الإنسان الحفري نوعًا وحضارةً
لقد صادف الإنسان في تطوره منذ أقدم مقدماته نوعًا ما من المناخ والظروف الجغرافية المختلفة كثيرًا عما نعرفه ونعيشه على سطح الكرة الأرضية. ذلك أن أقدم حفرياتنا منذ بدايات عائلة الهومينيديا قد عاصرت ما نعرفه حاليًّا باسم العصر الجليدي الذي شغل جزءًا من عصر البليوسين الأعلى وكل عصر البليوستوسين. وقد خلف لنا هذا العصر الجليدي، بما فيه من ذبذبات هائلة، آثارًا على سطح مناطق مختلفة من الكرة الأرضية، جاءت كما لو كانت مقصودة لمساعدتنا في الحصول على تاريخ محفور للمليون سنة الماضية. وبفضل هذه الآثار المورفولوجية، أمكننا فعلًا أن نعرف الشيء الكثير عن التطور الذي حدث لعائلة الهومينيديا ومقدمات الإنسان والإنسان الحفري عامةً.
ولهذا يمكننا أن نبدأ دراسة الإنسان الحفري بنبذة صغيرة عن العصر الجليدي في البليوستوسين؛ لكي نتابع تطور حفريات الإنسان وما طرأ عليها من جمود أو تقدم على المقياس الزمني.
كذلك فإن الإنسان الحفري قد ترك لنا بعض مخلفات حضارية إلى جانب مخلفاته العظمية، وبدراسة هذه المخلفات الحضارية بواسطة الأركيولوجيين وعلماء ما قبل التاريخ، نجد أنفسنا أيضًا أمام عامل هام في تحديد أعمار المخلفات الإنسانية.
ولهذه الأسباب فإننا سنبدأ أيضًا في إعطاء فكرة سريعة عن العصور الحضارية المختلفة مع الفترات الجليدية قبل أن نتكلم عن حفريات الإنسان البائد.
(١) مناخ البليوستوسين
السلالات البشرية وحضارات ما قبل التاريخ

وقد أثر الجليد الزاحف على الحياة النباتية والحيوانية، وكذلك على الأنهار والبحيرات وسواحل البحار، وقد اضطرت أنواع من النبات والحيوان إلى الهجرة بعيدًا عن هذه الظروف المناخية القاسية، وإن كان بعضها قد انقرض لعدم قدرته على التكيف. أما الأنهار والبحيرات، فقد قلت كمية المياه فيهما؛ نظرًا لتجمد كميات هائلة من الرطوبة الجوية وانحباسها في الغطاءات الجليدية الواسعة. كذلك هبط مستوى ماء البحار والمحيطات لنفس الأسباب. فنظام الدورة (تبخير – أمطار – تصريف نهري إلى البحار، ثم تبخير) قد اختل، وأدى هذا إلى ظهور كثير من الأراضي التي يغطيها البحر حاليًّا في صورة أرض يابسة — خاصةً تلك التي نسميها المعابر الأرضية (مثل المعابر بين شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وتحول البحر المتوسط إلى عدة بحيرات صغيرة).

كذلك تقهقرت أمطار الإقليم المعتدل الحالي إلى مناطق أكثر امتدادًا إلى الجنوب، وتحولت أجزاء كثيرة من العالم الجاف الحالي إلى مناطق أمطار مشابهة لأمطار العروض المعتدلة الحالية.
وببطء شديد بدأت هذه الصورة تتغير بتقهقر الجليد إلى المناطق القطبية وعودة الدفء والأمطار إلى العروض المعتدلة، وذوبان كميات الجليد الهائلة يؤدي إلى رفع هذا الثقل عن سطح الأرض، فتعود إلى الارتفاع التدريجي، وتمتلئ البحار بمياه أكثر فيرتفع مستواها وتغمر المعابر الأرضية بمياه البحر مرة أخرى، وتعود الصحاري إلى جفافها، وتهاجر الحيوانات والنباتات إلى الشمال.
وقد تكررت هذه الصورة أربع مرات خلال البليوسترسين، بالإضافة إلى ذبذبات صغيرة نسبيًّا وعديدة.
وفي المناطق التي لم يغطِّها الجليد تميزت بفترات أمطار غزيرة وأمطار قليلة أو جفاف في مقابل فترات الجليد والدفء. ويوضح الجدول التالي هذه الفترات دون حاجة إلى تعليق آخر.
(٢) حفريات الإنسان الحفري
بعد أن حاولنا أن نعطي — حسب المعلومات الراهنة — تاريخًا لتسلسل الإنسان مدعمًا بالتاريخ الجيولوجي والمخلفات الحضارية، يمكننا الآن أن نبدأ في دراسة بعض الحفريات الهامة في تطور عائلة الهومينيديا.
(٢-١) مجموعة حفريات القرد الجنوبي Australopithecinae
- (١) القرد الجنوبي الأفريقي Australopithecus africanus: وهو كائن صغير يزن بين ٢٥ و٣٠ كيلوجرامًا.
- (٢) القرد الجنوبي القوي Australopithecus robustus: وهو كائن يزن ضعف السابق.
وسعة مخ القرد الأفريقي الذي كشفه دارت ٦٠٠سم مكعب، وهي بذلك أقل من سعة حجم الجوريلا، لكنها متناسبة مع وزن هذا الكائن الصغير، وبالتالي فإن نسبة الحجم إلى المخ عنده أكبر مما هي عند الجوريلا. ولكن الكشوف التالية قد أثبتت أن حجم المخ عند الحفريات الكثيرة الموجودة يتراوح بين ٤٥٠ و٧٥٠سم مكعبًا.
وتتراوح عظمة فوق الحاجب كثيرًا بين البروز والتراجع، لكنها داخل حدود الصفة الإنسانية، كما أن بروز الوجه يمثل مرحلة متوسطة بين القردة والإنسان، ويدل شكل العظام في الجمجمة ومواضع ارتباطات العضلات على أنه كان يسير معتدلًا. وخلاصة القول أن الكثير من صفاته الأساسية إنسانية، وإن كانت مئات الكشوف من عظام الحوض والساق تؤكد أنه كان يسير معتدلًا بعض الوقت وليس كل الوقت.
وهناك كشوف أخرى في شرق أفريقيا تُصنَّف في مجموعها ضمن القرد الجنوبي؛ مثل الفك الأعلى الذي اكتُشِفَ قرب بحيرة إياسي، والفك الأسفل الذي وُجِدَ قرب بحيرة فكتوريا؛ ويُسمَّى: فك كانام، الذي يدور حول عمره جدل كثير؛ نتيجة لما أصاب الفك من مرض وعطب.
وفي عام ١٩٦١ عُثِرَ في شمال شرقي تشاد على جمجمة من نوع القرد الجنوبي أيضًا، تعود أيضًا إلى فترة فيلا فرانش، مثلها في ذلك مثل حفريات أولدفاي. وفي وادي الأبيض بالأردن عُثِرَ أيضًا على بقايا جمجمة وأحد أنياب الفك، ترجع إلى فترة مماثلة للقرد الجنوبي، وعُثِرَ بجوارها أيضًا على أدوات من الحصى مشابهة لما وُجِدَ عند حفرية إنسان الزنج، وأيضًا على عظام حيوانات وطيور وأسماك، وكلها ترجع إلى البليوستوسين الأدنى.
وهكذا نجد أن أفكارنا عن القرد الجنوبي قد بدأت تتعدل نتيجة الكشوف والدراسات الدقيقة، ويبدو أن القرد الجنوبي هو أحد فروع عائلة الهومينيديا، لكنه اتجه في تطوره اتجاهًا موازيًا وجمد عند حدود معينة من التطور، برغم انتشاره من أفريقيا إلى مناطق أخرى في آسيا، ثم انقرض نتيجة ظروف كثيرة؛ منها مثلًا: هل كان كائنًا نباتيًّا كما تدل دراسة إنسان الزنج، بينما يعيش إلى جواره الإنسان القادر آكل اللحم؟
(٢-٢) مجموعة الإنسان الواقف Pithecanthropi-Homo Erectus
إنسان جاوة Pithecanthropos Javanensis
تعود الحفريات التي اكتشفها ديبوا إلى البليوستوسين الأوسط. وقد عُثِرَ في المنطقة ذاتها على جماجم أخرى، ومن ثم فهناك ثلاثة كشوف أُعْطِيَتْ أرقامًا حسب تاريخ الكشف للتفريق بينها (جاوة ١، ٢، ٣). أما جاوة ٤ (فك أسفل سميك)، فيعود كما أسلفنا إلى نوع القرد الجنوبي (عُثِرَ عليه في طبقات أسفل من الطبقات التي وُجِدَ فيها جاوة ١، ٢، ٣)، وفي منطقة مودجو كيرتا عُثِرَ أيضًا على حفريات مماثلة لجاوة ٤، وإن سُمِّيَتْ إنسان مودجو كير تنسيز.

وتدل دراسة جاوة (١) على أن سعة المخ ٩٠٠سم مكعب، بينما مجموعة جاوة (٢) تعطي متوسطًا يتراوح بين ٧٥٠ و٨١٥سم مكعبًا. وتدل الدراسات على أن نمو الجزء الأمامي من المخ لم يكن مساويًا للإنسان الحالي، كما أن عظام الجمجمة أكثر سماكة، فإن ١٦٪ من طول الجمجمة مكون من العظام، بينما النسبة ٤٪ إلى ٦٪ عند الإنسان الحالي.
وقبو الجمجمة مبطط على عكس الإنسان الحالي، ومنحدر بشدة إلى الخلف، كما أن عظام الحاجب بارزة بشدة غير مألوفة ومستمرة فوق جذر الأنف، وعظمة السابق مستقيمة وطويلة ونحيفة؛ مما أثار جدل حول علاقتها بالجمجمة.
ولم يُعثَر حتى الآن على آثار ومخلفات حضارية مرتبطة بحفريات جاوة، وإن كان ذلك لا يُؤخَذ دليلًا على أنه لم يصنع أدوات؛ لأن الكثير من الحفريات الأقدم وُجِدَتْ مصحوبة بأدوات حصوية وشظايا حجرية.
وفي وادي سولو — بالقرب من نجاندونج — عُثِرَ على مجموعة من البقايا العظمية سُمِّيَتْ بإنسان سولو أو نجاندونج، وفي رأي البعض أن إنسان سولو هو تطور أو بقايا متطورة لإنسان جاوة. وقد وُجِدَت الجماجم كلها مقلوبة على القبو، كما أن عظام الوجه قد أُزِيلَتْ تمامًا بصورة تُذكِّر بصيَّادِي الرءوس المعاصرين حينما يُخْرِجون المخ من الجمجمة.
وأصغر جمجمة من مجموعة سولو، كانت تحمل مخًّا حجمه ١٠٣٥سم مكعبًا، وهو رقم أكبر بكثير من أي من كشوفات جاوة، وأكبر الجماجم ١٣٠٠سم مكعب، لكن شكل الجمجمة مشابه لإنسان جاوة.
وكذلك عظمة الساق حديثة مثل إنسان جاوة، ولم تُدرَس الأدوات التي وُجِدَتْ مع حفريات سولو، لكن الوصف المبدئي هو أنها تشبه أدوات الحضارة الموستيرية الأوروبية، والطبقات التي وُجِدَتْ فيها من بدايات البليوستوسين الأعلى. ومن ثم يفصل بينها وبين حفريات ترنيل حوالي ٤٠٠ ألف سنة.
ويعتقد فايدنرايخ وكوون أن إنسان سولو عبارة عن تطور لسلالة جاوة، برغم بطء مظاهر هذا التطور، إلا فيما يختص بحجم المخ. بينما يقول فالوا إن سولو ليس إلا نيندرتال هامشيًّا، أما لوجروس كلارك فيُشِير إلى مشكلة إنسان روديسيا المماثلة ويؤكد أننا أمام مشكلات لم نجد لها حلًّا.
ويعتقد فايدنرايخ وكوون أن إنسان سولو خطوة من خطوات جاوة، وأن حفريات وادجاك (في جاوة أيضًا) خطوة أخرى أكثر تقدمًا من سولو، وأن الاتجاه في هذا التطور يشير إلى الأستراليين الأصليين الحاليين.
إنسان الصين Sinanthropos-Pithecanthropos Pekinensis
في عام ١٩٢٩، اكتُشِفَتْ بقايا عظمية لأكثر من أربعين شخصًا في كهف بالقرب من قرية شوكوتين غير البعيدة عن بكين، والكشوف الأخرى في الصين قد جعلتنا نعرف أننا أمام سلالة أخرى من سلالات الإنسان الواقف تختلف داخل الإطار العام لهذا النوع.
وأهم أوجه الاختلاف هي: ارتفاع قبو الجمجمة وعدم انحدار الجبهة بالصورة التي عليها إنسان جاوة، كذلك عظام الحاجبين ليست ثقيلة وليست بارزة. ونسبة الجمجمة ٧٢؛ أي أكثر عرضًا من جمجمة جاوة، وحجم المخ يتراوح بين ٨٥٠ و١٣٠٠سم مكعب بمتوسط ١٠٧٥سم مكعبًا؛ أي أعلى بمائة سنتيمتر مكعب عن إنسان جاوة. والوجه عامة غير بارز إلى الأمام بدرجة كبيرة، ومرجع البروز هنا إلى بروز الفك الأعلى وليس الوجه ككل، والفكان كبيران وثقيلان، والأضراس والأسنان كبيرة ومتباعدة، وفي كثير من صفاتها تقترب من القرد الجنوبي وتبتعد عن جاوة، وعظام الساعد مشابهة للإنسان الحديث، ولا تختلف كثيرًا عن عظام الساق عند إنسان جاوة، وفي الكهف وُجِدَتْ أدوات من الحصى المشطوف وغيره من الأحجار بطريقة مغايرة لما في أوروبا، كما وُجِدَتْ بقايا فحم نباتي وعظام متفحمة وبقايا أفران قديمة. وكلها تثبت أن إنسان الصين كان يعرف استخدام النار، وأنه كان يأكل النباتات واللحوم (بقايا عظام حيوانية)، وتؤكد دراسة أسنانه هذه الحقيقة. كما أن انكسار الجماجم بطريقة واحدة تشير أيضًا إلى عادة أكل لحوم البشر بصورة أو أخرى (غذاء أو ضحايا بشرية لأغراض دينية أو سحرية).

وقد نفى البعض أن يكون إنسان الصين قد حاز على مثل هذا التقدم الحضاري؛ مثل اكتشاف النار. لكن الأبحاث الجديدة في أولدفاي وترنفين في أفريقيا قد أثبتت أننا لا نجد مجموعات بشرية في البليوستوسين الأوسط بدون حضارة، ومن ثم يسقط الاعتراض؛ حيث إن حفريات شوكتين وغيرها تعود إلى تلك الفترة الزمنية.
الإنسان الواقف في أفريقيا وأوروبا
أما في أوروبا فلا يزال الموقف غامضًا، ولا يزال فك ماور الذي يُسمَّى إنسان هنيدلبرج هو أكثر الحفريات اقترابًا من الإنسان الواقف. فهي حفريات تعود إلى أوائل البليوستوسين الأوسط؛ مما ينفي أنها — كما قِيل — ترجع إلى سلالة نيندرتالية خشنة في عصر لاحق.
(٢-٣) الإنسان العاقل القديم Palaeoanthropas
يشتمل هذا النوع على عدة سلالات مختلفة، وتمثل سلالة نيندرتال الجانب الأكبر من هذه السلالات، ويمكن أن نقسمها تاريخيًّا إلى ثلاث مجموعات: (١) مجموعة ما قبل نيندرتال. (٢) مجموعة نيندرتال الكلاسيكية. (٣) مجموعة ما بعد نيندرتال.
مجموعة ما قبل نيندرتال Pre-neandertal
قبل الكشوف الجديدة، والوسائل الحديثة في تاريخ الأعمار، كان الكثير من الهياكل العظمية التي تُوجَد في أوروبا بالذات لا تُنسَب إلى مجموعة نيندرتال. ولكن الاختلافات التي ظهرت قد أدت إلى اكتشاف أن نمط النيندرتال مرتبط أصلًا بفترة جليد فيرم، بينما ما سبق ذلك من مجموعات تعود إلى فترة دفء رس-فيرم، وإلى حضارات أقدم من الموستيرية.
ومن أهم الاكتشافات في مجموعة السابقين على النيندرتال — أو النيندرتاليين المبكرين — حفريات شتاينهايم (١٩٣٣)، سوانسكومب (١٩٣٥-١٩٣٦) فونتشفاد (١٩٤٧)، وكلها وُجِدَتْ مرتبطة بحضارات الموسترية المبكرة أو بحضارات أقدم من ذلك.
وأقدم هذه الحفريات هي سوانسكومب التي وُجِدَتْ على رصيف ١٠٠ قدم لنهر التيمز، وتعود إلى أوائل الحضارة الأشيلية الوسطى، بينما تعود جمجمة شتاينهايم إلى الأشيلية المتأخرة، وفونتشفاد إلى ما قبل الموستيرية. وصفات هذه البقايا العظمية تعود بهم إلى الإنسان العاقل دون تمييز كثير سوى صغر حجم المخ قليلًا (شتاينهايم ١١٠٠سم مكعب). وهناك حفريات أخرى مماثلة في إيرنجزورف وكربينا تعود إلى الحضارة الأشيلية، وحجم المخ كبير (١٤٥٠سم مكعبًا عند أيرنجسدورف)، بينما تمثل جماجم كرابينا (يوجسلافيا) أول حفريات عريضة الرأس (نسبة الجمجمة ٨٤).
مجموعة نيندرتال الكلاسيكية Homo Neandertalensis
أول حفرية وُجِدَتْ لهذه السلالة ترجع إلى عام ١٨٥٦ في خانق وادي نياندر قرب دسلدورف، ولكن سبق أن عُثِرَ من قبل على جمجمة في جبل طارق ١٨٤٨، ولم تتضح أهميتها إلا بعد اكتشافات وادي نياندر، ومنطقة سباي في بلجيكا ١٨٨٧.
وإنسان نيندرتال أقل في الطول من متوسط الإنسان الحالي؛ فقد كان متوسط طوله ١٦٠–١٦٥ سنتيمترًا، كما أن تقويس ساقيه يدل على أنه كان يسير منحنيًا إلى الأمام بعض الشيء.

وعظام إنسان نيندرتال كلها سميكة ثقيلة، ولا بد أن قدرته العضلية كانت هائلة؛ الصدر كان كبير الاتساع والرقبة ضخمة قوية، والرأس يميل إلى الأمام قليلًا فوق هذه الرقبة السميكة.
أما الرأس فكان ضخمًا كذلك، وحجم المخ يتراوح بين ١٣٠٠ و١٦٠٠سم مكعب بالنسبة للذكور، وهو حجم أكبر قليلًا من الأوروبي الحالي. لكن قبو الرأس كان منخفضًا، والجبهة شديدة الانحدار إلى الخلف، وعظام ما فوق الحاجبين بارزة ومستمرة، وبذلك كانت العينان تطلان من داخل تجويف يزيده عمقًا هذا البروز العظمي فوقهما. والوجه كان كبيرًا وأميل إلى الطول، وتجويف العين واسع والأنف كبير من حيث البروز والاتساع. الفكان بارزان، وإن يكن بروزهما ليس أكثر من البروز الفكي لدى الأستراليين والزنوج المعاصرين. عظمة الذقن صغيرة ومتراجعة بشدة إلى الخلف.
وقد تتشابه فلطحة قبو الجمجمة عند الإنسان الواقف ونيندرتال، لكن الجمجمة عامة كانت واسعة وممتدة إلى الخلف كثيرًا عند النيندرتال. أما الإنسان المعاصر، فإن الجمجمة ترتفع إلى أعلى كثيرًا؛ مما يعطي الفرق بين امتداد جمجمة نيندرتال وارتفاع جمجمة الإنسان المعاصر.
ولقد كان إنسان نيندرتال متخصصًا، ومن مظاهر تخصصه تقوُّس عظام الفخذ بدرجة أكثر مما نجدها عند القردة العليا.
ولقد عاش إنسان نيندرتال في خلال عصر جليد فيرم؛ مما أدى به إلى التخصص الشديد في تكوينه الجسدي والعظمي لمواجهة المناخ غير الملائم، وأدى ذلك إلى اتجاه نحو خشونة بالغة في تكوين نيندرتال، فصله تمامًا عن النيندرتاليين السابقين من أمثال فونتشفاد وغيره. وبرغم هذه الخشونة والتخصص، فإن إنسان نيندرتال إنسان عاقل، ولو أنه تفرد بصفات أوجبت إعطاءه اسمًا خاصًّا. وقد أدى التطور الجسدي لنيندرتال إلى كثير من التعارض في وجهات النظر: هل يُعتبَر حلقة في خط التطور، أم أنه تطور منفصل متوازٍ مع خط التطور الذي أدى إلى نشأة الإنسان الحالي، ثم انقرض أو تداخل بعضه مع سلالات الإنسان العاقل الأخرى لينتهي إلى الإنسان الحالي؟ واتفاق الآراء — كما أسلفنا — هو أن نيندرتال الكلاسيكي نوع فرعي من الإنسان العاقل، وليس نوعًا قائمًا بذاته.
وقد كان إنسان نيندرتال يعرف النار ويدفن موتاه ويتكلم لغة ما، ويدل على ذلك تكوين الجمجمة وحجم المخ، فمن الصعب أن نتصور أن يكون هناك توارث حضاري دون لغة.
مجموعة ما بعد النيندرتال
هناك مجموعات بشرية من الإنسان العاقل التي عاشت في مناطق مختلفة، لكن يربطها بإنسان نيندرتال شَبَه كبير.
في فلسطين، وفي جبل الكرمل عُثِرَ في كهفي طابون وسخول، على عدة بقايا عظمية، ولكن لم يُعثَر على جمجمة كاملة. وترجع هذه البقايا الحفرية إلى أواخر البليوستوسين الأعلى، وإن تكن دراسة بعض المخلفات بواسطة «كربون ١٤» قد أثبتت أن عمر مخلفات طابون حوالي ٤٠٠٠٠ سنة وسخول حوالي ٣٥ ألفًا، وقد كانت هناك آراء تشير إلى مجموعة الكرمل عبارة عن مرحلة وسط بين النيندرتال والإنسان الحديث. لكن الدراسات الحديثة تؤكد أن سكان سخول عبارة عن خليط من النيندرتال وأنواع حديثة من الإنسان، وتواجدهما معًا يؤكد أن نيندرتال ليس إلا نوعًا فرعيًّا نشأ لأسباب خاصة وتداخل بعد ذلك مع غيره من السلالات، وخاصة الكرومانيون.
وفي شانيدار بشمال العراق عُثِرَ في أعوام ١٩٥٣، ١٩٥٧، ١٩٦٠ على عدة هياكل، أثبتت وسيلة «كربون ١٤» أن أعمارها كلها حوالي ٤٥ ألف عام، ولم تُدرَس الهياكل بما فيه الكفاية، لكن معظمها يشبه النيندرتال الكلاسيكي، وقريب الشبه بهياكل كهف سخول في الكرمل، برغم الفارق الزمني بينهما.
وقد وُجِدَتْ بعض بقايا غير كاملة في الأناضول وإيران والاتحاد السوفيتي وإقليم كوانجتون في الصين، وفي أفريقيا وُجِدَتْ منطقتان لحفريات نيندرتال أو شبيهة بها؛ أولاهما في كهف هوافتيحه في برقة تشبه صفات مجموعة جبل الكرمل، وعمرها ٣٨ ألف سنة (حسب تقرير كربون ١٤)، والثانية في جبل أرهود قرب الدار البيضاء والجمجمة التي وُجِدَتْ تقترب كثيرًا من نمط النيندرتال الكلاسيكي.
ووجود نمط نيندرتال كلاسيكي في شانيدار وجبل أرهود يقيم عقبات كبيرة أمام الفكرة التي كانت سائدة من قبل، وهي أن السابقين على النيندرتال كانوا يمثلون سلالات غير متخصصة استمرت في تطورها إلى الإنسان المعاصر. أما النيندرتال الكلاسيكي فقد تعدَّل وتخصَّص ليتكيف مع الظروف المناخية القاسية التي صادفته في عزلته خلال جليد فيرم. ويُعقِّد الصورة أيضًا الوضع الصحيح لإنسان سولو وروديسيا؛ هل هما تطورا من الإنسان الواقف إلى إنسان نيندرتال في المناطق المدارية المنعزلة؟
(٢-٤) مجموعة الإنسان العاقل البائد Homo Sapiens
وأشهر هذه المجموعة هي سلالة كرومانيون التي اكتُشِفَتْ لأول مرة في وادي الدوردني بفرنسا سنة ١٨٦٨، وتوالت الاكتشافات بعد ذلك في مناطق مختلفة. والكرومانيون يتميز بجمجمة ضخمة (حجم المخ ١٦٦٠سم مكعبًا)، ذات نسبة رأسية طويلة (٧٥)، وجبهة عالية عريضة، وعظام ما فوق الحاجب موجودة لكنها غير بارزة، والوجه قصير غير متناسق (هذه الظاهرة موجودة عند بعض الأوروبيين وعند الإسكيمو الحاليين)، والأنف ضيق بارز والفك كبير، وعظمة الذقن قوية التركيب. القامة طويلة (١٨٠سم)، وفي الغالب كان قوي العضلات، والاختلافات محدودة بين سلالة الكرومانيون وغيرها من السلالات التي ذكرناها وأكثرها وضوحًا طول القامة عند الكرومانيون.
أما في أفريقيا فإن الصورة — رغم الكشوف العديدة — غير واضحة. فإنسان روديسيا الذي عُثِرَ عليه سنة ١٩٢١ من مناجم الزنك في بروكن هيل ما زال مشكلة. فالجمجمة سميكة وبدائية، وحجم المخ ١٣٠٠سم مكعب، وعظام الساق حديثة (ولو أن هذه لم تَعُدْ مشكلة؛ لأن الكثير من الحفريات الأقدم عهدًا ترتبط معهما عظام ساق حديثة). وعظام ما فوق الحاجبين ضخمة بصورة غير معهودة، وقبو الجمجمة منخفض وجدرانه سميكة جدًّا، والجبهة منحدرة بشدة، وغير ذلك من الصفات البدائية الخشنة. لكن الأسنان حديثة وإن تكن مريضة جدًّا، وعظمة الركبة اليسرى تشير إلى التهابات روماتزمية، وطول القامة يقارب من الكرومانيون (١٧٧سم) ووزنه في حدود ٩٠ كيلوجرامًا.
ويقترح بعض الباحثين أن إنسان نجارنسيس من طلائع البشمن، وأن كشوفات سنجا في السودان، وبوسكوب في الترنسفال، وكهف جامبل في كينيا، من طلائع القوقازيين في أفريقيا، بحكم الوجه غير البارز وبروز عظمتي الأنف والذقن. أما مقدمات الزنوج، فالبعض يربطها بالحفريات الميزوليتية (الحجري الأوسط) في شهيناب قرب الخرطوم، والبعض يربطها بحفريات سبرنجبوك في الترنسفال. لكن المعتقد أن أوائل ظهور الزنوج في شرق أفريقيا والسودان قد سبقه مقدمات البشمانيين (حفريات سنجا وكانجارا) ومقدمات القوقازيين (كهف جامبل وأولدفاي).
وأخيرًا، نلاحظ أنه لم يُعثَر حتى الآن على حفريات في القارة الأمريكية؛ لأن المعبر الأرضي عبر مضيق بيرنج الحالي، لم يظهر إلا منذ ٣٠ ألف سنة أو ربما أقل، بالإضافة إلى وجود تكوينات جليد وسكنس الأخير في أمريكا الشمالية الذي كان يغطي الجزء الشمالي من أمريكا، ويسد الطرقات أمام الهجرات التي تعبر مضيق بيرنج قادمة من آسيا، ولو أن هذا لا يمنع حدوث هجرات أسبق من ذلك، لم نتعرف عليها حتى الآن.
(٣) حضارات الإنسان الحفري
(٣-١) لايوليتيه أو فجر الحجري Eolithic
مرت عشرات الآلاف من السنين على الإنسان وهو يستخدم الأدوات التي تبلى بسرعة، لكنه أخذ يتعلم تدريجيًّا فن استخدام الأحجار وأنواعها، وأخذ نظره — ويداه أيضًا — تستجيب لاحتياجاته، فتعلم كيف يربط بين النظر وقذف الحجر، وزادت تدريجيًّا معلوماته عن مدى تأثير شكل الحجر وحجمه وحد الحجر وجسمه، وأخذ يزيد من استخدام الصوان ويشكله، وأخذ يستخدم الحجارة التي تتكون من طبقات أو مثل الزجاج؛ لسهولة شطفها، ولا يستخدم الحجارة البلورية التركيب. وفي أواخر البليوسين وأوائل البليوستوسين بدأ يستعمل الحجر للشطف والقطع. ومع ذلك وُجِدَتْ في أوروبا منذ الميوسين أنواع رديئة الصنع من الصوان المشطوف، وقد سُمِّيَتْ هذه الحضارة بالإيليوتية أو فجر الحجر، ولا يوجد عندنا دليل على أن شطفها تم بواسطة مقدمات الإنسان، بل ربما شُطِفَتْ حينما تقع شجرة أو تطؤها أقدام حيوانات ثقيلة الوزن، ثم استخدمها مقدمات الإنسان، والغالب هو أن استخدامها كان من أجل تشطيب الأخشاب والعظام التي تُستخدَم كأدوات.
(٣-٢) حضارات العصر الحجري القديم Paleolithic
تلا استخدام الأدوات المصنوعة من الأخشاب والعظام استخدام الأدوات الحجرية، وكان ذلك بدون شك في عصر طلائع الإنسان، وتوجد أدوات صوانية كثيرة منذ أوائل البليوستوسين؛ منها الفأس اليدوية التي وُجِدَتْ بكثرة في أوروبا الوسطى والغربية. واستمر استخدام هذه الفأس في أوروبا والشرق الأوسط والهند مئات الآلاف من السنين في البليوستوسين الأدنى والأوسط، وفي مناطق أخرى وُجِدَتْ أيضًا شظايا صوانية وقواقع كانت تُستخدَم لشطف الأخشاب اللينة خلال معظم البليوستوسين. ومعظم المختصين يرون أن الشظايا كانت الأداة الهامة طوال العصر الحجري.
وفي الحجري القديم الأسفل وُجِدَتْ صناعتان حجريتان متزامنتان بدأت من الفترة الأولى بين الجليدية إلى الفترة الثالثة بين الجليدية. والصناعة الأولى هي صناعة النواة ذات الوجهين، والثانية الشظايا الكبيرة. وفي فرنسا سُمِّيَت الفأس الحجرية المشطوفة من الوجهين باسم أبفيل، وتَعُود هذه الحضارة إلى فترة دفء جنز مندل، وإلى جانبه توجد صناعة شظايا كسكاكين ومقاطع. والحضارة الأشيلية تمثل تطورًا أدق في الشطف وتمتد إلى فترة رس فيرم، وفي فترة مندل رس توجد شظايا كبيرة مشطوفة من جانب واحد تُسمَّى كلاكتونية، وتطورت إلى الحضارة اللفالوازية ابتداء من منتصف مندل رس إلى فترة فيرم.
وقد دلَّتْ أبحاث حفريات إنسان الصين في فترة مندل رس، على أن الإنسان قد عرف النار منذ ذلك الوقت، وأول استخدام للنار — كما نعرفه حتى الآن — كان في فترة رس فيرم في أوروبا.
ويمكن أن نقول إنه إلى جانب الأدوات الحجرية لا بد أن الإنسان قد استخدم أيضًا أدوات من مواد هالكة كالأخشاب والعظام، لكن لا يوجد دليل على ذلك. وتظهر العظام بصورة هائلة في الحجري القديم الأوسط.
أما الحجري القديم الأوسط فبدأ من القسم الأخير من فترة رس فيرم، وانتهى منذ ٦٠ ألف سنة مضت، وفيه حدث تقدم في الصناعة الحجرية: الشظايا والنواة. ونجد أشكال الحضارة الموستيرية في كل مكان من غرب أوروبا حتى الصين، وفي الهند ومعظم أفريقيا وغرب أوروبا نجد حضارة مزامنة هي اللفالوازية العليا، وقد أثرت هاتان الحضارتان في بعضهما واشتركتا معًا وتداخلتا في مناطق مختلفة، وفيهما كانت حافات الشظايا تُشطَف بمهارة؛ إما بواسطة الطرق أو بواسطة الضغط بأداة مدببة. وفي هذا العصر ذي المهارة الصناعية بدأت تظهر لنا بعض المعتقدات، ومن أهمها ظهور المقابر وما يتبعها منا الاعتقاد بالقوى فوق الطبيعية والحياة الآخرة. وقد تكون هذه المعتقدات أقدم من ذلك، لكننا حتى الآن لا نعرف ذلك بالدقة.
وفي هذه الحضارات كانت النصال تُصقَل بالضغط، وكانت العظام — وربما العاج — يُستخدَم كقناة للسهام والحراب ذات النصال الحجرية. كما كانت العظام الدقيقة تُستخدَم كإبرة الخياطة الآن لعمل الملابس، ونشأ القوس والسهم خلال الفترة الأخيرة من ذلك العصر، وتميَّز العصر بالنقش على الحجر، وباستخدام الألوان بصورة فنية مبدعة لتصوير مناظر من الصيد من المجدليني (٢٠–٢٥ ألف سنة)، وكذلك صناعة تماثيل صغيرة عاجية وحجرية والحفر على العظام والعاج، وتماثيل من الطين.
(٣-٣) الحجري المتوسط Epipaleolithic of Mesolithic
(٣-٤) الحجري الحديث في العالم القديم: المحاصيل الزراعية وانتشارها Neolithic
تدل الدراسات النباتية وغيرها على أنه برغم إمكان بداية الزراعة في الهند بواسطة زراعة الموز المقطوع، إلا أن الزراعة بمفهومها قد اكتُشِفَتْ في منطقة أو مناطق داخل المساحة الممتدة بين القوقاز والهند ومصر في شكل مثلث كبير، فهنا نوع أو أكثر من الأعشاب والحبوب الجبلية البرية مثل القمح أو الشعير أيضًا، وهي في الغالب أول المحاصيل التي بُذِرَتْ وحُصِدَتْ. وقد انتشر تكتيك اختيار وتربية البذور المنتجة للحبوب من الحبوب البرية بسرعة؛ مما أدى إلى دخول محاصيل جديدة في دائرة الزراعة البشرية، وكان من أهمها: الدخن، والأرز (بما استُئنِس في إندونيسيا)، والكرنب، واللفت، والبازلاء، والجزر، والبنجر (الشمندر)، والخس، والبصل، وفول الصويا، والخوخ، والكرز، والكرفس، والعنب، والمشمش، والزيتون، والتين، والبلح، والبطيخ، والخيار، البرتقال. كما استُئْنِس القطن والتيل للغزل والنسيج، هذا إلى جانب القمح والشعير.
(٣-٥) الحجري الحديث في العالم الجديد
بعد استئناس النبات في غرب آسيا بفترة تتراوح بين ٤ آلاف و٨ آلاف سنة، بدأ ظهور الزراعة في أودية الأنديز وهضابه في بيرو وكولمبيا، وهنا استُئْنِس نوعٌ من الحبوب البرية لينتج الذرة ونوعٌ من الجذور لينتج البطاطس، وفي أمازونيا المانيوك أو الكاسافا، وأصبحت الفاصوليا إحدى أهم محاصيل أمريكا الوسطى. ويرجع تاريخ الزراعة في أمريكا بين ٤٠٠٠ و٢٠٠٠ق.م، وفي الألف عام اللاحقة لكشف الزراعة، دخلت قائمة المزروعات الأمريكية عشرات المحاصيل؛ منها البطاطا والفلفل والقرع والطماطم والأناناس والكاكاو والتبغ والقطن، ومعظم هذه المحاصيل مختلفة عن العالم القديم ومتعددة بدرجة قد لا تساعد على تصور نشأة الزراعة الأمريكية نتيجة انتشار من العالم القديم عبر الباسيفيك.
(٣-٦) منتجات الحجري الحديث
ويتميز الحجري الحديث بإتقان عظيم لشطف وصقل الأدوات الحجرية، واستخدام خامات حجرية صلبة كأدوات قطع، وهو ما لم يحدث من قبل، وقد انتشر بسرعة استخدام هذه الأدوات القاطعة في أرجاء العالم، باستثناء تسمانيا، وأدى وجودها إلى نشأة حِرَف عالية التخصص كالنجارة التي أدت بدورها إلى بناء بيوت أحسن وقوارب وأسلحة وغير ذلك. وقد سهل هذا التخصص ظهور أدوات إنتاجية عظيمة القيمة في أواخر الحجري الحديث؛ أهمها المحراث والعجلة، ولهما ما لهما من دور هام في حياتنا حتى اليوم.
الفخار
اكتُشِفَتْ صناعة الفخار في الحجري الحديث أيضًا، ويبدو أنها اكتُشِفَتْ مستقلة في أماكن مختلفة من العالم القديم والحديث، ولو أن فخار العالم الجديد لم يُصنَع بواسطة عجلة أو دولاب الفخار الذي تميَّزَ به العالم القديم. وترجع مقدمات صنع الفخار إلى الحجري القديم الأعلى، حينما كان الأورنياسيون يصنعون آنية من الطين، لكن الفخار بميزاته لم يظهر إلا في الحجري الحديث مع الزراعة. وقد اكتُشِفَتْ طريقة بلِّ الطين قبل حرقه وتلوينه وزخرفته بأشكال هندسية في أوائل الحجري الحديث في الشرق الأوسط، ولم تُشيَّد أفران الحرق المعروفة إلا خلال العصر الحديدي (١٠٠٠ق.م تقريبًا)، وقد ساعدت الأفران على عملية صقل الفخار (المينا) نتيجة للحرارة العالية، وساعد ذلك على سدِّ المسام وصنع آنية حفظ عظيمة القيمة تمنع التبخر والتسرب.
النسيج
تعود مقدمات النسيج إلى الحجري القديم الأعلى: غزل بعض صوف الماعز أو الأغنام أو الكلاب في خيوط خشنة سميكة ونسجها لعمل أحزمة أو أعصبة للرأس أو بطاطين خشنة. ومن المحتمل إذن أنه قبل الحجري الحديث كان هناك مغزل ونول من نوع بدائي وبسيط جدًّا، ولكن الدفعة القوية التخصص في الحجري الحديث، وزراعة القطن والقنب والتيل قد ساعدت على تطور المغزل والنول؛ مما أدى إلى تغيرات كمية ونوعية في صناعة النسيج عند الزراع، وعند الرعاة كانت الأصواف هي خامة النسيج الأساسية في مساحات كبيرة من آسيا.
(٣-٧) عصر النحاس
في خلال العصور الحجرية استخدم الإنسان المعادن بصورتها دون تحويل كيميائي بواسطة الحرارة إلا فيما ندر، ولم تكن هذه الاستخدامات إلا في أغراض الزينة في أغلب الحالات، وليس كأدوات قاطعة. أول استخدام معدني بالحرارة واستخلاص المعدن من الخام، تم في مصر حوالي ٤٠٠٠ق.م، أو قبل ذلك. فهذه المنطقة كانت أغنى مناطق الحضارة النيوليتية في العالم نتيجة خصب التربة بواسطة الفيضان السنوي، ودرجة التخصص الإنتاجي في المجتمع، وربما استخدام أسرى الحرب للعمل المجاني؛ لهذا تخصص في مصر صناع معادن أنتجوا وأعطوا العالم كثيرًا من المعارف الخاصة بالمعدن.
(٣-٨) عصر البرونز
سرعان ما تعلم صانعو المعادن في مصر والشرق الأوسط طريقة استخلاص معدن آخر غير النحاس؛ وهو القصدير، وباستخدام خليط نسبته ٩ نحاس وواحد قصدير أنتجوا البرونز منذ ٣٠٠٠ق.م في مصر. وبعد ذلك بقليل في العراق ثم الهند، وهكذا دخل الشرق الأوسط عصر البرونز من ٣٠٠٠–١٠٠٠ق.م، ودخل البرونز في صناعة الأدوات القاطعة الحادة وحل محل الحجارة تدريجيًّا، وتقدمت بذلك صناعة التجارة وبناء القوارب والعجلات والعربات والأسلحة وغير ذلك كثير.
وفي العالم الجديد لم يُعرَف البرونز إلا في مراحله الأولى فقط في بيرو.