الفصل الخامس

الاضطهاد العنصري

دراسة تطبيقية أنثروبولوجية عن اليهود والزنوج الأمريكيين

التمييز والاضطهاد بين المجموعات المختلفة راجع في الأصل إلى اختلافات سلالية ظاهرة، وأهم هذه الاختلافات اللون والسحنة، وهو كذلك موضوع قديم لم تَنْجُ منه الدول القديمة ذات الحضارات العليا؛ مثل مدن الإغريق والدولة الرومانية، وربما كان هناك أيضًا تمييز عنصري في مصر الفرعونية وحضارات العراق القديمة.

أما الاضطهاد العنصري الحديث فأصله أوروبي، ويرجع إلى فترة ما بعد الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر؛ فقد وجد الأوروبيون أنفسهم وجهًا لوجه مع مجموعات عديدة من البشر المختلفين عنهم في لون البشرة وشكل الوجه ونوع الشعر … وغير ذلك من الصفات المورفولوجية. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل إن الأوروبيين واجهوا مجتمعات غريبة التنظيم الاجتماعي والسياسي والديني، وأقل منهم كثيرًا في مستوى الإنتاج، ومختلفين عنهم تخلفًا بينًا في كل وسائل التكنولوجيا.

هذه الفوارق الجسدية والحضارية المادية مجتمعة، أوجدت عند الأوروبيين في مجموعهم شعورًا بالقوة وإحساسًا بالرفعة، وبأنهم بناة الحضارة المادية المتقدمة وأصحاب الفكر المتقدم. وتضخم هذا الإحساس بشدة حينما أمكن استرقاق أو إبادة الكثير من تلك الشعوب. وعلى الإثر ظهرت نظريات عدة كلها تؤكد سيادة الرجل الأبيض، وقد هُوجِمَتْ تلك النظريات ونُقِدَتْ علميًّا ولم يَبْقَ منها شيء يُذكَر، سوى جدل علمي — من حين إلى آخر — مدعم بأدلة أو نظرات فلسفية. ولقد قام الأنثروبولوجيون بالجهد الأكبر في رفض ونقد النظريات العنصرية كأفراد أو هيئات منذ القرن الماضي. وكذلك استفادت الأمم المتحدة من كثير من الأنثروبولوجيين في أوائل عهدها، فنشرت سلسلة من البحوث والدراسات التي توضح مزاعم العنصريين وتدحضها بالأدلة والبراهين. والغرض النهائي من أعمال الأمم المتحدة هو القضاء على آخر صور التمييز العنصري في شتى أشكاله بإذاعة هذه الأبحاث العلمية.

وبرغم كل هذا فإن التمييز العنصري لا يزال يُمارَس في جهات عديدة من العالم، وفي كثير من أقطار العالم الجديد على وجه خاص، بالإضافة إلى ما يجري من بربرية عنصرية في جمهورية جنوب أفريقيا وفي أفريقيا جنوب الزمبيزي بصفة عامة.

ويمكن أن نقسم أشكال التمييز والاضطهاد في الفترة الأخيرة إلى:
  • (١)
    تعصب واضطهاد لوني وسلالي: من أوضح الأمثلة عليه اضطهاد الزنوج في الولايات المتحدة وفي أمريكا اللاتينية عامة، وإن كان الاضطهاد في البلاد اللاتينية أقل ضجيجًا من الولايات المتحدة؛ لأن اللاتين — برغم القوانين — أكثر تسامحًا من السكان البيض في أمريكا الشمالية، وهناك أيضًا تعصب لوني وسلالي بين اليهود الأوروبيين واليهود السود والشرقيين في فلسطين.

    ويبلغ الاضطهاد اللوني والسلالي قمته في أفريقيا الجنوبية؛ لأنه يختلف اختلافًا جذريًّا عما هو واقع في أمريكا الشمالية. ففي أمريكا هناك أغلبية بيضاء تضطهد اجتماعيًّا واقتصاديًّا أقلية سوداء، ولكن هذا لا يمنع من أن الحريات مكفولة للجميع في الدستور. أما في جنوب أفريقيا فإن الأقلية البيضاء تحكم وتضطهد الأغلبية السوداء؛ ولهذا فإن إحكام الاضطهاد يتطلب حكمًا دكتاتوريًّا شديد العنف يمارس تطبيق ما يسميه بحواجز آمنة باليد الحديدية. ومن ثم، فإن أي كلام عن الحريات النظرية لزنوج جنوب أفريقيا غير مسموح به، لا من قبل الزنوج ولا حتى من قبل البيض أنفسهم، ناهيك عن حريات نظرية منصوص عليها في الدستور كما هو الحال في الولايات المتحدة.

  • (٢)
    تعصب واضطهاد ديني وحضاري: ويتضح هذا بصورة أقل وحشية في مجموعة من الاضطهاد السلالي في البلاد التي توجد فيها أقليات دينية أو لغوية أو حضارية، وهي كثيرة وتشمل بلادًا متقدمة؛ من ذلك: التعصب بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا وأمريكا. وبلادًا نامية؛ مثل: التعصب بين الهندوس والمسلمين في الهند، أو المسلمين والهيئات التبشيرية في أفريقيا. وكذلك تعصب أقليات حضارية لغوية؛ كما هو الحال في يوجوسلافيا بين الكروات والصرب، وتعصب اليهود الأوروبيين ضد اليهود الشرقيين في فلسطين.

وفيما يلي نعطي باختصار نموذجين على التعصب: أولهما قصة اليهود؛ لتوضيح تعصبهم لأنفسهم كسلالة «مختارة» وفشل هذه الدعوة من الناحية العلمية، والثانية عن زنوج أمريكا وفشل الأسس النظرية التي يقوم عليها اضطهاد البيض لهم.

(١) أسطورة السلالة اليهودية

أجمع العلماء عامةً والأنثروبولوجيون خاصةً على أن اليهود المنتشرين في أرجاء العالم لا يكوِّنون إطلاقًا أيَّ مجموعة سلالية خاصة، بل إنهم مجرد تجمع ديني لأفراد من سلالات مختلفة ومتباعدة.

وفي البداية كان اليهود فيما قبل الميلاد جزءًا صغيرًا من سكان منطقة شرق البحر المتوسط، وبالتالي فإنهم جزء من السلالة الوسيطة (البحر المتوسط)، ومنطقة شرق المتوسط معبر هام لطرق التجارة والهجرات والغزوات لآلاف من السنين قبل ظهور الديانة اليهودية وبعدها، ومن ثم فإن سكان شرقي المتوسط لم يكوِّنوا سلالة متجانسة، بل تظهر فيهم صفات شديدة الاختلاط، ومن أكبر المجموعات المؤثرة في المنطقة السلالة الأرمنية القريبة من المنطقة.

وبغض النظر عن تاريخ اليهود القديم وقصة الأَسْر البابلي وغير ذلك؛ فإن المعروف تاريخيًّا أنه حتى سقوط روما في القرن السادس الميلادي، لم تكن هناك قيود على حركة اليهود وحرياتهم في كافة أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وقد انتشروا مع طرق التجارة شرقًا حتى الهند، وشمالًا حتى سهول روسيا ووسط آسيا، وجنوبًا حتى الحبشة، وغربًا حتى إسبانيا وفرنسا، وقد أقامت جاليات كثيرة من اليهود في تلك البقاع المتباعدة، وتزاوجت مع شعوب المنطقة التي تعيش فيها.

وعلى هذا النحو نجد أن اليهود الذين ظلوا على يهوديتهم داخل وخارج شرق المتوسط (إذ إن هناك يهودًا كثيرين اندمجوا في تلك الفترات المبكرة مع الشعوب المختلفة وتركوا ديانتهم لأسباب مختلفة)، لم يعودوا سوى مجرد تجمع ديني: كجماعة دينية حضارية يهودية لم تَعُدْ تتميز في كثير عن الصفات السلالية للشعوب التي عاشت في أرضها. مثال ذلك: أن يهود شمال أوروبا حصلوا على نسبة من الشقرة تكاد تعادل نسبة الشقرة عند النورديين، كذلك أصبح الأنف عند يهود وسط وجنوب أوروبا مماثلًا لسكان تلك المنطقة. وخلاصة القول: إن تمييز اليهود عن بقية أفراد المجتمع لم تَعُدْ سهلة من الناحية الجسمية، وإن كانت بعض المظاهر الحضارية لليهود تساعد على التعرف عليهم.

وبعد ذلك جاءت فترة سيئة بالنسبة لتاريخ اليهود، من القرن الثاني عشر حتى أواخر القرن الماضي وأوائل الحالي؛ فقد حُدِّدَتْ حريات اليهود في مناطق كثيرة من أوروبا (دون ترتيب مسبق)، وأجبرت سلطاتُ الدولِ المختلفةِ اليهودَ على السكنى في حي معين بالمدينة يُطلَق عليه: غيتو Ghetto أو حارة اليهود Judengasse، وحرمت عليهم ملكية الأراضي الزراعية. وبذلك تركز اليهود في المدن بوجه عام.

ورغم أن تحديد حريات اليهود قد قضى على إمكانية التزاوج والاختلاط بغير اليهود، إلا أن أكثر من ١٥ قرنًا من الحرية والاختلاط السابق على القرن الثاني عشر قد جعلت اليهود جزءًا من السلالات التي تعيش معها. وبجانب ذلك فإن القرون الثمانية من تحديد إقامة اليهود لم تكن كلها مستمرة مكانًا وزمانًا. ففي بعض الأماكن كان يحدث تشدد لفترة ما ثم يخف التشدد، وفي أماكن أخرى لم يكن هناك تشدد لفترة ما، وهكذا. فصلات اليهود بالشعوب — وإن تحددت — إلا أنها لم تنقطع، ولم يمنع ذلك إطلاقًا خروج عدد من اليهود إلى الديانة المسيحية ودخول مسيحيين إلى اليهودية. وفي الوقت نفسه فإن يهود العالم الإسلامي لم تُحجَب عنهم حرياتهم، بل تمتعوا بنفوذ عظيم وحرية واسعة في أجزاء كثيرة من هذا الجزء من العالم، في حين أن زملاءهم في الدين في أوروبا كانوا يعيشون في ظل الغيتو؛ أي في أماكن معزولة.

وعلى أي حال، فإن حركة اليهود وتوطنهم وامتزاجهم بشعوب مختلفة، قد نفى عنهم تمامًا فكرة كونهم جميعًا أعضاء سلالة واحدة، وإلا لأصبح هناك سلالة إسلامية وسلالة أرثوذكسية أو كاثوليكية … إلخ.

فيهود الحبشة (الفلاشا) لا يختلفون عن الأحباش في شيء من صفاتهم السلالية: اللون وشكل الشعر والقامة … إلخ، والاختلاف الوحيد هو الديانة، وربما ممارسات اقتصادية معينة، وبالمثل لا يختلف يهود ألمانيا عن الألمان، ويهود الصين عن الصينيين.

أما تحدب الأنف، أو ما يُطلَق عليه خطأ «الأنف اليهودي»، فهو صفة سلالية ليست خاصة باليهود، بل يشاركهم فيها سكان شرق المتوسط بنسب متساوية في ظهوره بين السكان. كما أن هذا الأنف ليس «ساميًّا» في الأصل، إنما هو تأثير من السلالة الأرمنية على شرقي المتوسط وأجزاء كثيرة من شرق وجنوب الجزيرة العربية.

وإذا كانت اللغة القومية لليهود هي العبرية؛ فإن اليهود في أوروبا كانوا قد استغنوا عنها تمامًا وتكلموا بما عُرِفَ باسم لغة اليديش Yidish, Jiddisch، وهي ليست لغة سامية على الإطلاق. بل هي إحدى لهجات اللغة الألمانية العليا، نشأت أصلًا في القسم الغربي من وسط ألمانيا في العصور الوسطى، وقد استخدمها اليهود وأضافوا إليها بعض المفردات السامية.

ومن الناحية الإتنولوجية لا يمكننا القول أن هناك حضارة يهودية خاصة باليهود منذ العصر الروماني حتى اليوم، ومع ذلك فإنه يمكن القول أن هناك بعض المميزات الحضارية التي نشأت عن معيشة اليهود في إسبانيا الإسلامية والتي أُضِيفَتْ إليها بعض مميزات الحضارة التركية اليونانية الإسلامية بعد عام ١٤٩٢، على أثر طرد اليهود من إسبانيا المسيحية والتجائهم إلى رحاب السلطنة العثمانية.

كذلك لا بد وأنهم قد اكتسبوا بعض التراث خلال عزلتهم في أحياء اليهود داخل مدن أوروبا الوسطى والشرقية لعدة قرون.

وبرغم هذا فإن اختلاف اليهود حضاريًّا فيما بينهم أمر متفق عليه. فيهود المغرب يختلفون في الكم الحضاري بلا جدال عن يهود ألمانيا أو يهود الحبشة، وفي البلاد الصناعية الكبرى مثل بريطانيا وأمريكا نجد أن حرية الحركة الاجتماعية قد أدت إلى اندثار غالبية المظاهر الحضارية التي يمكن أن نسميها يهودية.

والتساند الاجتماعي بين اليهود في مناطق مختلفة من العالم يرجع غالبًا إلى رد فعل للاضطهاد الذي ظل اليهود يقعون تحت وطأته في دول أوروبا لفترة طويلة؛ ولذلك فإن التضامن والتساند الاجتماعي كانا محاولة لتأكيد الذات اليهودية، وفي بعض الدول التي تتميز بالتسامح الديني — كغالبية دول العالم الإسلامي — أو الدول الديموقراطية؛ فإن تأكيد الذات اليهودية لا يجد له صدًى كبيرًا في أوساط اليهود.

ولقد قيل إن مستوى الذكاء بين اليهود مرتفع. ولكن مثل هذا القول لا يمكن إقراره علميًّا؛ لأنهم يكونون جزءًا بيولوجيًّا من شعوب عاشوا وسطها، وإذا ثبت فعلًا ما يُقال، فلا بد أن تفسيره مرتبط باستمرار حياة المدينة التي فُرِضَتْ على اليهود فترة طويلة. ولا شك أن حياة المدينة من الدوافع الهامة نحو زيادة الثقافة والتعليم من ناحية، والاتجاه نحو التفوق الحرفي والمهني من ناحية أخرى.

ولقد أثبت وجود مجموعة من يهود العالم في فلسطين في الفترة الأخيرة لليهود أنفسهم، أنه لا مجال على الإطلاق لصحة المزاعم القائلة بوجود سلالة يهودية واحدة. فإن التمييز العنصري الذي يظهر بين يهود أوروبا ويهود الشرق داخل فلسطين حاليًّا، والمرارة التي يشعر بها اليهود الأمريكيون السود الذين طُرِدوا من فلسطين مؤخرًا؛ لهي أبلغ تعبير عن فشل وسقوط ادعاء الأصل السلالي الواحد لكافة يهود الأرض.

(٢) زنوج أمريكا

إن الاضطهاد اللوني في الولايات المتحدة الأمريكية موجه إلى كل من هو غير أبيض البشرة قوقازي التقاطيع، وبعبارة أخرى: موجه ضد الزنوج والمغول (الآسيويين المهاجرين حديثًا من الصين واليابان) والأمريند، وموجه أيضا أحيانًا ضد سلالة الإسبان. وبرغم هذه العمومية إلا أننا نجد أن الاضطهاد اللوني موجه توجيهًا مركزًا ضد الزنوج، وذلك لأسباب كثيرة على رأسها أن الزنوج الأمريكيين يكونون أقلية عددية ضخمة قد تصل إلى حوالي ٢٥ مليون شخص،١ بينما غيرهم من المغول لا يكونون سوى أقليات قليلة العدد. وإلى جانب ذلك فإن زنوج أمريكا منتشرون في كل مكان من الولايات المتحدة … برغم تركزهم الكبير في الجنوب والجنوب الشرقي. أما الآسيويون والأمريند فيتركزون في المدن أو معازل محدودة في غرب الولايات المتحدة؛ ولذلك فإن مشكلتهم محدودة، ولا تظهر إلا لمن جاورهم من البيض فقط. وفوق هذا فإن تاريخ كفاح الزنوج، والحرب الأهلية الأمريكية، والحريات النظرية الدستورية، واتجاه الزنوج إلى الثقافة والتعليم، ومنافستهم للبيض في مجالات كثيرة من الأعمال؛ كل هذه عوامل احتكاك يومية تثير مشكلة اللون بصفة مستمرة.

وغالبية زنوج الولايات المتحدة هم أصلًا من ساحل غانة، ولكنهم لم يكونوا في مجموعهم مجموعة حضارية أو لغوية واحدة. فالغالبية الكبرى منهم جاءت من مناطق تختلف فيها نظم الحكم والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي والمواهب الفنية، وبرغم ذلك فإننا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنهم لم يأتوا من مناطق حضارية تتسم بالبدائية، بل إن ساحل غانة في أجزاء كثيرة منه يُعَدُّ حضاريًّا من أعلى ما وصلت إليه الحضارات الزنجية في نواحي الاقتصاد الزراعي والتجارة مع العالم الإسلامي إلى شماله. بالإضافة إلى تطوير نظم دينية وسياسية معقدة، ونبوغ فني عظيم. ويكفي أن نذكر اسم مملكة الأشانتي أو مملكة اليوربا أو مملكة الباكونجو أو مدينة إيفي أو بنين؛ لكي تنتقل إلى أذهاننا صورة واضحة عن حضارات وفنون زنجية رائعة. وبعبارة قصيرة فإن الزنوج الذين جيء بهم مكبلين بالأغلال إلى سواحل أمريكا، لم يكونوا أقل من سادتهم البيض في كثير من النواحي الحضارية.

وفي معظم مناطق الرقيق الأمريكية، كانت الثورات تقوم من أجل التحرر والاستقلال. وقد نجح الرقيق في التخلص من الرق في المناطق التي كانوا يشكلون فيها قوة عددية كبيرة؛ مثل جيانا وهايتي وبعض جزر البحر الكاريبي الأخرى، ولكن الإقامة المستمرة لعدة قرون في العالم الجديد قد أدت إلى النتائج الخطيرة التالية:
  • (١)

    فقدان اللغة الأفريقية الأصلية، وهذه ربما كانت عاملًا مساعدًا على تساند الزنوج؛ لأنهم أصلًا لم يكونوا يتكلمون لغة أفريقية واحدة، بل لغات عديدة مختلفة عن بعضها تمامًا، ومن ثم فإن اشتراكهم في لغة الأسياد: الإنجليزية أو الإسبانية أو البرتغالية في المناطق المختلفة، قد ساعد على إيجاد تفاهم سريع بينهم، وأعاد صياغة تراثهم المختلف في تراث مجمع.

  • (٢)

    فقدان جزء كبير منهم نتيجة التزاوج والاختلاط الشرعي وغير الشرعي مع كافة الأوروبيين، ومع البرتغاليين بوجه خاص، والإسبان بدرجة أقل. ولكن ذلك ساعد على قيام مجموعة سكانية وسيطة الصفات بين الزنوج والأوروبيين أصبح لها كيانها المستقل في بعض المناطق، وكيان مزعزع في أحيان أخرى؛ لأنهم لا يُقبَلون في وسط ومحيط الأوروبيين والزنوج بسهولة.

وقد كان أول عهد الولايات المتحدة بالرقيق عام ١٦١٩، حينما وصلت أول «شحنة» رقيق إلى ولاية فرجينيا، ومنذ ذلك التاريخ استمر قدوم الرقيق إلى الولايات المتحدة خلال قرنين ونصف القرن، وفي خلال تلك الفترة الطويلة لم تكن المرأة الزنجية قادرة على أن تنسب أبناءها غير الشرعيين إلى السادة البيض، وترتب على ذلك أن الاختلاط والتهجين غير الشرعي قد سار بسرعة كبيرة (طالما أنه لا يؤدي إلى مشاكل قانونية أو مصاعب اجتماعية)، وقد ساعد ذلك على إعطاء نسب كبيرة من جينات الوراثة الأوروبية إلى جميع الزنوج.

وفي خلال المائة سنة الماضية — أي بعد تحرير الرقيق — حدث تناقص واضح في الاندماج والاختلاط غير الشرعي بين البيض والزنوج، ولكنه لم يتوقف، وقد ساعد هذا التناقض في الاختلاط، مع ارتفاع مستوى المعيشة الزنجي بوجه عام — بالقياس إلى ما كان عليه من قبل — وإطلاق عدد من الحريات (كثير منها نظري وبعيد عن التنفيذ، حتى في دور العبادة)، ساعد على تناقص في تبادل المورِّثات بين البيض والزنوج، ولكن ذلك جاء متأخرًا.

وليست هناك من أدلة أكثر قوة على أن الزنوج قد تأثروا إلى حد بعيد بالاختلاط السلالي مع الأوروبيين، من أن أقلية ضئيلة من زنوج الولايات المتحدة اليوم قادرة على التدليل على أصولها الزنجية الخالصة بواسطة شجرة النسب من أول جد وصل كرقيق إلى أمريكا، وذلك برغم عدم جدوى شجرة النسب في التحقيق من الأبوة البيولوجية. فهي في غالبية الأحوال تدل على الأبوة الاجتماعية.

وتختلف تقديرات الأخصائيين في عدد أولئك الزنوج الخلص أو الأنقياء بين ٣٪ و٣٠٪ من مجموع زنوج الولايات المتحدة الحاليين. أما بقية الزنوج، وهم يشكلون ٧٠٪ على أدنى تقدير؛ فهم من الناحية السلالية خليط وهجين بنسب متغايرة تختلف من جينات أوروبية قليلة وزنجية كثيرة، إلى جينات أوروبية كبيرة وزنجية قليلة، وكذلك اختلطت عدة ملايين من الزنوج بالأمريند. وخلاصة القول أن زنوج الولايات المتحدة قد أصبحوا مختلفين في صفات عديدة عن زنوج أفريقيا.

وهناك عدد لا يمكن تحديده من نتاج التهجين الأوروبي الزنجي الذين انسلخوا أو انسلُّوا عن المجموعة الزنجية بعد عام ١٨٧٠، وتمكنوا هم ونسلهم من التسرب داخل المجموعة البيضاء والتحرك الحر والتزاوج داخل هذه المجموعة، بما في ذلك من فرص متكافئة في الوظائف والأعمال والتعليم والإسكان والممارسات الدينية. ولا شك أن تسرب هؤلاء داخل المجموعة البيضاء قد أدى إلى تسرب مماثل لجينات زنجية للدرجة التي نتوقع معها وجود عدة ملايين من البيض الأمريكيين الذين يحملون نسبًا مختلفة من المورثات الزنجية، لا يشعرون بها، ولا يمكن قياسها بأي طريقة معروفة للعلم حتى اليوم.

لكن توقُّف الزواج الشرعي وغير الشرعي بين الزنوج والبيض، وإحساس كل من المجموعتين إحساسًا متزايدًا بذاتيته وكينونيته قد أدى فعلًا إلى بطء ملحوظ في تسرب الجينات المتبادلة بين المجموعتين. وعلى أساس استمرار الوضع الحالي الذي يواجه فيه الزنوج والبيض بعضهما بشيء كثير من العداء؛ فإن المتوقع ألا يحدث تغيير أساسي في التركيب السلالي الحالي للزنوج والبيض لفترة طويلة قادمة. أما إذا انهارت السلالية الذاتية؛ فهناك احتمال كبير لحدوث تغيرات بدرجة أسرع في التركيب السلالي الحالي، ومع ذلك فهناك احتمال لتزايد ملحوظ في بشرة ذات لون أقل دكنة مما هو عليه الوضع الحالي بين الزنوج؛ وذلك لأنهم لم يَعُودوا سُود البشرة بالدرجة التي نعرفها في أفريقيا.

ومن الناحية الحضارية واللغوية، فإن زنوج الولايات المتحدة قد انفصلوا تمامًا عن الحضارات الأفريقية. فالارتباطات اللغوية مع أفريقيا قد أصبحت قليلة ونادرة، باستثناء بعض الصوتيات الأفريقية التي أثرت على طريقة نطق الإنجليزية في الجنوب الأمريكي الزراعي عند البيض والزنوج على السواء. أما كافة الأشكال التكنولوجية فلم يعد لها صلة بالتكنولوجيا الأفريقية القديمة، وأصبحت الأدوات والآلات التي يستخدمها الزنوج منذ قدومهم إلى الولايات المتحدة من الإنتاج التكنولوجي الأوروبي الصناعي.

وكذلك اختفت كل أوجه النظم الاجتماعية الأفريقية من تنظيم عشائري أو طموحي أو نظم زواج ونظم حكم أو درجات قرابة. أما النظم الدينية والطقوس؛ فقد تحولت برمتها إلى المسيحية مع بعض بقايا من الطقوس والمعتقدات القديمة، ويُقال أيضًا إن أغاني الزنوج الزراعيين وموسيقاهم مستمدة أصلًا من الأغاني الشعبية الإنجليزية، مع إضافات خلاقة في الشعر والموسيقى جاءت تعبيرًا عن حياة الرق والاستعباد، ومن ثم نشأت الصيغة الموسيقية الزنجية الشائعة. ولا شك أن استخدام إمكانات الصوت الزنجي في الغناء بالطريقة الزنجية الأمريكية المعروفة، إنما هي إمكانات صوتية أفريقية أصيلة مع بعض إضافات من مصادر كثيرة في العالم الجديد. وقد اختفت عبقرية الزنوج الفنية في الفنون التشكيلية تحت حياة الرق، كما أن الرقص الزنجي يختلف اختلافًا بينًا عن الرقص الأفريقي. وعلى العموم فإن البحث عن الأصول الحضارية الأفريقية الصرفة في حضارة الزنوج في أمريكا — من النواحي الفنية — لم ينتهِ إلى إثبات وجودها بكثرة شائعة، وإنما هي بقايا معدلة منذ عهد الرق.

كذلك يُقال إن بطء الزنجي في حركته وفي مشاعره إنما هو مستمد من أصول أفريقية، ولكن الواقع أنه مستمد من عهد الرق، حين كان البطء في العمل والإنتاج هو كل سلاح الاحتجاج الذي يملكه الرقيق إزاء الطغيان الأبيض. ويؤيد ذلك أنه حينما أصبح الزنوج ملَّاكًا زراعيين، أو حينما يمتلكون أو يعملون بمؤسسات تجارية وصناعية، نرى تغيرًا شاملًا في إيقاع حركتهم التي أصبحت سريعة ومتجاوبة مع ظروف العصر.

وبالمقارنة نجد أن زنوج أمريكا اللاتينية لا يزالون يحتفظون بنسب أكبر من البقايا الحضارية الأفريقية، في مظاهر اللغة والدين والطقوس والسحر والموسيقى والرقص والمعتقدات الشعبية. ولعل ذلك راجع إلى أن زنوج الولايات المتحدة عاشوا مع الرق فترة أطول، وإلى أنهم يكونون أقلية وسط الأمريكيين؛ مما يؤدي بهم إلى ضرورة التمثيل الحضاري لمكونات حضارة الأغلبية. بينما كان الزنوج في بعض مناطق الكاريبي أغلبية مستقلة من فترة طويلة (جمهورية هايتي على سبيل المثال). وستظل مشكلة زنوج الولايات المتحدة موضوعًا حساسًا وخطيرًا إلى أن تنبع الرغبة في التجانس الحضاري الذي سوف يساعد على التجانس السلالي.

(٣) نبذة عن أصحاب النظريات العنصرية

وفي نهاية هذا الفصل يمكن أن نذكر أهم أسماء وأبحاث أصحاب النظريات العنصرية؛ لكي يمكن الاستمتاع بقراءة ما كتب في وقت مبكر، وبتوجيه مسبق عن مزاعم السيادة السلالية التي رفضها ويرفضها العلم بكل ما عنده من مناهج.

  • (1)
    Boulainvilliers, Comte de, “Histoire de l’ancien Gouvernement de la France” paris, 1727.

وأهم ما ظهر في هذا البحث السياسي أن الحكام والنبلاء الفرنسيين من أصول تنتمي إلى قبيلة الفرانك الجرمانية، وأن غالبية الشعب الفرنسي يعود في أصله إلى الكلت.

  • (2)
    Gobineau, A. de, “Essai sur l’inégalité des races humaines” Paris 1853–55.

وهذا البحث هو شيخ العنصرية، وهو أول بحث منتظم مدعم، وأصبح له نفوذ كبير لفترة طويلة على التفكير العنصري. ويؤكد جوبينو أن القبائل البدائية ستظل كذلك مهما احتكت واتصلت بمجموعات أرقى؛ لأن الحضارات في نظره لا يمكن أن تختلط وتهجن، وأن الإمكانية الوحيدة للارتقاء هي أن تأتي مجموعة من أصول نبيلة لتخلق الترقي. وينتهي جوبينو إلى أن دراساته التاريخية وغيرها تشير إلى أن أوروبيي الشمال الغربي — النورديين بصفة خاصة — يمتلكون الامتياز الأقصى بين سائر شعوب الأرض.

  • (3)
    Klemm, G., “Allgemeine Cultur-Geschichte der Menschheit”, Leipzig 1843.

يُقسِّم كليم العالمَ إلى قسمين: إيجابي ونشط = ذكورة، سلبي = أنوثة، وفي نظره أنه لا بد وأن يحدث تزاوج من أجل الصالح العام. والشعوب الإيجابية هي الأوروبية والجرمانية والتركية والعربية والفارسية بوجه خاص، ويجب أن تحكم هذه الشعوب السلبية كالمغول والزنوج. وفي نظره أن دكنة البشرة وشكل الجمجمة هما رمز السلبية، ويقول إن الشعوب السلبية كانت تنتشر في أجزاء العالم، لكن الشعوب النشطة التي نشأت في مناطق الهملايا انتشرت وأصبحت سلالات السيادة.

  • (4)
    Carus, C. G., “System der Phisiologie” Leipzig 1847.

يحاول كارل جوستاف كاروس أن يؤكد دعوة كليم، فيقول إن سلالات العالم تساوي النهار والليل والفجر والغسق، وهي تساوي بالترتيب الأوروبيين، الزنوج، المغول، الأمريند. وأن حجم المخ هو أكبر ما يكون عند البيض وأقل ما يكون عند الزنوج، ويمثل مرحلة وسطى عند المغول والأمريند. ويخطئ كثيرًا بين السلالة والشعب، ويعطي لبعض الشعوب صفات شاعرية فيقول: الهنود خالقو الحق، المصريون خالقو الجمال، واليهود خالقو الحب الإنساني.

  • (5)
    Morton, Samuel, “Crania Americana” Philadelphia 1839.

يعطي مورتون صفات للشعوب على أنها سلالات: القوقازيون أكثر قدرة عقلية بين السلالات، المغول غير عباقرة وهم مقلدون، الماليزيون نشيطون بحريون مغامرون، الأمريكيون محبون للحرب ويميلون للقسوة ومناهضون للثقافة، الزنوج مرحون ومرنون وكثير منهم يمثلون أكثر الشعوب انحطاطًا، الإسكيمو يعيشون في عقلية الطفولة دائمًا.

  • (6)
    Nott, J. C. & G. R. Gliddon, “Types of Mankind” Philadelphia 1854.

أهم ما يؤكده الكاتبان هو الدفاع عن الرق على أنه نظام ضروري، ويشددان على أن أصول الإنسان المعاصر ليست أصولًا واحدة بل متعددة؛ كتبرير لاسترقاق الزنوج.

  • (7)
    Chamberlain, H. S., “Die Grundlagen des Neunzehnten Jharhunderts” Munich 1901.

ويسير تشمبرلين على خطى جوبينو في كتابه، ولكنه لا يحاول اتخاذ الأسلوب العلمي؛ إذ يقول: لماذا ندخل في تساؤلات علمية طويلة لنتحقق من وجود سلالات مختلفة، وإن للنسب قيمة عالية في تحديد الكفاءات؟

  • (8)
    Stoddard, L., “The Ristng Tide of Color” New York, 1920.

يؤكد لوثروب ستودارد أن كل سلالة هي نتيجة تطور طويل، وأنها تؤدي إلى قدرات خاصة تصنع من السلالة ما هي عليه من وضع وإمكانية، وهذه القدرات الخاصة (التي تتضح تمامًا عند السلالات ذات السيادة) غير مستقرة، وأنها تماثل الصفات الكامنة البيولوجية …

وفي مقابل هذه الآراء العنصرية نذكر أن كثيرين من الأنثروبولوجيين الذين يدرسون كل أشكال الاختلافات السلالية والحضارية، لم تظهر لديهم إطلاقًا أي نزعة عنصرية؛ مما يدل على أصالة العلم عندهم، ومن بين الأنثروبولوجيين العظام نذكر:
  • (1)
    Fischer, Eugen, “Das Problem der Rassenkreuzung” Berlin 1913.
  • (2)
    Waitz, T., “Introduction to Anthropology” London 1863.
  • (3)
    Morgan, L., “Ancient Society” New York 1878.
  • (4)
    Tylor, E. B., “Primtive Culture” New York 1874.
١  تدل إحصاءات السكان على أن عدد الزنوج في الولايات قد تزايد من قرابة ١٩ مليونًا عام ١٩٦٠ إلى ٢٢٣٥٠٠٠٠ شخص عام ١٩٦٨، وأنهم كانوا يتزايدون بنسبة ٣٫٣٪ ١٩٥٠ انخفضت إلى ٣٫٢٪ ١٩٦٠ في مقابل ٢٫٣٪، ٢٫٢٧٪ لنسبة تزايد البيض في السنتين المذكورتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤