نوع السلالة وتطور نوع الإنسان
(١) الإنسان المعاصر بين وحدة الأصل وتعدده
تنتمي كل الأنواع الحية من الإنسانية في وقتنا الراهن إلى نوع بيولوجي واحد، هو ما نسميه الإنسان العاقل، ولكن ذلك لم يكن الأمر خلال الفترة التي عاشها الإنسان وأشباهه على الأرض؛ فقد كانت هناك في الماضي أنواع مختلفة من الإنسان وأشباه الإنسان تصارع الظروف الطبيعية من أجل الحياة. واليوم تحتل الأرض سلالة الإنسان العاقل التي تنقسم إلى سلالات فرعية عديدة تكون ما نعرفه الآن من المجموعات السلالية الفرعية والرئيسية. ويدرس علم الأنثروبولوجيا الطبيعية هذه المجموعات الإنسانية لتحديد صفاتها المشتركة التي تؤلف فيما بينها الإنسان المعاصر من ناحية، كما يدرس المميزات الخاصة التي تنفرد بها كل مجموعة سلالية عن الأخرى من ناحية ثانية، ويهتم من ناحية ثالثة بدراسة تطور الإنسان منذ نشأته حتى اليوم.
وحينما يبدأ هذا العلم بدراسة الإنسان في ما قبل التاريخ؛ فإن مصدره الوحيد هو الهياكل العظمية، بالإضافة إلى قليل من المومياء، معظمها راجع إلى تاريخ حديث جدًّا بالمقارنة بتاريخ الإنسان الحفري القديم. وفي هذا المجال يأمل الأنثروبولوجيون السوفيت العثور على إنسان ما قبل التاريخ بلحمه وعظمه وشعره كاملًا مدفونًا في جليد سيبيريا، ولكن إلى أن نصل إلى هذا الكشف فعلينا أن نقنع بالمخلفات العظمية التي نجدها هنا وهناك في أجزاء مختلفة من العالم مطمورة في حفريات فيضية أو متحجرة.
وبما أن هذا الفرع من الأنثروبولوجيا يُعنَى بدراسة الإنسان بيولوجيًّا؛ فإن أول ما يجب أن نعالجه هو موضوع السلالة؛ لأن هدف هذه الدراسة هو تصنيف الإنسان القديم أو المعاصر في سلالات. فماذا تعني كلمة سلالة؟
في الماضي قبل أن تصبح الأنثروبولوجيا علمًا مستقلًّا، كان اختلاف المظاهر الخارجية الجسدية للناس مجالًا للكلام الكثير من جانب علوم الفلسفة؛ ذلك أن تغاير الصفات البشرية واضح بين مجموعة وأخرى في اللون أو شكل الشعر أو لون العين أو طول القامة أو شكل الأنف، وما إلى ذلك من المميزات الظاهرية للمجموعات الإنسانية.
وبعد أن انفصل هذا الموضوع وأصبح علمًا قائمًا بذاته له مناهجه الخاصة كان المتوقع أن يعطي العلم تفسيرًا واضحًا لمصطلح السلالة، إلا أن كلمة سلالة ما زالت أمرًا غامضًا يختلف عليه العلماء.
والملاحظ أن كلمة سلالة قد نشأت قبل أي تحديد علمي سابق؛ فقد لاحظ الناس منذ القدم اختلافات بين الصفات التي تميز بين المجموعات البشرية المختلفة، ولكن الناس لم يهتموا بدراسة هذه الخلافات، بل إن كل ما تطرق إلى ذهنهم هو هذا السؤال: هل هناك تعدد في الأنواع؟ ويلاحظ أن موضوع وحدة أصل الإنسان اقترن من ٢٠٠٠ سنة أو أكثر بفكرة الديانة عن أصل الإنسان. فالديانات السماوية الثلاث اتفقت فيما بينها على أصل واحد للإنسان (آدم وحواء)، وقد دعا هذا التأكيد الديني الكثيرين إلى التردد في مخالفة هذا النص الديني الصريح؛ مما جعل الناس متحيزين — سواء أرادوا أو لم يريدوا — لفكرة الأصل الواحد للإنسان.
- (١) الأستراليون أو الجنوبيون: (جنوب Austral) هؤلاء نشئوا في جزيرة جاوة أصلًا والأرض الآسيوية المجاورة لجاوة، وأصلهم الحقيقي يرجع إلى إنسان جاوة، ثم تطوروا على مر الزمن إلى أن أصبحوا سكان أستراليا الأصليين وسكان بابوا Papua (الجزء الأوسط والشرقي من غينيا الجديدة) والميلانيزيين وأقزام جنوب شرقي آسيا؛ قبائل الأييتا في جزيرة لوزون في شمال الفلبين، والسمانج في أواسط شبه جزيرة الملايو، والأندمانيون في جزر أندمان في خليج البنجال.ويُضاف إلى هذه المجموعات الجنوبية الأصل بعض مجموعات سلالية تسكن جنوب الهند؛ مثل تاميلي Tamili.
- (٢) المغول: وهؤلاء نشئوا أصلًا في الصين منحدرين عن إنسان بكين، وبمرور الوقت تطوروا أيضًا إلى الإنسان العاقل، وانتشروا في المناطق التي ينتشر فيها المغول اليوم: شرق آسيا وشمالها باستثناء مجموعة الآينو Ainu الذين يعيشون في جزيرة هوكايدو في شمال اليابان، وجزيرة سخالين السوفيتية إلى الشمال منها. كما يمتد المغول أيضًا في بولينيزيا، وينتمي إليهم أيضًا الإسكيمو والأمرند في الأمريكتين.
- (٣) القوقازيون: وهؤلاء نشئوا في مكان ما في غرب آسيا، وكانت ملامحهم على ما هي عليه من الصفات التي نسميها اليوم القوقازية.
ويواصل كوون كلامه، فيقول: منذ ٢٥٠ ألف سنة (!) تطور بعضهم إلى صورة الإنسان العاقل الأوروبي الحالي، ومن هؤلاء تسلسل الأوروبيون وتشعباتهم عبر البحار إلى أقربائهم الأمريكيين وغيرهم، كما انتشروا أيضًا في الشرق الأوسط، ويعود إليهم معظم سكان الهند، كما أن هناك احتمالًا قويًّا أن يكون الآينو منهم أيضًا.
- (٤) سلالة الرأس Capoids: وهؤلاء في نظر كوون يكونون سلالة قائمة بذاتها عبرت إلى شمال أفريقيا، ثم دفعت جنوبًا وشرقًا وتطورت إلى ما نعرفه اليوم البوشمن والهوتنتوث بجنوب غرب أفريقيا.
- (٥) الكونغوليون Congoids: وهؤلاء يكونون السلالة الخامسة والأخيرة، وقد ظهرت في أفريقيا الوسطى، وأسماها كذلك نسبة إلى حوض الكنغو، وقد تطوروا فيما بعد إلى السلالات الزنجية والقزمية الموجودة في أفريقيا.وعلى الرغم من حداثة نظرية كوون؛ إلا أن إجماع العلماء يرفضها تمامًا.٢ والحقيقة أن سبب هذا الجدل والنقاش، هو عدم الاتفاق على مدلول ومفهوم ومعنى السلالة، فما هي السلالة؟
(٢) ما هي السلالة؟
في القرن الماضي اتفق معظم الباحثين على أنه لا وجود للجنس أو السلالة النقية في عصرنا الحالي، بل إن المجموعات البشرية المعاصرة في أركان العالم عبارة عن خليط. وقد قال البعض إن هذا الخليط ناجم عن سلالات نقية قديمة، وقد نشأ عن هذا اعتقاد في أن الخلط يفلح في تكوين سلالات جديدة. ومن الممكن نظريًّا أن نميز عددًا من الصفات تميز كل مجموعة منها سلالات نقية إلى حد ما، ثم يمكننا بعد ذلك أن نميز أنواعًا ودرجات مختلفة من الاختلاط يسميها البعض سلالات هي الأخرى، في حين يسميها البعض الآخر مجموعات جنسية أو شعوبًا أو قبائل. هذه الدرجات المختلفة هي التي يجب على الأنثروبولوجي الطبيعي دراستها ليميز مكونات الخليط — أي الأصول التي نشأ عنها هذا الخليط.
وكذلك نشأ في القرن الماضي بعض الذين يعتقدون في أثر مباشر لظروف البيئة الطبيعية على السلالات وتنوعها، وقد اختص المناخ باهتمام الكثيرين. وفي مقابل هؤلاء نَجِدُ جماعة أخرى من الدارسين تناقض هذا الموقف، وتنفي أي أثر للظروف البيئية على السلالات.
وفكرة تقسيم السلالة البشرية إلى سلالات مختلفة على أساس وراثي يقوم عادةً على الفرض التالي: إذا كان هناك فرد ما يحمل مورثة بشرة سوداء مثلًا؛ فإنه لا بد وأن هذا الفرد يرتبط أوثق الارتباط — بواسطة الوراثة — بكل الأفراد الآخرين الذين يحملون مثل هذه المورثة، ويختلف عن الأشخاص الذين لا يحملونها، ويمكننا أن نشير إلى ظهور الشعر الزنجي بين النرويجيين للتدليل على هذا الافتراض.
وربما كان للاختيار الطبيعي أثر كبير في خلق ظروف ومميزات بشرية متماثلة في مناطق مختلفة، وبين مجموعات مختلفة. وبغضِّ النظر عن الوراثة، وبناء على ذلك؛ فإنه قد يكون من الممكن أن نفسر نشوء الصفات المتشابهة الزنجية والأسترالية فيما يختص بكثافة الجسيمات الملوَّنة في الجلد، على أنها تطور مستقل في كل من الحالتين نتيجة لظروف الاختيار الطبيعي في مناخات حارة، والواقع أننا نجد أن مثل هذه الحالات قد حدثت فعلًا.
وقد عرَّف أنصارُ نظريةِ الوراثةِ السلالةَ على أنها جماعة تشترك معًا في مجموعة من المورثات، اختلفت عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى نظرًا لعزلتها الجغرافية.
السلالة تعديل للنوع بواسطة أسباب خارجية «أنصار البيئة الطبيعية»
إن هذه الفكرة قديمة، ولكن دخلها حديثًا بعض التعديلات، والفكرة القديمة كانت تسمح بالاعتقاد في تغيرات سريعة أو فورية نتيجة الظروف البيئية، وبذلك فإن فكرة السلالة كانت تعني ظاهرة انتقالية. وأبسط أشكال هذه الفكرة هي التي تفترض أسبابًا ميكانيكية للتغيير؛ مثل: تفسير أشكال الجماجم والرءوس بطريقة تربية الطفل في المهد والرضاعة، وهذه الفكرة تظهر بين حين وآخر إلى الوقت الحالي.
وقد اعترف بافون بدور الأسباب الميكانيكية، ولكنه علق أهمية كبرى على الغذاء والمناخ. وكان يعتقد أنه إذا عاش أناس مختلفو الأصل والصفات في بيئة واحدة؛ فإنهم سيتخذون — بعد عدد قليل من الأجيال — أشكالًا متشابهة.
وهناك مثال آخر ما زال يجد تأييدًا من بعض المصادر حتى الآن، وهذا هو ما يختص بالمناخ وشكل الأنف (آراء تومسون وبكستون ١٩٢٣ وديفز ١٩٣٢)، وكذلك فسر كل من سرجي (١٩٥٠) وسيمنوف (١٩٥١) شكل العين المغولية والبربرية على أنها دفاع عضوي ضد الضوء والعمل الميكانيكي للرياح.
وهكذا نرى في المؤلفات الحديثة أن هناك ما يؤكد عدم الاستقرار المحدود في بعض الصفات نتيجةً للظروف البيئية، إلا أن هذا لا يؤدي بالباحثين إلى القول أن هذا التغير يؤدي إلى تكوين سلالات جديدة، وبعبارة أخرى فإن هناك فوارق جوهرية بين الرأيين القديم والحديث عن مدى أثر البيئة المباشر على المميزات الجسدية.
وعلى أي حال، فإن عدم الاستقرار هذا في بعض الصفات الجسدية قد أدى إلى مواقف مختلفة بين العلماء. فبعضهم يتطرف إلى حد القول أنه ليس للصفات الجسدية المعتادة أي فائدة حين الكلام عن علاقات وارتباطات الجماعات والسلالات؛ لأن هذه الصفات غير ثابتة، والبعض الآخر يرى أن مثل هذا التغير ثانوي الأهمية، وبعض العلماء يلجئون إلى استخدام الأقسام الإنسانية الكبرى — كالأسود والأبيض — على أنها مجموعات ثابتة. والبعض لجأ إلى القول باستبعاد بعض الصفات الطبيعية واستبقاء البعض الآخر على أساس السيئ والجيد، مثل استبعاد القامة كصفة سيئة؛ نظرًا لتغايرها كما أوضح شابيرو في حالة المغول المهاجرين. ولكننا نجد أن تأكيدات شابيرو الخاصة بالتغير المحدود، بالإضافة إلى أبحاث مورانت على الإنجليز (١٩٤٩) وكيل (١٩٣٩) على النرويجيين، تثبت أن القامة ليست فعلًا صفة سيئة.
وعلى العموم فإننا نرى أنه ما زالت هناك شكوك حول التغير السريع للصفات؛ مما يدعو إلى دراستها دراسة أعمق.
تغير الصفات نتيجة التزاوج والاختلاط «أنصار الوراثة»
وعلى الرغم من كل هذا التأييد؛ فإن الموضوع ما زال أمرًا نظريًّا بحتًا، ونجد خلافات ومصاعب شديدة أثناء البحث العملي لتحديد طبيعة بعض المجموعات وموقفها من السلالات العامة، وهذا ما سنبحثه في النقطة التالية.
السلالات المهجنة، والأنواع المتوسطة، والمجموعات غير المصنفة
أما فيما يختص بالمجموعات غير المصنفة؛ فإنها — كما يتضح في كتابات معظم الأنثروبولوجيين — تخرج عن نطاق السلالات المهجنة والنماذج المتوسطة. وقد نشأ عن وجود تلك الجماعات التي يصعب تصنيفها بعض الآراء التي تصف بالخطأ فكرة تصنيف كل المجموعات البشرية في مكان محدود. وقد حاول فعلًا بعض العلماء تشكيل تصنيف عام يحدد مركز وعلاقة كل مجموعة بشرية، ولكن كانت هناك دائمًا جماعات مشكوك فيها. وقد أخذ بهذا الرأي الجديد كثير من العلماء، إما لقلة البحوث عن بعض الجماعات (وبالتالي فإنه سيمكن القيام بالتصنيف فيما بعد)، وإما لأنه لا توجد أي فرصة لتشكيل أسس تصنيف تشتمل على كل المجموعات البشرية.
السلالة كتجميع لصفات الأفراد (الأسس الأنثروبومترية)
وكذلك نلاحظ نفس المبدأ في تعريف السلالة الذي قدمته الجمعية الأنثروبولوجية الملكية في بريطانيا ١٩٣٦ «أن الصفات الوراثية التي تميز سلالة هي التي تنطبق على غالبية الأفراد الذين يقع عليهم البحث، على ألا تكون صفات باثولوجية.» ولكن أصدرت الجمعية تعريفًا آخر يعكس وجهة نظر مغايرة: «السلالة مجموعة بيولوجية تشترك في عدد غير محدد من الصفات الوراثية تتميز به من غيرها من المجموعات.»
وترتبط هذه المشكلة بالمتوسط القياسي «الأنثروبومتري» الذي يعتمد على قيم قياسية مطلقة متفق عليها. وعلى أي حال، فإن فكرة السلالة على أنها ارتباط صفات معينة تتكرر في كل فرد على حدة، لم تنفصل عن فكرة السلالة على أنها مجموعة بشرية تتحدد بواسطة صفات ليس من الضروري أن ترتبط بنفس الطريقة على كل فرد على حدة.
وخلاصة هذه الآراء المتعددة تعود بنا مرة أخرى إلى طرح السؤال: ما هي السلالة؟
إن حقائق الاختلاف الجسدي والمميزات الجسدية العامة للبشر لا شك كثيرة، وتدعو الإنسان إلى الكلام عن جماعات بشرية كما لو كانوا منفصلين تمامًا عن بعض. ولكننا نجد الآن — وبعد البحوث العلمية الكثيرة — أن المجموعات البشرية لا تختلف عن بعضها اختلافًا هائلًا، وأنه يمكننا أن نجد مميزات جسدية مختلفة داخل المجموعة الواحدة. ومن أهم الأمثلة على ذلك ما لُوحِظَ أخيرًا من وجود الشعر الصوفي بين بعض النرويجيين، على الرغم من أن هذا النوع من الشعر خاص بالمجموعة السلالية التي نسميها الزنوج. ولا شك أن وجود هذا النوع من الشعر بين النرويجيين هو نتيجة لتغير مُوَرِّثة واحدة، وبذلك فهو ينتقل بطريقة بسيطة من الأب إلى الابن، وهناك مثال آخر أن البولينيزيين يظهر فيهم ارتباط بين الصفات والمميزات الخاصة بالمجموعات البشرية الثلاث الرئيسية: القوقازي، والزنجي، والمغولي.
ومع ذلك فإن لكل من هذه التعريفات مسبباته، ونجد البعض أثناء استخدامه للمصطلح يشير إلى أشكال بشرية معينة مختلفة عن بعضها مثل اختلاف الزنجي والأوروبي (رغم وجود درجات مختلفة تمتزج فيها هذه الصفات)، أو ربما يشير إلى اختلافات كالتي تُوجَد بين اليوناني والنرويجي مثلًا، أو ربما يشير البعض إلى اختلافات بين الجنسيات؛ مثل: أمريكي، وإيطالي.
السلالة كفكرة مطلقة
وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أن السلالة عبارة عن تجميع لعدد من الصفات القياسية والوراثية، وأن هذا التجميع مؤقت ومرتبط بأقاليم جغرافية.
(٣) تاريخ تطور السلالات البشرية
الإنسان المعاصر: نوع ثانوي | Living Races: Sub-Spieces |
الإنسان العاقل: نوع | Homo Sapiens: Spieces |
الإنسان: جنس | Homo: Genus |
الهومينيديا: عائلة | Hominidae: Family |
الرئيسيات: رتبة | Primates: Order |
الثدييات: طبقة | Mamalia: Class |
الفقاريات: فصيلة | Vertebrae: Phyla |
الحيوان: مملكة | Animal: Kingdom |
وقد أدى تخلص الأيدي من المساهمة في عملية حركة الإنسان إلى تخصيص الأيدي من أجل العديد من الأشياء التي يصنعها الإنسان، وأهمها الأدوات والآلات التي تعطيه قدرات أعظم من قدراته العضلية، وأعظم من أي قدرات جسمية لأي كائن حي على ظهر الأرض.


والإنسان ليس متخصصًا في صفاته الجسدية مثل بقية الحيوانات، بل إن كل صفاته عامة. فعلى سبيل المثال يحتوي فم الإنسان على قواطع وأنياب وضروس تمكنه من القطع والتمزيق والطحن، على عكس الحيوانات التي تخصصت إما في الطحن فأصبحت نباتية، وإما في التمزيق والقطع فأصبحت من رتبة آكلة اللحوم. وبذلك يمكن للإنسان أن يعيش على الغذاء النباتي والحيواني معًا، وهي صفة عمومية على عكس تخصص بقية عالم الحيوان.
وكذلك فالإنسان قوي جنسيًّا؛ إذ لا يرتبط بموسم التناسل مثل بقية الحيوان، بل على العكس نجد أن الرغبة الجنسية عنده دائمة على مدار السنة؛ ولذلك فليس ثمة خطر على الإنسان من أن يتخصص في صفة جسدية معينة، وبالتالي لا يقف تطوره عند حد معين يصبح أسيرًا له مثل تخصص الحيوانات في مناخات معينة، ومن ثم فإنه يعمر كل مناطق العالم (مثال التخصصات التالية: الجسم الأسطواني للأحياء البحرية، خرطوم الفيل، رقبة الزرافة، الغطاء الثقيل للسلحفاة أو التمساح … إلخ).
والصفة الثانية التي تميز الإنسان هي القدرة على التفكير الغريزي وغير الغريزي، والنقل والمحاكاة والتوارث الفكري والاجتماعي، وهذه هي أعلى صفات موجودة في المملكة الحيوانية.
وليست المسألة مجرد الحجم، بل إن بنسبة حجم المخ إلى وزن الكائن نجد أن الإنسان يتفوق على أقرب منافس له، وهو الغوريلا — بستة أضعاف.
الزمن الجيولوجي | العصر الجيولوجي | العمر بمليون سنة | الشكل الأساسي للحياة |
---|---|---|---|
الزمن الرابع | الهولوسين الحديث | ٠٫٠٣ | عصر الإنسان |
البليوستوسين | ١٫٠ | ||
الزمن الثالث | البليوسين | ١١٫٠ | عصر الثدييات |
الميوسين | ١٦٫٠ | ||
الأوليجوسين | ١١٫٠ | ||
الإيوسين | ١٩٫٠ | ||
البليوسين | ١٧٫٠ |

(أ) الشمبانزي. (ب) الغوريلا. (ﺟ) أورانج أوتان. (د) الجيبون. (١) بداية عائلة الهومينيديا. (٢) الوقوف على القدمين. (٣) مرحلة الانتقال من الحيوان إلى الإنسان. (٤) بدايات ما قبل الإنسان. (٥) فجر الإنسان. (٦) السلالات المعاصرة. ملاحظة: مرحلة التأنسن = بداية اتخاذ الصفات الإنسانية.

- (١)
أصول الجيبون؛ وهو أقدم القردة العليا انفصالًا، وأكثرها التصاقًا بالحياة الشجرية، وأقلها من حيث حجم المخ.
- (٢) أصول عائلة الهومينيديا في شكل من الرئيسيات يُعرَف حاليًّا بجنس بروكونسول Proconsul الذي تشعب إلى نوعين معروفين؛ هما: (أ) البروكونسول بنوعية الكبير (يمكن أن يكون أصل الغوريلا)، والصغير (الذي يمكن أن يكون أصل الشمبانزي). (ب) دريوبثكس بأنواعه المختلفة، وهو أحدث من البروكونسول (أواخر الميوسين)، وقد وُجِد كثير من حفرياته في تلال سيفاليك في الهند، وقليل منها في أفريقيا وأوروبا. وإجماع الآراء هو أن قرد الدريوبثكس هو أقرب ما لدينا من حفريات لأصول التشعب في عائلة الهومينيديا إلى خطى التطور: القردة العليا والإنسان. أما حفرية أوريوبثكس التي وُجِدَتْ في شمال إيطاليا؛ فإنها لا تُعَد الآن جزءًا من التطور العام في الخط الإنساني، بل جنس تطور وحده في منطقة المستنقعات والغابات في أواخر الميوسين وانقرض.

هذا باختصار موجز لتاريخ تطور عائلة الهومينيديا في اتجاه السلالات المعاصرة، وإن اتفق العلماء على هذا التاريخ بتصورات متقاربة، إلا أن الاختلاف كبير على الطريق أو الطرق التي تؤدي إلى هذا التطور.
(٤) كيف تطورت السلالات البشرية؟
من المشكلات الهامة في الأنثروبولوجيا معرفة تاريخ تطور السلالات المعاصرة من الإنسان العاقل من أصولها القديمة. ونظرًا لعدم كفاية الأدلة الحفرية؛ فإن هناك تضاربًا كبيرًا في هذا الموضوع. فهل تطورت السلالات المعاصرة عن إنسان نياندرتال أم عن الإنسان الواقف، أم عنهما معًا، أم نشأ نشأة منفصلة عنهما؟
ولا نريد أن ندخل في متاهات كثيرة. لقد كان الرأي إلى أواخر الخمسينيات يستبعد أن يكون الإنسان العاقل قد نشأ نتيجة تطور لمجموعة نياندرتال، بل كان أقرب إلى استبعاد هذه المجموعة على أنها نوع من جنس لإنسان نشأ موازيًا لخط التطور الأساسي من الإنسان الواقف إلى الإنسان العاقل. لكن المؤتمر الذي عُقِدَ في عام ١٩٦٢ في بورج فارتنشتاين بالنمسا لدراسة التطور البشري وتصنيفه، قد انتهى إلى اعتبار نياندرتال نوعًا فرعيًّا، وليس نوعًا منفصلًا من جنس الإنسان، وأنه قد انقرض أو اندمج مع مقدمات الإنسان العاقل حسب الأماكن الجغرافية المختلفة.
وتتفق الآراء الآن على أن الإنسان العاقل هو عبارة عن نوع متعدد المورفولوجية، متعدد النمط، تطوَّر بصفة مستمرة خلال الزمن من الإنسان الواقف.
ويرى دوبرزانسكي أن «السلالة» ليست سوى مجموعة من الناس المتوالدين المترابطين بواسطة القرابة، المنعزلين جزئيًّا. وما دام الانعزال جزئيًّا؛ فإن تبادل الجينات سوف يستمر في تغيير هؤلاء الناس، وحينما تحدث هجرة تنكسر العزلة وتؤدي تغيرات البيئة إلى تأثير قوي على قوى الاختيار الطبيعي. ويُذكَر في هذا الصدد أن التغيرات الحضارية من الصيد إلى الزراعة، أو من الريف إلى المدن، تؤثر بشدة على عملية الانتخاب الطبيعي.
وبهذه الصورة يعالج دوبزانسكي مشكلة السلالات الحالية على أنها تخضع بصفة مستمرة للتغير التدريجي، كما حدث للسلالات السابقة.
أما أصحاب نظرية التطور الشقي فإنهم يعتمدون على صور العزلة التي كان يعيش من خلالها إنسان العصور الحجرية القديمة. ففي تلك الفترة لم يتجاوز سكان العالم مليونًا من الأشخاص منتشرين في أرجاء الدنيا في صورة جماعات صغيرة العدد لا تتجاوز بضع عشرات إلى مئات قليلة من السكان. ومثل هذه الظروف تُعَدُّ مثالية للعزلة التي تمكن من حدوث التغير السلالي في قسم واحد من الناس. كما أن تبادل الجينات سوف يكون في منتهى البطء؛ بحيث يسمح فعلًا بانقسام السلالات وتمايزها.
ولا شك أن فكرة التطور الشامل أو الكلي أكثر قوة من الفكرة الجزئية، ويشبه دوبزانسكي التطور البشري بنهر واحد كبير كثير الانحناءات توازيه مجارٍ عديدة صغيرة، وقد يحدث أن يبتعد مجرى صغير وينتهي إلى الفناء، لكن الغالبية تلتحم وتفترق عن النهر الكبير في صورة متكررة. وتمثل هذه المجاري الصغيرة السلالات التي تنشأ في ظل ظروف خاصة، لكنها تندمج مع التيار الكبير ذي الصفات السلالية العامة. وبعبارة أخرى: فإن السلالة عبارة عن تيار مؤقت يذوب في التيار العام للتطور البشري.
فحينما انتشرت السلالات عبر الظروف البيئية المختلفة كان لذلك ولا بد أثر فعال، ولكنه لا يصل إلى أثر البيئة على سلالات الحيوان؛ وذلك لأن الإنسان اختلف كيفًا عن الحيوان عن طريق معارضته الدائمة للبيئة التي يعيش فيها، على عكس الحيوان الذي يرغب في الإبقاء على مظاهر البيئة التي تكيف وتأقلم حيالها. وقد عارض الإنسان بيئته عن طريق العمل الجماعي من أجل تغيير مظاهرها لصالحه الخاص.
ويعتقد العلماء السوفيت أن الإنسان في بدايته كان يمتلك عددًا من الصفات التي يمكن أن تتكيف وتتأقلم، ولكن هذه الصفات قد قلَّتْ أهميتها ثم فُقِدَتْ تمامًا نتيجة لزيادة الدور الاجتماعي الإيجابي في تهيئة الظروف البيئية للحياة رغم اختلافها. وهكذا فإن قوانين الاختيار الطبيعي، وإن كان لها دورها في بداية عصر الإنسان، إلا أنها أصبحت غير ذات قيمة بعد الجهد الإيجابي الاجتماعي للمجتمع الإنساني.
وكان انعزال السلالات البشرية في البداية في بيئات جغرافية متغايرة ذا أهمية كبرى، ولكن زيادة السكان ونمو الاتصالات البشرية أدى إلى اختلاط السلالات. ويرى عدد من الأنثروبولوجيين أن الانعزال ثم الاتصال والاختلاط قد حدثا عدة مرات في تاريخ البشرية، وعلى فترات زمنية طويلة، وفي كل مرة يزداد فيها الإنسان ويختلط تستقر المميزات السلالية الجديدة، إلى أن ظهر الإنسان الحديث فعمَّر سطح الأرض جميعًا.
ورغم أن عددًا من الظروف الجغرافية (الجبال العالية – الصحاري – الغابات الكثيفة) كانت عوائق أمام هجرات الإنسان؛ إلا أنها لم تمنع الهجرات عبرها. وهكذا نجد أن العزلة – الهجرة – زيادة السكان – الاختلاط السلالي من العوامل الرئيسية التي حدثت فرادى ومشتركة وأدت إلى تكوين السلالات المعاصرة.
(٥) التطور والإنسان الحديث
قد يُقال إن السلالات قد استقرت على صفات ثابتة منذ فترة طويلة. لكن دراسة السلالات ليست قديمة؛ ولهذا لا نستطيع أن نعرف ماذا يحدث من تطور في السلالات الحالية، ويكفي أن نعرف أن القرون الأربعة الماضية — منذ الكشوف الجغرافية الكبرى — قد أدت إلى هجرات واسعة وبأعداد كبيرة إلى بيئات جديدة، ومعلوماتنا عن عملية التطور هذه ما زالت هامشية. ولكن الحركة المستمرة في العالم عبر الحدود الدولية، ومن الريف إلى المدينة قد ساعدت بدون شك على سرعة انتقال الجينات عبر العالم باستثناء مناطق محدودة معزولة. وبما أن الإنسان يسعى إلى التحكم في بيئته، فإنه بسعيه هذا إنما يؤدي — بدرجات مختلفة — إلى تغير نمط الانتخاب الطبيعي.
وبالإضافة إلى ذلك فإن التقدم الطبي الملحوظ في أرجاء العالم قد ساعد على تناقص أو اختفاء جينات أمراض معينة، فلم تَعُدْ تُورَّث بالضرورة، ولكنه ساعد أيضًا على ظهور جينات أمراض جديدة للبيئة الجديدة. وقد يتساءل بعض الأنثروبولوجيين: ألم يَحِن الوقت الذي يجب فيه التخلص من الجينات الضارة؟ ولكن ذلك يستدعي تعقيمًا إجباريًّا لحاملي مثل هذه الجينات؛ فهل يمكن أن يتم ذلك برضاء المجتمع؟
وليست الجينات خاضعة فقط لغزو الطب الحديث، بل إنها تخضع أيضًا لظروف المناخ والريف والمدينة والاختلافات الاجتماعية والعادات الغذائية، وغير ذلك كثير مما تعمل من خلاله الجينات من أجل استمرار التطور البشري.
وخلاصة القول أن انهيار أسوار العزلة، وزيادة أعداد الناس في العالم، والاختلاط المتزايد منذ القرون الأربعة الماضية قد أصبح يؤهل الإنسان العاقل الحالي إلى تطور سريع جدًّا. وبعبارة أخرى فإن زيادة قدرة الإنسان على التكيف تؤدي إلى توسيع احتمالاته للتطور البيولوجي.
Beals, R., & H. Hoijer “An Introducation to Anthropology” Macmillan, New York 1967, P. 58.