الفصل الثالث

بعض مشكلات التنظير الإثنولوجي

تواجه الإثنولوجيا الكثير من المشكلات النظرية التي تؤثر كثيرًا في منهج الدراسة، والحصول على الفهم الصحيح للمشكلات الحضارية. والتنظير في الدراسة الحضارية يشتمل على موضوعين أساسيين: (١) مفهوم عدد من المصطلحات ذات الدلالة في التنظير. (٢) مناهج ومدارس البحث الإثنولوجي العام. والفصل بين الموضوعين فصلًا تعسفيًّا؛ لأن كلاهما مرتبط بالآخر ارتباطًا وثيقًا، فهناك مجموعة من المصطلحات تُستخدَم في المدارس المختلفة، ولكن الفصل الذي أجريناه يرتبط فقط بالتوضيح الدراسي.

(١) الصفات أو العناصر الحضارية Culture Traits or Elements

تتكون الحضارات من مجموعة من الصفات أو العناصر المترابطة معًا في نسيج واحد يكوِّن الحضارة المعينة، وترتبط الحضارة — كما سبق أن ذكرنا وكما يجب أن ندرك باستمرار — بالجماعة البشرية، ومن ثم فإن أي حضارة يمكن أن تكون كبيرة أو صغيرة تبعًا لعدد أعضاء المجتمع الذي يمارس عناصر هذه الحضارة المعينة. ويمكن أن تُقسَّم الجماعات أو التجمعات البشرية إلى أقسام مختلفة، ويُطلَق عليها أسماء مختلفة حسب حجم الجماعة. فهناك سكان وحدة جغرافية، وهناك سكان إقليم إداري أو سياسي (شعب)، وهناك القبيلة أو اتحاد القبائل، وهناك أيضًا العشيرة، وسكان القرية، وأخيرًا هناك «العصبة» التي تتكون من جماعة صغيرة العدد، وسواء كبر العدد أو صغر؛ فإن الاسم العام الذي يمكن أن يُطلَق عليهم هو المجتمع أو التجمع.

لأي مجتمع مجموعة عناصر حضارية يمكن أن نصنفها في عدة مجموعات؛ هي: الحضارة المادية، اللغة، النظم الاجتماعية، الأيديولوجية الخاصة (تشتمل على مجموعة كبيرة من العناصر الفكرية والفلسفية والدينية)، وأخيرًا العناصر الفنية للحضارة، ومجموعة العناصر الحضارية تُعَد بالآلاف، مهما كان عدد المجتمع صغيرًا، ويكفي للتدليل على ذلك أن نعيد إلى الأذهان أن عناصر اللغة متعددة جدًّا، وهي تبدأ من التخاطب العادي إلى الفصاحة، ومن الشعر إلى الأدب الشعبي والدعابة والنكات. والعناصر المادية للحضارة عديدة فوق ما يمكن أن نتصور، فإن طريقة صناعة الشيء الواحد بطريقتين أو أكثر تستدعي تكنيكًا معينًا، ومن ثم فإن الشيء الواحد تتناوله عدة عناصر حضارية، وكذلك الموسيقى تتكون من عناصر حضارية عديدة. وعلى النحو ذاته وبصورة أكبر تتكون المعتقدات والممارسات الطقسية والنظم القانونية والسياسية، وطقوس الزواج، من عشرات المئات من العناصر الحضارية، ومن ثم فإن أي مجتمع — مهما كان بدائيًّا — يمتلك آلاف العناصر الحضارية، ولكثرة هذه العناصر أو الصفات الحضارية؛ فإنها لا تخضع للإحصاء أو العدد حتى من جانب أعضاء المجتمع.

وهذه الآلاف من الصفات الحضارية لا تقوم مستقلة عن بعضها، ولا تتضارب وظائفها واستخداماتها على الإطلاق. فكما أنه لا يوجد أيون واحد مستقل ولا نيوترون واحد قائم بذاته، كذلك لا يوجد عنصر حضاري قائم بذاته. إنما هو يكوِّن مع غيره بناءً أو نسيجًا شديد الترابط والاعتماد على بعضه.

وأهم وظيفة للإثنولوجيا — أو الأنثروبولوجيا الحضارية أو الاجتماعية أو الإثنوجرافيا — هي فحص ودراسة العناصر الحضارية مستقلة ومتفاعلة في الزمان والمكان، وتحليل سلوك هذه العناصر في وظائفها المختلفة. ومعنى هذا أن الدراسة الحضارية تُفصِّل العناصر وتدرسها وتُعِيد تركيبها وتدرس تفاعلاتها، كل ذلك في الزمان؛ أي في دراسة تطور ونمو أو تقهقر العناصر، وفي المكان؛ أي دراسة الأوضاع الجغرافية والعلاقات المكانية للمجتمعات وتفاعلها مع بعضها. وبعبارة أخرى، فإن دراسة عناصر الحضارة تستدعي: (١) الدراسة الوظيفية. (٢) الدراسة التاريخية. (٣) الدراسة المكانية (النقل والانتشار الحضاري). وقد أوضحت مثل هذه الدراسات أن العناصر الحضارية تتفاعل وتترابط معًا في أشكال مختلفة يسميها الإثنولوجيون والأنثروبولوجيون المجمعات الحضارية والقوالب الحضارية، وسوف نعود إلى هذا الموضوع فيما بعد.

والذي يهمنا هنا هو أن نقرر أن الإثنولوجيا ليست مجرد دراسة للمحتوى الحضاري المتكون من العناصر والصفات المختلفة، وليست فقط دراسة التركيب الحضاري لهذه العناصر ولا وظيفتها داخل المجتمع فقط. ولكن يجب أيضًا أن تدرس العلاقات المتعددة بين المجتمعات في الزمان والمكان، ومن ثم فإن الإثنولوجيا دراسة تاريخية جغرافية اجتماعية ونفسية للحضارة.

ولقد رفض بعض النظريين العلاقات التاريخية والجغرافية، ورفض آخرون العلاقات النفسية ووظيفتها، بينما يؤكد البعض أهمية النواحي النفسية ويعلق عليها الصفات الغالبة التي تميز حضارة ما، ويفعل ذلك عدد آخر بالنسبة للتركيب الاجتماعي فقط.

ولكن هذا الرفض أو التأكيد على ناحية واحدة من النواحي والصفات الحضارية، ليس في الواقع إلا نظرة جزئية للحضارة. كما أنه يسيء كثيرًا إلى العلم إذا ما كانت المدارس شديدة التحزب لآرائها ونظرياتها.

إن الإثنولوجيا أو مرادفاتها في المدارس المختلفة، أو مجرد اسم الحضارة، هي علم يقوم بمهمة دراسة العناصر الحضارية كافة من حيث وجودها وأصولها والتغيرات التي تطرأ عليها وعلاقاتها المتبادلة. وليس المقصود بهذا إعطاء تعريف للعلم؛ فالتعريفات كثيرة، ولكن الهدف هو توضيح مدى الشمول الذي يجب أن تتسم به الدراسة الإثنولوجية، وليس التأكيد على زاوية واحدة من الزوايا فقط.

وسواء كان الدارسون للحضارة من أنصار مدرسة أو أخرى من المدارس الإثنولوجية، فإنه لا يمكن حصر ووصف وتعداد كل العناصر الحضارية لمجتمع ما، ومن ثم فإنه قد نشأت أفكار عديدة لتجميع عدد من الصفات والعناصر الحضارية المتفاعلة والمتشابكة تحت مصطلحات مجمعة لوصف العناصر وتمييزها. ومن ثم نشأت مصطلحات عديدة كالقوالب الحضارية أو الأنماط الحضارية أو المجمع الحضاري أو الدائرة الحضارية أو الإقليم الحضاري، كما نشأت بعض مصطلحات تحدد شكل ونمو هذه العناصر الحضارية أو القوالب أو الأنماط أو المجمعات … إلخ، فهناك الانتشارية والتطورية والنفسية والتاريخية والتركيبية والتحضيرية، وكل هذه الطائفة من المصطلحات تُعبِّر عن مدارس إثنولوجية مختلفة.

وفيما يلي سندرس بعض المصطلحات الهامة الخاصة بتجميع العناصر الحضارية في مجمعات معينة.

(٢) المجمع الحضاري Culture Complex

يعني هذا المصطلح مجموعة كبيرة من الصفات الحضارية التي تميز مجتمعًا ما أو عدة مجتمعات داخل كمه الحضاري، أو تميز طائفة ما داخل المجتمع. مثال ذلك: صفات رعي الأبقار عند النيليين في جنوب السودان أو عند الرعاة في شرق أفريقيا، يمكن أن تُجمَع لتصبح مُجمع رعي الأبقار أو مجمع الرعي عند النيليين، وينطوي تحت هذا المجمع عدد كبير من العناصر الحضارية التي تدخل إلى الذهن مرة واحدة. مثلًا: تنظيم المجتمع إلى رعوي (رجال) وزراعي (نساء)، وتنظيم الرجال إلى طبقات أو درجات السن لتحديد الوظائف الاقتصادية والاجتماعية لكل طبقة سن، ونظام بناء القرية ووضع الحظيرة الأساسية للأبقار داخل القرية أو وسطها، نظام إهداء ثور إلى الابن حينما يمر بطقوس البلوغ والارتباط العاطفي بين الشاب والثور، نظام التنقل بالماشية إلى معسكرات الرعي المختلفة كما تحدده دورة المناخ السنوية، نظام الأضاحي من الماشية: متى وكيف وفي أي المناسبات؟ نظام الزيجات والماشية (المهور) التقييم الاجتماعي للشخص حسب ثروته من رءوس الماشية. نظام المحاكم والماشية (الغرامات والتعويضات). دور الماشية في الأدب الشعبي من أغانٍ وقصص وأساطير. وغير ذلك كثير من العناصر المتشابكة والمنطوية تحت مصطلح «مجمع الرعي في شرق أفريقيا».

وهناك أمثلة كثيرة حتى يكون «المجمع» الحضاري خاصًّا بقبيلة واحدة أو بشعب واحد. فهناك المجمع الحضاري لنظام الملكية المقدسة الذي ينطوي تحته عدد كبير من العناصر الحضارية، ومنها — على سبيل المثال لا الحصر: وجود قبيلة أو عشيرة ملكية، مبدأ البطل الأسطوري أو الحقيقي ذو الصفات شبه الإلهية، نظام حلول روح البطل في الملوك الحاكمين، نظام قتل الملك قتلًا مقدسًا في حالات معروفة، نظام عدم تعريض الملك للقتل العنيف في حرب أو ثورة.

وفي حالة الشعوب والدول المعاصرة يمكن أن نقول إن هناك مجمعات حضارية مختلفة، معظمها يلتقي عند الطبقات الاجتماعية الاقتصادية. مثلًا: المجمع الحضاري للفقراء يشتمل على عدد كبير من العناصر الحضارية، بعضها: الفقر المادي في الدخل والمسكن، قلة التعليم إلا فيما ندر، عدم تكافؤ الفرص في الوظائف الحكومية وغير الحكومية (وخاصة الوظائف العليا)، كثرة الاعتقادات بعوالم ما بعد الطبيعة، مواقف الفقراء الشخصية والنفسية، المواجهة المحدودة لعالم الفكر والأيديولوجيا، ممارسة الأعمال التي تتطلب جهدًا جسمانيًّا أكثر من الجهد الذهني (وهذا لا يرتبط بطاقات ذكاء أعلى عند غير الفقراء، بل يرتبط بضعف الإمكانات الخاصة باكتساب ما نسميه بالذكاء نتيجة التعليم وممارسات الحياة في صورها المختلفة)، هذا فضلًا عن وجود قيم خاصة تجاه المواقف الخاصة.

(٣) الإقليم الحضاري Culture Area

هو بعبارة وجيزة تجميع إقليمي لمجموعة من الحضارات في مجال جغرافي واحد. وتتبادل داخل هذا التجميع الإقليمي — على غالبية المستوى الزمني — علاقات وعناصر حضارية برغم الاختلاف بين مكونات الحضارة المفردة. ولقد طبقت الأقاليم الحضارية على أمريند أمريكا الشمالية بواسطة عدد من الأنثروبولوجيين الأمريكيين مثل ويسلر وكرويبر، وقسم هرسكوفتس أفريقيا إلى أقاليم حضارية، وكذلك فعل رالف لنتون R. Linton بالنسبة لمدغشقر، وأخيرًا بيكون ونارول Bacon & Narroll بالنسبة لآسيا (انظر الشكلين ٣-١، ٣-٢).
لكن كلارك ويسلر هو أول من استخدم مصطلح المنطقة الحضارية،١ وكذلك استخدم مصطلحًا آخر هو منطقة العمر Age Area كمدخل تاريخي للمناطق الحضارية، وقد قال كرويبر إن فكرة المنطقة الحضارية معروفة في العلوم البيولوجية من فترة بعيدة، وإنها كانت تُستخدَم أيضًا في الأنثروبولوجيا، ولكن بصورة ضمنية قبل أن يستخدمها ويسلر بصورة واضحة. ويقول البعض إن الفكرة نبعت عند ويسلر حينما كان أمينًا للمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وكان عمله يقتضي تصنيف المعروضات والموضوعات تصنيفًا جغرافيًّا أو إقليميًّا.
وملخص آراء ويسلر هي:
  • (أ)

    أن عددًا من العناصر الحضارية تميل إلى التجمع في أقاليم معينة، وأن في الأمريكتين ١٥ إقليمًا حضاريًّا، من أهمها إقليم السهول (أمريند السهول) وإقليم الساحل الشمالي الغربي، وإقليم الجنوب الغربي (الذي يمتد إلى المكسيك الشمالية وكاليفورنيا) وإقليم الغابات المدارية في البرازيل، وإقليم بتاجونيا وإقليم الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية (من أكوادور حتى أواسط شيلي) ويسميه أحيانًا إقليم الأنديز.

  • (ب)

    أن قبائل الإقليم الحضاري — برغم عدم تشابهها المطلق في الحضارة — إلا أنها في مجموعها تمتلك العناصر الحضارية التي تميز الإقليم.

  • (جـ)

    أن بعض مجتمعات المناطق الحضارية، وخاصةً تلك التي تعيش في وسط المنطقة جغرافيًّا، تمتلك في مكوناتها الحضارية كل عناصر الحضارة للإقليم الحضاري، ومن ثم فإنه يطلق عليها الممثلة الحقيقية لحضارة المنطقة.

  • (د)

    كلما ابتعدنا عن مركز الإقليم تبدأ بعض العناصر المميزة لحضارة الإقليم في الاختفاء.

  • (هـ)

    الجماعات التي تعيش في أطراف الإقليم الجغرافي تتميز بخليط من العناصر الحضارية للإقليم الحضاري الذي تنتمي إليه والإقليم المجاور.

fig40
شكل ٣-١: (١) الخويزان: (أ) البشمن. (ب) الهوتنتوت. (٢) منطقة رعي الأبقار في شرق أفريقيا. (٣) القرن الأفريقي. (٤) الكنغو. (٥) ساحل غانة. (٦) السودان الغربي. (٧) السودان الشرقي. (٨) الصحراء الكبرى. (٩) مصر. ملاحظة: ترك هرسكوفتس منطقة شمال أفريقيا خارجًا عن أفريقيا باعتبار ارتباطه الحضاري بمنطقة البحر المتوسط الأوروبي والآسيوي.
fig41
شكل ٣-٢

فمثلًا في الإقليم الحضاري للسهول الكبرى (أمريند السهول) يعدد ويسلر تجمعًا من حوالي عشرين عنصرًا حضاريًّا يكوِّن الميزات العامة للإقليم، ومن أهم هذه العناصر صيد البيسون (نوع من الماشية الكبيرة) والاعتماد عليه في الغذاء، وعمل أوعية من جلده، وعدم وجود الزراعة. وفي أطراف هذا الإقليم نجد بعض المجتمعات تستخدم الفخار في عمل الأوعية بدل الجلد، وتقوم بالزراعة إلى جانب الصيد، وتبني بيوتًا من الطين بدلًا من الخيام.

وقد ربط ويسلر هذه الأقاليم الحضارية بفكرة العمر، فقال إن العناصر الحضارية تميل إلى الانتشار من المركز في كافة الاتجاهات بدرجة متساوية، وإن الانتشار الكامل لعنصر حضاري في كافة أرجاء الإقليم يُعَدُّ دليلًا على قدمه، بالمقارنة بعنصر حضاري آخر لم يشمل انتشاره كل الإقليم. وبعبارة أخرى فإن العناصر الحضارية التي نجدها مشتركة في أطراف الإقليم ووسطه تمثل العناصر الحضارية الأولى في الإقليم الحضاري، وإن العناصر الأخرى التي نجدها في الوسط تمثل أعمارًا أقل. ولقد هاجم الكثيرون فكرة تاريخ الحضارة وإعادة تركيبه بهذه الصورة لأسباب عدة، على رأسها أن العناصر الحضارية لا تنتشر من مراكزها بنفس النسبة في كافة الاتجاهات إلا فيما ندر. فالعوامل الجغرافية والاجتماعية قد تعرقل هذا الانتشار في اتجاه معين أو تساعد على الانتشار بسرعة في اتجاه آخر، كما يحدث على طول الطرق التجارية. وعلى سبيل المثال، قد لا تنتشر زراعة المطر في المناطق الجافة إلا إذا دخلت الحضارة مجمعات حضارية تعرف الزراعة بواسطة الري الصناعي.

وكذلك فإن المجتمعات لا تقبل كافة المجمعات الحضارية القادمة إليهم، بل إن عملية تقبل الانتشار الحضاري فيها مجال كبير للاختيار، وعملية الانتشار الحضاري — باختصار — ليست عملية آلية، بل تختلف بصورة واسعة في درجة تقبلها بين المجتمعات المختلفة.

ويترتب على ذلك أن الأنثروبولوجيين قد يقبلون فكرة الإقليم الحضاري كفكرة تصنيفية جيدة، ولكنها لا تنطبق تمام الانطباق على الأقاليم الجغرافية المعقدة حضاريًّا كإقليم الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية، أو إقليم ساحل غانة، أو إقليم السودان الجغرافي، أو حتى شرق أفريقيا. فالعوامل الاجتماعية الاقتصادية والهجرات المتعددة والعلاقات المكانية والتاريخية متداخلة وكثيرة، بحيث تستدعي إعادة تقسيم الإقليم إلى أقاليم فرعية.

ولعل من المستحسن أن نقلل عدد المجمعات الحضارية في كل إقليم حضاري؛ لكي يمكن لنا أن نجد الانتشار الكافي لقدر محدود من المجمعات أو الصفات الحضارية في إقليم واسع؛ فكلما كثرت المجمعات التي نصف بها إقليمًا حضاريًّا كثرت الفروق الداخلية. فمثلًا إذا قلنا إن الإقليم الحضاري في شرق أفريقيا يتكون من عدد من المجمعات الحضارية، منها رعي البقر ونظام صانع المطر والطوطمية والملكية المقدسة؛ لوجدنا اختلافات كثيرة بين الباجندا الطوطميين والنيليين غير الطوطميين، وبين المازاي الذين لا توجد عندهم ملكية مقدسة، وعند الشلك الذين يملكون هذا المجمع الحضاري.

وعلى وجه العموم، فإن الإقليم الحضاري وسيلة جيدة في التصنيف الحضاري لعدد من السمات الرئيسية لمجمعات حضارية في إقليم واسع، والفكرة الأساسية في الإقليم الحضاري أنه يقوم على أساس تقرير الأمر الواقع من الصفات الحضارية، ولكن هذه الصفات قد تزيد أو تقل حسب بساطة أو تعقد الإقليم بكافة ظروفه الطبيعية والبشرية.

(٤) الدائرة الحضارية Kulturkreis

هذا مصطلح خاص بالمدرسة النمساوية الألمانية، ومدرسة فيينا النمساوية على وجه خاص، وقد كان أول من استخدمه ليو فروبينيوس٢ في دراسته الإثنولوجية لأفريقيا لأوشينيا في محاولة منه لتوزيع عدد من الصفات الحضارية جغرافيًّا.
لكن فرتز جرايبنر F. Graebner المؤرخ الألماني الذي أصبح مؤسس المدرسة التاريخية في الإثنولوجيا، وبرنهارد أنكرمان B. Ankermann الإثنولوجي الألماني، ألقيا بحثين في عام ١٩٠٤، في الجمعية الأنثروبولوجية الإثنولوجية في برلين. كان كل منهما معنونًا باسم «الدوائر الحضارية والطبقات الحضارية لأوشينا» (جرايبنر)، و«الدوائر الحضارية والطبقات الحضارية في أفريقيا» (أنكرمان). وأخذ بعد ذلك كثيرون من الإثنولوجيين في ألمانيا والنمسا هذا المصطلح — نذكر منهم في ألمانيا فوي W. Foy، ليبز Julius Lips وزوجته، وباول ليزر P. Leser، وفي النمسا كان أكبر مؤيدي الدوائر الحضارية، والذي زاد عليها من عنده الكثير هو الأب فلهلم شميت W. Schmidt الذي أصبحت المدرسة تُعرَف باسمه، وكذلك الأب فلهلم كوبرز W. Koppers، والأستاذ يوسف هكل J. Haekel، ومع التحفظ يرتبط فالتر هيرشبرج W. Hirschberg بمذهب جرايبز وكوبرز.
والفكرة الأساسية في الدائرة الحضارية هي تجميع لعدد كبير من الصفات الحضارية فيما يشبه المجمع الحضاري، ثم توزيع هذه المجمعات على أساس جغرافي، وتأتي المرحلة الأخيرة وهي تحديد الترابط بين المجمعات الحضارية على أساس تاريخي: أي ما هي المجمعات التي كانت في الأصل مرتبطة ببعضها، ومن ثم فإنها تكون الدائرة الحضارية، ثم تُوضَع هذه الدوائر الحضارية بالترتيب التاريخي والتوزيع الجغرافي لتعطي الطبقات الحضارية Kulturschichten.
ولقد طور جرايبنز أفكاره المبدئية هذه عدة مرات بين مرحلة التشدد والتعصب للفكرة، ونفى احتمالات النشأة المستقلة لكل مجمع حضاري في أقاليم مختلفة (١٩٠٩) إلى مرحلة الحذر وعدم التشدد والاحتمالية التي يمكن أن تؤدي إلى نشأة مستقلة لعدد من العناصر (١٩١١).٣ أما الأب شميت فقد عدَّل وأضاف على الدوائر الحضارية التي قدَّمها جرايبنر، فبدلًا من الدائرة الحضارية الطوطمية أصبحت الدائرة الأبوية التي تمارس الاغتراب في الزواج، وبدلًا من الدائرة التي أسماها جرايبنر النصفية Moiety (التي تنقسم بمقتضاه القبيلة إلى نصفين)؛ أسماها شميت الدائرة الأموية ذات الزواج المغترب، وبدلًا من دائرة القوس (النشاب) الميلانيزية؛ أصبحت الدائرة الأموية الحرة الزواج، والدائرة البوليينيزية أصبحت الأبوية الحرة الزواج، وأضاف شميت دائرة حضارية رآها أقدم من تلك الحضارات، وهذه هي الدائرة الحضارية التي تضم الأقزام في أفريقيا وآسيا والفيدا في سيلون والتاولا في جزيرة سلبيس، مؤكدًا أنها لا تستخدم الحجارة، بل الخشب؛ أي إنها لا تزال تعيش فيما قبل العصور الحجرية٤ لكن ذلك كان مبالغة شديدة؛ لأن هؤلاء كانوا يستخدمون الحجارة في العصور القديمة، وهم يستخدمون الحديد الآن. كذلك أضاف شميت دائرة حضارة الرعاة.

ولقد انتاب فكرة الدائرة الحضارية الكثير من التعديل والنقد، وخاصةً من جانب بعض الإثنولوجيين في مدرسة فيينا، وجاء النقد بعد ظهور الكثر من الدراسات الأركيولوجية والحفائر منذ أن بدأ جرايبنر الفكرة في أول هذا القرن، وكان من أبرز المعترضين روبرت هايني جلدرن، وكوبرز الذي كتب في ١٩٥٩ تأريخًا لفكرة الدائرة الحضارية مبينًا حسناتها ومآخذها ونقدها.

وبرغم ذلك فإن فكرة الدائرة الحضارية — مع عدم المغالاة التي ظهرت في كتابات شميت — قد أعطت للإثنولوجيا مجالات واسعة للتنظير في فترة مرحلية من تاريخ الفكر الأنثروبولوجي، وشحذت الهمم سواءً بالنقد أو الإضافة. وهي في مجموعها عبارة عن تركيب نظري لمجمعات حضارية، ويمكن أن تصبح إحدى أدوات الفكر الإثنولوجي في التنظير، مثلها في ذلك مثل المجمع الحضاري والإقليم الحضاري.٥

وهكذا فإن هذه التركيبات الحضارية الثلاثة: المجمع الحضاري – الإقليم الحضاري – الدائرة الحضارية، برغم اختلاف أهدافها النهائية، فإنها في أساسها متشابهة كمحاولة تصنيف للحضارات أقل عددًا من الحضارات المفردة التي لا يحصرها العد على سطح الأرض. والإثنولوجيا محتاجة إلى هذا التصنيف العام، شأنها شأن بقية العلوم الأخرى قبل التفريع والتفصيل.

(٥) القالب الحضاري والنمط Pattern-Norm

ظهرت فكرة القالب الحضاري والنمط الحضاري في المدارس الأمريكية الأنثروبولوجية، وهي في مجموعها محاولة مماثلة للمجتمع الحضاري لعدد من العناصر، أو مماثلة لفكرة الإقليم الحضاري من حيث إنها محاولة لتجميع صفات عامة في الحضارات. وعلى هذا يتردد أحيانًا استخدام القالب والنمط لكي يعطي لحضارة كاملة صفة معينة، أو ليصف عددًا من العناصر الحضارية. وفكرة القالب الحضاري تشبه أيضًا فكرة البناء أو التركيب الحضاري، ومن ثم يمكن أن يصبح القالب خطة البناء أو أسلوب الترابط المتفاعل للظاهرات الحضارية، وكذلك يمكن أن يكون القالب شاملًا لسلوك الأفراد تجاه العناصر الحضارية. وهكذا تختلف استخدامات القوالب الحضارية اختلافًا كبيرًا، فالقالب أو النمط يمكن أن يكون مثاليًّا وعالميًّا، وبذلك يصبح مثله في ذلك مثل دراسة القيم Value.
ويستخدم كلارك ويسلر القالب على أنه قالب أو نمط حضاري عالمي Universal Pattern؛ مثل اللغة والفن والديانة والحرب والملكية وغير ذلك، ولكن مثل هذا الاستخدام يجعل القالب الحضاري غامض المفهوم، وربما قرب ذلك المفهوم من الأفكار الخاصة بمصطلح الأفكار الأساسية Elementargedanken التي عبر عنها أدولف باستيان الإثنولوجي الألماني في أواخر القرن الماضي.
ويستخدم كرويبر A. Kroeber، القالب الأصولي Systematic Pattern، وهو في رأيه يضم مظاهر حضارية معينة، مثل زراعة المحراث أو الوحدانية في الديانات السماوية أو الحروف الأبجدية، وهذه المكونات الأصولية تقف تحت بعضها في علاقاتها الحضارية؛ أي إن بعضها يترتب على البعض الآخر. ويقول كرويبر إن هذه القوالب تنبع من أصول معينة وانتشرت عنها.

ولكنَّ هناك نقدًا جوهريًّا يُوجَّه إلى القوالب الأصولية؛ فالوحدانية مثلًا ليست قالبًا، بل هي فكرة أو قيمة. أما القالب فهو: كيف يفهمها المعتنقون للوحدانية؟ وكيف يتصرفون إزاء هذه الفكرة؟ ومن ثم ينشأ قالب المسيحية في أمريكا أو البلقان على سبيل المثال.

وقد استخدمت روث بنديكت — العالمة الأمريكية — فكرة القالب، على أنها تُعبِّر عن وصف شامل للحضارة المفردة. وربما كانت بنديكت أول من استخدم القالب الحضاري في هذا المجال، ولكنها أعطت انطباعات سيكولوجية للقوالب التي وصفتها. فمثلًا في كتابها المشهور «القوالب الحضارية»،٦ نجدها تعطي القوالب التالية:
أمريند السهول = ديونيسي Dionysian = نشط ذو روح فردية – شعور شديد بالذات، محب للعراك والتدمير والحروب.
أمريند بويبلو = أبولوني = Appollonian = هادئ – جماعي الروح والتفكير – متشكك – رسمي – غير ميال للعراك – متوسط غير متطرف.
أمريند كواكيوتيل = مجالوماني Magalomanian = ميال إلى عدم التعقل – الحصول على المركز الاجتماعي هو أهم حافز في الحياة – توزيع الثروة باستمرار – وراثة المراكز الاجتماعية والألقاب والمميزات الاجتماعية.
دوبو Dubo (جنوب شرقي بابوا) = بارانوياني Paranoid = عقدة الاضطهاد – الخوف المستمر من السحر – شكوك دائمة في الغير – شعور بالكراهية والحقد.

وتقول بنديكت إن الحضارة كالفرد، تتكون من قالب مترابط في الفكر والعمل، وفي داخل كل حضارة تأتي بعض الميزات الخاصة التي لا تشاركها فيها مجتمعات أخرى، وترتبط قوالب بنديكت تمامًا بفكرة «التكاملية» الحضارية العالية، وفي الحقيقة لا يصل كثير من الحضارات إلى هذه الدرجة من التكامل، ولكن إعطاء القوالب الحضارية مثل هذه الصفات النفسية يؤدي إلى قصور كبير في مفهوم القالب الحضاري.

وتجنب كلايد كلكهون٧ كثيرًا من النقائص التي انتابت استخدام فكرة القالب الحضاري، فقال إن هناك نوعين من القوالب الحضارية: القالب الصريح Overt والقالب الضمني Covert، وقال إن القالب الصريح هو ذلك الذي يعرفه كل الناس ويشعرون به ويتصرفون حياله بطرق معروفة. أما القالب الضمني فهو سيكولوجي يشعر به الناس في خلفيتهم الحضارية.
وقد أطلق كلكهون على القالب الضمني أيضًا اسم التضاريس الحضارية Configuration؛ لأنه يعتقد أنه هو القالب الذي يميز حضارة معينة؛ أي إنه القالب العام للحضارة المفردة، وهو بذلك يشبه قوالب بنديكت العامة، ويشبه ما أسماه كرويبر أسلوب الحضارة Style. وسواء كان المصطلح هو التضاريس الحضارية أو أسلوب الحضارة؛ فإن الموضوع هنا يدور حول الشكل العام لحضارة ما. مثال ذلك: ما هو الفرق بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة البابلية؟ والإجابة عن هذا التساؤل لا تحتمل دراسة محتوى الحضارتين، بل الوضع الحضاري العام. كأن نقول إن حضارة المصريين تتسم بالتنظيم الجماعي والبابلية بالتنظيمات الفردية التجارية، ومثل هذا أمر بالغ الصعوبة. والخطورة في استخدام القوالب والأنماط الحضارية، تكمن أساسًا في مدى موضوعية الباحث؛ أي المجمعات الحضارية هي تلك التي يختارها لكي تصبح القالب الحضاري للمجموعة التي يدرسها. إن إسقاط ذاتية الباحث في مثل هذا الموضوع، هي في الواقع المشكلة التي يقوم حولها الكثير من الجدل والمعارضة في التنظير الإثنولوجي.
ويمكننا أن نقسم القالب الحضاري إلى قسمين — متفقين في ذلك مع آراء كلكهون:
  • (١)
    القالب الحقيقي = Pattern: وهو بذلك الذي يعبر عن سلوك الأفراد في مواجهة العناصر الحضارية الصريحة، وهو بذلك يساوي الاختلاف بين النظرية (القالب) والتطبيق (السلوك).
  • (٢)
    النمط الحضاري = Norm: وهو القالب المثالي الذي يلتزم الناس بتنفيذه بحكم العادة والاعتياد. ويمكننا أن نقول إن النمط ثابت ومحافظ، بينما القالب مرن. إن طرائق الحياة التي تصفها الحضارة لأفرادها لا تعني أن عليهم الالتزام بها حرفيًّا، بل هي مجرد توجيهات عامة للسلوك الفردي الذي يتحرك داخلها بشيء من المرونة، ومن ثم فإن هناك تغايرات كثيرة للسلوك الفردي لكنها لا بد وأن تقع ضمن المسموح به، وإلا خرج السلوك عن القواعد العامة المرعية، وأصبح مخالفًا للنمط الحضاري في عنصر ما من عناصره. فإذا قلنا — على سبيل المثال — إن القالب السلوكي في العالم العربي يقرر ضرورة احترام كبار السن عند مخاطبتهم، فإننا نجد أن هذا الاحترام يأخذ حدودًا واسعة تتراوح بين البقاء واقفًا أمام كبار السن، وبين مجرد مخاطبتهم بوصفهم في مرحلة أو درجة «العم» أو «الخال». وبالمثل نجد نمطًا عند بعض الجماعات يحرم المواجهة والحديث بين أم الزوجة وزوج ابنتها، فإن هذا التحريم النمطي يتراوح بين الخروج تمامًا من المسكن حينما تكون أم الزوجة موجودة، وبين تبادل الحديث من وراء جدار أو باب أو ساتر.

وعلى هذا فإن القالب الحضاري يُراعَى بصفة مستمرة، ولكن ليس له نموذج مثالي يُحتذَى بصفة دائمة، وحتى في القوالب السلوكية الدينية يختلف الاحترام الذي يعطي لأحد الأولياء أو المزارات بين ما يشبه التقديس وبين الاحترام العابر.

أما النمط المثالي، فهو ذلك الذي يراعيه الناس بدقة تامة فيما لو كان هناك اتفاق سائد وعام بين أعضاء المجتمع عليه. وعلى هذا يصبح الزواج من المحرمات نمطًا مثاليًّا، بينما تصبح الخيانة قالبًا سلوكيًّا يتراوح عند بعض الجماعات بين قتل الزوجة أو قتل مرتكب الخيانة أو قتلهما معًا، وبين إرجاع الزوجة الخائنة إلى ذويها وتحصيل ما أخذوه من صداق، أو التغاضي عن الجريمة والاكتفاء بعقاب بدني أو معنوي.

وكذلك يمكن أن يتحول على مر الزمن نمط مثالي إلى قالب سلوكي. مثال ذلك: أن الزواج من بنت العم كان نمطًا مثاليًّا عند بعض القبائل العربية والبجة في السودان الشرقي، لكنه تحول إلى قالب سلوكي في الفترة الأخيرة يتراوح فيه السلوك بين زواج بنت العم فعلًا ومجرد الاعتراض الشكلي بأنها من حق ابن العم حين يطلب يدها شخص غريب، وفي النهاية يعطي موافقته على زواجها.

ويميل الدارسون للحضارة عامةً إلى دراسة الأنماط المثالية؛ لأنها تمثل ما يشبه القوانين العامة التي يلتزم بها أفراد المجتمع، بينما يتركون القوالب السلوكية جانبًا؛ لأن مجالات التفاعل معها متعددة، وتعتمد على التصرف الفردي في حدود معينة. لكن من المستحسن أن يُدرَس القالب السلوكي الذي يضعه المجتمع للتصرف إزاء موقف معين، وتُدرَس معه درجات التصرف السلوكية الفردية كحالات دراسية. ولا شك أن التفريق بين النمط المثالي والسلوكي تفريق فيه الكثير من الاصطناع النظري؛ فالمفروض عامةً أن النمط الحضاري يفرض الالتزام به سلوكيًّا، ولكنه يتطور مع تطور بعض المكونات الخاصة أو العامة للحضارة؛ فيصبح الالتزام به أمرًا صعبًا، ومن ثم يتحول إلى قالب مرغوب، لكنه ليس ملزمًا كما كان في الماضي.

وفي هذا المجال يصح لنا أن نصف الأنماط الحضارية التي تطورت في ظل التطور العام بأنها أصبحت قوالب ضمنية، بينما الأنماط الملزمة بتصرفات معينة في وقت الدراسة بأنها أنماط صريحة، ويصبح الفرق إذن بين النمط الصريح والضمني (أو المثالي والسلوكي) هو الفرق بين الحاضر والماضي، وبقاء النمط الماضي (الضمني – السلوكي) في الممارسات الحاضرة يعني أن الانتقال التاريخي ليس بعيد العهد، وأن المرونة في تطبيقه تعكس رغبة الجيل القديم في الإبقاء على بعض أنماط كانت صريحة في عصره أو عصر أسلافه.

ومن خلال الأنماط الحضارية يمكن للإثنولوجيين دراسة الكثير من الصراع بين عاملي الدفع الحضاري: المحافظة والتجديد. ولا يعبر ذلك بالضرورة عن صراع الممارسات السلوكية للأجيال المتعاقبة فقط، وإنما قد يعكس أيضًا التدخل الحضاري لأنماط حضارية وافدة من الخارج. وبعبارة أخرى، إن دراسة النمط الحضاري تساعد الإثنولوجي على معرفة العلاقات الاجتماعية للنمط الحضاري داخل التركيب الحضاري العام، وتعطي للباحثين أدلة على التطور الحضاري الداخلي بتأثيرات النمو المحلي أو العناصر الحضارية الوافدة من الخارج.

(٦) مبدأ الأفكار والموضوعات العامة Themes

على عكس القوالب والأنماط الحضارية، نجد أن بعض الكتَّاب قد مالوا في الماضي والحاضر إلى أن ما يميز الحضارات هو أفكار أو موضوعات عامة، وأشهر الذين كتبوا في الماضي هو أدولف باستيان A. Bastian (١٨٢٦–١٩٠٥) الطبيب الألماني، الذي تحولت اهتماماته إلى الإثنولوجيا نتيجة أسفاره الطويلة التي بدأت برحلة إلى جزر المحيط الهادي كطبيب سفينة (١٨٥١)، وتبعها بعد ذلك برحلات دراسية طويلة إلى مصر والبرازيل والمحيط الهادي ومات في رحلة في جزيرة ترنيداد، وقد نشر كثيرًا من رحلاته العلمية، وهي تكون مراجع قيمة، وكذلك كان لجهوده الفضل في إنشاء متحف الإثنولوجيا في برلين عام ١٨٦٦. وفي عام ١٨٦٠ نشر أهم كتبه المنهجية بعنوان «الإنسان في التاريخ: دراسة لتأسيس نظرة عالمية سيكولوجية»،٨ وقد ساهم باستيان بمجهود كبير في توجيه الإثنولوجيا الألمانية إلى الدراسة الحقلية بدل النظرية، ولكن اسمه يرتبط في تاريخ الإثنولوجيا بفكرته الأساسية، وهي وجود مجموعة من الأفكار الأساسية أو الأولية بين كل البشر Elementargedanken.

ويقول باستيان: إن الوحدة النفسية للإنسانية قد أدت إلى أن تنشأ الحضارات المختلفة كلها نشأةً مستقلة على خطوط نمو وتطور متشابهة، وهذا هو الذي يعنيه بالأفكار الأولية. لكن تأكيد باستيان باستقلال نشأة ونمو كل حضارة لا يجد تأييدًا كثيرًا، وقد يُقال إن باستيان كان من أنصار التطورية، ولكن التطور عادةً يعود إلى أصل واحد كما هو واضح في نظرية داروين وغيرها من النظريات البيولوجية، وفي الواقع إن أفكار باستيان كانت عكس التطورية تمامًا.

ويمثل موريس أوبلر M. Opler٩ من الأنثروبولوجيين الأمريكيين الاتجاه إلى فكرة الموضوعات العامة التي تميز الحضارات. ويقول: إن «الموضوع» يُعرَف بأشكاله المعبرة عنه (وهي في الحقيقة تشابه القوالب الحضارية)، ولا يتناول دراسة طرق السلوك كما لاحظنا في دراسة القوالب الحضارية. ومن أمثلة «الموضوعات» التي يراها أوبلر أن الرجال أعلى من النساء من النواحي الجسدية والعقلية والخلقية (موضوع عند أباشي شيريكوا). وتختلف موضوعات أوبلر عن قوالب بنديكت في أنها لا تصف كل الكم الحضاري لمجموعة بشرية، وإن كان في الإمكان أن يصف «موضوع» كل الحضارة عند بعض الجماعات، مثل موضوع: أن طول العمر وبلوغ شيخوخة كبيرة هدف مهم (شيريكوا)، ويربط هذا الموضوع الكثير من الصفات الحضارية التي تبدأ من الميلاد وكافة الطقوس الخاصة بالزواج، وغير ذلك من الصفات، وتنتهي بالوفاة.

(٧) الرمز والتعليم الحضاري

اتفق كل الدارسين للحضارة على أن الإنسان يتعلم الحضارة، وهذا التعلم قد يتخذ أشكالًا عديدة أبسطها التقليد والمحاكاة والتعلم بالتجربة المباشرة. وبعض القردة العليا قادرة على بعض أشكال هذه المحاكاة والتعلم المباشر، ولو اقتصر الأمر على ذلك عند الإنسان لما أمكنه أن يسمو كثيرًا عن مستواه منذ مليون عام.

والحقيقة أن الإنسان حقَّق ما وصل إليه من تقدم تكنولوجي وحضاري نتيجة كونه — بفضل نمو قدرات معينة في المخ — أصبح قادرًا على اختراع رموز مجردة للتعبير ونقل التجارب. هذه هي مقدمات اللغة، فالكلمة عبارة عن رمز تجريدي مركب من عدد محدود من الأحرف، لكنها تنقل إلى السامع معنى أو معاني كثيرة في حيز بسيط ووسط سهل في متناول الجميع إذا تعلموا معاني الرموز (الكلمات)، وهذا هو ما يحدث خلال فترة طفولة الإنسان الطويلة نسبيًّا.

وعن طريق الرمز تسنى للناس أن يستوعبوا كافة طرائق الحياة التي تشتمل عليها الحضارة، وعن طريق الرمز أيضًا لم يَعُد الإنسان في حاجة إلى تعلم الأشياء عن طريق التجربة الشخصية، باستثناء الأدوات والآلات المعقدة، وعن طريق الرمز أيضًا أصبح في الإمكان أن يبني الإنسان الكثير من الإضافات على ميراثه الاجتماعي والحضاري، ومن ثم كان التطور المستمر للحضارات والبقاء المستمر للإنسان على الأرض رغم تغير الظروف الإيكولوجية أو تغير أوطان الناس نتيجة الهجرة الحرة أو الإجبارية.

ولم تقتصر الرموز على اللغة والتعليم الحضاري، بل تعدَّتْها إلى رموز معنوية شاسعة الأبعاد؛ إذ يبدو أن الإنسان قد ألف هذه الرموز ونماها لكي تعطيه تعبيرات إجمالية رائعة ملخصة في رمز واحد. فالهلال أصبح يرمز للإسلام والصليب للمسيحية، وهما رمزان يعبر كل منهما عن مجموعة هائلة من المعاني المتركبة من الدين، والعقائد، والشعائر والممارسات الطقسية في المولد والوفاة، والممارسات الاجتماعية فيما بين المولد والوفاة، ومجموعة من العقائد الخاصة بالعالم الآخر، ومجموعة من الخلقيات والسلوكيات. وكذلك يعطي هذان الرمزان تاريخًا للشعوب الإسلامية والمسيحية، ويعطيان المكان الجغرافي لتوزيع المسلمين والمسيحيين، وغير ذلك كثير.

وفكر علم الدولة ليس إلا رمزًا للدولة بما تحتويه من مختلف المعاني الجغرافية والتاريخية والحضارية، ومع موجة الثورة الفرنسية بمبادئها التي يرمز إليها العلم المثلث الألوان عمَّتْ بلادًا كثيرةً الأعلامُ المثلثة الألوان، بعد أن تخلصت من الحكم الملكي، وبعد الثورة التي قام بها الحزب الشيوعي السوفيتي أصبح العلم الأحمر رمزًا لكثير من الدول التي دخلت المضمار الاشتراكي.

وهناك أمثلة كثيرة على الرمز ودوره في الحياة الحضارية للإنسان في شتى أشكال الفنون، ففي الشعر أصبحت هناك بحور ترمز إلى نغم كلامي معين، وفي الموسيقى أصبحت هناك رموز توضح نوع المؤلفات الموسيقية؛ كالسيمفونية والكونشرتوا والأوبرا والأوبريت، وفي التصوير أصبحت هناك رموز لتصنيف المدارس الفنية؛ كالتأثيرية والانطباعية والتكعيبية والرمزية … وهكذا يعطي الرمز للإنسان والحضارة ميزة هائلة للتقدم الحضاري بالتجريد المعنوي للمفهومات المختلفة.

(٨) التطبيقية في الإثنولوجيا

أوضحنا من قبل أن الحضارة — برغم اختلافاتها الشديدة — متشابهة في جوهرها بالنسبة لعدد من المسائل الأساسية: الحياة المتجمعة للأفراد في صورة مجتمع يحمي ويؤمن الناس على غذائهم، وينظم حياتهم الزواجية والدينية والخلقية، والحقيقة أن الحضارة عند أي مجتمع هي الوسيلة الوحيدة التي تعطي المجتمع الحد الأدنى من إشباع الحاجيات الفسيولوجية والنفسية للأفراد في صور وأنماط متفق عليها. فإذا ما فشلت الحضارة في تقديم هذا الحد الأدنى، لأي سبب من الأسباب، مثل عجز تكنولوجية الإنتاج عن توفير الطعام لعدد متزايد دون أن يكون هناك مخرج يهاجر منه الزائدون؛ فإن مثل هذا المجتمع يتلاشى وينقرض، وقد حدث ذلك في بعض الفترات التاريخية، وفيما قبل التاريخ كان ذلك يحدث كثيرًا.

من الواضح إذن أن دراسة الحضارة تعطي الباحثين معلومات كافية عن طرائق الحياة في ظروف بيئية وحضارية مختلفة متلائمة ومتكيفة معًا. وتتعرض الحضارات للتغير من الداخل ومن الخارج بصفة مستمرة، لكن ذلك كان يحدث دائمًا في الماضي بدرجات محدودة، وكان التغير يسير ببطء شديد يؤدي إلى أن يأخذ التغير مجراه بطريقة صحية لا تؤثر كثيرًا على سلامة المجتمع — إلا في أحوال الغزو المدمر من قبل جماعة حضارية أخرى.

ومع تقدم حضارة العصر الصناعي إلى أطراف الأرض، أصبحت هناك مشكلات حضارية شديدة الإلحاح في غالبية المناطق الحضارية غير الصناعية؛ فقد نُقِلَتْ بسرعة إلى اقتصاديات وتكنولوجيات العصر الصناعي، بينما بقية البناء الحضاري ما زال غير مرتبط بهذا النوع الجديد من النشاط المادي الحضاري. وعلى الإثنولوجيا عبء ضخم في وقت قصير؛ عليها أن تساعد على انتقال بقية البناء الحضاري إلى بناء متجاوب مع ظروف الحضارة المادية والتكنولوجية الجديدة. ويزيد من صعوبة الموقف أن التغير الحضاري في غير قطاعات الاقتصاد — بطبيعته — أبطأ كثيرًا ويحتاج إلى وقت طويل. وبرغم كل هذه المصاعب فالمشكلة قائمة، ولا بد للعلم من الإسهام فيها بالقدر الممكن لإنقاذ الحضارات من التفكك وترك أعداد هائلة من البشر في فوضى وضياع حضاري.

وترتبط التطبيقية في الإثنولوجيا بدراسة موضوعين مهمين؛ هما: (١) التغير الحضاري، و(٢) التكامل الحضاري Integration. وموضوع التغير الحضاري ينقسم إلى قسمين؛ أولهما: حدوث تغيرات في المكونات الحضارية نتيجة تحسينات أو إضافات حضارية، والثاني: دخول استحداثات حضارية من الداخل (كالاختراعات في الحضارة المادية والنظم الاقتصادية، أو استحداثات داخلية في النظم والقوانين والعقائد)، أو من الخارج (أيضًا استحداثات مادية وغير مادية)، والأخيرة يمثلها النقل والاحتكاك الحضاري.
وعوامل التغيير الحضاري تترتب على عدد من الموضوعات الخاصة بالحضارة المتغيرة على رأسها:
  • (١)

    أسس الحضارة الاقتصادية: جماعات تعيش على الصيد أو الزراعة البدائية أو الكثيفة.

  • (٢)

    العلاقات الجغرافية لإقليم الحضارة المتغيرة، ونقصد به الإمكانات المختلفة التي تستطيع الأرض أن تقدمها في النواحي الاقتصادية، كما نقصد به العلاقات المكانية للإقليم ومدى الاحتكاك والنقل الحضاري أو تعرض الإقليم للهجرات والمؤثرات الحضارية.

  • (٣)

    العوامل الديموجرافية: عدد السكان في الحضارة المتغيرة وتوزيعهم داخل الإقليم في صورة متكاثفة أو مبعثرة ووسائل الاتصال فيما بينهم.

  • (٤)

    الأحداث التاريخية: الحروب، والهجرات، والثورات، والقيادات.

  • (٥)

    العوامل النفسية والعقائدية: وهذه تسهل ذلك التغير أو تقف في وجهه كعقبة كبيرة.

وعلى العموم، فإن التغير الحضاري — كما تعرفه الدراسات الإثنولوجية الكثيرة — عملية بطيئة في مجموعها، كما أن التغير يحدث بدرجات متفاوتة داخل أعضاء الجماعة الواحدة نتيجة للتنظيم الطباقي الاجتماعي الاقتصادي أو نتيجة العزلة الجغرافية لبعض أجزاء المجتمع، ولأسباب أخرى.

أما التكامل الحضاري فهو:
  • (١)
    عملية إدخال وامتصاص عناصر حضارية جديدة وتبنيها داخل البناء الحضاري أو المجمعات الحضارية، وتدخل كجزء من عملية التغير الحضاري أو التحضير Accultration (وهنا تجدر الإشارة إلى اختلاف هذا المصطلح عن مصطلح Encultration الذي يساوي عملية إدخال فرد أو جماعة إلى مركب حضاري بالتعليم أو بواسطة الطقوس، مثل عضوية الجمعية السرية).
  • (٢)

    وكذلك يعني مصطلح التكامل الحضاري أن الحضارة قد بلغت درجة من التوازن بعد أن تم إدماج عنصر حضاري أو أكثر داخل بنائها. ومع ذلك فإن هذه حالة نادرة لا تحدث إلا خلال عزلة شديدة؛ فالحضارات دائمة الحركة نتيجة عمليات التكامل المستمرة.

١  Wissler, C., “Man and Culture” New York, 1923.
٢  Frobenius, L., “Die Kulturformen Ozeaniens”, Petermanns Mitteilungen, vol. 46, 1900.
٣  Graebner, F., “Methode der Ethnologie”, Heidelberg, 1911.
٤  أطلق عليها شميت اسم الدائرة الحضارية المغتربة الوحدانية الزواج، وأسماها أيضًا الحضارة الأم Urkultur.
Schimdt, W., & W. Koppers, “Voelker und Kulturen” Regensburg 1924.
Schmidt, W., “The Culture Historical Method of Ethnology” New York 1939.
٥  يعتقد مردوك أن المدرسة النمساوية الألمانية قد أضافت كثيرًا إلى التكامل الحضاري، بغض النظر عن بعض المبالغات، وذلك بالقياس إلى المدرسة الانتشارية الإنجليزية. راجع: Murdock, G., P., “Social Structure”, New York, 2ed., 1965, pp. 191-2.
٦  Benedict., R., “Patterns of Culture” Boston 1934, pp. 78-79.
٧  Kluckhon, C., “Patterning in Navaho Culture” in “Language, Culture and Personality” ed. L. Spier, Menasha, Wisconsin, 1941.
٨  Bastian, A., “Der Mensch in der Geschichte” Leipzig 1860.
٩  Opler, M., “Themes as Dynamic Forces in Culture” Am. Journal of Sociology, Univer. Of Chicago Press, 1945.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤