شكل ٣: بتصرف عن R. J. Wenke ١٩٨٠ شكل ٤–١٢.

(١-٢) سلالات الإنسان المنقرضة والمعاصرة منذ نحو ثلاثة ملايين سنة إلى الآن

fig4
شكل ٤
  • أشباه الإنسان أو القرد الجنوبي أوسترالوبيثكس Australopithecus، ويمتد عمره من نحو ٤ ملايين إلى ١٫٧ مليون سنة مضت، وذلك حسب الكشوف الحالية.
  • بارانثروبس Paranthropus، من ٢٫٧ مليون إلى ١٫٢ مليون سنة مضت.
  • أسلاف الأجداد Antecessors، من ١٫٢ مليون سنة إلى نحو ٣٥٠ ألفًا، وهو بصورة ما يرتبط بنوع الإنسان الواقف هومو إركتوس Homo Erectus، ويُسمَّى أيضًا Pithicanthropus، وفي التسميات الفرنسية Archanthrpoien الإنسان القديم، ويشغل أطول فترة من بين جميع أنواع الإنسان الحفري تكاد تبلغ مليونًا ونصف المليون، وعاصر الكثير من الأنواع التي بادت سواء أقدم أو أحدث منه. كما أنه الأكثر توزعًا بين القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا (جاوة والصين) وأوروبا (هايدلبرج).
  • الإنسان العاقل «هومو سابينز» Homo Sapiens، ويشمل نوعين:
    • الأول: السابقون على النياندرتال؛ مثل: شتاينهايم، وإيرنجزدورف، وكوم كابل، وربما أيضًا فونتشفاد، ثم سلالة نياندرتال بتنويعاتها، وتُسمَّى الإنسان القديم Palaeoanthropien، وتشغل نحو ٣٠٠ ألفٍ إلى ٣٠ ألفَ سنة مضت.
    • والثاني: حفريات الإنسان العاقل البائد Presapiens، وأيضًا الإنسان الجديد Neanthropien، ويشمل الكرومانيون والجريمالدي وشانسليد، وكلها عمرت في الفترة من ٤٠ ألفًا إلى عشرة آلاف سنة مضت.
  • الإنسان الحديث Homo sapiens sapiens – modern man، وهو الذي تشغل سلالاته عالمنا المعاصر منذ عشرة آلاف سنة مضت. وفي المقابل انقرضت كل السلالات والأنواع السابقة بتفريعاتها السلالية، عدا احتمالات اندماج بعض مورثاتها لسلالة لاحقة؛ مثل: الأستراليين الأصليين، أو بقاء مجموعة شبه منعزلة سواء تقزمت أو بقيت على صورتها الأصلية، كما حدث للأقزام أو البشمن في أفريقيا.

(١-٣) حضارات الإنسان

حضارة العصر الحجري القديم (الباليوليتي Palaeolithic)

يميزه الباحثون بثلاث مراحل أسفل – أوسط – أعلا، ولكل قسم عصور حضارية عديدة لها لدى المدارس الأنثروبولوجية أسماءُ مختلفة، كما يظهر في الجدول التالي.

استغرقت حضارة الباليوليتي زمنًا طويلًا جدًّا من حياة الإنسان على الأرض، وقد سبقتها استخدامات لأدوات من مواد هالكة، كالأخشاب والعظام، هي في الواقع تجارب الإنسان الحياتية لتأمين الغذاء أو وفرته بتطوير تقنياته، أو استعارة تقنيات أخرى في الصيد والسماكة وجمع أنواع من النباتات والثمار، وطحن بذور نباتية مجربة ومعالجتها بالماء عجينًا وتخميرًا. استمر ذلك عشرات آلاف السنين.

ولضمان بقاء البيئة معطاة دون جور، كان هناك من الحكماء والكهان من يعلن نباتًا أو حيوانًا محرَّمًا لفترة Taboo كي يسترد تكاثره فلا ينقرض. وفي الحالات الحرجة يصبح التحريم طوطمًا Totem بربطه بقوى غيبية إلى الجد المؤسس للعشيرة، ومن ثم يحرم بإطلاق. وبرغم قلة أعداد الناس في تلك الأزمان؛ فقد يحدث تغير بيئي أسرعه زلزالي بركاني أو صراع بشري بأنواعه على أرض جيدة، وأبطئُه تغير مناخي، وكلها مما يوجب على الناس الهجرة لأماكن أخرى. وربما كان هذا هو السبب الأول في انتشار البشر في مناطق كثيرة من العالم رغم قلتهم العددية، أو إلى فناء مجموعة وانقراض سلالة. وعلى الأغلب لم توجد تجمعات بشرية كبيرة، بل كانت عادة عدة أسر — بالمعنى العام لأنواع الأسرة — لا تتعدى بضع عشرات، وذلك لتأمين مجال واسع لتجوالهم الغذائي في مساحة كبيرة.

ومن المفيد أن نؤكد هنا أن تقسيم العمل في الحضارات الحجرية كان يتم على أساس الجنس؛ فالرجال تخاطر في الصيد مواسم بعيدًا عن مقر الإقامة، بينما تجمع الإناث الأغذية النباتية، فتتحرك في أماكن قريبة غالبًا مأمونة. التعامل مع عالم النبات آلاف السنين، هو واحد من الأسس التي قامت عليها فيما بعد معارف تقنية استزراع محاصيل مفضلة، ومن ثم النقلة الحضارية الإنتاجية الأولى في عصر الحضارة النيوليتية (الحجري الحديث).

ملخص حضارات الباليوليتي.
الحضارة السلالة مختصر مواصفاتها
الحصى Pebble أوسترالو-بثيكينيا استخدام الحصى والحجارة وعظام وأخشاب وبعض أدوات حجرية بدائية للشظف، وجد آثاره في جنوب أفريقيا وجنوب شرق آسيا والصين
أبفيل Abbvillian بثيكانثروبس صناعة النواة لعمل الفئوس الحجرية. فترة دفء مندل-ريس منذ ٦٠٠ ألف سنة في مصر، و٤٥٠ فرنسا وأفريقيا وجاوة والهند
أشول Acheulian بثكانثروبس تحسين صناعة الفئوس. عمرت من ١٨٠ إلى ١٠٠ ألف سنة في أفريقيا – جاوة – وسط وغرب أوروبا
كلاكتون Clactonian بثكانثروبس بداية صناعة الأدوات من الشظايا، مختلطة مع أشول وأبفيل – غرب ووسط أوروبا وأفريقيا
ليفالواز Levalloisian بثكانثروبس صناعة الشظايا والنصال ورءوس الرماح بعض اللقى مختلطة مع لقى أشولية وموستيرية. وُجِدَ في وسط وغرب أوروبا – أفريقيا – شمال الهند
الموستيرية Le Moustier نياندرتال الباليوليتي الأوسط في أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا. شظايا ونصال ومكاشط ورءوس رماح قوية لصيد الرنة والماموث. آثار ولقى الموستيرية مرتبطة غالبًا بحفريات نياندرتال الكثيرة. دفن الموتى في مقابر
أورنياسية Aurignacian كرومانيون Presapiens من نحو ٨٥ ألف سنة مع بداية رحيل جليد فيرم بداية الباليوليتي الأعلى. دخول سلالات قوية من آسيا إلى أوروبا، وربما نهاية إنسان نياندرتال. أدوات حجرية وعظمية جيدة، مع حفر أشكال هندسية على الحجر والعظم + فنون الكهوف التصويرية وتماثيل أنثوية الخصوبة
سوليترية Solutrean Presapiens أدوات من الصوان باستخدام الضغط وصناعات النصال على أشكال ورق الشجر، وتشغيل جيد للعظام وقرون الحيوان والأخشاب بين ١٥ إلى ١٩ ألف سنة. نهاية عصر الجليد. حضارة محدودة الانتشار في غرب أوروبا وفرنسا بالذات. تنقصها فنون التصوير
مجدلينية Magdalenian Presapiens في معظم الحالات المجدلينية تأتي بعد الأورنياسية مباشرةً، عمرت من ١٣ إلى ٧٫٥ آلاف، تُقسَّم إلى ست مراحل. استمرار فنون الكهوف التصويرية وعمل تمائم صغيرة من العاج لأغراض سحرية. التجمع البشري كبير نسبيًّا، يعيشون في أكواخ أو خيام أو تحت سقوف صخرية
fig5
شكل ٥

تأتي بعد ذلك حضارات الميزوليتي (الحجري الأوسط)، وهي في أوروبا الحضارتين أزيل وتاردنوا، وفي شمال أفريقيا الكبسية أو القفصية، وفي شمال أوروبا حضارة ماجلموس. وكلها تتميز بإنتاج أدوات حجرية صغيرة (مايكرو ليث)، مع بدايات صناعة الفخار واستخدم القوس والسهم واستئناس الكلب. عمرت هذه الحضارات تقريبًا حتى ٧٥٠٠ سنة مضت، ويرى البعض أن الميزوليتي هو استكمال للباليوليتي وتمهيد للدخول في عصر النيوليتي.

(أ) صناعة الفخار

من المفيد هنا إضافة نبذة عن أهمية الفخار وما تلاه من صناعة البورسولان «الصيني» والسيراميك فيما بعد، فكلها مستمدة من أنواع من التربات الطفلية «الطين» سواء أرسبت بفعل المياه أو الهواء. قبل الفخار كان الإنسان يصنع آنية مجوفة من الحجارة، لكن اكتشاف إمكانية صناعة الفخار كنوع أرق من الأوعية كأنه بمثابة حجارة صناعية. وبرغم قابليتها للكسر السريع؛ فإنها تفي بأغراض الطهي وحفظ السوائل، فضلًا عن إمكان تعويضها لكثرة وسهولة الإنتاج وتواجد مادته. بينما الآنية الحجرية أدوم، ولكن صناعتها شاقة، ومن ثم لا تنتج بكثرة. هو في ذلك أقرب إلى صورة مشابهة للبناء بالحجر والبناء بالطوب النيئ أو المحروق الذي هو أيضًا مشتق من الطين.

في البداية كانت صناعة الفخار يتم تشكيلها يدويًّا، وأول ما نعرفه من فخار يعود إلى نحو ٦٥٠٠ سنة مضت مرتبطًا أساسًا بحضارة الزراعة النيولينية. ومع اكتشاف مبدأ العجلة الدوارة طبق المصريون المبدأ على صناعة الفخار حوالي ٣٠٠٠ق.م؛ مما سهل الإنتاج الكمي أضعافًا كثيرة بالقياس إلى الإنتاج اليدوي. كذلك ساعدت عجلة الفخار على تحسين التشكيل في أحجام مختلفة لأغراض مختلفة؛ مثل: حفظ الماء، أو السوائل، أو التخزين الجاف للحبوب أو غيرها. فضلًا عن ذلك تفنن الصانع في إضافة ألوان ورسوم تزين إنتاجه، كأنها توقيع الصانع أو الفنان. ومن أشكال الفخار وألوانه وزينته استطاع العلماء تحديد فترات تاريخية من دراسة «شقف» الفخار في المناطق المختلفة، بل وتحديد انتشارها أو توقفها لحلول مجموعة بشرية جديدة لها أفضليات في شكل واستخدام المنتجات الفخارية. فكأن هذا الشقف بمثابة وثيقة مكتوبة على بردية أو منقوشة على جدران أبنية تراثية؛ كالمعابد وبيوت العبادة. فعلى سبيل المثال دراسة فخار حضارة كنوسوس في جزيرة كريت نحو ٢٥٠٠ق.م، أثبتت أنه شكل على نماذج فخارية مصرية أتى بها تجار وبحارة فينيقيون كسلعة تجارية ذات قيمة هامة لحياة الأفراد والمجتمعات.

حضارة العصر الحجري الحديث (النيوليتي Neolithic)

شغلت هذه الحضارة كل عصر الهولوسين Holocene منذ ١٢–١٠ آلاف سنة الماضية إلى الآن. ويكاد أن تتبادل تسمية الهولوسين والنيوليتي ذات المضمون، برغم أن النيوليتي اسم لحضارة بشرية، والهولوسين اسم للعصر الجيولوجي الذي نعيشه.
اشتمل النيوليتي على مجموعة متغيرات سريعة، أحدثت في الواقع انقلابًا حياتيًّا، لم يكن له مثيل آنذاك سوى الثورة الصناعية منذ ما يقرب من ثلاثة قرون فقط. وفيما يلي أهم أشكال المتغيرات:
  • تغير الإنسان من مستهلك لإنتاج البيئة الطبيعية (صيد، وسماكة، وجمع ثمار، وبذور نباتية)، إلى قيامه بعملية الإنتاج التي تمت باكتشاف تقنية الزراعة وطرق استئناس الحيوان المرغوب.

  • وفيه أيضًا مراحل سكنية مختلفة من السكن المتنقل أو المهزوز أو الكهوف، إلى مسكن دائم في القرى الزراعية، بديل الجري وراء الصيد في معسكرات ليست دائمة، وبعضها يُنقَل مع الحركة؛ كالخيام لدى بادية العرب، أو اليورت لدى الترك والمغول، أو التيبي بين الهنود الحمر. خامة بناء المسكن محلية أغلبها سهل التناول من الطين: كالطوف، أو قوالب مجففة، أو الحجارة، أو الأخشاب؛ حسب إيكولوجية المكان.

  • الأمر الأكثر أهمية هو ظهور الملكية الفردية، بديل الملكية الجماعية للقبيلة والعشيرة، وما أحاط هذه الملكية الفردية من قوانين حوَّلَت الأرض إلى سلعة قابلة للوراثة والبيع والرهن والتبادل واغتصاب الأقوياء أو الحكام. ولما لم يكن بالإمكان نقل الحقول أو إخفاؤها، كما كان في الماضي بالنسبة للجماعين والصيادين؛ فقد نشأ نوع من تبادل المصلحة بين الفلاح والفارس أو الملك، أن يحميه مقابل خضوعه له، ومن ثم نشأت قوانين أخرى حول الرقيق والعمل المجاني لمن يحوز العبيد، فضلًا عن أنظمة الأمن من شرطة وجيش، هي في النهاية تعمل لصالح نظام للدولة على حساب الفلاحين وغيرهم من القائمين بعمليات الإنتاج.

  • تلى ذلك ظهور المدينة بحضارتها، ومن ثم التراكيب المتشابكة للدولة والوطن، وغيره من التنظيمات التي تكفل استمرار السيطرة السياسية والحوكمة الإنتاجية، مع انقسام المجتمع إلى طبقات اجتماعية اقتصادية خلال منظومات الملكية الوراثية والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية أو الاستبدادية والديمقراطية، وغيرها من التنظير والتطبيق إلى ما هو شائع لدينا الآن من مصطلحات؛ كالتخطيط والتنمية، التي أصبحت مكونًا أساسيًّا في بيروقراطية حضارة المدينة وسياستها.

  • وفي الهولوسين أيضًا تراث حضاري مادي رائع، أقدم ما يمثله بصورته الباقية أهرامات عصر الدولة القديمة الفرعونية منذ نحو ٤٥٠٠ سنة مضت.

  • ومن أهم ما أنتجه الهولوسين ظهور صناعات الأدوات والآلات من المعادن، بدلًا من الأدوات الحجرية؛ فظهرت عصور النحاس والبرونز والحديد على التوالي Chalcolithic, Bronze and Iron Ages، ثم جاء عصر الورق والوثائق، وأخيرًا عصر المعلوماتية والكومبيوتية والإنترنت الذي نعيش من خلاله الآن Internet, Informatics & Computing.

حضارة عصر الصناعة والخدمات

كان استخدام المعادن منذ نحو ٥ إلى ٣ آلاف سنة المقدمات البطيئة للثورة الاقتصادية الاجتماعية الثانية: عصر الصناعة منذ منتصف القرن ١٨؛ أي منذ قرابة ثلاثة قرون، حدثت فيها متغيرات كثيرة في كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بعضها إيجابي؛ مثل: تحرير الفلاحين من سيطرة الإقطاع، لكنهم أُضِيفُوا إلى طبقة العمال، تكدست بهم أبنية المدينة في حياة تفتقر إلى شروط صحية وعقود عمل يتحكم فيها أصحاب المصانع، وطال الجدل والصراع إلى نشأة الحركات النقابية وتأكيد حقوق الإنسان الحالية.

•••

في كل هذه المتغيرات تسحب المدينة ثقافة الريف إلى عالم وظائف خدمية متزايدة بصورة طاغية على حساب وظائف الإنتاج الذي غزته الآلية أكثر من الأيدي البشرية العاملة …

فهل نحن بصدد متغير سوسيو-مادي ضخم يؤهلنا تدريجيًّا أو بخبطة عنيفة، إلى طريق أحادي الاتجاه ينزلق بالإنسانية إلى عالم روبوتي مُعَظم متحوكم وبشري تابع مهمش؟

(٢) هجرات الشعوب وبدايات تعمير العالم

لدينا هنا عدة مصطلحات وأسماء لحفريات قديمة منقرضة، لكنها كانت الجذور أو الفروع التي اختلطت أو انعزلت؛ لتكوِّن أجيالًا تتطور وتتغير إلى أنواع جديدة من السلالات ببطء شديد. درجات البطء تتحدد على ضوء ما نحن نتكلم عنه؛ أي في نحو ثلاثة ملايين سنة، وبالتالي فالتغيُّر يستغرق عدة مئات آلاف السنين في الماضي السحيق، ولكنه يتسارع إلى عدة عشرات آلاف السنين كلما اقتربنا من عصور أحدث قريبة منا، ثم إلى ما يشابه ثبات الصفات الجسدية التي تميزنا نحن المعاصرين. لتوصيف ما حدث بصورة عامة؛ فإن لدينا ثلاث مراحل تغيير أساسية طوال الملايين الثلاثة الماضية، ملخصها كالآتي:

(٢-١) المرحلة الأولى: «أشباه الإنسان Australopithecus»

حينما اكتشف يوجين ديبوا حفرية إنسان جاوة عام ١٨٩١، طلب من أستاذه عالم البيولوجيا إرنست هِكِل١ توصيفه وترتيبه في التطور، فأطلق عليه اسم (القرد الجنوبي Australopithecus)، باعتبار أن مواصفات حفريات هذا النوع أقرب للقردة، ولكنها ليست قردة. وفي ذلك الوقت كان هناك التباس حول أن الإنسان والقردة العليا — أي الرئيسيات الأربعة (الجيبون، والأورانج أوتان، والشمبانزي، والغوريلا) — نشئوا مع بدايات البشر في حلقة مفقودة منذ ±١٥ مليون سنة أو أقل أو أكثر.
ومع تزايد المعرفة والكشوف الحفرية، لم تَعُد الحلقة المفقودة هدفًا قدر ما كان الهدف معرفة الصفات الجسدية. وأي بقايا من حضارة مادية مع البنية الجيولوجية-الإيكولوجية المصاحبة للحفريات؛ باختصار جيو-أركيولوجية منطقة الحفرية، علَّنا نعرف كيف كانوا يعيشون حياتهم ومسببات التغيير في صفة ما من الجسم، كطول الذراع أو موقع الإبهام في اليد؛ لهذا أصبح لدينا مصطلح آخر يبعدنا عن القردة؛ وهو السابقون على البشر، Plesianthropus أو مصطلح ما قبل البشر Der Vormensch، يصف أقدم الحفريات كمقدمات لتكوين الإنسان. ومن بين هذه الحفريات من نال شهرة شعبية واسعة؛ كالخالة «لوسي» (اكتُشِفَتْ ١٩٧٤ في هادر – شرق إثيوبيا)، والسيدة بلز Ples رغم أن السيدة بلز من مواليد شتركفونتين بجنوب أفريقيا منذ نحو مليوني سنة، بينما تنتمي الخالة لوسي إلى مجموعة A. afarensis، نسبة إلى إقليم الأفار في شرق إثيوبيا منذ نحو ٣٫٢ ملايين سنة. تتصف هذه المجموعة بصغر حجم المخ إلى نحو ٤٠٠سم مكعب؛ أي أقل من ثلث حجم المخ بين سلالاتنا المعاصرة، الجسم أيضًا صغير، وكان الوزن نحو ٣٠ كيلوجرامًا للفرد، وتراوح طول القامة من متر واحد إلى متر وثُلث المتر، كما أن طول الذراعين وقصر الساقين بقيتا كصفات وراثية قديمة لهذا النوع؛ لأنها كانت نافعة في حياة تسلق الأشجار وجمع الثمار والبذور التي تعايشت معها هذه السلالات المنقرضة. تغيرت تلك الصفات الوراثية عند الأنواع البشرية التالية في اتجاه طول الساق وقصر الذراع، عندما صنعوا أدوات حياتية للصيد أو الدفاع.
وعلى الأغلب كانوا يسكنون في الأشجار خوفًا من الحيوانات المفترسة ليلًا، ولكن كانت هناك أيضًا مخاطر مع الطيور الجارحة الكبيرة. بعض هذه المجموعة اتجهت إلى بسطة في الجسم والطول، كالحفريات الإثيوبية A. aethiopicus التي تميزت بطول نحو ١٧٠سم وتركيب عضلي قوي منذ نحو ٢٫٤ مليون سنة. ومن بين حفريات أواخر هذه المرحلة هومو هَبيلس H. habilis؛ بمعنى الإنسان الذي يعمل كثيرًا بيديه، عُثِر على حفرياته في تنزانيا وجنوب أفريقيا، ويعود إلى الفترة من ٢٫٤ إلى ١٫٤ مليون سنة، ولعله كان في اتجاه تطوري إلى المرحلة الثانية، وإن بقيت صفاته الجسدية ضمن أشباه البشر. وبرغم زيادة حجم المخ إلى ٦٠٠سم٣ بدلًا من ٤٠٠ لدى معظم جنس القرد الجنوبي، إلا أنه كان يعيش في الأشجار ويصعب عليه السير على قدمين مسافة كبيرة.

ظلت المجموعات الأولى من أشباه البشر تقبع في مواطن محدودة في أفريقيا ولم تغادرها، وحسب المعلومات الراهنة؛ فإن مناطق من إقليم الكيب في جنوب أفريقيا وأخرى حول الأخدود الأفريقي الشرقي من تنزانيا إلى إثيوبيا، هي التي تظهر لنا الأكثر كثافة والأقدم زمانًا من حيث تواجد معظم الحفريات العظمية لأشباه البشر منذ نحو ثلاثة ملايين من السنين. والأغلب أن ذلك التركيز المكاني مرتبط بوجود المتخصصين، فضلًا عن أن ميزانيات البحوث العلمية باهظة التكلفة. وما جرى من بحوث أو ما يزال قائمًا في هذا المجال، إنما يتم على الأغلب بأموال مؤسسات وخبرات علمية أجنبية في صورة بعثات علمية ومواسم عمل محددة. زاد الوعي بأهمية هذه الدراسات الآن، ولكن الإنفاق على الأحياء بدل الإنفاق على رميم العظام في دول أفريقيا الفقيرة، هو فكر عملي حول الأولويات، وإن يجب أن يكون بقدر حتى لا تنسحب الشعوب من بحوث تراثها.

وربما نستثني حالات مثل حكومة جنوب أفريقيا، التي لا تزال تسير بخطى الدفع السابق أيام دولة العنصرية. ولدينا في مصر كوادر وإنفاقات على البحوث الأثرية، لكنها تقع دائمًا تحت تأثير عناصر الحضارة المصرية الرائعة، في حين نستعين بالشراكة مع البعثات الأوروبية والأمريكية التي تهتم بدراسة الحضارات المصرية السابقة على الفرعونية، ولولا تلك المشاركة لما خرجنا بنتائج دراسية جيدة في تأصيل أصولنا الحضارية. وفي ظل ظروفنا المادية والركود الاقتصادي، أصبحت موازنة وزارة الآثار أقل مما يجب، ومن ثم يحدث تقصير تُنهَب معه أصولنا الحضارية!

هناك حفريات كثيرة لأشباه الإنسان تتعدد فيها أسماء أنواع قد تكون قليلة أو نادرة، ولكن إدراجها في القائمة ضروري، لعل مكانتها في خط التطور تتأكد باكتشافات جديدة. بعض منها مُدوَّن في الشكل الملحق باسم: منظومة تطور الإنسان، وكذلك القائمة المختارة من حفريات الإنسان. من بينها نذكر حفرية بحر الغزال (مكان الحفرية يقع في تشاد، وليست في السودان الجنوبي) A. Bahrelghazali.

وقد تحفظ عليها مكتشفها مايكل برونت في ١٩٩٥ وقدر عمرها ٣٫٥ ملايين سنة، لكن حولها بعض الشكوك، وربما تكون مهمة تفتح نافذة جديدة في التطور؛ وذلك لندرة حفريات الإنسان في الصحراء الكبرى حاليًّا.

وفي تشاد أيضًا حفرية أخرى أقدم تُسمَّى «توماي»، اسمها العلمي: «حفرية الساحل أنثروبوس التشادية»، هذه تسمية غير موفقة؛ لأنها تبعد إلى الشمال كثيرًا عن إقليم الساحل في غرب أفريقيا، وقد اكتشفتها في ٢٠٠١ مجموعة أجانب مع باحثين أفريقيين، وقُدِّر عمرها بسبعة ملايين سنة … إذا صح تقدير العمر تصبح هي أقدم حفريات أشباه البشر، فهل ندخل بمقدمات البشر إلى البلايوسين آخر عصور الزمن الثالث؟

وفي تنزانيا، اكتشفت ماري ليكي حفرية ١٩٥٩ سُمِّيَتْ حفرية الزنج، والاسم العلمي: بارانثروبوس بوازاي، وعمرها ١٫٨ مليون سنة. وإلى جانب ما سبق ذكره، هناك مجموعة من حفريات هياكل عظمية ضخام تنتمي أيضًا إلى أشباه البشر، وتُسمَّى بالقوي أو الضخم باسم rubustus أو Paranthropus؛ مثل: A. aethiopicus, A. boisei من شرق أفريقيا وإثيوبيا وA. africanus, A. rubustus من جنوب أفريقيا.

وفي الحقيقة، فإن الحفريات الثلاث الآتية هي مثار جدل حول صلتهم بخط التطور، أم هم أنواع من الرئيسيات المنقرضة، أم في مكان وسط من بين الرئيسيات والبشر، خاصةً وأن الأعمار المعطاة موغلة في القدم.

٧ ملايين سنة Sahelanthropus tchadensis.
٥٫٧ ملايين Orririn tugensis.
٥٫٦ ملايين Ardipithecus Kadabba.

الخلاصة أن أشباه الإنسان في معظمهم عمروا نحو مليوني سنة بين نحو ٤ إلى ١٫٨ مليون سنة مضت؛ حيث انقرض معظمهم وبادوا، أو على أحسن الفروض حدثت لبعضهم متغيرات أدت إلى المساعدة في ظهور نوع جديد من الإنسان.

وبهذه المناسبة، فإن هناك ما يميز تطور السلالات والأنواع في اتجاه التحسين، من أهمها:
  • (١)

    الوقوف والسير على قدمين ليست عملية بسيطة؛ فقد صحبها على زمن كبير مجموعة متغيرات في عظام الحوض؛ كي يُعطَى التوازن المطلوب للسير والجري، فضلًا عن المفاصل ومواضعها، وطول الساق، وتركيبة عظام القدم؛ لتتحمل ثقل الجسم، وتركيبة العمود الفقري التي تستطيع تحمل الجمجمة الثقيلة في أوضاع الجسم المختلفة وقوفًا وقعودًا … إلخ.

  • (٢)
    زيادة حجم المخ إلى متوسط ١٣٥٠سم٣، هو إضافة ضرورية تبلغ أكثر من ضعف مخ الشمبانزي أو الغوريلا. ليست المسألة زيادة الحجم، بل نمو أجزاء المخ الجانبية والأمامية، بما فيها من مراكز التحكم واللغة والذاكرة … إلخ. بعض العلماء يرجع كبر حجم المخ إلى تناول اللحوم للإنسان الحفري بدلًا من الاعتماد على الغذاء النباتي. وفي رأي آخر أن طهي الأطعمة هو عامل آخر غالبًا يسهل أكل اللحوم والبذور الناشفة.
  • (٣)
    تحرير اليدين من الوقوف والمشي أعطى انطلاقة كبرى في تناول الأشياء وصناعة الأدوات؛ مما أدى إلى وصف الإنسان بأنه الصانع Homo faber.

(٢-٢) المرحلة الثانية: «الإنسان الواقف Archanthropien Homo erectus»

المجموعة البشرية التالية هي التي نطلق عليها مصطلح إنسان Homo، وإن لم يحدث حتى الآن اتفاق على تفصيلات كثيرة تمكن الباحثين من إضافة مصطلح إنسان إلى أي نوع حفري. لكن لدينا اتفاق بوجه عام وتفصيلي على أن «هومو إيريكتوس Homo Erectus»؛ أي الإنسان الواقف على قدمين، هو أهم نوع في هذه المرحلة من التطور البشري. وفي الحقيقة ليس الوقوف هي الصفة التي تميزه؛ فقد سبقه إلى الوقوف أنواع من أشباه البشر، لكن الذي يميزه كبر حجم المخ الذي يصل إلى ما بين ٨٠٠–١٠٠٠سم مكعب — ما زال أقل من الإنسان الحالي بمتوسط نحو ١٣٠٠–١٤٠٠سم٣، وطول القامة التي بلغت ١٧٥سم، والتركيب العضلي وأشياء أخرى كثيرة ربما قاربت على مواصفات سلالاتنا الحالية.

عاش هذا الإنسان نحو مليوني سنة في أماكن كثيرة من العالم، وآخر انقراض لمجموعة منه كانت منذ ١٢ ألف سنة فيما عُرِف باسم أقزام جزيرة فلورس في شرق إندونيسيا. والأغلب أن أقزام أفريقيا وآسيا، وربما أيضًا البشمن في جنوب أفريقيا سلالات تفرعت عن هومو إيريكتوس في مراحل من تاريخه الطويل. كما يُرجَّح أن تكون حفريات إنسان دمانيسي في جمهورية جورجيا الحالية بالقوقاز، هي الأخرى إحدى تفريعاته، ولكنها على النقيض؛ لأن دمانيسي كان عملاقًا أضخم من سلالاتنا، وإن كان حجم مخه كطفل صغير.

الخلاصة أن هومو إيريكتوس كان عالمي الانتشار — ليس عددًا ولكن توزيعًا على القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأوروبا — لأنه الوحيد الذي تجرأ على العبور من أفريقيا، وبالتالي بدايات تعمير العالم.

غالبًا ساعده على الانتشار ظروف طبيعية، ربما بعضها متغيرات مناخية داخل أفريقيا، ولكن الأوضح الآن أن العبور كان يحدث أثناء فترات الجليد في البلايستوسين، حين تتكدس كميات كبيرة من مياه البحار والمحيطات في غطاءات جليدية هائلة المساحة والسمك فوق شمال ووسط آسيا وأوروبا وأمريكا. قُدِّرَتْ مساحة الغطاءات الجليدية ما بين ٣٠ إلى ٤٠ مليون كيلومتر مربع في كل فترة جليدية من الفترات الأربعة للعصر الجليدي الأخير الذي انتهى تمامًا منذ نحو ١٥ ألف سنة. ولكي ندرك ضخامة هذه المساحة، يكفي أن نعرف أن مساحة قارة أفريقيا بأكملها هي ٣٠ مليون كيلومتر مربع. ويترتب على انسحاب تلك المياه وتجمدها انخفاض منسوب سطح البحار مائة متر أو أكثر، تصبح معه المضايق والبواغيز التي نعرفها الآن أراضي جافة، تشكل جسورًا طبيعية عريضة الاتساع، تنتقل عليها الكائنات بما فيهم الإنسان. مثلًا البحر الأحمر كان أقل من نصف مسطحه الحالي، ولم يكن هناك خليجا السويس والعقبة ولا مضيق باب المندب ولا جزر البحر. كذلك كان هناك برزخ بري بدل مضيق جبل طارق، وفي فترة ما ارتبطت تونس بإيطاليا وأصبح البحر المتوسط بحيرتان منفصلتان، وبالمثل لم يكن هناك مضايق البوسفور والدردنيل. وكان البحر الأسود بحيرة متوسطة الاتساع، والجزء الشمالي منه كانت أرضًا متصلة بسهول أوكرانيا. أيضًا لم يكن هناك الخليج العربي، فابتداء من مضيق هرمز إلى العراق كان أغلبه أرضًا يربط الجزيرة العربية وإيران. حدث مثل ذلك في كل جهات العالم، وبخاصة جسرًا أرضيًّا كبيرًا يربط سيبيريا وألاسكا وأمريكا الشمالية، عبرت عليه فيما بعد مجموعات المغول الذين عمروا الأمريكتين فقط منذ نحو ٢٠ ألف سنة. كذلك لم تكن إندونيسيا جزرًا، بل معظمها مرتبط بالملايو وآسيا، كما كانت غينيا الجديدة وأستراليا متصلتين في كتلة أرضية كبيرة.

فوق هذه الجسور البرية عبر هومو إيريكتوس منذ نحو ٧٠٠ ألف سنة إلى آسيا الجنوبية والشرقية بعيدًا عن ثلاجات التبت والهيمالايا، وأغلب الحفريات البشرية التي وُجِدَتْ في الصين وجاوة تعود إلى هجرات هذا الإنسان؛ مثل إنسان الصين أو بكين (حفريات شوكوتين ونهوانو قرب بكين)، أو إنسان جاوة (حفريات ترينيل وسولو، أو نجاندونج ومودجوكيرتو، وكلها في غرب جزيرة جاوة)، وربما كان إنسان سولو وحفريات وادجاك خطوة أدت إلى تكوين شعب الأستراليين الأصليين.

وعن طريق القوقاز والأناضول عبر هومو إيريكتوس إلى أوروبا الشرقية والبلقان، ثم الغربية إلى إقليم الراين أيضًا منذ نحو ٧٠٠ ألف سنة. وأشهر حفرياته هنا — وربما أقدمها — هو الحفرية التي عُثِر عليها في ١٩٠٧ قريبًا من مدينة هايدلبرج الألمانية، وتُسمَّى فك ماور Mauer؛ ولهذا يُطلَق عليها أحيانًا: إنسان هايدلبرج.

وعلى الأغلب فإن هومو إيريكتوس قد سبق وأن عبر على الجسر البري لجبل طارق من مواطنه في شمال أفريقيا إلى إسبانيا منذ ٨٠٠ ألف سنة؛ حيث اكتُشِفَتْ مؤخرًا في ٢٠٠٨ حفريات أتابويركا في شمال إسبانيا.

في هذا المجال ما زال الوضع قلقًا بالنسبة لموقف بعض الحفريات إلى أين تنتمي؛ الإنسان الواقف أم أشباه البشر؟ من أهمها:

هوموهبيليس (١٩٧٣) H. Habilis من شرق وجنوب أفريقيا وهومو رودلف H. rudolfensis من شمال كينيا وجنوب إثيوبيا حول بحيرة تركانا (كانت في الماضي تُسمَّى بحيرة رودلف)، هومو إرجاستر H. ergaster؛ أي الإنسان النشط، وهو أيضًا من شرق أفريقيا، وبعض صفاته العظمية تكاد تتشابه مع إنسان هايدلبرج.

هذا التوسع في مواطن هومو إيريكتوس أدى بدون شك إلى تغيرات محسوسة في الهيكل العظمي، وأيضًا من المرجح أدت إلى تغيرات في ممارسة الأشياء، أو ابتكار أدوات مساعدة لسد النقص حسب بيئة المكان. يترتب على كل هذا وغيره اتجاهات خطوط تطورية في موضوع محدد من الهيكل العظمي؛ مثل: الجمجمة، وحجم تجويف المخ، أو اليد البشرية، أو تقوُّس السلسلة العظمية للعمود الفقري؛ كي تتحمل بطريقة ملائمة وزن الجمجمة الثقيلة وتركيبة القفص الصدري، وكذلك كان موضع إبهام القدم أمرًا مهمًّا في إمكان السير المتزن.

في هذا المجال من التلاؤم الجسماني لإيكولوجيات حياتية مختلفة، تبرز لدينا حالة أقزام جزيرة فلوريس في إندونيسيا الذين انقرضوا من نحو ١٢ ألف سنة. في فترة ما كان الاعتقاد أن الأقزام في أفريقيا وجنوب شرق آسيا هم سلالة متدهورة، لكن الدراسات الحديثة ترى أنهم نشئوا كسلالة لها مواصفات خاصة حجمًا وطولًا، وبخاصة أقزام أفريقيا، وربما مثلهم أيضًا الخويزان (بُشمن جنوب أفريقيا وناميبيا)، والسؤال: هل هم سلالة فرعية من هومو إيريكتوس نشأت لظروف خاصة وامتزجت بسلالة أقدم من أشباه الإنسان العديدة؟ حالة أقزام فلوريس ربما ينطبق عليها ذلك خلال آلاف السنين، أو ربما هم أصلًا من الإيريكوتس، ولكن العزلة في الجزيرة مع تخصص غذائي محدود أدى إلى اتجاه صغر الجسم الذي تكفيه كمية صغيرة من الغذاء للبقاء والتكاثر في كهوف الجزيرة التي اكتشف فيها حفرياته، والتي تبين من دراستها أنه عاش في الفترة بين ٩٥ إلى ١٢ ألفًا. سبب الانقراض غير معروف، ولكن قد يكون هناك ارتباط بين استيطان سلالة الإنسان العاقل جزيرة فلورس حوالي ذلك التاريخ. فهل أبادوا الأقزام؟ الأرجح أنهم قطعوا الأشجار لممارسة الزراعة، وبالتالي تغيرت البيئة وفقد الأقزام مصادر غذائهم فانقرضوا.

موضوع فلوريس هو كشف معرفي جديد، لكنه يولد أسئلة أكثر من إجابات، ويُعلمنا أن هناك الكثير لا نعرفه في أركان الأرض وعن سكانها!

التكيف الجسدي بطيء؛ ولهذا فإن الأسرع والأجدى — كان ولا يزال — هو ابتكار أدوات ووسائل أحسن أداء لمزيد العطاء، وبلا شك فإن أحسن الابتكارات كان وما زال العمل الجماعي أكثر منه فرديًّا، وإن كنا لا نغمط للريادة حقها. لماذا؟

الإنسان في تكوينه ضعيفٌ كأفراد قويٌّ كمجموعات. قوته العضلية أو قدرته ومرونته على الجري والتسلق وتركيبة أسنانه وأضراسه، أقل قدرة من الحيوانات الصيادة ومن الطرائد معًا. بل ربما كان وقوفه منتصبًا على القدمين توجه إلى ضعف مقابل الحركة الأقوى والأسرع على أربع؛ فتجويف البطن وأجهزة التنفس والهضم ودورته الدموية، ربما أكثر توافقًا وتعلقًا أفقيًّا بالعمود الفقري لدى الوقوف على أربع، بينما التعلق الرأسي للأجهزة ليست أحسن حالات الأوضاع البيولوجية في حالة الوقوف على القدمين. ولكن مقابل هذا الضعف البيولوجي؛ فإن تحرير اليدين من المساهمة في حركة السير والجري إلى المساهمة في الدفاع أو الهجوم باستخدام القدرة على رمي مقذوفات من خشب أو عظام أو حجارة أو حربة، هي عمود خشبي رُكِّب على رأسه نصل حجري مشطوف مدبب، ذو قدرة على اختراق جلود الحيوان أو الإنسان الآخر؛ هي قدرة مكنت الإنسان من تطوير قدراته من ضعف إلى قوة. هذا إلى جانب التأكيد النفساني على العمل الجماعي؛ لأن التجمع يبث الشجاعة ويساعد على إتمام الأعمال. تحول بعض العمل الجماعي الآن إلى عمل إنساني كالإسعاف، أو الدفاع عن حقوق الأغلبية الضعيفة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، أو مساعدة المعوقين أو حقوق المرأة … إلخ. هي أعمال معظمها تطوعي لتحقيق هدف تغيير اجتماعي يواكب متغيرات المجتمع المعاصر السريعة، لكن تقف دون تحقيقها اعتيادات وممارسات سالفة تحتاج جهدًا لتصبح أكثر مرونة.

لا شك في أن ما يحدث مجتمعيًّا في تاريخنا الآن، كان يحدث بصورة ما في الماضي من حيث مقاومة مستحدثات الأمور، وإن اختلفت أعداد الناس وأعمارهم، وسكن المدن التي تحشر في أجوافها ملايين الناس متناقضين في أشكال ومضامين الحياة. صحيح أن العمل في عصرنا هو عمل جماعي أيضًا في مؤسسات وهيئات رسمية، أو خاصة في تراتب بيروقراطي معروف. لكن الفرق أن العمل الجماعي القديم كان ضرورة حياة تعم فائدته على جميع المشتركين بشيء كثير من العدالة — مثلًا أنصبة اللحم من حيوان تم اصطياده — بينما تتوزع نتائج الأعمال الجماعية في المؤسسات الآن بقدر محدد وملزم للفرد على نحو توصيف وظيفته، وإلا أصبح عاطلًا!

(٢-٣) المرحلة الثالثة: «الإنسان العاقل HOMO SAPIENS»

مرحلة الإنسان العاقل بتفريعاته السلالية الكثيرة المنقرضة والمعاصرة، وكلما اقتربنا من عصرنا زادت الكشوف، ومعها تزيد احتمالات عدم الاتفاق بين العلماء على وضع الحفرية تأريخًا، ومن ثم إلى أي جنس أو نوع تنتمي الحفرية.

ولدينا أيضًا عدد من الأسئلة الهامة، منها: (١) كيف بدأ الإنسان العاقل؟ (٢) مشكلة النيدرتال. (٣) الإنسان العاقل المنقرض. (٤) انتشار وتوزيع سلالات الإنسان الحديث المعاصر على أقاليم الأرض.

(أ) كيف بدأت سلالات الإنسان العاقل؟

حول كيفية بدء الإنسان العاقل هناك نظريتان؛ أولهما: هل هو تطور مستقل من الإنسان الواقف؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين حدث التطور؟ أفريقيا أم آسيا أم أوروبا؟ والثانية أنه تطور عن هومو هبيليس. وفي هذه الحالة يصبح الإنسان الواقف خط تطوري موازٍ وليس مرتبطًا بخط هبيليس — وهي نظرية لا تجد تأييدًا كبيرًا من العلماء؛ حيث إن الإنسان الواقف أحدث تطورًا من هبيليس وحجم مخه أكبر كثيرًا، وبالتالي فهو أكثر قبولًا كجد لخط التطور إلى الإنسان العاقل بفضل انتشاره عالميًّا، وما أدى إليه الانتشار من متغيرات فرعية وجينية في المناطق المختلفة. فضلًا عن هذا، فإن هبيليس كان لا يزال في صورة أشباه البشر، وبخاصة ساقيه الصغيرتين لم تكن تساعده على الحركة مسافات طويلة، كما أن أدواته التي يصنعها أقل تطورًا من أدوات الإنسان الواقف.

وبالمثل، فإن الاستدلال على صحة النظرية الأولى ليس سهلًا، ولكنه أقرب لواقع الأمور. فلدينا مؤكدًا سلالات خليطة بين نوعين مثلًا في الجليل الفلسطيني وفي طابون (١٢٠ ألف سنة مضت)، وسخُول (منذ ٨٠ ألفًا في جبل الكرمل قرب حيفا)، فهل كان الخلط مرة أم لعدة أجيال إلى أن تثبت صفات جديدة. بمعنى ما وُجِدَ هناك من حفريات خليطة كانت نتاج التقاء سلالتين؛ فتلك في الجليل تنتمي إلى سلالة النياندرتال، والثانية إما أنها من الإنسان الواقف أو العاقل، سواء في حفرية جبل قفزة أو سخول التي تنتمي إلى الإنسان العاقل. فهل حدث التداخل بينهما مرة واحدة، ثم توقفت المشاركة لأسباب قد تكون نتيجة تزاحم على الموارد أدت إلى عداء أو ابتعاد مجموعة منهما؟ قد تكون حفرية سوانس كومب في بريطانيا أو جمجمة شتاينهايم في ألمانيا دلائل على التطور المستقل في أوروبا، لكن الاعتراض يُؤسَّس على قدم عمر الحفريتين، فهما معًا بين سلالة هايدلبرج المنتمية إلى أواخر عصر الإنسان الواقف وبين النيدرتال (شتاينهايم تعود إلى ٢٥٠ ألف سنة، وسوانس كومب ربما إلى نحو ٤٠٠ ألف سنة).

السؤال المطروح: هل يعني القدم توقف التغيير البطيء نتيجة متغيرات بيئية وحضارية معًا؟ لا شك في أن حجم تجويف المخ قد نما ببطء خلال عشرات آلاف السنين. وفي هذا المجال يربط بعض الأنثروبولوجيين بين الإكثار من أكل اللحوم ونمو المخ؛ بمعنى أن الإنسان في تلك الأزمان السحيقة قد طور طرق اصطياد الحيوانات، ومن ثم أدخل اللحوم في قائمة غذائه إلى جانب الأطعمة النباتية بدلًا من انتظار نصيب الفتات بعد أن تأكل الضواري، فلا شك في أن بروتين اللحوم يعطي طاقات أكبر جسمية وذهنية. على أي الحالات، هذا وغيره من الأسئلة مفيدة في التعرف على كيفية تغير الإنسان من كائن ضعيف إلى صياد صانع أدوات ومشارك في خطط منظمة لصيد حيوانات كبيرة جماعيًّا.

(ب) النياندرتال الإنسان القديم Homo Neandertalensis Paleanthropien

fig6
شكل ٦

بالرغم من كثرة الأسئلة، فإن ما لدينا الآن مجموعات من الحفريات تؤكد وجود الإنسان العاقل منتشرًا في أرجاء كثيرة من العالم القديم معظمها أصبح بائدًا، ولم يَبْقَ منها إلا ما تفرع وتطوَّر عنها، مكونًا سلالات الإنسان الحديث الحالية. لا يعني هذا أن سلالة ما أبادت أخرى أقل منها قوةً أو تنظيمًا؛ ففي الواقع أن أرض القارات الثلاثة كانت في مجموعها فضاء إيكولوجيًّا بالنسبة للمجموعات البشرية التي ربما كانت تبلغ بالكاد المليون عددًا في العالم آنذاك؛ نظرًا للأخطار الكثيرة أو نضوب مورد غذائي أو أمراض بيئية ربما كانت معها متوسطات الأعمار في العشرينات أو أوائل الثلاثينات على أحسن الفروض. بالتالي، فالأرض رحبة فيما عدا تفضيل جماعة البقاء؛ حيث تأقلمت على بيئة ومصادر غذاء تهيأت لها بتقنية معينة في الجمع والصيد. ربما حينئذ يحدث صدام أو ربما التشارك، ومن ثم تسرب الجينات الوراثية للخليط الذي يصبح تدريجيًّا ذا مواصفات تُؤهِّل لنمو سلالة جديدة.

سلالة النياندرتال وجدل لا يكف

أكثر ما لدينا انتشارًا من الإنسان العاقل هي سلالة إنسان نياندرتال التي وُجِدَتْ في آسيا وأوروبا وأفريقيا بتنوعات مختلفة، كأنها سلالات فرعية تخصصية. أكثر من مائة حفرية موزعة إقليميًّا على القارات الثلاثة، دعت بعض العلماء إلى التأكيد على أن هناك ثلاثًا أو أربع سلالات فرعية، منها: الروديسية في أفريقيا، والموستيرية في إيرنجزدورف بألمانيا، وسباي في بلجيكا، وجبل الكرمل في فلسطين، وأخيرًا النيادرتال الكلاسيكي الذي عاصر العصر الجليدي الأخير؛ فاخشنَّ تركيبه العضلي والعظمي. يرفض بعض العلماء حدوث تبادل جينات مع الإنسان الحديث البائد، بل يرون أن النياندرتال في مجموعه يمثل سلالة جانبية عاشت وانقرضت. رأى آخر أن أصوله الأولى ترجع إلى فترة أشباه الإنسان، وتطورت خلال فترة الحضارة الأشولية الطويلة إلى نوعين؛ أحدهما في النهاية أنتج النياندرتال الكلاسيكي، والآخر تطور إلى الإنسان العاقل. كل حفريات هذا الإنسان كانت تمتلك أحجامًا من تجويف المخ مماثلة أو أكبر قليلًا من متوسط الإنسان الحديث؛ أي +١٣٠٠سم٣.

السؤال الآن: هل يرفضون الكلاسيكي ويقبلون إيرنجزدورف على أنه رافد للإنسان الحديث؟ إذا كان الأمر كذلك، فربما هناك نزعة أو تلوين عنصري لهذا الرفض للصفات الخشنة التي ميزت النياندرتال، كانحدار الجبهة وعظمة الذقن للخلف كثيرًا، وبروز عظمة ما فوق الحاجب وتقوس ساقيه قليلًا؟

عاش النياندرتال إلى نحو ٣٥ ألف سنة مضت خلال العصر الجليدي الأخير، ومن ثم كان عليه في أوروبا وآسيا أن يواجه مصاعب حياتية بتغير المناخ وإيكولوجية نباتية حيوانية صعبة. ترتب على ذلك أن بنية النياندرتال العظمية والعضلية كانت كبيرة، وتركيب الجسم المكتنز والأنف الطويل كانت أكثر تلاؤمًا مع أجواء البرودة شبه القطبية مثل الإسكيمو حاليًّا.

عاش النياندرتال خلال الحقبة الحضارية الموستيرية التي صُنِّفَتْ إلى أربع مراحل حسب تقنية صناعة الأدوات الحجرية، وبالتالي فالسؤال يطرح نفسه: هل هي أربع جماعات أو عشائر مختلفة زمنًا وتقنية؟ بعبارة أخرى: هل المشكلة تقنية بحتة أم أنها تداخل مجموعات بشرية بتقنيات مختلفة؟

وسؤال آخر: هل كان لدى النياندرتال لغة متكاملة أم مجموعة صوتيات؟ بعض الدارسين يرون أنها لم تكن لغة متكاملة، ولكن قد ينفي ذلك أن هذه السلالة كانت تدفن موتاها في مقابر وطقوس وشعائر وربما أضاحي مع أدوات الميت، وأنها في مجموعها كانت تعيش حياة مجتمعات، برغم أن الجماعة قد لا تزيد عن مائة فرد أو بضع أسر معًا؛ مما يستوجب أيضًا التخاطب بلغة مفهومة للجميع.

الأسئلة لا تكف حول النياندرتال، مثل انقراضه فجأة بعد ظهور مجموعة أخرى من الإنسان العاقل البائد، وبخاصة ظهور سلالة الكرومانيون منذ حوالي ٤٠ ألف سنة، فهل تعايشا معًا خمسة أو عشرة آلاف سنة، أم أن الجدد أبادوا الأقل تطورًا؟ فكرة الإبادة غالبًا غير واردة؛ لأن أوروبا وغيرها كانت أرض شبه خالية، فلا النياندرتال ولا الكرومانيون بأعداد غفيرة كي يتناحروا على الأرض. كما أنهما كانا في ذات مرحلة الصيد والجمع الحضارية؛ بحيث لا تضطر واحدة إلى إزاحة الأخرى الأكثر تخلفًا، كما حدث حين أباد الأوروبيون هنود أمريكا لاختلاف مناسيبهم الحضارية والتكنولوجية. وفضلًا عن هذا فإن نياندرتال أوروبا في عصر الجليد تخصص في صيد الرنة، بينما انتشرت جماعات الكرومانيون وغيرهم في مناخ أحسن قليلًا وأكثر تنوعًا في حيوانات الصيد، وفي ذات الوقت قلت أعداد الرنة وزحفت شمالًا مع انقشاع الجليد، فهل تبعها النياندرتال شمالًا أم لاحقه الجوع في أماكنه؟ هل كان ذلك واحدًا من أسباب أخرى أدت إلى انقراض سلالة نياندرتال؟

الراجح أن معظم النياندرتال كانوا ضحية التخصص خلال العصر الجليدي، ولكن بالمقابل فإن آراء أخرى ترى أن التعايش المشترك لبضعة آلاف السنين كان له بعض الأثر في تبادل الجينات مع غيرهم؛ مما أدى إلى ظهور سلالات جديدة من الإنسان العاقل.

(ﺟ) الإنسان العاقل البائد Homo Sapiens Neanthropien

حياة الكهوف وفنونها التصويرية

مجموعة الإنسان العاقل البائد كثيرة السلالات وكثيرة الحفريات، أشهرها الكرومانيون من بين عدد آخر؛ منهم: جريمالدي، وشانسليد، وكرابينا. فضلًا عن حفريات أخرى في المغرب والجزائر وزامبيا ومصر والشرق الأوسط ووسط آسيا … إلخ. ولسنا بحاجة إلى دراسة خاصة بهم، فلم يجدَّ جديد سوى أن نؤكد أن حياة بعض هؤلاء — وبخاصة الكرومانيون — ارتبطت بحياة الكهوف وفنون التصوير الرائعة في أوروبا وأفريقيا، وأن التشابه واضح برغم بعد جنوب أفريقيا عن فرنسا أو إسبانيا أو كهوف وادي صورة في أقصى جنوب غرب مصر. والتساؤل هو: هل كانت هناك هجرة لهؤلاء من أفريقيا إلى أوروبا أو بالعكس؟ أم هل هناك توافق غير مرئي بين ناس متشابهين، بمعنى جينات فنية تذهب مع الناس أينما ذهبوا؟

برغم أن حياة الكهوف غير صحية لكثرة الرطوبة والعفونة؛ مما تتفاقم معه أمراض الصدر والعظام، إلا أنها فيما يبدو كانت ضرورة لتغيرات المناخ وتعدد مراحل انتهاء جليد فيرم في عدة فترات بين عودة مؤقتة للجليد ثم دفء تكررت على الأقل مرتين قبل المرحلة النهائية.

fig7
شكل ٧: الفن جاء مع البرودة (قبل ٢٠ ألف سنة بلغ جليد العصر الأخير أقصى حدوده، وتحت وطأة البرودة أصبح الناس أكثر حساسية بقدراتهم الفنية الخلاقة؛ فأبدعوا الرسم على جدران الكهوف التي يعيشون فيها، وبخاصة في إسبانيا وفرنسا).

العمود العرضي أعلا الخريطة مقياس زمني بعشرات آلاف السنين وموقع مواضع الكهوف. لاحظ وجود موقع وادي الكوبانية في مصر قرب أسوان.

fig8
شكل ٨: من صور كهف وادي صورة – العوينات الجلف الكبير مصر.
fig9
شكل ٩: من صور كهوف أوروبا – الصيد.
معظم الكهوف ليست مجرد مغارة واحدة، بل سلسلة مغارات وممرات متشابكة تتوغل كثيرًا في باطن الحافات الجبلية. مثلًا: كهف روفنياك في فرنسا يمتد في ثلاثة شعب، أطولها نحو ٨٠٠ متر في تعرجات وتفريعات كثيرة (راجع كتاب Nougier في قائمة المراجع حول عالم الكهوف). ومن أشهر الكهوف التيميرا في شمال إسبانيا ولاسكو في غرب فرنسا وفي تبستي ومصر كهوف مصورة أيضًا. معظم الرسوم على جدران الكهوف تعبر عن حيوان الصيد المرغوب؛ ولهذا البعض يركز على الخيل والآخر على الغزال والأيائل … إلخ، وهناك تأكيد على رسم الأيدي بكثرة كأنها تتضرع من أجل شيء. والملاحظ دقة الفنان في رسم الحيوان في صورة حركية ليست جامدة كأنها حدث أمام الرائي، وبالمقابل يرسم الإنسان الصياد بصورة معجلة أو رمزية مع التأكيد على القوس والسهم. وتعبر رسوم كهوف وادي صورة في مصر أيضًا عن تجمعات بشرية وحيوان الصيد والبيئة، وقسم خاص لمجموعة في وضع السباحة في بركة أو بحيرة تُسمَّى مغارة السابحين.

هل لهذه الفنون مدلول فوق مجرد إشباع الروح الفنية؟ بعض المتخصصين يرون أنها استدعاء سحري سيمباتي أن يُرزَقوا بصيد وفير، فبعض الخيول مرسوم عليه السهام التي أصابتها، والملاحظ أن كثيرًا من تلك المصورات رُسِمَتْ في ممرات ضيقة أو نهاية تشعيبة كأنها قدس الأقداس؛ بمعنى أنها رُسِمَتْ ليس للفرجة بل لوازع البقاء، ربما بتأثير شامان كاهن أو كبير السن يلقي تعويذة من أجل حظ سعيد.

لم تكن فنون الكهوف هي المميزة لتلك الفترة (٣٤ إلى ١٢ ألف سنة مضت)، بل أيضًا عمل تماثيل للمرأة أشهرها فينوس فيللندورف في النمسا من عشرات في أماكن أخرى، وهي أيضًا استدعاء سحري للجنس والخصوبة هدفه الرغبة في البقاء.

fig10
شكل ١٠
fig11
شكل ١١: حفريات أنواع إنسان العصور الحجرية.

(د) الإنسان الحديث Modern Man

أفكار السلالة النقية هي جوهر خرافات النظريات العنصرية؛ لأنه كما رأينا أن الأنواع البشرية لم تتناسل من فراغ، بل من سابقيها بعد مجموعة متغيرات جسدية وعقلية. والإنسان الحديث لا يختلف عن ذلك. الراجح أن نشأته كانت في أفريقيا أيضًا، ربما منذ ٨٠ ألف سنة مضت، ومن ثم غزا بقية العالم القديم، ربما منذ ٤٠ ألف سنة، وأخيرًا غزا الأمريكتين منذ نحو ٢٠ ألف سنة مضت، وبذلك يكون أول من يعبر إلى العالم الجديد من كل تاريخ البشر.

في بيئاته الجديدة بدأ الإنسان الحديث يتخصص في بعض مظاهره الجسدية بين طول أو قصر القامة، ومقطع الشعر، ولون البشرة والشعر، والنسبة الرأسية بين العريض والطويل … إلخ، وهو ما أدى إلى التقسيم الثلاثي العام: قوقازي أو أبيض، ومغولي أو أصفر، وزنجي أو أسود. وفي داخل كل قسم سلالات فرعية أيضًا نتيجة التخصص المكاني والاختلاط بين نوعين أو أكثر مرة أو مرات، نشأ معها صفات أخرى مميزة على النحو الوارد في الفصل الرابع من القسم الأول من طبعات الكتاب الأصلي عن الإنسان، وبالتالي لسنا في حاجة إلى تكرار الكلام حيث لم يطرأ كثيرًا على السلالات الرئيسية أو الفرعية.

سكان أمريكا القدماء

كل ما سبق من سلالات وحفريات وحضارات كانت تحدث في العالم القديم بقاراته الثلاث، فمتى وكيف عمر الإنسان العالم الأمريكي؟

كل الحفريات البشرية العظمية والحضارية التي عُثِرَ عليها تعود إلى سلالة الإنسان الحديث. معنى ذلك أنه قبل ٢٠ إلى ٣٠ ألفًا على أقصى تقدير، لم يكن الإنسان الحفري البائد بأنواعه المختلفة قد عبر إلى أمريكا. بل المؤكد أن العبور قد تم في خلال انخفاض منسوب البحر، وتكوُّن جسر أرضي كبير بين سيبيريا وألاسكا فوق مضيق بيرنج الحالي، وأن الانتقال ربما تم في موجات أحدثتها موجة الإسكيمو التي تعود إلى ما بين ٥–٨ آلاف سنة، وما زال بعض من الإسكيمو يعيشون في الطرف الشرقي الأقصى من سيبيريا. سهول شمال أمريكا الشمالية كانت تقع تحت غطاء وسكنسون الجليدي المعاصر لجليد فيرم في أوروبا، وكذلك كان الجليد يغطي جبال ألاسكا وكندا الغربية. وبين الجليدين حيث يجري نهر ماكنزي، كان يوجد غالبًا ممر مفتوح وسالك أحيانًا نتيجة تراجع الجليد أو مغلق لامتداده. ويرى علماء أن طريق المهاجرين الآسيويين من ألاسكا صعودًا من نهر يوكن إلى ماكنزي، ومن ثم إلى السهول الأمريكية الوسطى الخالية من الجليد. لا شك أن مثل ذلك الطريق تكتنفه مصاعب الحصول على الغذاء في هذه البيئة الجليدية، ولا يوجد دليل على صحة هذه الفرضية، لكنها تبدو منطقية. رأي آخر يفترض أن تعمير أمريكا تأخر إلى انقشاع الجليد، لكن ذلك يعطي عشرة آلاف سنة فقط لتعمير الأمريكتين، وهو غالبًا غير ممكن لهجرات تسير على الأقدام في بيئة جديدة غير معروف أين تكون أراضٍ تعطي فرص إقامة حياة مقبولة.

هناك الطريق الساحلي من ألاسكا إلى كاليفورنيا، وهو مليء بالجزر التي يمكن الانتقال معها جنوبًا من ألاسكا، لكن هذا الطريق تغلقه سلسلة جبال الكاسكيد والروكي بطول كندا والولايات المتحدة. نعم؛ لقد سكنه بعض المهاجرين، ولكنهم ظلوا في أماكنهم المحدودة الساحلية حتى الآن، وبخاصة في كولومبيا البريطانية.

أخطأ كولومبس حين وصل جزر الساحل الشرقي الأمريكي معتقدًا أنه وصل إلى آسيا؛ فأطلق عليهم الهنود الحمر، وإلى الآن هذه التسمية لصيقة بالباقين من سكان أمريكا للآن، وإن اخْتُصِرَتْ إلى «أمريند» Amrind. هؤلاء هم أصلًا من السلالة المغولية التي تسكن شمال آسيا، وتضم فيما بينها مجموعات سلالية تُسمَّى السيبيريين القدماء؛ هم خليط مغولي قوقازي قديم يظهر أثرهم في مجموعة الأينو من سكان جزيرة هوكايدو اليابانية. لهذا تتنوع الصفات الجسمية واللونية بين الأمريند زادت بالعزلة بضعة آلاف السنين في مساحات كبيرة وأعداد قليلة تعيش على الصيد جلبت معها اختلافات لغوية كثيرة. ومع ذلك فهناك صفات سلالية جامعة، منها انحراف العين، برغم عدم وجود الطية المغولية المشهورة في آسيا، وكذلك قلة واضحة في شعر الذقن وسيادة شعر الرأس الأسود المستقيم أو المموج خفيفًا، والنسبة الرأسية المتوسطة بين الرأس الطويل والعريض مع حجم المخ المعتاد ١٤٥٠سم٣، وتتراوح متوسطات طول القامة بين القصيرة ١٥٥سم بين هنود ميشيجان إلى الطويل ١٧٢–١٧٥سم بين قبائل البيما والسو.

تتفق آراء العلماء على أن الهجرات الآسيوية كانت عبارة عن موجات متتالية أو متباعدة حسب ظروف إيكولوجية الحياة في شمال آسيا عبر مضيق بيرنج، سواء كان جسرًا بريًّا منذ ٣٠ ألف سنة، أو فيما بعد انتقال بالقوارب مسافات محدودة إلى ألاسكا، ومجموعة جزر ألوشان، وكل موجة هجرة تدفع سابقتها إلى داخل القارة إلى اكتمال تعمير أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، على مسار نحو ٢٠–٢٥ ألف سنة، آخرها دخول الإسكيمو منذ نحو ±٥ آلاف سنة، كما أسلفنا.

حضاريًّا كانت كل موجات الهجرة من الصيادين والجماعين، ولما لم يكن معهم حيوانات ركوب أو جر، فقد برعوا في الصيد واقتفاء الأثر بشكل كبير. الحصان دخل مع الأوروبيين بعد ١٥٠٠م، وسرعان ما فاق الهنود ركوب الخيل كأحسن من الأوروبيين. في الصناعات الحجرية اختلف الهنود في سهول الشرق عن أولئك في غرب جبال الروكي، وعن أولئك في كندا. وأكثر الاختلاف كان يتعلق بصناعة رأس الحربة قبل أن يدخل القوس والسهم، وأشهرها تلك الرءوس المنتجة في موقع «فولسوم» الأثري في نيو مكسيكو التي قُدِّر عمرها ﺑ ١٥ ألف سنة بوسيلة كربون ١٤. وهناك حضارة أقدم كانت منتشرة في شرق الولايات المتحدة وكاليفورنيا باسم «حضارة كلوفيس»، لكن فولسوم أحدث وأحسن تقنيًّا.

سكان السهول معظمهم صيادون، بينما سكان غرب الروكي جماعون أكثر من صيادين، ومن بين أدواتهم حجر طحن البذور «رحى»، وفي ساحل كندا الباسيفيكي جماعات صيد الأسماك الشهيرة بحفلات البوتلاتش التي تُوزَّع فيها ثروة الأغنياء حتى لا تُشكِّل انقسامًا اجتماعيًّا فيما لو تراكمت.

في نيو مكسيكو ظهرت حضارة صناع السلال حوالي ٣٠٠م، إلى ٥٠٠–٧٠٠م التي تأسست على زراعة الذرة، ولم يعرفوا الفخار في البداية؛ لهذا أنتجوا السلال المتخصصة وعرفوا القوس والسهم وقاذف الرمح. جاءت بعدهم حضارة البويبلو الزراعية من ٧٠٠م، وكلمة بويبلو تعني البيت الحجري في قرى عديدة في نيومكسيكو وأريزونا.

fig12
شكل ١٢: تعمير أمريكا منذ نحو ٢٠ ألف سنة.

حضارات أمريكا الوسطى اختلفت تمامًا عن أقربائهم في الشمال ليس فقط في اكتشاف الزراعة وممارستها كنشاط اقتصادي أساسي، بل أيضًا في التركيبة السلالية؛ حيث يسود الرأس العريض، والبشرة أميل إلى السمرة، وفوق ذلك مجموعة نظم ملكية دينية يسودها المعبد والرؤى المستقبلية الأسطورية عند مملكة الأزتك في وسط المكسيك التي كانت تقوم على القوة العسكرية منذ ١٣٠٠م، واستسلمت للأسبان ١٥١١م. وفي جنوب المكسيك وهندوراس كان اتحاد مدن شعب وحضارة المايا التي تميزت ببناء الأهرامات المدرجة والمعابد فوقها، كما اشتهروا ببراعة في الرياضيات، وأنتجوا تقويم المايا الشمسي، وكان لديهم نظام كتابة متكامل. استمرت حضارة المايا نحو عشرة قرون، وانتهت في أوائل ق١٦م بوصول الإسبان. وفي بيرو نشأت حضارة الإنكا التي امتدت حتى شملت مساحة كبيرة من بيرو الحالية، وتميزت بنوع من الحكم اشتراكي ملكي ثيوقراطي، وبناء الطرق الحجرية بطول البلاد؛ لأن هذه الإمبراطورية لم تبتكر نظام كتابة، فالتاريخ هنا يعتمد على تتابع الملوك. الراجح أنها نشأت نحو ١٢٠٠م واتسعت تدريجيًّا، ثم فجأة في ١٤٤٠ امتدت المملكة الضخمة من إكوادور إلى سانتياجو في شيلي، وفي ١٥٣٢ دخل الإسبان وأنهوا مملكة كبيرة بكثير من المغامرة والدهاء والغدر.

في القرن العشرين كانت هناك أبحاث كثيرة حول نشأة الحضارات العليا في أمريكا الوسطى، اقترحت أنها لم تنشأ مستقلة في عزلتها، وبخاصة معارف الزراعة وإنشاء أنظمة حضارية دينية، كأنها تكرار لما حدث في العالم القديم متأخرة عنهم بفارق زمني يبلغ ألفي سنة أو أكثر. من الطرق المقترحة أن فينيقيي قرطاج في شمال أفريقيا — وهم ملاحون جابوا الأطلنطي إلى أيرلندا — ربما أبحروا غربًا إلى أمريكا الوسطى باستخدام التيارات البحرية كما فعل كولمبس بعدهم بألف وخمسمائة سنة، واقترح الأستاذ روبرت فون هايني جلدرن النمساوي في الخمسينات الماضية أن طريق الباسيفيك كان مطروقًا بواسطة بحارة جنوب الصين (حيث كانت حضارة دونج-صون التي تعود لعصر البرونز) إلى الجزر العديدة التي تملأ المحيط إلى سواحل أمريكا الوسطى، ومن ثم انتقلت بعض عناصر حضارية من الشرق القديم إليها.

على أي الحالات، فإنه معروف أن شيئًا حضاريًّا يمكن أن ينشأ مستقلًّا مرات في أماكن مختلفة. الزراعة يمكن أن تكون كذلك بين جماعات الجمع الذين يراقبون النباتات ونموها … إلخ. التشابه بين أهرامات المايا والزيجوارات السومري وأهرامات مصر، أنها أبنية عالية في محيط سهلي، ربما لذلك العلو ارتباط بالسماء، وإلى الآن يؤكد المختصون أن حضارات أمريكا العليا ذات نشأة مستقلة.

(٣) تعمير العوالم القديمة والجديدة بعد انتهاء عصور الجليد

كان الجليد يغطي مساحات هائلة من شمال القارات آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وحين انقشع ظهرت آفاق أرضية صالحة لحياة الصيد والجمع، وفيما بعد انتقل سريعًا في حضارة النيوليتي إلى استئناس ورعي الحيوان واستزراع الأرض المناسبة. ومع توفر الغذاء زادت أعداد الناس في الأرض المعطاءة لنوع النشاط البشري. المراعي الجيدة غير الفقيرة، وكذا زراعة الوديان النهرية جاءت قليلًا متأخرة عن زراعة سهول الأمطار الوفيرة لإنتاج الحبوب المرغوبة، سواء كانت قمحًا أو شعيرًا أو أرزًا، أو تلك المناسبة لنمو الدرنيات كالبطاطا والمانيوك … إلخ.

حين يزيد الناس عددًا وتنظيمًا تبدأ الحاجة إلى مزيد من الأرض، وبوجه خاص مع ما هو معروف من تغيُّر وتذبذب الأمطار ومياه الأنهار وحرائق الغابات والأعشاب كل بضع سنوات، فيما يشبه دورة غير منتظمة كل عدد من السنين. هذه الظروف الطبيعية والبشرية مجتمعة أدت إلى انتقال الناس من مكان لآخر في هجرات مسالمة طالما بقيت أراضٍ بكر غير مسكونة. أكثر هؤلاء المهاجرين من الرعاة؛ لأنهم الأكثر اعتمادًا على الظروف المناخية. تتيح وسعة المراعي أو ضيقًا. ثروتهم أيضًا يمكن أن تتحرك سواء كانت أغنامًا أو أبقارًا أو خيولًا وجمالًا. عكس ذلك الجماعات التي استقرت على الزراعة الذين لا يستطيعون نقل حقولهم، وبخاصة في الوديان النهرية. أما الزراع في السهول المطيرة، فيمكن أن يهاجروا إلى أرض جديدة. يعتمد هذا على التنظيم الاجتماعي وقيمة الأرض في الوديان النهرية؛ قيمة الأرض ارتفعت إلى سقف الملكية للأفراد المنتجين، بينما في التنظيم العشائري قيمة الأرض جماعية، ومن ثم يُستنفَر كل أعضاء العشيرة للعمل والدفاع والهجرة، بينما في نظام مجتمع الملكية الفردية يحتاج الأمر إلى ظهور تنظيم تُسلَّم له سلطة الحماية مقابل جباية. تنامت السلطة إلى نظام دولة المدينة، ومن ثم دولة إقليمية هرمية السلطة.

هكذا تحولت المجتمعات البشرية إلى مجتمعين أساسيين: الزراع بنظام الدولة، والرعاة بنظام القبيلة. احتياجهما إلى بعض في تبادل إنتاج كل منهما كان غالبًا سلميًّا معظم الأوقات، بل في حالات القحط المستمر قد يلجأ الرعاة إلى الاستقرار جوار الزراع؛ ليصبحوا بعد ذلك ممارسين للفلاحة. أو قد يلجئون إلى الإغارة على الدول في غزوات بعضها مدمر لفترات، إلى أن يركنوا للهدوء داخل التنظيم كحكام أو جنود؛ لتبدأ دورة جديدة من إغارات وهجرات الرعاة.

من أكبر تلك الأحداث تحرك طاغٍ للمجموعة البشرية التي نسميها الهندو-أوروبية التي كان يُطلَق عليها أحيانًا الآريين، لكن التسمية سقطت لما فيها من عنصرية متشددة قد تصل لحد عقيدة مذهبية. تحرك هؤلاء الرعاة بقوتهم من الخيالة المقاتلة من مراكزهم في وسط آسيا بين جبال ألتاي والقوقاز في الألف الثانية ق.م غزوا السند والهند في موجات متعددة، فدمروا تمامًا حضارة هارابا – موهانجدارو على نهر السند، وغزت جماعات منهم هضبة إيران، نعرفهم بأسماء تاريخية: الميديون، والبارثيون، والفرس. وبقيادتهم وأداتهم الحربية، وبخاصة الفرسان والعربة المقاتلة — وهو سلاح وتكتيك حربي لا تعرفه جيوش دول الحضارة في العراق ومصر — فاجتاحوا مصر فيما عُرِف باسم الهكسوس بمعنى ملوك الرعاة. وحين كوَّن هندو أوروبيون مملكة الميتاني في شمال الشام والعراق، أو مملكة الحيثيين في الأناضول؛ اشتبكت معهم مصر — تحتمس ورمسيس — في حروب طويلة على امتلاك بلاد الشام. أغار الهندو أوروبيين أيضًا على أوروبا من البلقان وسهول روسيا، وانتشروا مكونين جماعات إثنية كبيرة، كالجرمان والكلت والسلاف … إلخ. إحدى أهم النتائج أن تضاغط مثل هذه الهجرات الكبيرة للشعوب تُحدث قلقلة في التراكيب السكانية السابقة التي تتزحزح هي الأخرى في مجالات بعيدة، فتضغط على جماعات أخرى، فتتغير الصور السكانية في أماكن كثيرة مباشرة وغير مباشرة.

fig13
شكل ١٣: انتشار السلالات البشرية قبل التاريخ (عن ك. سالر).
fig14
شكل ١٤: مراكز وانتشار السلالات في آسيا (عن ك. سالر).

في القرن الخامس الميلادي حدثت أزمة أخرى بانطلاق جماعات تركية اللغة باسم الهون والآفار؛ من منغوليا في اتجاه الصين ووسط آسيا إلى الهند وإيران، وعبر روسيا إلى فرنسا. ولولا موت أتيلا زعيم الهون؛ لكانت صورة سكان أوروبا قد تغيرت كثيرًا. ضغطت الحركة على القبائل السلافية والجرمانية في وسط أوروبا؛ مما أدى بالقوط إلى التحرك ضد روما وتدميرها عام ٤١٠م.

وما بين القرن الخامس والثامن تحرك الجرمان من إسكندنافيا والبلطيق إلى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بينما تحرك السلاف إلى البلطيق وبولندا والبلقان، بما فيهم البلغار والصرب والكروات. وفي القرنين التاسع والعاشر امتدت غزوات متقطعة للمسلمين برًّا وبحرًا، من صقلية إلى جنوب إيطاليا وحوض الرون في جنوب فرنسا. وغزا الفايكنج الإسكندنافيون بحرًا كافة سواحل أوروبا الغربية والبحر المتوسط الغربي. كما وفدت هجرة آسيوية إلى وسط أوروبا من المجيار والفن، استقروا في سهول المجر الحالية وفي فنلندا.

وكان القرنان ١٢٠٠ إلى ١٤٠٠ هما بحق الفترة المغولية في تاريخ آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، بدأ من جنكيز خان إلى أحفاده باحتلال الصين ووسط آسيا وإسقاط خلافة بغداد واحتلال روسيا وأكرانيا. ولولا تصدي المماليك في معركة عين جالوت، لكان المد المغولي دخل أفريقيا وسيطر تمامًا على دول الإسلام باتخاذه مصر قاعدة قوية للامتداد إلى شمال أفريقيا.

عين جالوت لم تكن إحدى كبريات المعارك، لكنها كانت حاسمة في ظل ظروفها؛ فقد أغضى المغول الطرف عن مصر لانشغالهم بتثبيت أنفسهم في إيران ووسط وغرب آسيا، وهي تشابه معركة تور-بواتيه في ٧٣٢م. بين المسلمين القادمين لتوِّهم من فتح إسبانيا (٧١١) بقيادة عبد الرحمن الغافقي، وبين دولة الفرانك (الفرنجة) بقيادة شارل مارتل. هي الأخرى لم تكن من كبريات المعارك، لكن المسلمين لم يعاودوا الزحف على فرنسا لانشغالهم بتثبيت ملكهم في إسبانيا والبرتغال، وبالتالي تغير التاريخ في كلتا الحالتين: نجت أوروبا وبقيت مسيحية، وكذلك نجت دولة المماليك في مصر والشام وبقي الإسلام، بل أسلم مغول وسط وغرب آسيا.

هذه بعض نماذج من أشكال التعمير في العالم القديم بعضه هجرات شعوب، والآخر بناء تركيبة سكانية جديدة نتيجة اجتياح عسكري. لكن أكبر هجرة حدثت بعد الكشوف الجغرافية الكبرى إلى العوالم الجديدة في الأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا. وإذا كانت جحافل المغول والترك تُعَدُّ بعشرات الآلاف؛ فإن الهجرة إلى الأمريكتين قُدِّرَتْ في خمسة قرون بنحو مائة مليون من أوروبا، إضافة إلى نحو عشرين مليونًا سِيقُوا عبيدًا من أفريقيا رغم أنفهم.

fig15
شكل ١٥

(٤) نبض آسيا ونبض الصحراء الكبرى

في الأربعينات حين كنا ندرس بجامعة فؤاد الأول، كان أحد المراجع نظرية صاغها الجغرافي الأمريكي الكبير هنتنجتون Ellsworth Huntington باسم نبض آسيا ١٩٠٧ The Pulse of Asia، نتيجة إقامة طويلة في الشرق الأوسط وزيارات لوسط آسيا، مع تتبع تغيرات المناخ، كما وردت في كتب ومؤلفات سابقة عربية وإنجليزية.

خلاصة النظرية أن وسط آسيا كان كالقلب النابض، إذا أصابه الجفاف خرجت منه جموع مهاجرين يبحثون في بقية آسيا أو أوروبا عن مكان حياة جديدة. تكررت تلك الظاهرة في قرون متتالية، وإليها يعزو التحركات العسكرية أو السلمية. فهؤلاء المهاجرون رعاة خيل متمرسون ونظامهم الاجتماعي، يقوم على التنظيم شبه العسكري مع تساند العشائر والقبائل وثيقة الصلة لغويًّا وحضاريًّا بهم.

fig16
شكل ١٦

ومثل هذه التحركات حدثت في عدة موجات من الجزيرة العربية بعد جفافها إلى بلاد الهلال الخصيب منذ الألف الثانية ق.م، فاستولوا على سومر، وانتشر الساميون في الشرق الأوسط مثل الأموريين والأكاديين والكنعانيين. وفي القرن السابع زاد على ذلك ظهور الإسلام، وتوسع الدولة الإسلامية من وسط آسيا إلى شمال أفريقيا، وكان هذا آخر نبض عربي كبير. لكن الحركة استمرت تباعًا بأعداد قليلة، معظمها مسالمة وأكثرها توطن في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، ومن السودان إلى موريتانيا.

الآن وعلى ذات النحو تظهر بشائر نظرية مماثلة عن الصحراء الكبرى الأفريقية، ولكن معظم نبض الصحراء تم منذ مئات وعشرات آلاف السنين مضت؛ أي أقدم بكثير جدًّا من نبض آسيا. سكان الصحراء لم يكونوا رعاة أو زراع، فهذه النقلة الحضارية انتشرت في أفريقيا منذ قرابة خمسة آلاف سنة فقط — بمعنى أنها حديثة في تعمير هوامش الصحراء الكبرى الشمالية والجنوبية بقبائل رعوية عربية أو خليطة من البربر والطوارق، وبعضهم استقر في الواحات أو حيث تتوفر المياه في جبال تبستي وهضاب الحجار وآير.

إذن؛ ففي خلال المليون سنة الأخيرة كانت الصحراء الكبرى تتأرجح بين بيئة جافة صحراوية، وبين بيئة معتدلة كثيرة الأنهار الصغيرة كثيرة العشب، والسفانا الشجرية مليئة ببحيرات صغيرة أو كبيرة، ربما كان أكبرها بحيرة تشاد القديمة التي كانت تمتد في مساحة أضعاف أضعافها الحالية. أنواع الإنسان الذي يسكنها في ظل آلاف السنين الجيدة، هم صيادو أنواع من الأيائل والزراف وكباش الجبل … إلخ، وهم أيضًا جامعو الثمار والنباتات والبذور التي تنمو طبيعيًّا. غالبًا كانوا يسكنون قريبًا من مجرى مائي أو بحيرة حيث تأتي الطرائد.

هذه المعلومات سجلها أولئك السكان القدماء في سجلات تصويرية محفوظة في الكهوف والمغارات، كما هو وارد في أودية الجلف الكبير في أقصى جنوب غرب مصر، ومثله مسجل في كهوف أخرى مثل كهف الجارة إلى الجنوب الشرقي من الواحة البحرية. كما صورت رسومًا في كهف صخري أسفل جبل كروسكو أثناء دراستي للنوبة قبل التهجير في ١٩٦٢-١٩٦٣ مثل ذلك في جبال تبستي، وإندي، وإردي … إلخ.

وبما أن التغير المناخي للصحراء الكبرى قد حدث تكرارًا مع تغيرات مماثلة في أوروبا، فإن صيَّادِي الصحراء الكبرى كانوا يهاجرون إلى مناطق أكثر قابلية للحياة؛ مثلًا ضفاف نهر دائم كالنيل أو يعبرون إلى أوروبا، وهناك يمارسون ما درجوا عليه من صيد وتسجيل تصويري لحياتهم وحيوانات البيئة الجديدة في كهوف أوروبا.

لهذا يؤكد كثير من العلماء أن تعمير أوروبا في الأغلب كان يأتي من أفريقيا في ظل ظروف مناخية قاسية في الصحراء الأفريقية، وربما كانت هناك أيضًا هجرة معاكسة من أوروبا إلى أفريقيا إذا ساءت أحوال أوروبا في فترة أو عصر جليدي. بعبارة أخرى إن العلاقة بين أفريقيا وأوروبا كانت دائمة، سواء كان الإنسان هومو إيركتوس وعصر الحضارة الأشولية، أو إنسان نياندرتال والحضارة الموستيرية، أو الإنسان العاقل البائد والإنسان الحديث في عصر حضارة الحجري الحديث.

ولا شك في أن وجهة النظر هذه سوف تساعد على مزيد من الدراسات أو إعادة النظر في مدى العلاقة بين ضخ الصحراء الكبرى للبشر إلى أوروبا في فترات متعددة.

(٥) موجز التركيب السلالي في مصر

موقع مصر كجسر بري مفتوح بين أفريقيا وآسيا، لا بد أنه كان له دور هام في تعدد حركة الأنواع والسلالات البشرية جيئةً وذهابًا. لكننا لم نعثر على هياكل أو بقايا عظمية تعود إلى تاريخ قديم سوى هيكل الكوبانية إلى شمال أسوان قليلًا، وقدر عمره فيما بين ٨–٢٠ ألف سنة فقط، وهو بالتالي يعود إلى سلالات الإنسان العاقل. لكن مقابل ذلك فإن السجل الحضاري موجود في أماكن كثيرة من العصر الحجري القديم إلى الحجري الحديث، وعصور المعادن حين تشكلت حضارات مصرية صميمة كالبداري والفيوم، ونقاده في الصعيد ومرمدة والمعادي في رأس الدلتا بعد جفاف الصحراء وظهور أهمية الإقامة حول النيل.

ومصر بهذه الصورة في الآلاف العشرة الأخيرة تقع بين ثلاث مجموعات بشرية لكل منها صفات مميزة، وإن كانت كلها من الإنسان الحديث. فإلى الشرق مواطن الساميين وإلى الغرب مواطن البربر، وهما معًا من سلالات البحر المتوسط. وإلى الجنوب مواطن السلالة الزنجية التي كانت تزحف شمالًا على محور النيل من أواسط السودان، وهو ما اضطر الفراعنة في فترات من تحديد عبور الزنوج والزنجانيين الحدود إلا لغرض التجارة. ومع ذلك أثر الضغط الزنجاني على سكان جنوب الوادي من ثنية النيل الكبرى في شمال السودان إلى قرب إدفو؛ فأعطاهم سمرة البشرة دون أن يؤثر كثير على التركيب السلالي الجسمي. وهؤلاء هم أجداد المجموعات النوبية التي تأثرت أيضًا بذات الهجرات التي دخلت مصر من الشمال والشرق والغرب.

هذا المزيج الثلاثي أصبح الأساس السلالي للمصريين، لكن طوال العصور التالية كانت هناك ضغوط مثلًا من عراض الرءوس القادمين من هضاب الشام وما بعدها؛ فأثروا أولًا على سكان الدلتا وتدريجيًّا على سكان الوادي، ثم عادت النسبة الرأسية الطويلة تميز كل السكان من جديد. دخلت مصر مجموعات معظمها من سلالة البحر المتوسط سواء إغريق ورومان وعرب وبربر فلم يؤثروا كثيرًا؛ لأنهم مماثلون سلالة وإن اختلفوا حضارةً ومجتمعًا. وإلى جانب ذلك دخلت مصر سلالات أخرى أهمها الترك والشركس والأرمن، وهؤلاء كان لهم تأثير محدود في طبقات المجتمع إلى أن امتُصُّوا تمامًا؛ فأصبح لدينا شعب خليط لكنه متحد. لماذا؟

إذا عدنا مرة أخرى إلى الظروف الطبيعية، فسوف نجد الإجابة على الوحدة الكامنة بين المصريين، بغض النظر عن اللون والدين والفقر والغنى. فالنيل في مصر نهر واحد يجمع الكل ويؤمن احتياجاتهم الحياتية بصورة أو أخرى، وحول النيل فيافٍ قفار لمدى بعيد. قد يماثلنا العراق في أنه يقع في وادي الفرات والدجلة بين الصحراء والجبال، لكنهما قريبو التأثير على العراق؛ فالبداوة قوية بينما هي في مصر محدودة، وسكان الجبال من الأكراد والإيرانيين جزءٌ متمم ومختلف التأثير والتأثر، وليس لدينا في مصر مثل هذه المجتمعات مختلفة اللغة، اللهم إلا في حدود محدودة. وأخيرًا ينقسم العراق مذهبيًّا سنةً وشيعةً، وهو أيضًا غير موجود إلا في الاختلاف الإسلامي القبطي الذي استمر مئات السنين لا يوقظه سوى من يتمنى الفرقة للشعب.

الخلاصة أن التركيب الحالي هو قديم مع بعض الإضافات، بحكم موقع مصر بين شرق وغرب العالم العربي، وأن للنيل دورًا حيويًّا في التوجه الجنوبي إلى السودان ودول حوض النيل، وأن الساحل الشمالي كان له من القدم دور آخر في علاقة مصر بدول البحر المتوسط الشرقي. كل هذه العلاقات كان لها مردود في الخلطة السلالية المصرية.

fig17
شكل ١٧: السابحات في وادي صورة – العوينات، الوادي الجديد ٢٠٠٥، مصر.

(٦) قائمة مختارة بأسماء حفريات الإنسان المكتشفة حتى الآن

  • الاختيار نقلًا عن قائمة ويكيبيديا ٢٠١٣؛ كي لا تتكاثر الأسماء على القارئ الكريم.

  • الكثير من الحفريات العظمية الآتية ليست بالضرورة من الأسلاف المباشرين لسلالة الإنسان العاقل الحديث الذي ينتمي إليه سكان الأرض الحاليون، لكنها قد تكون ذات صلة هامة مع بعض الأسلاف، ومن ثم توجب المعرفة.

تشتمل القائمة على حفريات تعود إلى أزمنة وعصور جيولوجية حديثة ترتيبها كالتالي:
  • أواخر عصر الميوسين: بين ٥٫٣–٧ ملايين سنة مضت.

  • عصر البليوسين: بين ٢٫٥٨–٥٫٣ ملايين سنة مضت.

  • عصر البلايوستوسين: بين ٢٫٥٨ مليون سنة إلى ١٠ آلاف سنة مضت، وينقسم إلى:
    • الباليوليتي الأسفل من ٢٫٥٨ مليون إلى ٣٠٠ ألف سنة مضت.

    • الباليوليتي الأوسط من ٣٠٠ إلى ٥٠ ألف سنة مضت.

    • الباليوليتي الأعلى من ٥٠ إلى ١٠ آلاف سنة مضت.

    • عصر الهولوسين يشمل الميزوليتي والنيوليتي معًا بين ١٠ إلى ٥ آلاف سنة مضت.

(٦-١) ملاحظات

  • الميوسين والبليوسين: هما آخر عصور الزمن الجيولوجي الثالث الذي امتد لنحو ٦٠ مليون سنة.

    الزمن الجيولوجي الرابع يشمل البلايوستوسين والهولوسين الذي نحن فيه الآن، وعمرهما معًا نحو ٢٫٥ مليون سنة.

  • الباليوليتي: العصر الحجري بأقسامه الأسفل والأوسط والأعلى، وهو تقسيم يعتمد أساسًا على الحجر كخامة أساسية استخدمها الإنسان في صناعة أدواته المساعدة على حياته، وبخاصة في الصيد والطرق وعمل المكاشط والحواف المسننة … إلخ.

    ومعظمها نسميها فئوس يدوية تطورت إلى أشكال دقيقة من الأشكال الأولى كبيرة الحجم. وبطبيعة الحال ربما استخدم قبل أو أثناء ذلك أدوات خشبية من أفرع الأشجار أو عظمية من قرون حيوانات الصيد وعظامها الكبيرة، وعمل المخارز من عظامها الدقيقة لتشغيل الجلود … إلخ. كما استخدم في أوائله أيضًا الحصى بأشكالها وأحجامها الطبيعية. لكن الأدوات الحجرية هي التي بقيت، بينما هلكت معظم الخامات الأخرى، ومن ثم أصبح التمييز بأنواع صقله للحجارة رمزًا لتغير الإنسان وأشباهه إلى أول مراحله الحضارية، كصانع أدوات توفر احتياجاته وتزيد قدراته الفسيولوجية والغذائية.

  • الميزوليتي: مرحلة حجرية متوسطة بين الحجري القديم والحديث، وربما مرت بها بعض المجتمعات أو تعدتها إلى النيوليتي؛ أي الحجري الحديث الذي بدأ بتحول الناس من مستهلك للغذاء الذي تقدمه البيئة، إلى منتج للغذاء في صورتين: الزراعة، واستئناس بعض الحيوانات. مشكلًا بذلك أول ثورة اقتصادية استمرت مع استخدام المعادن من النحاس إلى البرونز والحديد، إلى تكامل الثورة الثانية «عصر الصناعة» منذ نحو ٣٠٠ سنة فقط.
اسم الحفرية والنوع عمرها تاريخ الكشف أين ملاحظات
حفريات أواخر الميوسين
ساحل أنتروبوس التشادي Sahelanthropus tchadensis (Toumai) TM 266 ٧ ملايين ٢٠٠١ تشاد وُجِدَتِ الحفرية في توروس – منالا – تشاد يُسمَّى توماي بمعنى الأمل
أورورين تاجنسيس Orrorin tugensis Bar 100000 ٦ ملايين ٢٠٠٠ كينيا
حفريات البليوسين
أرضي بيثيكس راميدوس Ardipithecus ramidus (Ardi) ٤٫٤ ملايين ١٩٩٤ إثيوبيا يوهانس هيلا سلاسي
KNM-LT 329 Australopithecus anamensis ٤٫٢-٥ ملايين ١٩٦٧ كينيا
لايتولي (أثر قدم على صخر بركاني) Laetoli footprints, Bipedal hominid ٣٫٧ ملايين ١٩٧٦ لايتولي – تانزانيا ماري ليكي
LH4 Australopithecus afarensis نوع من حفرية آفار لإقليم نسبة أفاري ٢٫٩-٣٫٩ ملايين ١٩٧٤ لايتولي – تانزانيا دونالد جونسون
حفرية بحر الغزال Australopithecus bahreghazali K 12 (Abel) ٣٫٥ ملايين ١٩٩٥ تشاد مايكل برونت M. Brunet
DIK-1 (Selam) Australopithecus afarensis ٣٫٣ ملايين ٢٠٠٠ إثيوبيا الأفار لإقليم نسبة بشرق إثيوبيا
لوسي AL 288 1Australopithecus afarensis ٣٫٢ ملايين ١٩٧٤ إثيوبيا دونالد جراي وتوم جونسون
حفريات البلايستوسين
تاونج Taung1 Australopithecus africanus ٢٫٥ مليون ١٩٢٤ جنوب أفريقيا دارت رايموند
الجمجمة السوداء KNM WT Paranthropus aethiopicus ٢٫٥ ١٩٨٥ كينيا ألان ووكر
STS 14, 71 & 52 (٣ حفريات) Australopithecus africanus ٠٫٥٨–٢٫٠٤ ١٩٤٧ جنوب أفريقيا روبرت بروم
TM 1517 ٢ مليون ١٩٣٨ جنوب أفريقيا جرت تربلانش
Paranthropus robustus
MH1  أسترالوبثكس سديبا Australopithecus sediba ١٫٩٧٧–١٫٩٨ ٢٠٠٨ جنوب أفريقيا لي برجر
هومو هبيلس Homo Habilis ١٫٩ مليون ١٩٧٣ كينيا كامويا كيميو
هومو هبيلس Homo Habilis ١٫٨ مليون ١٩٦٨ تنزانيا بيتر نزوبا
زنج أنتروبوس Zinj Paranthropus boisei ١٫٨ مليون ١٩٥٩ تنزانيا ماري ليكي
دمانيسي Dmanisi D 2700 Homo erectus ١٫٨ مليون ٢٠٠١ جمهورية جورجيا (القوقاز) حوله شكوك من حيث ضخامته المفرطة مع صغر حجم تجويف المخ
إنسان رودلف Homo rudolfensis ١٫٧٨–١٫٩ مليون ٢٠١٢ كوبي فورا – كينيا ميفا ومجموعة ليكي
KNM ER 3733  هومو إركتوس (الإنسان الواقف) Homo erectus ١٫٧٥ مليون ١٩٧٥ كينيا برنارد نجوني
بوازاي بارانتروبس Paranthropus boisei ١٫٧ ١٩٦٩ كينيا رتشارد ليكي
هومو إركتوس KNM Er 992 Homo erectus ١٫٥ مليون ١٩٧١ كينيا رتشارد ليكي
أجداد الأسلاف Homo antecessor Atapuerca ١٫٢ مليون ٢٠٠٨ إسبانيا
إنسان جاوة «حفرية ترنيل» Trinil 2 Homo erectus ٠٫٧–١ مليون ١٨٩١ إندونيسيا أوجين ديبوا
ترنيفاين هومو إركتوس ٧٠٠ ألف ١٩٥٤ الجزائر
سانجران هومو إريكتوس ٧٠٠ ألف ١٩٦٩ إندونيسيا
إنسان بكين Peking Man   هومو إريكتوس ٦٨٠–٧٨٠ألفًا ١٩٢١ الصين ديفيدسون بلاك
مدام بويا H. Heidelberg أو Homo erectus ٦٠٠ ألف–١٫٤م ١٩٩٧ إريتريا إرنستو أباتا
ماور أو إنسان هايدلبرج Mauer, Homo Heidelbrgensis ٥٠٠ ألف ١٩٠٧ ألمانيا
سالدنها Saldanha Homo rhoesiensis ٥٠٠ ألف ١٩٥٣ جنوب أفريقيا
ميجيولون Miguelon H. heidelbergensis ٤٠٠ ألف ١٩٩٢ إسبانيا
سوانس كومب هومو هايدلبرج ٤٠٠ ألف ١٩٣٥ بريطانيا ألفان مارستون
ندوتو Ndutu Homo rhodesiensis ٣٥٠ ألفًا ١٩٧٣ تنزانيا
جمجمة شتاينهايم Steinheim skull Homo Heidelbergensis ٣٥٠ ألفًا ١٩٣٣ ألمانيا
نجاندونج ٧ Ngandong 7 Homo erectus ٢٥٠ ألفًا ١٩٣١ إندونيسيا فون كينجزفالد وآخرون
مورا ألتا Altamura Man هومو نياندرتال ٢٥٠ ألفًا إيطاليا
إنسان روديسيا Broken Hill 1 Homo rhodesiensis ٢٠٠–٣٠٠ ١٩٢١ زامبيا توم زفيجلار
جبل إرهود ٤ حفريات Homo Sapiens ١٦٠ ألفًا ١٩٩١ المغرب
طابون Tabun C1 هومو نياندرتال ١٢٠ ألفًا ١٩٦٧ إسرائيل أرثر يلينك
كرابينا Krapina H. Neandertalensis ١٠٠–١٢٧ ١٨٩٩ كرواتيا
قفزه ٣ (حفريات) Homo Sapiens ٩٠–١٠٠ ١٩٣٣ إسرائيل توثق علميًّا بإنسان فلسطين
سخول Skhul V & IX Homo Sapiens ٨٠–١٢٠ ١٩٣٣ إسرائيل أيضًا إنسان فلسطين
تشيك-تاش هومو نياندرتال Teshik-Tash ٧٠ ألفًا ١٩٣٨ أوزبكستان
سانت أو شابل Le chapelle-aux-saints 1 H. neandertalensis ٦٠ ألفًا ١٩٠٨ فرنسا
الباليوليتي حفريات الأعلى ١٠–٥٠ ألف سنة
نياندرتال إنسان H. Neandertalensis ٤٠ ألفًا ١٨٥٦ ألمانيا

وادي نياندر – دسلدورف

يوهان فيلروت

Mungo man Homo Sapiens ٤٠–٦٠ ١٩٧٤ أستراليا
كهف سيدرون هومو نياندرتال Sidron Cave ٤٩ ألفًا ١٩٩٤ إسبانيا
كهف كنتس – الإنسان العاقل Kents Cavern ٤١–٤٥ ألفًا ١٩٢٧ بريطانيا
نياندرتال هومو ١ عمود Amud 1 ٤١ ألفًا ١٩٦١ إسرائيل
نياندرتال هومو Mt. Circeo ٤٠–٦٠ ألفًا ١٩٣٩ إيطاليا
Denisova Hominin Homo? ٤٠ ألفًا ٢٠٠٨ روسيا
جمجمة هوفماير الإنسان العاقل ٣٦ ألفًا ١٩٥٢ جنوب أفريقيا
Yamashita-cho Man Homo Sapiens ٣٣ ألفًا ١٩٦٢ اليابان
جبل طارق ١ هومو نياندرتال ٣٠–٥٠ ألفًا ١٨٤٨ جبل طارق كابتن إدموند فلنت
لو موستييه Le Moustier H. Neandertalensis ٣٠–٥٠ ألفًا ١٩٠٩ فرنسا
كرومانيون  Cro-Magnon 1 Homo Sapiens ٣٠ ألفًا ١٨٦٨ فرنسا لوي لارتيت
بردموست Predmost H. Sapiens ٢٦ ألفًا ١٨٩٤ تشيكيا
وادجاك Wadjak 1 H. Sapiens ١٠–١٢ ألفًا ١٨٨٨ إندونيسيا
كوم كابلل Combe Capella H. Sapiens ٩٦٠٠ سنة ١٩٠٩ فرنسا
١٣ أفالو Afalou 13 H. sapiens ٨–١٢ ألفًا ١٩٢٠ الجزائر
وادي حلفا ٢٥ W. Halfa 25  الإنسان العاقل H. Sapiens ٨–١٢ ألفًا ١٩٦٣ السودان
وادي الكوبانية W. Kubanieh  الإنسان العاقل H. Sapiens ٨–٢٠ ألفًا ١٩٨٢ مصر قرب أسوان فردوندورف
fig18
شكل ١٨
fig19
شكل ١٩: ملخص (١) لحفريات تطور عائلة الهومونيديا نقلًا عن مجلة «تايم» عدد أغسطس ١٩٩٩.
fig20
شكل ٢٠
١  Ernst Haeckel 1834–1919: هو أحد الثلاثة الكبار في البيولوجيا إلى جانب جان باتيست لامارك ١٧٤٤–١٨٢٩، وتشارلز داروين ١٨٠٩–١٨٨٢ والثلاثة تطوريون، وإن كان لكل آراء في عملية التغيير أو الانتخاب الطبيعي وتأثير البيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤