الفصل الخامس

اللغة إثنولوجيا١

(١) وظيفة اللغة ونشأتها

في كتاب عن الإنسان ككائن حضاري لا يمكن أن تتم الدراسة إلَّا بمعرفة شيء موجز عن اللغة. فاللغة هي أحد الرموز التي تمتلئ بها الحضارات الإنسانية، وهي فضلًا عن ذلك أهم الرموز التجريدية التي ابتكرها الإنسان من أجل إيجاد وسيلة تسهل حياته كعضو في مجتمع. ونحن نلمس هذه الصعوبة حينما نرى أنفسنا وسط أفراد من مجموعة لغوية أخرى لا نعرفها، ولا يمكن لنا أن نتعايش مع هذه المجموعة إلَّا إذا تعلمنا بعضًا من لغتها. والموضوع اللغوي لا يحتوي فقط على هذا الجانب النفعي، فاللغة وسيلة نفع أكبر، فهي لازمة للنقل والوراثة الاجتماعية، وليس ثمة تعميم لأهمية اللغة أكثر من ذلك.

فاللغة — كما قال إدوارد سابير E. Sapier — عمل ضخم لا شعوري من إنتاج الأجيال المتعاقبة، وهي بذلك جزءٌ هامٌّ من الحضارة لا يساعد الناس على استمرار تجاربهم والإفادة من نتائج هذه التجارب فقط، بل يساعدهم على المشاركة — ودون تحمل عناء التجربة — في تجارب أعضاء المجموعات البشرية المختلفة في الماضي أو الحاضر. والحضارة ككل تتكوَّن من مفهومات مشتركة، وبذلك يصبح مظهرها اللغوي أكثر أجزائها أهمية وضرورة. ويلخص سابير هذا المعنى بقوله: إن اللغة لا تقف وحدها بعيدًا عن التجارب المباشرة أو تسير موازية لها، بل تتخللها تمامًا.٢
ولقد أصبحت دراسة اللغة علمًا وعلومًا متخصصة، لكننا ندرسها هنا ليس من أجل الدراسة اللغوية، بل لأنها جزء من الحضارة الإنسانية كما يدل على ذلك عنوان هذا الفصل. ويتفق بعض دارسي اللغة على أن اللغة وسيلة لنقل الأفكار بين الناس، وفي هذا يقول هنري سويت H. Sweet: «اللغة هي التعبير عن الأفكار بوساطة الأصوات الكلامية المؤتلفة في كلمات.» ويقول إدوارد سابير: «إن اللغة وسيلة إنسانية خالصة وغير غريزية لتوصيل الأفكار والانفعالات (العواطف) والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية … إن اللغة من حيث هي بناء، هي في هيئتها الباطنة قالب الفكر.» وكذلك يقول جيفونز Jevons: «إن اللغة تؤدي ثلاثة أغراض؛ فهي: (١) وسيلة للتوصيل. (٢) إنها عون آلي للتفكير. (٣) إنها وسيلة للتسجيل …» ولكن مجموعة أخرى من العلماء تعارض هذه النظرة إلى اللغة وتصفها بأنها تعطي اللغة تصويرًا ذا مفهوم عقلي بحت، بينما هي لم تكن كذلك في نشأتها الأولى. ونقطة الهجوم الأساسية التي يشُنُّها أوتو يسبرسن O. Jespersen تتركز في أن منشأ اللغة لم يكن فقط من أجل التفاهم وتوصيل الأفكار بين الناس. وكذلك يعترض محمود السعران على تخصيص منشأ اللغة بوسيلة التوصيل، وهو يرى أن اللغات مليئة بالكثيرِ من الوظائف الكلامية التي لا تنقل معنى محددًا، أو لا تعني نقلًا إلى شخص آخر كمصطلحات العبادة والدعاء والتحية والمناجاة الشخصية.٣ ويعترض برونوسلاف مالينوفسكي على هذه الوظيفة للغة ويقول: «إن اللغة في استخداماتها البدائية تقوم بوظيفة الحلقة في النشاط الإنساني المنتظم كجزء من السلوك، إنها ضرب من العمل وليست أداة عاكسة للفكر.»٤ ولكن مالينوفسكي يعود إلى القول: «إن الكلام هو الوسيلة الضرورية للتشارك، إنه الآلة الفريدة التي لا غنى عنها لخلق روابط اللحظة؛ هذه الروابط التي يستحيل بدونها قيام العمل الاجتماعي الموحد.»٥
وسواء كان هذا الرأي أو ذاك، فإن الراجح أن اللغة تقوم في جوهرها لإيجاد الروابط الضرورية بين أفراد المجتمع من أجل تيسير حياة جماعية. وقد مرت دراسة اللغة بمرحلة التأثر بالفكر التطوري الدارويني خلال القرن التاسع عشر، مثلها في ذلك مثل الدراسات الحضارية، وفي خلال تلك الفترة ظهر رواد الدراسة اللغوية الكبار من بين الألمان على وجه خاص، والفرنسيين والأمريكيين بوجه عام. وفي القرن العشرين حدث رد فعل بين الدارسين للغة تجاه المنهج التطوري واتجهوا أكثر إلى المنهج التاريخي.٦
أمَّا كيف تطورت اللغة فهو أمر صعبٌ وشائك، فاللغة ليست مثل البقايا العظمية لهيكل الإنسان أو مخلفاته الحضارية من أبنية وأدوات، ومن ثمَّ لا يستطيع أن يعثر عليها الباحث في حفريات ما قبل التاريخ، لكن الدراسات الأنثروبولوجية (الطبيعية) والأركيولوجية تستطيع أن تعطينا دليلًا استقرائيًّا على أن اللغة قديمة؛ ذلك أن دراسة حجم المخ عند حفريات الإنسان وطلائعه الأولى قد أثبتت أن حجم حفرية ما (مثل القرد الجنوبي) لا يمكِّنه من تكوين لغة ما، وكذلك تدل الدراسات الأركيولوجية على أنه من الراجح أن يكون عند الإنسان الحفري الذي ثبت أنه كان يصنع أدوات حجرية نوعٌ ما من اللغة التي تُبنى عليها تقليد صناعة هذه الأدوات الحجرية.٧ وأكثر من هذا لا تستطيع معلوماتنا المعاصرة أن تمدنا بشيءٍ متبلورٍ عن نشأة اللغة؛ ذلك أن تاريخ أقدم الكتابات للغة ما لا يزيد عن الألف الرابعة قبل الميلاد (حضارات مصر والعراق)، وأن أقدم كتابة للغة هندو-أوروبية (الحيثية) تعود إلى ١٤٠٠ق.م، وأن أقدم كتابة للغة الإنجليزية تعود إلى القرن السابع أو الثامن من الميلادي.

إذن هناك فترة طويلة من الزمن — هي مع التجاوز — تكاد تحتل كل تاريخ الإنسان على ظهر الأرض، وقد تمتد إلى مليون سنة، لا نعرف فيها شيئًا عن لغات الإنسان وتطورها، وكل الذي نعرفه هو أنه كانت هناك لغات عديدة على وجه الترجيح.

هناك بعض الآراء التي تقول إن اللغات بدأت بأنواع من النداء والصياح، صوتيات مجردة تشبه تلك الصيحات عند بعض التجمعات الحيوانية، لكن هناك فوارق كثيرة بين حجم المخ والجهاز العصبي بين القردة العليا وبين الإنسان الحضري، وآراء أخرى تقول إن اللغة بدأت بصوتيات تُقلَّد أو تعطي انعكاسًا للحالة التي تدعو لهذه الجملة الصوتية كالدعوة أو الألم أو الفرح.

لكن مثل هذه الآراء ستظل مجرد آراء بغير دليل. وأيًّا كان شكل البداية اللغوية، فالراجح أنه حدث الكثير من الإبدال والتغير والإضافة والإسقاط مما لا يمكن حصره، إلى أن ظهرت اللغات الحالية.

والأمر الذي يكاد يتفق عليه الإجماع، هو أن اللغة في بداياتها كانت مجموعة مبهمة من التعبيرات الصوتية التي لا يفهمها سوى أعضاء المجتمع الواحد. ولما كان المجتمع الإنساني في العصور الحجرية، وفي حياة الصيد والجمع، لا يتكون المجتمع إلَّا من عددٍ صغيرٍ جدًّا من الناس قد لا يزيد عن بضع «أسر» (بالمعنى الاستعاري الواسع جدًّا للأسرة) تتكون من عدد من الأعضاء لا يزيدون عن مائة شخص، ولما كانت حياة الصيد والجمع تستدعي أن يكون لكل «مجتمع» من هذا النوع مساحة كبيرة تمارس فيها نشاطها الصعب بغية الحصول على الغذاء؛ فمعنى ذلك أن «المجتمعات» الإنسانية كانت مبعثرة متباعدة، ومن ثمَّ فإنه كانت هناك «لغات» بالآلاف تبعًا لعدد المجتمعات المبعثرة. ومع تطور المجتمعات في تكنولوجية الإنتاج: استخدام طرائق جديدة في صناعة الأدوات الحجرية أو الخشبية أو شكل الصيد وأنواع الفخاخ وغير ذلك؛ فإن الراجح أن «اللغات» قد أخذت تثري وتتحدد بعض المعاني لبعض الصوتيات. وبرغم تبعثر «المجتمعات» إلَّا أن حركتها الدائمة وهجراتها قد أدت — دون شك — إلى أنواعٍ من الاتصال والاحتكاك فيما بينها، وقد يساعد ذلك — برغم أنه في غالبيته قد يكون اتصالًا عدائيًّا — على بعض الإضافات اللغوية.

وفي المناطق ذات الصيد الوفير الدائم كانت المجتمعات البشرية تتزايد داخليًّا، وكذلك تتزايد نتيجة تدافع الهجرات إلى هذه الأماكن الغنية، وتزايد أعضاء المجتمع — من بين أشياء كثيرة — يؤدي أيضًا إلى اتجاهات نحو تحديدات لغوية تزداد شيوعًا مع التخلي عن الكثير من الصوتيات المحلية. ومن هنا يبدأ التقارب اللغوي وينمو بنمو عدد أعضاء المجتمع؛ ولهذا فإن آلاف التغيرات قد حدثت عن اللغة بحيث لا نستطيع الاهتداء إلى أصولها القديمة. ولا شكَّ أن اللغة في مجموعها قديمًا وحديثًا كانت وما زالت تختلف فيما بينها؛ لأنها تعبر عن انعكاسات للظروف الجغرافية والاقتصادية التي يعيشها الناس.

وبالرغم من أن الصورة التي قدَّمناها صورة منطقية، إلَّا أنها ليست بالضرورة صحيحة. ومهما يكن من أمر؛ فإنه مما لا شكَّ فيه أن البحث في أصول اللغات يكوِّن جانبًا من الدراسة اللغوية، لكنه ليس كل الدراسة، وليس أهم أجزائها، فالجزء الأهم هو دراسة العملية الدينامية في التغير اللغوي وليس تقصي الخامات الأولية للغة.

(٢) تصنيف اللغات المعاصرة

قد تزيد أعداد اللغات التي يتكلمها الإنسان المعاصر عن ثلاثة آلاف لغة، وبرغم ضخامة هذا العدد من اللغات إلَّا أن المدقق يستطيع أن يعرف أن هذه اللغات — أو على الأقل عددًا لا بأس به منها — ينقسم بدوره إلى «لغات» فرعية. فالحقيقة أن وجود اللغة المتماثلة تمامًا عند كل أعضائها يكاد أن يقتصر على لغات أمية تنتشر بين مجتمعات وقبائل صغيرة العدد. أمَّا اللغات الأمية أو المكتوبة التي تتكلم بها قبائل كبيرة أو شعوب وقوميات، فإنها — بحكم الموقع الجغرافي والعلاقات التاريخية — تنقسم إلى عدة لهجات تنفصل عن بعضها انفصالًا يكاد يبلغ بها مرتبة اللغة. وفي اللغات المكتوبة نجد عدة أقسام نتيجة التفاعلات التاريخية والجغرافية، فاللغة المكتوبة — بوصفها انعكاسًا وتعبيرًا عن قومية معينة — قد امتصت مجموعات لغوية متقاربة أو متباعدة وفرضت عليها لغة قومية واحدة. وبرغم ذلك تنقسم هذه المجموعة القومية إلى عدة أقسام، أقلها ثلاث مجموعات لغوية أو ثلاث لهجات؛ الأولى: هي لغة الكتابة، وهي التي يتفاهم بها كل أعضاء هذه المجموعة القومية، كما أنها تكاد أن تكون اللغة الوحيدة للمتعلمين والمثقفين، والثانية: هي ما يمكن أن نصطلح عليها باسم اللغة الإقليمية، وقد تكون هناك أكثر من لغة إقليمية، أو قد تكون من التقارب بحيث يمكن أن نسمِّيها اللهجات الإقليمية. وأخيرًا فإن هناك اللغة العامية أو اللهجة العامية التي تميِّز مناطق داخل الأقاليم أو مدنًا داخل المناطق أو أحياء داخل المدن.

fig43
شكل ٥-١: المجموعات اللغوية في العالم القديم (قبل ق١٦).

(أ) المجموعات اللغوية الرئيسية: (١) أورال-ألتاي. (٢) هندو-أوروبية. (٣) مغولية-صينية. (٤) سامية-حامية. (ب) المجموعات اللغوية الثانوية: (٥) أوسترونيزيا. (٦) اليابانية. (٧) الكورية. (٨) الدرافيدية. (٩) البانتو. (١٠) النيجر-كنغو (غرب أفريقيا). (١١) سودانية (نيجر-كردفان). (١٢) بشمن هونلتوت. (١٣) شمال شرق سيبيريا. (ﺟ) مجموعات لغوية أخرى: (١٤) لغات غير مصنفة.

وبرغم أننا نقول لهجات، إلَّا أنها في الواقع لغات أكثر منها لهجات؛ لأن لها بعض المفردات الخاصة، وتركيبات لغوية خاصة وقواعد ونحو خاص. ولنا في كافة اللغات الكبرى أمثلة على ذلك. فإذا أخذنا اللغة العربية فإننا نجد فيها لغة الكتابة الموحدة (مع اختلافات في الأسلوب والاستخدامات اللفظية ترجع إلى العلاقات التاريخية والمكانية المختلفة)، ثم نجد اللغات أو اللهجات الإقليمية، فشتَّان ما بين اللهجة الإقليمية في العراق وتلك التي في المغرب، أو بين اللهجة المصرية واللهجة الشامية، وفي داخل هذه اللهجات الإقليمية لغات أو لهجات عامية محلية كثيرة.

وكذلك الحال في الإنجليزية المستخدمة في أمريكا الشمالية، فوارق إقليمية كثيرة بين الولايات الشمالية الشرقية في الولايات المتحدة وبين الجنوب أو الجنوب الغربي، ولغات ولهجات عامية تكاد أن تميِّزَ كل ولاية على حدة. وفي إيطاليا تختلف اللغات أو اللهجات الإقليمية كثيرًا في الجنوب عنها في توسكانيا، وعن تلك التي في سافوي، أو في صقلية، أو في كالبريا أو سردينا.

وإذا تركنا هذه التفريعات جانبًا فإننا نجد مجموعات اللغات العالمية الرئيسية المعاصرة تتوزع على النحو الإقليمي التالي (انظر الخريطة رقم ٥-١):
  • أولًا: في وسط العالم القديم تمتد مجموعة من اللغات تُسمَّى لغات أورال-ألتاي، وتشتمل على التركية والفينو-أوجرية، ومجموعة من لغات سكَّان شمال أوروبا وآسيا. وتحتل هذه المجموعة اللغوية مثلثًا كبيرًا رأسه في الجنوب تمثله تركستان السوفيتية والصينية، وترتكز قاعدة هذا المثلث على المحيط المتجمد الشمالي فيما بين شمال إسكندنافيا وفنلندا في الغرب إلى حوض نهر لينا في سيبيريا الشرقية في الشرق. ولهذه المجموعة اللغوية مناطق منعزلة في الغرب يمثلها شعبَا تركيا والمجر.
  • ثانيًا: إلى الغرب من المجموعة السابقة وإلى الجنوب منها تمتد مجموعة لغوية ضخمة من اللغات التي تُسمَّى المجموعة الهندو-أوروبية (سابقًا الهندو-آرية)، وتشتمل هذه المجموعة على اللغات الأوروبية في مجموعها، وتمتد في إيران وأفغانستان ومعظم الهند، كما أصبحت تمتد عبر الأطلنطي إلى الأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا.
  • ثالثًا: إلى الجنوب من المجموعة الهندو-أوروبية تمتد مجموعة اللغات السامية-الحامية في مساحة كبيرة من غرب آسيا وشمال أفريقيا إلى حدود السفانا الأفريقية، وتشتمل أيضًا على القرن الأفريقي.
  • رابعًا: إلى الشرق والجنوب الشرقي من مجموعة أورال-ألتاي تمتد مجموعة اللغات المغولية-الصينية في مساحة هائلة في شرق آسيا وجنوبها الشرقي.
  • خامسًا: مجموعات متفرقة من اللغات المختلفة في أفريقيا المدارية والجنوبية، وفي جزر المحيط الباسيفيكي وإندونيسيا.
fig44
شكل ٥-٢: توزيع اللغات والمجموعات اللغوية في أوروبا.

(١) اللغات الهندو-أوربية: (أ) المجموعة اللاتينية: (١) الإيطالية. (٢) الرومانشية. (٣) الفرنسية والوالون (بلجيكا). (٤) الإسبانية. (٥) البرتغالية. (٦) القطلانية. (٧) الرومانية. (ب) المجموعة الجرمانية: (١) الألمانية العليا. (٢) الألمانية السفلى. (٣) الفلمنك. (٤) الهولندية. (٥) الفريزيان. (٦) الدانمركية. (٧) السويدية. (٨) النرويجية الدانمركية (ريكزمال). (٩) اللاندزمال. (١٠) الإنجليزية. (ﺟ) المجموعة السلافية: (١) الروسية الكبيرة. (٢) الروسية الصغيرة (أوكرانيا). (٣) الروسية البيضاء. (٤) البولندية. (٥) التشيكية. (٦) السلوفاكية. (٧) البلغاري. (٨) الصربية. (٩) الكرواتية. (١٠) السلوفينية. (د) لغات هندو أوروبية متفرقة: البلطية الشرقية: (١) لاتفيا. (٢) لتواني (د أ) اليونانية (د ب) الأرمينية (د ج) الكردية. (٢) لغات أخرى: (ﻫ) لغات أورال-ألتاي: (١) الكومي. (٢) المودرفين. (٣) اللاب. (٤) كاريليا. (٥) الفن. (٦) أستوني. (٧) المجري. (٨) تتار القرم. (٩) التركي. (و) اللغات السامية الحامية: (١) (و) عربية. (٢) (و أ) بربرية. (ز) لغات أخرى: الكلتية (غالبًا هندو أوروبية): (١) ويلش. (٢) جيلك أيرلندا. (٣) جيلك اسكتلندا. (٤) الباسك. (٥) الألبانية. (٦) مجموعات لغات القوقاز.

ومشكلة نشأة هذه اللغات وانتشارها ما زالت مشكلة جوهرية، وأكثر المجموعات اللغوية التي دُرِست دراسة كافية هي المجموعة الهندو-أوروبية، والرأي الغالب أن الهندو-أوروبية قد نشأت في مكان ما من وسط آسيا أو منطقة بحر قزوين أو الهضبة الإيرانية الأفغانية، ثم انتشرت جنوبًا إلى الهند، وغربًا وشمالًا إلى أوروبا مرورًا بالأناضول وشمال البحر الأسود وقزوين. أمَّا اللغات السامية، فمعروف أن مكان نشأتها الأصلية في غرب آسيا، ثم انتشرت بعد ذلك إلى أفريقيا. ومركز اللغات الحامية الحالي يقع في القرن الأفريقي وإثيوبيا، ولكن هناك بعض الآراء التي ترجع أصول تكوينها إلى جنوب الجزيرة العربية. والرأي الغالب أن اللغات المغولية — وإن كان هذا الاسم يرتبط بالسلالة أكثر منه باللغة — قد تخصصت في مكان ما من شرق آسيا، ثم انتشرت منه إلى مناطق توزعها الحالية. وفي هذا المجال نجد مجموعة لغوية قديمة في جنوب شرق آسيا وأستراليا تُسمَّى أوسترونيزيا، فهل هي مرتبطة بالمغولية أو متأثرة بها فقط؟

المجموعات اللغوية في أوروبا

برغم انتماء غالبية اللغات الأوروبية إلى عائلة اللغات الهندو-أوروبية، إلَّا أن هناك مجموعات لغوية أخرى لا تنتمي إلى هذه العائلة، أو غير معروف أصولها. فهناك أولًا: لغات أورال-ألتاي التي ذكرناها، وتتكون من لغات اللاب، الفن، إستونيا، كاريليا، برميان، موردوفين، ومجموعات لغوية أصغر في شمال الاتحاد السوفيتي. وترتبط هذه اللغات الأوروبية الشمالية بلغة المجر فيما يُعرَف باسم مجموعة الفينو-أوجرية. وإلى جانب ذلك فهناك مجموعة من الأتراك الذين يعيشون في جنوب شرق أوروبا (حدود تركيا الأوروبية)، بالإضافة إلى أتراك الدانوب الأدنى (الذين كانوا يُسمَّون طوناللي) والذين رحل جزء منهم إلى تركيا.

وهناك ثانيًا مجموعة من اللغات المشكوك في انتماءاتها، مثال ذلك لغة الباسك في جنوب فرنسا وشمال إسبانيا، وكذلك الألبانية في البلقان، وهناك شكوك أيضًا حول قوة انتماء اللغات الكلتية إلى المجموعة الهندو-أوروبية. وتمثل الكلتية حاليًّا لغات الويلش (ويلز) وجيلك Gaelic (في اسكتلندا ونوع منه في أيرلندا) والكورنيش (جنوب غرب إنجلترا) وقد انقرضت الأخيرة تمامًا.

أمَّا المجموعات اللغوية في القوقاز (وتنقسم إلى القوقازية الشمالية والقوقازية الجنوبية، ومنها لغات جورجيا والشركس)، فتتكون من عددٍ كبيرٍ من اللغات الصغيرة غامضة الأصول.

وتتكون مجموعة اللغات الهندو-أوروبية في القارة الأوروبية من المجموعات التالية:
  • (١)

    اللغات اللاتينية أو الرومانية، وتشتمل على: الإيطالية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية، والرومانشية (في جنوب شرقي سويسرا)، والرومانية الحالية في رومانيا.

  • (٢)

    اللغات الجرمانية، وتتكون من: الألمانية العليا (في النمسا وبافاريا وسويسرا)، والألمانية السفلى في وسط وشمال ألمانيا، والفلمنكية (شمال بلجيكا)، والهولندية، والدانمركية، والسويدية، والدانو-نرويجية (جنوب النرويج)، واللاندزمال (وسط وشمال النرويج)، والفريزية (جزو فريزيان)، والإنجليزية (فرع من الفريزية)، والآيسلندية (مرتبطة بلغات النورس القديمة).

  • (٣)

    اللغات السلافية: وتتركز في شرق أوروبا، وتشتمل على: الروسية الكبيرة، والبيلوروسية (روسيا البيضاء)، والأوكرانية (الروسية الصغيرة)، والبولندية، والتشيكية، والسلوفاكية، والبلغارية، والصربية، والكرواتية، والسلوفينية (اللغات الثلاث الأخيرة في يوجسلافيا).

  • (٤)

    اليونانية: وهي لغة قائمة بذاتها، تطورت عن الإغريقية القديمة مع إضافات هندو-أوروبية أحدث.

المجموعات اللغوية في آسيا

تتكون اللغات الآسيوية من أربع مجموعات لغوية رئيسية ولغات أخرى متفرقة:
  • (١)
    المجموعة الهندو-أوروبية: تنتشر في الهند والهضبة الإيرانية الأفغانية، وتشتمل على: الأرمينية في هضبة أرمينيا، والإيرانية بلغاتها العديدة في كردستان وإيران، والأفغانية، والهندية بلغاتها المختلفة في سهل الهندوستان وشمال شبه الجزيرة الهندية.
  • (٢)
    المجموعة السامية: وتشتمل على العربية في كل جنوب غرب آسيا، كما تشتمل أيضًا على العبرية.
  • (٣)
    مجموعة أورال-ألتاي: وتشتمل على التركية في وسط آسيا (تركمانية، أوزبكية، قرغيزية، الترتارية، الأذربيجانية-التركي العثماني)، وتمتد أيضًا في سيبريا الشرقية، ويمثلها أحسن تمثيل مجموعة الياكوت في حوض نهر لينا الأوسط، كما تمتد في شمال سيبيريا بين الساموييد وغيرهم من القبائل الشمالية.
  • (٤)
    المجموعات المغولية-الصينية: وتتكون من عدة مجموعات لغوية، أكبرها الصينية-التبتية (بلهجات ولغات متعددة)، وتشتمل على لغات الصين والتبت وبرما وتايلاند، وعدد آخر من اللغات غير الكبيرة.

وهناك أيضًا اللغات المغولية الأصلية التي يتكلم بها عدد قليل من الناس في الوقت الحاضر رغم شهرتها التاريخية. وتظهر المغولية في جمهورية منغوليا، وبين قبائل متفرقة في وسط آسيا إلى الفولجا (شرقي روسيا الأوروبية)، كما تظهر في منشوريا ومجموعة التنجوس فيما بين نهر آمور ونهر الينسي في سيبيريا.

وإلى جانب هذه المجموعات الرئيسية هناك مجموعات لغوية متفرقة غير مرتبطة أو مشكوك في أصولها وارتباطاتها بالمجموعات اللغوية سابقة الذكر. فهناك في جنوب شرقي آسيا مجموعة اللغات التي تُسمَّى أوسترونيزيا أو اللغات الماليزية-البولينزية، وتشتمل على: لغات ماليزيا وإندونيسيا (لغات عديدة أهمها لغة جاوة)، ولغات الفلبين (اللغة الرسمية لها تاجالوج)، ومجموعات لغوية في مكرونيزيا وميلانيزيا وبوليينزيا، ووسط مدغشقر، ومجموعة لغات بابوا (غينيا الجديدة)، ولغات الأستراليين الأصليين والتسمانيين الذين انقرضوا.

ويبدو أن لغة اليابان غير متصلة بالمغوليين وكذلك كوريا، وفي شمال اليابان وسخالين مجموعة لغة الأينو المنفصلة هي الأخرى، وفي شمال شرق سيبيريا توجد مجموعة من اللغات المنفصلة تتكلمها مجموعات قبلية صغيرة العدد مثل التشوكشي والكورياك والكمتشدال.

أمَّا في جنوب الهند، فتوجد مجموعات لغوية عديدة: أكبرها الدرافيدية (تشتمل على لغات التاميل والمالايلام والتلجو). وعلى سفوح الهملايا مجموعة لغوية تُسمَّى موندا (منها أو منفصلة عنها لغة بوروشاسكي الغامضة)، ثم مجموعة مون خمير Mon Khmer التي تظهر في فيتنام وكمبوديا وبعض المجموعات الشمالية في برما.

المجموعات اللغوية في أفريقيا

يتكون في أفريقيا عددٌ محدودٌ من العائلات اللغوية الرئيسية، وأعداد هائلة من اللغات المنفصلة أو المرتبطة ببعضها ارتباطًا تصنيفيًّا في رأي العلماء، وذلك راجع دون شك إلى قلة الدراسات اللغوية في هذه القارة:
  • (١)
    المجموعة السامية الحامية: وتنتشر في كل شمال القارة وشمالها الشرقي، وأوسع لغات المجموعة السامية هي العربية، إلى جانب مجموعة صغيرة من اللغات الأمهرية والجعزوالتيجرينية في هضبة الحبشة. أمَّا الحامية فهي أقدم بكثير في أفريقيا من السامية، ومن ثم نجد عدة أقسام منها لغات البربر في شمال أفريقيا الغربي، واللغات التبداوية (البجة في شمال شرق السودان) ومجموعات لغوية عديدة في أرتريا، ثم مجموعات الدناكيل والصومالي والجالا في القرن الأفريقي. ويمكن أن يُضاف إلى الحامية لغات سكان النوبة على النيل الأوسط (مع تأثير باللغات الزنجية) ولغات سكان التلال في شمال كردوفان، وكذلك تنتمي اللغة المصرية القديمة إلى الحامية (مع تأثيرات سامية).
  • (٢)
    مجموعة لغات البانتو: تنتشر في جنوب خط الاستواء، باستثناء جنوب غرب أفريقيا، وهذه المجموعة تتكون من لغات عديدة لكنها في مجموعها تتشابه في كثيرٍ من أشكال النحو.
  • (٣)
    مجموعة النيجر – الكنغو: التي تمتد من حوض الكنغو إلى السنغال، وتشتمل على عدد كبير من اللغات المنفصلة.
  • (٤)
    مجموعة اللغات السودانية أو مجموعة النيجر – كردوفان: وتشتمل هي الأخرى على عددٍ كبيرٍ من اللغات المنفصلة غير المعروفة الأصول.
  • (٥)
    مجموعة لغات البشمن والهوتنتوت: وتظهر في جنوب غرب أفريقيا، وهي من اللغات التي تُستخدَم فيها الصوتيات كثيرًا، وتضم أفريقيا أكثر من ألف لغة، لكنها في معظمها لغات صغيرة من حيث عدد المتكلمين بها.

لغات العالم الجديد

لم تُدرَس هذه اللغات بما فيه الكفاية؛ نظرًا لأن التوسع الأوروبي قد أدى إلى انقراضِ عددٍ كبيرٍ من اللغات، أو تغير لغوي نظرًا للهجرات والاندماج وانعزال الأمريند. وحسب المعلومات الراهنة يبدو أن بضع المئات من اللغات التي كانت في أمريكا قد انفصلت عن خمسة أو ستة أصول لغوية آسيوية، هي: مجموعة الإسكيمو والألوت، مجموعة نادينا Nadéné أو أتبسكا في غرب أمريكا الشمالية، ومجموعة أوتو-أزتك Uto-Aztek (من ولاية إيداهو إلى كوستاريكا). وفي أمريكا الجنوبية مجموعة بنوتي Penutian، ومجموعة هوكان سيوان Hokan-Siouan، وهما مجموعتان نظريتان لقلة الدراسة اللغوية في هذا القسم من العالم الجديد.

يتضح من هذا التوزيع الموجز أن الإبهام والغموض يسود الكثير من تفصيلات الدراسة اللغوية لعددٍ كبيرٍ من اللغات، وخاصة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، بينما الدراسات اللغوية متوفرة وجيدة فيما يختص بمعظم اللغات الهندو أوروبية، والسامية، وبعض اللغات الآسيوية كالصينية واليابانية. وبعبارة أخرى: إن لغات الحضارات العليا معروفة دراسيًّا، بينما عبء دراسة اللغات عند غالبية المجتمعات ما زال كبيرًا. ولا شكَّ أن ذلك سيتم بصورة جيدة حينما يقوم بعض سكان هذه المجتمعات بالدراسات المتخصصة في اللغة، وما ينطبق على اللغة ينطبق تمامًا على الحقل الإثنولوجي العام. فلا شكَّ أن الدراسة الإثنولوجية أو اللغوية التي يقوم بها واحدٌ من أعضاء المجتمع، تصبح أكثر دقة وأقرب إلى الحقيقة لو تخلَّص هذا الدارس من بعض التحرج حينما يتناول ممارسات أو عادات غريبة أو مختلفة عن القيم الخلقية السائدة في الحضارة الغربية.

وتعطينا الخريطة رقم ٥-١ صورة عن توزيع المجموعات اللغوية قبل القرن السادس عشر الميلادي؛ أي قبل الكشوف الجغرافية وانتشار الاستيطان الأوروبي إلى مناطق كثيرة من العالم. ولكن أكبر تغيير في خريطة توزيع اللغات، هو ذلك الذي حدث في العالم الجديد؛ حيث انتشرت اللغات الجرمانية (الإنجليزية على وجه التحديد) انتشارًا واسعًا في أمريكا الشمالية وأستراليا وبصورة أقل في أفريقيا الجنوبية. وكذلك انتشرت اللغات اللاتينية (الإسبانية والبرتغالية) في أمريكا اللاتينية، وانتشرت اللغات السلافية (الروسية الكبيرة) في وسط آسيا وجنوب وشرق سيبيريا. وبالإضافة إلى ذلك أصبحت بعض الدول — برغم أو بسبب ما فيها من مجموعات لغوية كثيرة — تستخدم إحدى اللغات الهندو أوروبية لغة رسمية لها. مثال ذلك: استخدام الهند للإنجليزية، واستخدام الكثير من دول أفريقيا الإنجليزية أو الفرنسية لغة رسمية لها (حسب نوع الاستعمار السابق). وكذلك تبحث بعض الدول عن لغات كبيرة تتعامل بها، مثل رغبة الصومال في استخدام اللغة العربية، ومحاولات استخدام السواحلية كلغة رسمية في بعض دول شرق أفريقيا، وعلى الأخص تنزانيا.

وعلى وجه العموم، فإن انتشار بعض اللغات الرئيسية في العالم هو دليل على أنه جزء من عملية انتشار الأنماط الحضارية لهذه اللغات، فهو في حد ذاته عملية انتشار حضاري. وقد حدث ذلك في الماضي كثيرًا؛ مثل: انتشار اللغة العربية، وحروف الكتابة العربية في بعض المجموعات اللغوية المختلفة (الإيراني أفغاني، التركي في آسيا، وكل شمال أفريقيا). والملاحظ في عمليات الانتشار اللغوي الحضاري أن المجموعات التي تقع تحت تأثير مباشر للحضارة القديمة، بحيث يشتمل هذا التأثير أيضًا على هجرة بشرية لمدة طويلة، تتبنى اللغة الجديدة كلامًا وكتابةً وتترك لغتها القديمة كما حدث في غرب آسيا وشمال أفريقيا، أو في الوقت الحاضر كما حدث في العالم الجديد. أمَّا المجتمعات التي تقع تحت تأثير الحضارة الجديدة لفترة أو بدون هجرات بشرية كبيرة العدد؛ فإنها قد تستخدم حروف الكتابة الخاصة بتلك الحضارة دون أن تغير لغتها الأصلية، وقد حدث ذلك عند الفرس والتركمان، وحدث أيضًا عند معظم الجماعات التي لم تكن لديها حروف للكتابة؛ مثل بعض لغات وسط آسيا والقوقاز التي تستخدم الحروف السلافية في كتابة لغتها، ومن المحتمل حدوث ذلك بالنسبة لكثيرٍ من اللغات الأفريقية غير المكتوبة. ولكن لا شكَّ في أن هناك عوامل أخرى كثيرة تلعب دورها في قبول أو رفض لغة الحضارة الجديدة أو حروفها الهجائية غير تلك التي ذكرناها، وعلى رأس هذه العوامل: الخلفية التاريخية، والعلاقات الجغرافية والاقتصادية، وربما أيضًا العلاقات الثقافية والدينية، والتكوين النفسي، وشخصية الشعوب. مثال ذلك أن عزلة اليابان الجغرافية — والتي أكدتها العقائد والتنظيمات الاجتماعية والسياسية في اليابان خلال معظم تاريخها حرصًا على نقاء اليابان أرضًا وفكرًا وروحًا — قد أدَّت إلى شخصية يابانية معينة. وحينما انتقلت اليابان إلى الحضارة الصناعية بسرعة وقوة في أوائل هذا القرن، وبرغم احتياجها إلى حروف كتابة أسهل من الحروف التقليدية كي يمكِّنها أن تنقل أيضًا كل المصطلحات العلمية المجردة والتطبيقية — وكلها لم يكن لها نظير في اللغة اليابانية — فإنها ظلت محافظة على لغتها وعلى أبجديتها.

(٣) فكرة اللغات البدائية

قد يرتبط بذهن الكثيرين أن اللغة عند المجتمعات البدائية لغة بدائية هي الأخرى، ولكن هذه فكرة خاطئة وإن كانت شائعة. ويوضح ما سبق أن ذكرناه عن اليابان كيف يمكن أن يكون الخطأ كبيرًا، فكل لغة — عند المجتمعات البدائية — لغة متكاملة، لها حروفها الصوتية (وإن لم تكن مكتوبة)، ولها مفرداتها، ولها قواعد خاصة بالنحو اللغوي، ولكل هذه اللغات آدابها من مختلف الفنون، فليس صحيحًا أن اللغات البدائية فقيرة وضئيلة بالمقارنة إلى اللغات الكبرى المكتوبة.

ذلك أن اللغة عبارة عن انعكاس لفظي لحياة الناس وبيئتهم الجغرافية ونشاطهم الاقتصادي وعلاقاتهم العاطفية والقانونية والسياسية والدينية في الماضي وفي الحاضر، كما أنها انعكاس لطموحهم وآمالهم في المستقبل، ومن ثمَّ فإن كل اللغات مليئة بوقائع الحياة وتجارب الماضي وتخيُّلات المستقبل، وفوق هذا مليئة بأعماق النفس وعوالم الأرواح وما وراء الطبيعة.

وصحيح أن التجريد الفكري مرتبط بالحضارات العليا، ومرتبط كذلك بالوصول إلى فكرة «الصفر» الحسابي، وقد يعني هذا أن الحضارات البدائية في مجموعها ولغاتها تجريبية أكثر منها تجريدية، ولكن التجريد مسألة يصعب على الباحث أن يتعرف عليها عند مجتمع لا يعرف الكثير من لغته أو ممارساته اللغوية الخاصة عند خاصة المجتمع (فالتجريد — حتى عند الشعوب ذات الحضارات العليا — ليس ممارسة عامة للناس كافة، بل ممارسة خاصة بالمناطقة وذوي الثقافة العالية، بينما بقية الناس يتحدثون بلغة التجربة والممارسة أكثر من لغة الفلسفة). وكذلك فإن الكثير من الحديث بين الباحث وبين أعضاء المجتمع البدائي الذي يدرسه غالبًا ما يكون مُوجَّهًا من قبل الباحث في صورة تساؤلات، ومن ثم تتحدد الإجابات وتأخذ الطابع الإعلامي وليس الفلسفي، حتى ولو كان مرتبطًا بالعقائد والديانة.

وكذلك يجب أن نلاحظ أن مصطلح «بدائي» — كما ذكرنا من قبل — لا يدل إلا على تخلف في نواحي الحياة المادية وأنماط الاقتصاد ووسائل الانتقال. ومصطلح بدائي يجب أن يُضاف إليه دائمًا الجانب المادي من الحضارة؛ أي بدائي تكنولوجيًّا. وفيما عدا ذلك فإن لكل مجتمع وحضارة أنماطها المختلفة التي لا يمكن أن تُقاس بمقياس حضاري معين، كأن نقيسها بالقياس الحضاري الغربي. وينطبق على اللغة ما ينطبق على الحضارة، فليس هناك مقياس تُوضَع بمقتضاه لغات في أعلى القائمة وأخرى في أسفل القائمة، ومع ذلك فإن اللغات تختلف فيما بينها في غناها أو فقرها النسبي في ناحية أو نواحٍ من التعبير الحضاري؛ فاللغة العربية في الجاهلية كانت غنية في مترادفات خاصة بالحماسة والمديح والغزل والهجاء، ثم أصبحت بعد نزول القرآن الكريم غنية في نواحٍ حضارية كثيرة على رأسها الدين والتنظيم الاجتماعي والقانوني، ثم زاد غنى اللغة في النواحي العلمية بعد الامتزاج الحضاري بين العرب والفرس واليونان والهنود. وتتقبل اللغة العربية في العصر الحالي الكثيرَ من المصطلحات التكنولوجية المرتبطة بالحضارة الصناعية، وكذلك اللغات عند الجماعات البدائية في الوقت الحاضر تفتقر إلى الكثيرِ من المفردات في جوانبها الحضارية المادية والعلمية الحديثة، ولعلها أيضًا تحتاج إلى مزيد من المفردات في النواحي الدينية إذا ما تقبلت ديانة جديدة.

(٤) بعض خصائص اللغات وتخصصاتها

ويمكننا أن نلاحظ أن اللغات في مجموعها تختلف في بعض الأحيان من حيث استخدام المفردات. فبعض اللغات مثل الصينية تُستخدَم الكلمة بمعناها دون إضافات سابقة أو لاحقة على الكلمة ذاتها، وبعض اللغات تستخدم الاشتقاق من جذر معين لاستحداث كلمات أخرى، ولغات أخرى تستخدم وحدة حروف ذات معنى معين أو فكرة معينة يمكن أن نسميها جذرًا أو دالة على معنى لتضيف إليها دالة أخرى أو أكثر، وهذه الدالة تُسمَّى وقد نُقِلت إلى العربية أحيانًا دون ترجمة؛ أي «مورفيم» morphem.٨ وإضافة الدالات إلى بعضها يعطي كلمات جديدة، مثل الكثير من اللغات الهندو-أوروبية: الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية مثلًا، وهكذا تختلف اللغات فيما بينها في تكوين المفردات اللغوية، وقد تكون وسيلة من الوسائل أكثر دقة لوضوح معنى الكلمة أبدًا، وقد تكون الاشتقاقات أو إضافة الدالات وسيلة أحسن من حيث إمكانية متابعة النمو اللغوي دون الحاجة إلى نحت جذور جديدة، ولا شكَّ أن هذه أو تلك من الوسائل مرتبطة باعتيادات الناس واحتياجات التعبير، وليس لها أي دلالة على تقدُّم أو تأخُّر في مجالات اللغة.

ومثل ذلك أيضًا أن لبعض اللغات تركيزًا على حروف صوتية معينة، كإذابة النون والجيم مع التنغيم عند لغة الشلك (جنوب السودان)، كالضاد أو القاف أو العين في العربية، أو الشين أو الخاء عند اللهجات الألمانية، ولا يرتبط هذا بأي تكوين جسدي أو سلالي، بل إنه مجرد اعتياد على النطق يمكن تعلمه.

وهناك بعض اللغات — كالعربية — التي تستخدم المثنَّى، بينما لغات أخرى تستخدم المفرد والجمع فقط، ولغات تستخدم مصطلحات وضمائر مختلفة للمخاطب فيما إذا كانت العلاقة رسمية أو ودية، أو ضمير الجمع لاحترام المخاطب، أو ضمير الغائب أيضًا زيادة في التبجيل والاحترام، كما في اللغة اليابانية بدرجة مفرطة.

وأخيرًا فإن اللغة — بحكم تغيرها الدائم وزيادة المنتجات الإنسانية في الحضارة الصناعية على وجه الخصوص — قد أصبحت تضم الكثير من المفردات والمصطلحات المتخصصة، ويصعب الآن على الشخص الواحد أن يلم بأطراف لغته دون الاستعانة بالمعاجم، بينما عند الحضارات البدائية يسهل على الفرد الإلمام بغالبية مفردات اللغة؛ لأن التخصص الشديد لم يغزُها بعد. صحيح أن هناك مفردات كثيرة في لغات المجتمعات غير الصناعية التي تصف بالدقة مظاهر الطبيعة التي يعيشون فيها، مثل مئات المفردات التي يحدد كل منها مظهرًا معيَّنًا من مظاهر التكوين الرملي أو الصخري عند بدو الصحراء، وعشرات المفردات التي تحدد عند الإسكيمو أشكال السطوح الجليدية العديدة مهما كانت درجة الاختلاف بسيطة، بينما عند غيرهم لا نجد غير مفردات تجميعية مثل الصحراء أو الكثبان أو الجليد. ولكن كل بدوي أو كل إسكيموي يعرف هذه المصطلحات مهما كثرت؛ لأن لها دلالات خاصة في الصيد أو الرعي أو التنقل والترحال، وبدون هذه المعرفة يضيع الشخص في متاهات قاحلة مهلكة، ويرجع ذلك — كما سنعرف فيما بعد — إلى أن الفرد (أو عدد قليل جدًّا من الأفراد) يستطيعون أن يكوِّنوا وحدة اقتصادية كاملة، أمَّا في المجتمعات ذات الحضارات العليا، فإن التخصص في النشاط الحرفي قد أدى إلى تخصصات لغوية لا يفهمها سوى أبناء الحرفة، ومع ذلك فكل أشكال الحرف والمهن لا بدَّ لها من أن تترابط لتكون وحدة اقتصادية متكاملة يعيش من خلالها المجتمع، ومن ثم أصبح من الصعب على الأفراد في المجتمعات المعقدة الإلمام بكل المصطلحات اللغوية في مجتمعهم.

(٥) الكتابة

برغم قدم اللغات، فإن كتابة اللغة أمرٌ حديثٌ جدًّا في تاريخ الإنسان. صحيح أن الإنسان في العصر الحجري القديم الأعلى — وبعض المجتمعات البدائية الأمية — قام بالتصوير والنقش على جدران الكهوف والحوائط الصخرية، إلَّا أن هذا النوع من التسجيل للحظة معينة لا يمكن أن يُعتبَر بداية الكتابة. وحتى حينما استقر الإنسان كمزارع في العصر الحجري الحديث، فإنه لم يطوِّر أبجدية للكتابة، فلم تكن الظروف دافعة إلى هذا الكشف، وقد سمحت الظروف بالاتجاه نحو الكتابة في الألف الرابعة قبل الميلاد (وربما أبعد من ذلك قليلًا) في مصر،٩ كما سمحت ظروف أخرى بأن يكتشف شعب المايا في أمريكا الوسطى أن يخترع الكتابة (مستقلًّا عن غيره فيما يبدو حتى الآن) في حوالي الألف الأولى قبل الميلاد.

والظروف التي تدعو لاختراع الكتابة عديدة، وقد تتفاعل كلها مرة واحدة في منطقة كمصر القديمة، أو يتفاعل بعضها في إيجاد الرغبة للتدوين، وعلى رأس هذه الظروف الاحتياج إلى التدوين والتسجيل لكي لا ينسى الإنسان. والمتفق عليه أن نمو التجارة الداخلية والخارجية في المجتمع المصري القديم — نتيجة انقسام المجتمع إلى تخصص إنتاجي في الزراعة والحكم والجيش والإدارة والنمو الديني وقيام وظائف الخدمات — ونمو طبقة رجال الدين قد ساعد على ظهور فكرة التدوين والتسجيل، وأهمية التسجيل بالنسبة للتجارة والتجار غنية عن التعريف. أمَّا بالنسبة لرجال الدين فإن المسألة كانت جوهرية أيضًا لضرورة كتابة النصوص الدينية وحفظها من الضياع، بالإضافة إلى أن عبادة الشمس القديمة والحديثة (آمون، ورع) قد اضطرت رجال الدين إلى الإبداع في الرياضيات والفلك والحساب لتحديد ورصد الشمس وغيرها من النجوم والكواكب. وبالنسبة للحكم، فإن التدوين كان ضروريًّا لقياس مياه الفيضان، وتسجيل مساحة الزراعة، وتقدير الضرائب، وتقدير ميزانية الإدارة والجيش، وغير ذلك من أعمال الدولة، واشتراك هذه الظروف مجتمعة قد أدى إلى اختراع الكتابة مبكِّرًا في مصر. ويبدو أن الخط المسماري الذي اكتُشِف في حضارات العراق القديمة كان هو الآخر اختراعًا مستقلًّا في فترة معاصرة لنشأة الكتابة في مصر، وفي الصين بدأت الكتابة حوالي ٢٠٠٠ق.م.

وأول شكل للكتابة كان ذلك النوع الذي يُسمَّى الخط التصويري ideograph — أي إن الصورة تعبر عن كلمة أو مورفيم، ثم تطورت الصورة إلى نوع من الرمز المصور، وتحوَّل هذا إلى التعبير عن جزء من الكلمة، ثم أصبحت هناك رموز خالصة ترمز إلى الحروف الساكنة (لم يطوِّر المصريون حروفًا متحركة). ويرى علماء المصريات أن الكتابة الهيروغليفية — برموزها المصورة — لم تكن مجرد صورة تنقل إلى الناظر معنى فقط، بل أكثر من هذا كانت تنقل له «فونيم»؛ أي لفظة صوتية، وبالتالي فهي ليست صورًا محدودة المعنى، بل حركات صوتية — أي نوع من الحروف الهجائية — وإلَّا لما تطورت الهيروغليفية كتعبير لا نهائي للكلام. وبرغم أن الكاتب المصري قد طوَّر بعد ذلك الكتابة الهيراطيقية (٢٠٠٠ق.م) للكتابة بالقلم على ورق البردي، ثم الديموطيقية (حوالي ٧٠٠ق.م) للكتابة العادية بعد أن تحولت الهيراطيقية إلى كتابة الطقوس الدينية والشئون الرسمية، في صور هجائية (٢٠ حرفًا هجائيًّا ساكنًا)؛ إلَّا أن الهيروغليفية ظلت الطريقة التي تُسجَّل بها الأشياء على المعابد والمقابر والتماثيل والمسلَّات، لما لها من مزايا فنية رائعة، وما ارتبط بين المصريين وبينها من روابط قومية وعاطفية.
وفي رأس شمر (فينيقيا الشمالية) اكتُشِفَتْ رسائل تَعُود إلى أوائل الألف الثانية قبل الميلاد بخط مسماري معدَّل، وأخرى برموز هجائية معدَّلة عن الهيروغليفية المصرية (بواسطة الخط السينائي؛ نسبة إلى سيناء) مكوَّنة من ٢٢ حرفًا،١٠ وقد استعارها الإغريق ثم الرومان بعد ذلك.

ولقد ظلَّت الكتابة قاصرة على طبقة معينة من الكتَّاب؛ ولهذا لم تشع كثيرًا بين الناس، وكذلك لم يكن للكتابة في تلك الأوقات — وحتى بعد عصر النهضة الأوروبية — أثرٌ واضحٌ في المفردات والمصطلحات التي يستخدمها الناس في كلامهم العادي. ولكن لا شكَّ أن تسجيل اللغات كتابة قد حفظ اللغة من الضياع، وساعد على بقاء كثيرٍ من المورفيمات التي يُضاف إليها وتتجدد معانيها مع تطور الزمن. ومع انتشار التعليم في أوروبا ثم في أنحاء مختلفة من العالم، نجد للكتابة أثرًا واضحًا على لغة التخاطب اليومية، وأصبح هناك اتجاهات عند كثيرٍ من اللغات إلى التقارب بين لغة الكتابة ولغة التخاطب.

وإلى جانب ذلك فإن الكتابة والتسجيل كان لهما دورهما الحيوي بالنسبة لنمو العلوم كافة، فلم تعد التجارب والخبرات العلمية تُنسى وتُهمَل ويُعاد كشفها، بل إن الكتابة كانت المادة الخام التي بُنيَ بواسطتها صرح العلوم جميعًا. ولقد أصبح عصرنا الحالي هو عصر التسجيل الدائم، خاصةً بعد تسهيلات الطباعة والنشر والنقل، ولا شكَّ أن هذا التقارب بين أجزاء العالم وتعلم لغات عديدة إلى جانب اللغة القومية قد أدَّى إلى الرغبة في مزيد من التقارب بإنشاء لغة دولية، ولكن اللغة الدولية الأولى — الإسبرانتو Espranto — لم تَلْقَ نجاحًا حتى الآن، وهناك اتجاهات إلى أن تصبح الإنجليزية لغة دولية (وهي لغة التجارة الدولية حاليًّا)، لكن النزعات القومية التي لم يتغلب عليها العالم إلى الآن سوف تؤخر وصول العالم إلى لغة دولية يرتضيها الجميع.
١  Ethnolinguistics.
٢  آراء إدوارد سابير الواردة هنا والمنقولة عن كتابه «اللغة» نيويورك ١٩٢١، ومقالة «اللغة» في دائرة معارف العلوم الاجتماعية (١٩٣٣) عن مقال لهاري هويجر باسم: Hoijer, H, “The Relation of Language to Culture” in “Anthropology Today”, ed. A. Kroeber, Chicago 1953.
٣  لمراجعة آراء سويت، جيفونز، يسبرسن، الواردة هنا ارجع إلى: السعران، محمود، «اللغة والمجتمع: رأي ومنهج» الطبعة الثانية-المعارف، الإسكندرية ١٩٦٣، صفحات ١١–٢٤.
٤  السعران، محمود، المرجع السابق ص١٧ وص٢٠.
٥  السعران، محمود، المرجع السابق ص١٧ وص٢٠.
٦  يمتلئ تاريخ الدراسات اللغوية في القرن التاسع عشر بالباحثين الألمان أمثال فرانز بوب F. Bopp، ياكوب جريم J. Grimm، وأوجست فريدريخ بوت A. F. Pott، ورازموس راسك R. K. Rask، وأوجست شليشر A. Schleicher، وماكس ميللر M. Möller، وهرمان باول H Paul، وفيلهلم فونت W. Wundt، وغيرهم كثيرون، إلى جانب وليام هويتني W. D. Whitney (الأمريكي)، وهنري سويت H. Sweet (الإنجليزي) وفرناند دي سوسير F. de Saussure (الفرنسي). راجع محمود السعران: «علم اللغة: مقدمة للقارئ العربي»، المعارف، الإسكندرية ١٩٦٢، ص٣٦٤–٣٧٠.
٧  راجع الفصل الثالثً من القسم الأول من هذا الكتاب.
٨  السعران، محمود، «علم اللغة» المعارف، الإسكندرية ١٩٦٢، ص٢٣٤ (الهامش).
٩  يعود الأستاذ بيير مونتيه — عالم المصريات — بالكتابة المصرية إلى عصر النحاس. انظر: Montet, P., “Eternal Egypt”, English trans., Mentor, New York, 1968, p. 237.
١٠  Cottrell, L., “The Concise Encyclopedia of Archaeology”, Hutchinson, London, 1970, p. 299.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤