الحضارة المادية
(١) محتوى الحضارة المادية
- أولًا: أدوات جمع وإنتاج الغذاء، وتختلف اختلافًا كبيرًا من حيث النوع والعدد حسب الأنماط الاقتصادية السائدة.
- ثانيًا: المسكن والأثاث الذي يحتويه، وخاصة المطبخ ونوع الموقد وأشكال الأوعية المستخدمة في حفظ الطعام (قبل أو بعد طهوه)، والأوعية المستخدمة في الطهو والأكل.
- ثالثًا: الملبس والزينة الشخصية، وتختلف باختلاف خامة الملابس وأدوات إنتاج هذه الملابس (جلود، فراء، نسيج، مغزل، نول)، وخامة الزينة أشكال مضافة (الحلي بأنواعها وخامتها من الأصداف إلى اللآلي والألماس)، أو أصباغ وألوان ثابتة (الوشم)، أو غير ثابتة (المكياج القديم والحديث) وتصفيف الشعر، ويدخل أيضًا تحت قائمة الزينة التشويهات المتعمدة في الجسم للوصول إلى شكل جمالي متعارف عليه عند المجتمع المعني.
- رابعًا: أدوات طقسية تُستخدَم في العبادة (كالأيقونات والتماثيل أو الحراب أو غير ذلك)، وفي مناسبات طقسية معينة (طقوس البلوغ والختان والتعميد)، وفي الأفراح وفي الوفيات.
- خامسًا: الألعاب والفنون والأصباغ والألوان.
- سادسًا: أدوات الدفاع أو الهجوم — الأسلحة — وبعض هذه الأسلحة يُستخدَم أيضًا في الصيد والسماكة.
- سابعًا: أدوات الانتقال البرِّي والمائي (والجوِّي في الوقت الحاضر).
وتحتوي الحضارة المادية على كل هذه الأقسام عند كافة الحضارات، وإن اختلفت فيما بينها في تعدد الأدوات في واحد أو أكثر من هذا الأقسام، والافتقار إلى هذا التعدد في أقسام أخرى. وعلى وجه العموم فإننا نلاحظ أن أدوات إنتاج الغذاء أو الحصول عليه كثيرة ومتنوعة عند مجتمعات الصيد والسماكة والزراعة الأولية بالنسبة إلى مقتنياتها من أدوات النقل والملابس والألعاب والزينة وغير ذلك، بينما تنقلب الآية عند الحضارات المتقدمة. ولا يعني هذا أن أدوات إنتاج الغذاء عند البدائيين أكثر من مثيلتها عن المجتمعات المتقدمة، بل العكس تمامًا هو الأمر الواقع، لكن المقصود هنا هو مقدار التناسب في عدد الأدوات داخل كل حضارة على حدة.
(٢) التكنولوجيا والطاقة

والحقيقة أن الإنسان إلى جانب استخدام طاقته العضلية كان يصنع بعض أدواته في صورة آلات كانت تستخدم بعض القوانين الطبيعية والميكانيكية، لكن المحرِّك أو الطاقة التي تحرِّك استخدام هذه القوانين كانت أيضًا الطاقة العضلية. والكثير من المبادئ المستخدمة حاليًّا في الآلات ما هي إلَّا مبادئ عرفها الإنسان القديم، لكنه لم يكتشف طاقة محركة غير بيولوجية؛ ولهذا كان تشغيل هذه الآلات محدودًا بطبيعة الدفع المحدود لعضلات الإنسان أو الحيوان.
ومن بين هذه القوانين الطبيعية التي استخدمها الإنسان طاقة الجاذبية في صورة استخدام الفأس الحجرية أو الهاون، فهو يرفع هذا الثقل ويتركه يهوي بقوة الجاذبية، وقد استخدم طاقة الحمل للمياه في النقل في صورة الأرماث (الطوف)، أو القوارب المحفورة من جذوع الشجر، أو القوارب المصنوعة من الجلد على هيكل من الخشب أو البامبو، لكن استخدام طاقة الرياح جاء متأخرًا جدًّا. كذلك استخدم البدائيون عصا الرمي ذات الثقل في أحد أطرافها (بانتو جنوب أفريقيا) مطبِّقين بذلك مبدأين: الحركة المباشرة (طاقة دفع عضلية) وبين الجاذبية (الثقل المثبت)؛ مما يؤدي إلى زيادة طاقة الضرب.
وقد استخدم الإنسان طاقة مضافة إلى طاقته العضلية لإعطاء مدى أطول وقوة أكبر للقذيفة حينما تصيب الهدف، ويتمثل هذا خير تمثيل في قاذف الرمح واستخدام القوس والوتر المرتد، ومن أجل زيادة توجيه السهم أو الرمح استخدم الريش في نهاية السهم.
وكذلك حوَّل الإنسان منذ القدم الحركة المباشرة إلى حركة دائرية حينما استخدم القوس والوتر للحفر على الخشب أو لإشعال النار، وقد تم ذلك بتثبيت عصا مدببة يربط إليها الوتر ثم يحرِّك القوس فيحدث حركة دائرية للعصا التي تحتكُّ بالخشب المثبَّتة إليه، فترتفع درجة الحرارة؛ مما يؤدي إلى إشعال النار.
وكذلك حوَّل الإنسان الحركة المباشرة إلى دائرية حينما استخدم المغزل البدائي، وهو عبارة عن خيط يُثبَّت إلى طرفه ثقل، وقد استخدم البدائيون أيضًا قانون الروافع في صورة الفخ الذي يأخذ صورة أنشوطة، ويُثبَّت طرفه الحر في وتد أو شجرة. ومن هذا يتضح لنا أن الحضارة المادية عند البدائيين كانت غنية باستخدامات كثيرة لعددٍ من القوانين التي نعرفها الآن، لكن اقتصارهم على استخدام الطاقة العضلية جعل إمكانية التقدم محدودة، بينما الطاقة غير الحية تعطي الإنسان احتمالات وإمكانات واسعة للتقدم في الإنتاج مع جهد عضلي متناقص.
(٣) الابتكارات والاختراعات الرئيسية
يقول المثل الشائع: «الحاجة أم الاختراع.» ولكن هذا المثل — وإن كان ينطبق على عصرنا — إلَّا أنه لا ينطبق على الكثير من الاختراعات الكبرى؛ ففي عصرنا أصبح هناك تخطيط ومناهج للبحوث وتحديد لأهداف البحوث، ومن ثمَّ يمكن أن تؤدي الاحتياجات إلى الاختراع، ومع ذلك فإن بالإمكان الحصول على ابتكارات أو كشوف جديدة من خلال عمل علمي يهدف إلى شيءٍ آخر. أمَّا في الماضي فالكثير من الاختراعات إنما حدثت بالصدفة أو الملاحظة، ثم عن طريق الاستخدام التجريبي.
ولقد ساعدت النار على الكثير من التقدم الإنساني: صهر المعادن، تطهير الأراضي من الغابات والحشائش لإعداد الأرض للزراعة، تغيير طعام الإنسان وإدخال الكثير من المواد ضمن قائمة الغذاء لم يكن في الإمكان تناولها لولا معالجتها بالطهو. ولكن ليس معنى هذا أن كل الشعوب — برغم معرفتها للنار — تطهو طعامها؛ فالإسكيمو كثيرًا ما يأكلون اللحوم نيئة برغم معرفتهم بطرق إشعال النار.
ولكن الفخار لم يُعرَف في الشرق الأوسط إلَّا في النيوليتي (الحجري الحديث)، وهو مزامن للميوليتي في أوروبا، فهل انتقل الفخَّار من الشرق الأوسط إلى أوروبا، أم ظهر في كل منهما كاكتشاف مستقل؟ وترجح أشكال الفخَّار في كل من المنطقتين أنه اكتُشِفَ مستقلًّا، وليس معنى هذا أن عجلة الفخَّار قد اكتُشِفَتْ مستقلة، بل إن غالبية الآراء تؤكد أنها اكتُشِفَتْ في الشرق الأوسط وانتشرت منه إلى المناطق الأخرى.
وبالمثل اكتُشِفَ تشغيل المعادن في الشرق الأوسط مبكِّرًا، ولكن الآراء تختلف فيما إذا كانت معارف العالم بتشغيل المعادن قد انتشرت من الشرق الأوسط، أم أنها اكتُشِفَتْ مستقلة في مناطق أخرى من العالم. وعلى أي حال، فإن قدم المعادن في الشرق الأوسط بالنسبة لبقية العالم، يجعلنا أقرب إلى الاعتقاد بأن استخدام المعادن يمثل انتشارًا حضاريًّا أكثر منه تطورًا مستقلًّا عند الجماعات المختلفة.
- الشرق الأوسط: يعود كثيرٌ من الاختراعات في هذه المنطقة إلى حوالي عشرة آلاف سنة مضت، وذلك بعد اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، ومن أهم ما أعطته المنطقة للعالم — أو لجزءٍ منه — الاختراعات الرئيسية الآتية: استئناس النبات والحيوان، تشغيل المعادن، الكتابة، العجلة (الدولاب)، التقويم، العلوم الرياضية والفلكية وهندسة البناء، عجلة الفخَّار. وإلى جانب ذلك هناك احتمالات أن تكون هذه المنطقة قد أعطت العالم أيضًا معارف النسيج بواسطة النول، والقوس، والسهم.
- الصين: يعود إلى الحضارة الصينية فضل اكتشاف نسيج الحرير، وصنع الورق، والطباعة بحروف منفصلة، والبارود، والبوصلة البحرية.
- المايا: ظهر في هذه الحضارة ابتكارات خاصة (غالبًا لم تُتداوَل في أمريكا)، وعلى رأسها التقويم والكتابة ونظام من الرياضة والفلك.
- أوروبا: منذ عصر النهضة بدأت أوروبا — بعد أن استوعبت النتاج الحضاري العالمي عن طريق العرب واليونان — تصبح مهد الغالبية الساحقة من الابتكارات والاختراعات الحديثة، مثل صناعة الورق والبارود والبوصلة البحرية والطباعة. وكل هذه المنتجات الحضارية — باستثناء حروف الطباعة — عبارة عن إعادة صقل لمنتجات قديمة انتشرت إليها من منطقة البحر المتوسط والعالم الإسلامي، وتصنيع هذه المنتجات بخامات مختلفة. أمَّا الطباعة، فرغم قِدَمها في الصين، إلَّا أنها في أوروبا كانت إعادة اختراع دون انتشار حضاري (حسب معلوماتنا الراهنة)، وفيما عدا ذلك فإن كافة أشكال التقدم في الحضارة الصناعية قد بُنيَت على معارف قديمة (كالحديد والصلب)، ولم يكن هناك من اختراع أوروبي ذي قيمة عالمية سوى اكتشاف مصادر الطاقة غير الحية: البخار، وغرفة الاحتراق الداخلي، والكهرباء، والطاقة النووية. ولا شكَّ أن هذه الاكتشافات في مجال الطاقة قد قفزت بالإنسان قفزات سريعة جدًّا في شكل الحضارية المادية، وكان لها أيضًا تأثيرها على بقية التركيب الحضاري الغربي.
وفيما يلي سوف نعالج بعض الجوانب المادية للحضارة في صورة موضوعات رئيسية؛ هي: المعادن، والفخار، والملابس، والمساكن، والنقل.
(٣-١) المعادن
كيف اكتشف الإنسان المعادن؟
من المشاكل المحيِّرة في تاريخ الكشوف أن نعرف الوسيلة التي اهتدى بها الإنسان إلى المعادن. فلا شكَّ في أنه يوجد فرقٌ كبيرٌ وشاسعٌ بين معرفة الإنسان استخدام الحجارة في تشكيل أدواته الحجرية المعروفة وبين استخدامه للمعادن لتشكيل هذه الأدوات. فالتكوين الحجري — بشتى أشكاله — موجود في معظم الأماكن، وحتى لو كان الإنسان قد اعتاد على أنواعٍ معينةٍ من الحجر لصنع أدواته، فإنها بدون شكٍّ أكثر الأنواع شيوعًا لسهولة تشكيلها وطرقها. هذه هي أنواع الحجر الجيري السهلة التشكيل والشطف والصوان، وهو أيضًا سهل الشطف بالطَّرق، ولم يستخدم الإنسان التركيب الحجري الصعب التشكيل مثل الجرانيت، وبهذا فإن خامة الأدوات الحجرية واسعة الانتشار، وفضلًا عن ذلك فإن الخامة الحجرية والأداة الحجرية المنتجة يمتان إلى بعضهما في كافة التركيب الداخلي والمظهر الخارجي عدا الشكل؛ إذ لم يقتضِ الأمر القيام بعمليات تحويل كيميائية أو إذابة، أو غير ذلك من العمليات التي تؤدي بالأداة المعدنية إلى شكلٍ شديد التغاير في المظهر والتركيب عن خامة المعدن كما هو في الطبيعة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الخامات المعدنية أقل انتشارًا من الخامات الحجرية (النسبة هنا ليست إلى التركيب؛ لأن الحجارة تركيب معدني هي الأخرى)، وهي كذلك لا تظهر واضحة للعين على أنها خامة معدنية، بل لا بدَّ لعين مدربة أن تعرف أن تركيبًا ما يحتوي على خامة معدن ما؛ ذلك أنه باستثناء حالات شاذة فإن المعدن في حالته الطبيعية يوجد متداخلًا مع تركيبات حجرية متنوعة، وهو أيضًا لا يظهر لنا في القرن العشرين إلَّا بعد إجراء الفحوص في المختبرات.
فالسؤال إذن هو كيف تعرَّف الإنسان — بتكنولوجيته الحجرية — على التكوين المعدني في صورته الطبيعية؟ وليس ثمة شكٍّ في أن عامل الصُّدفة وحده، بالإضافة إلى مقدرة الإنسان الفكرية على استيعاب التجربة تلو التجربة، هي التي أدت إلى اكتشاف عناصر المعادن داخل التكوينات الحجرية.
فالإنسان كان دائم البحث عن الحجارة اللازمة لأدواته، وهو يعرف بالتجربة أن هناك مكوِّنات أو عناصر غريبة تتدخل مع بعض أنواع الحجارة؛ مما قد يسبب عدم صلاحية هذا النوع من الحجارة أو ذاك للتشكيل في صورة الأدوات المرغوبة، وبالتجربة لم يكن يستخدمها الإنسان، بل يطرحها جانبًا.
إلى هنا يمكن أن نتخيل أن الإنسان قد عرف أنواع الحجارة غير الصالحة لصنع الأدوات الحجرية، لما فيها من عيوب: بعضها ذو تكوينات رملية وبعضها مليء بالعيوب، وبعضها غير قابل للتشكيل، وبعضها تتداخل فيه تكوينات تجعله أيضًا غير قابل للتشكيل، ولا شك أن هذا هو الذي حدث: بالتجربة لعشرات الآلاف من السنين استطاع الإنسان أن يصنِّف أنواع التكوين الصخري تصنيفًا نوعيًّا على عدة أسس نفعية؛ أولًا: الحجارة الصالحة للتشكيل، وثانيًا: الحجارة غير الصالحة، ولكلٍّ منها سبب يجعلها غير صالحة.
لقد عرف الإنسان معادن نقية تمامًا، كتلك التي تتخلف عن النيازك الساقطة، لكن توزيعها كان عشوائيًّا وكميتها محدودة، وربما لم يعرف الإنسان الإفادة بها إلَّا بعد أن تعلم معرفة تشغيل المعادن. ويمكننا أن نفترض فروضًا كثيرة تؤدي إلى الصدفة السعيدة التي تولَّد عنها علم المعادن، وإمكان استخدامها كخامة لإنتاج الأدوات، ولعلَّني أفترض أن الإنسان قد اكتشف المعدن ينصهر ويسيل من بعض حجارة الفرن الذي يستخدمه المجتمع المستقر (لكافة أغراض المجتمع المستقر؛ نظرًا لأنه لم يكن من السهل أو في متناول اليد أن تُوقَد النار كلما طُلِبت، بل الغالب أنه كانت هناك نار دائمة قدر الإمكان). ونقول مجتمعًا مستقرًّا؛ لأن المجتمعات المتنقلة لا يمكن أن يكون لديها فرن أو أفران مبنية أو محفورة في الأرض، هذا فضلًا عن أن اكتشاف المعادن قد تم في منطقة الشرق الأوسط (حسب المعلومات الراهنة)؛ أي في منطقة مجتمعات مستقرة تعيش على الزراعة.
معارف تشغيل المعادن
- (١)
البحث عن المعادن المطلوبة، ومن ثمَّ تراكُم معلومات كثيرة — معظمها تجريبي — عن تصنيف الصخور وأنواعها لتمييز الأنواع الحاملة للمعادن المرغوبة، وهكذا كانت بداية التخصص في هندسة التعدين والجيولوجيا.
- (٢)
بناء أفران الصهر للحصول على المعدن من الخامة، وهذه أيضًا تقتضي معرفة عدد من موضوعات الكيمياء الحالية، وفن تشييد الفرن ونوع الوقود وعمليات الاختزال بتمرير تيار من الهواء الدائم.
- (٣) وقد ارتبط ببناء الفرن فكرة «الكور» لإمرار تيار مستمر من الهواء أثناء عملية الصهر (انظر شكل ٦-٢).
- (٤)
الأفكار الخاصة بالصب والطرق والتشكيل، وظهور فكرة القوالب.
- (٥)
فكرة عمل سبائك معدنية بإضافة أنواع من المعادن إلى بعضها بنسب مختلفة من أجل الصلابة، أو من أجل احتياجات معينة، وأول السبائك التي ظهرت هي البرونز (نحاس وقصدير بنسبة ١٠٪ قصدير).
- (٦)
الاحتياج إلى مجموعة كبيرة من أدوات الطرق والتشكيل، وكثيرٌ من الخامات لتكوين القوالب التي تُصَب فيها المعادن السائلة ليخرج الإنتاج بالصورة المرغوبة.

وبناء على هذا، فإن غالبية الإثنولوجيين والأركيولوجيين يميلون إلى الاعتقاد بأن معارف التعدين قد نشأت في الشرق الأوسط وانتقلت منها تدريجيًّا إلى بقية أنحاء العالم، ولكن البعض يعتقد أن تشغيل المعادن قد عُرِف في أمريكا الوسطى مستقلًّا عن الشرق الأوسط، مثله في ذلك مثل الكتابة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأبحاث الأركيولوجية والإثنولوجية في كثيرٍ من نتائجها الجديدة، تؤكد وجود علاقات عبر المحيط الهادي بين آسيا وأمريكا؛ مما يعود بالمعادن والكتابة إلى أصل واحد مستمر من الشرق الأوسط.
وبالرغم من أن الإنسان في الشرق الأوسط قد عرف المعادن منذ تاريخ مبكِّر، إلَّا أن صعوبة الحصول على المعدن، والفترة الطويلة التي مرَّ بها الإنسان لكي يتقن عملية صهر وتشكيل المعادن، فإن ذلك قد أدَّى إلى بقاء استخدام الأدوات الحجرية لفترة طويلة جنبًا إلى جنب مع الأدوات المعدنية. والحقيقة أن ندرة المعادن في البداية، وعدم التوصل إلى أدوات معدنية صلبة لفترة طويلة، قد أدَّيا إلى بقاء الحجارة شائعة كخامة للأدوات؛ فالندرة تجعل الأدوات المعدنية قاصرة على عدد محدود من الأدوات كما تجعل أسعارها عالية. وليونة المعادن المبكرة — وخاصة النحاس — جعلها لا تحل محل الأدوات الحجرية الأكثر صلابةً في الأعمال اليومية، كذلك كانت عملية تشكيل الأدوات المعدنية أقل جودة من الأدوات الحجرية التي تمرَّس الناس عليها آلاف السنين.
لهذا كله يجب ألَّا نتوقع أن الناس قد تركوا الأدوات الحجرية بمجرد ظهور المعدن، وبالمثل نجد تباطؤًا في استخدام المعادن الأخرى الجديدة كلما اكتُشِفت، ويظل الناس على استخدامهم للمعدن السابق إلى أن تتم دقة صنعه وتظهر فوائده بالنسبة للمعدن السابق. وهذه الظاهرة واضحة في الوقت الحاضر وفي كل الحضارات، ارتفاع أسعار المنتج الجديد في بدايته، وإحجام السوق عن طلبه لفترة حتى ينتشر أكثر وتتحسن صفاته، وتقل أسعاره، ويكون فيه من المزايا ما لم يكن للمنتج السابق عليه.
وقد حدث ذلك في مصر القديمة؛ إذ بعد أن شاع استخدام البرونز لفترة طويلة، ظلُّوا على استخدامهم له حتى بعد ظهور الحديد في فلسطين والبلاد المجاورة الآسيوية، ولم يتقبلوا الأدوات الحديدية إلَّا بعد مرور ما يقرب من خمسمائة سنة على استخدامه في الأناضول والشرق الأوسط الآسيوي.
والنحاس هو أول المعادن التي عرفها الإنسان في الشرق الأوسط، ولعلَّ تاريخ النحاس يرجع إلى حوالي ٤٠٠٠ق.م، أو لعله أقدم من ذلك بقليل. وكذلك عُرِف الذهب مبكِّرًا، بالإضافة إلى الحديد النقي الذي يوجد على سطح الأرض نتيجة لسقوط النيازك. وهذه المعادن كانت تُطرَق على البارد ويُصاغ منها أدوات زينة محدودة، كما تدل على ذلك منتجات أصحاب حضارة البداري في مصر (في الحجري الحديث حوالي ٤٥٠٠–٥٠٠٠ق.م) لكن هذه المعادن (باستثناء الحديد) غير صالحة لاستخدامها كأدوات قاطعة نتيجة ليونتها.


وفي الحقيقة لا يبدأ عهد المعادن إلَّا بعد ما تمَّ للإنسان معرفة كل تكنولوجية تشغيل المعادن، وخاصةً طُرُق الصهر والحصول على الخام النقي، وطرق الصب على القوالب، وفوق هذا صناعة السبائك. ومجموعة هذه المعارف معًا لم تظهر إلَّا متأخرة، ويقدِّر الأركيولوجيون أن ذلك تم أيضًا في الشرق الأوسط بعد ٣٥٠٠ق.م.
ولم ينتشر البرونز — ولا النحاس من قبله — في أفريقيا المدارية، ولا جنوب شرق آسيا، ولا أوشينيا.
طبقة الحدادين
وبرغم انتشار تكنولوجية المعادن وقدمها النسبي، إلَّا أن الكثير من مجتمعات الصيد والجمع، ومجتمعات الزرَّاع المتنقلين المنعزلة، لا تعرف صناعة المعادن. أمَّا عند الجماعات البدائية المعاصرة التي تعرف الحديد، فإن صناعة الحديد تقوم به طبقة اجتماعية متخصصة في الحدادة، وفي كثيرٍ من جهات أفريقيا المدارية يكوِّن الحدادون عشيرة خاصة تتزاوج داخليًّا. بل في بعض هذه المجتمعات يُنظَر إلى الحدَّادين على أنهم طبقة دنيا أو طبقة محتقرة يحرَّم التزاوج معها، وليس لهذا تفسير ظاهر حتى الآن، سوى الانفصال المكاني والحرفي بين الحدادين والمجتمع، بالإضافة إلى أن الحدادة مهنة لها أسرارها التي لا يعرفها غيرهم.
والحدادون هم أول مجموعة تخصصت تخصصًا كاملًا في نشاطها الاقتصادي في تاريخ الحرف، ولعلَّ ذلك راجع إلى أن عملهم يستوعب كل الوقت، ومن ثمَّ يبتعدون تمامًا عن عمليات الإنتاج الزراعي أو الرعوي الذي يمارسه المجتمع، وينقسم المشتغلون بصناعة الحديد إلى فئتين: الأولى مجموعة متخصصة ومستقرة في مكانٍ دائم عند الفرن «المصنع»، وتقوم بعملية صهر الخامات وصنع القضبان الحديدية، وهؤلاء يمكن أن نسميهم صنَّاع الحديد. أمَّا الفئة الثانية فإنها تتكون أيضًا من مجموعة متخصصة من الحدَّادين الجوَّالين الذين يشترون قضبان الحديد من «المصنع»، ويرتادون القرى فيصنعون الأدوات المرغوبة بالطرق والتشكيل أو الصهر والصب في قوالب.
وكل فئة من هاتين الفئتين منعزلة عن المجتمع الذي تعيش معه، فالفئة الأولى تقيم عند الفرن، وهو غالبًا يُقام عند مصادر الخامات، ومن ثمَّ فهو بعيد عن مناطق الاستقرار الرئيسية للمجتمع، ولا يحدث بينهم وبين أعضاء المجتمع تعامل مباشر، والفئة الجوالة من الحدَّادين لا تقيم في مكانٍ واحد، بل تتنقل بين مجموعة من القرى (داخل نطاق إقليمي محدد بطبيعة الحال)، ويرجع تجوالهم إلى أن الطلب على أدواتهم ليس مستمرًّا أو يوميًّا، بحكم أن الأدوات الحديدية لا تبلى بسرعة. ومن ثمَّ فهم يُعتبَرون غرباء على المجتمعات القروية التي يترددون عليها، ولا يحدث معهم غير علاقات العمل، ولعل هذا التباعد المكاني والحرفي كان له انعكاس في صورة التباعد الاجتماعي بين المجتمع والحدَّادين برغم احتياج كل منهما للآخر.
(٣-٢) الفخَّار
ونظرًا لأن الزرَّاع أصبحوا في حاجة إلى أوعية خاصة تحفظ المحصول فترة طويلة تكفي بقية السنة، فقد كان لا بدَّ من الوصول إلى وسيلة تمنع فساد المحصول. وربما بدأ الفخَّار أولًا في صورة حفظ الحبوب بالطين الذي يجمد بعد تخلصه من الرطوبة، ومن ثم يحفظ الحبوب من التعرض للهواء. ولعلَّ الأوعية الفخارية الأولى كانت نوعًا من السلال تُحاط بعد ذلك بالطين، وتُترَك في الهواء لتجف ثم يُحرَق الوعاء وتحترق معه السلة الداخلية. لكن هذه كانت طريقة مكلِّفة في الوقت والجهد، ثم أُضِيفَ إلى الطين الكثير من القش لكي يعطيه صلابة مؤقتة حتى يتخذ الشكل المطلوب. ولكن القش يؤدي إلى ظهور العيوب في جدار الوعاء الطيني؛ ولهذا سرعان ما عُدِل عن إضافته، وكذلك كانت تُضاف خامات أخرى مثل الرمل، ولكن هذا يؤدي إلى مسامية كبيرة في الوعاء.
وبالرغم من أن كل أشكال الطين صالحة لتشكيل أوعية طينية، إلَّا أنها تختلف فيما بينها في مدى مساميتها وصلابتها وعدم تعرضها للعيوب والشقوق؛ ولهذا فإن الفخَّار الذي تطور بعد تجارب كثيرة (خلال أواخر الحجري الأوسط وأوائل الحجري الحديث)، انتهت أيضًا بمجموعة معارف عن الفخَّار. وقد اتضح أن هناك أنواعًا من الطين التي تصلح أكثر من غيرها لعمل الفخار الجيد، وأصلح أنواع الطين هي تلك التي تتكون من السليكا وأوكسيد الألومنيوم، ولكن اختلاف النسب في تركيب الطين يؤدي إلى اختلاف بين المرونة في التشكيل وبين اللزوجة التي يصعب معها التشكيل؛ ولهذا كانت تُضاف إلى الطين مواد أخرى؛ مثل: الرمال الناعمة، والميكا، ومسحوق الفخَّار القديم، والكوارتز، والفلسبار … إلخ.
ولكن الثورة الكبيرة في صناعة الفخار حدثت أيضًا في مصر، ربما في الألف الرابعة قبل الميلاد، تلك الثورة هي التي حدثت بعد اكتشاف عجلة «دولاب» الفخَّار، وهي عبارة عن قرص مستدير أو شبه مستدير، من الخشب أو مادة أخرى خفيفة وقوية الاحتمال، يدور حول محور مثبَّت إلى محرك يدوي أو يُحرَّك بالقدم، وتتيح هذه الحركة المستمرة للقرص الفرصة لإمكانية استخدام اليدين معًا في تشكيل الخامة التي تُوضَع على القرصِ في هيئة كتلة طينية، كما تمكِّن من الحصول على صورة وعاء أكثر استدارة من الناتج عن التشكيل اليدوي، وأهمية العجلة — فوق ذلك — هي إمكانية الإنتاج السريع والجيد في آنٍ واحد. وعلى هذا انتقل الفخَّار من صناعة يدوية منتشرة في كل مكان، إلى صناعة يُستخدَم فيها أحد المبادئ الميكانيكية في التشكيل والإنتاج بالجملة، ومن ثم أصبحت هناك أماكن محددة لإنتاج الفخَّار هي المصنع.
وقد ترتَّبَ على ظهور عجلة الفخَّار وإمكانية الإنتاج بالجملة، أن تطورت أيضًا بقية عمليات الفخَّار، وخاصة الفرن الذي تُحرَق فيه المنتجات، وهكذا بُنِيَتْ إلى جوار «المصنع» أفران كبيرة كانت في البداية أفرانًا مفتوحة عبارة عن حفرٍ في الأرض، ثم أصبحت أفرانًا مقفلة مشيَّدة بواسطة جدران تعلو عن سطح الأرض وتحيط بالحفر؛ وذلك للإسراع بعملية الاحتراق.
وبناء على هذا التكامل في معارف الفخَّار، اقتضى الأمر أن تظهر مجموعة من المتخصصين في صناعة الفخار: الفخرانية، تعيش باستمرار مع مجموعة الناس المستقرين، وتتعامل معهم يوميًّا؛ ولهذا تصبح كالحدَّادين طبقة خاصة كما أشرنا من قبل، ولا ينفي هذا أن الفخرانية في بعض المناطق يكوِّنون بدنة خاصة تتزاوج داخليًّا (مجموعة نسب).
وقد انتشرت عجلة الفخار انتشارًا واسعًا في الشرق الأوسط في الألف الثالثة قبل الميلاد، ويبدو أنها ارتبطت تمامًا بصناعة البرونز. والملاحظ أن الجماعات التي لا تعرف المعادن في الوقت الحاضر لا تعرف عجلة الفخَّار أيضًا، وإن كانت تعرف الفخار اليدوي. وهكذا نستطيع أن نقول إن عمل الفخَّار اليدوي كان اكتشافًا كثيرَ الحدوثِ بين الجماعات المستقرة، وخاصةً تلك التي تمارس الزراعة البدائية، بينما عجلة الفخَّار اكتشاف حدث مرة واحدة في الشرق الأوسط، وبذلك فهي تمثل انتشارًا حضاريًّا، مثلها في ذلك مثل المعادن والكتابة.
ولعل من أهم أسباب سرعة صناعة الفخَّار أن المنتجات الفخارية تأخذ أشكالًا مختلفة حسب الرغبة والتشكيل، وبذلك تفوقت على الأوعية الحجرية السابقة، وفضلًا عن ذلك يمكِن نقلها من مكان إلى آخر. بينما كان حفظ الحبوب من قبل يتم في حفرٍ في الأرض تُغطَّى بالطين والحجارة، وهي بذلك مخازن ثابتة ومرتبطة بالأرض، بينما أمكن حفظ الحبوب داخل المساكن بواسطة الأوعية الفخَّارية.
وقد استطاع الصنَّاع أن يضيفوا إلى الفخَّار الكثيرَ من الزخارف، حتى أصبح فنًّا من فنون هذه المجتمعات، وكان من أهم الزخارف الشكل العام للآنية: مستطيلة، أسطوانية ذات فتحة ضيقة أو رقبة نحيفة، طويلة أو قصيرة سميكة في جزءٍ منها، ذات يد واحدة أو اثنتين، أو لا يد لها، وكان هناك إلى جانب ذلك التلوين العام: أبيض أو مشوب بحمرة أو أسمر أو أسود، وكان ذلك يتم أثناء حرق الآنية، فاللون الأبيض أو المشوب بالحمرة يُحصَل عليه من نوع الطين المستخدم، واللون الأسود يُحصَل عليه بأن يُضاف إلى النار بعض الأخشاب أو الأعشاب المبللة أو روث الماشية المجفف. ويؤدي احتراق هذه المواد إلى تكوين الكربون الذي يلتصق بالآنية أثناء عملية حرقها، وكذلك كانت الزخارف تأخذ شكل رسوم أو خطوط محفورة في الإناء الفخاري بالطريقة المرغوبة قبل تجفيفه في الهواء وبالتالي قبل حرقه، ويمكن أن يتعدى ذلك أيضًا جعل فتحة الإناء مثل الزهرة المتفتحة، أو إضافة «كورنيش» مزخرَف إلى الجدار الخارجي للإناء قبل حرقه.
ولكي يكون الإناء غير مسامي اكتُشِفت في الشرق الأوسط أيضًا فكرة إضافة خام الزجاج إليه قبل حرقه، فيعطيه ذلك طبقة «المينا» اللامعة المعروفة، ويمكن أيضًا أن يُضاف إلى هذه الطبقة بعض الألوان المرغوبة التي تعطي الإناء ألوانه الزاهية المعروفة. وبهذه المناسبة فإن عمل الصيني — وهو في أساسه فخَّار رقيقٌ جدًّا، يُصنَع من الكارلين النقي، ويُحرَق في أفران ذات درجات حرارة مرتفعة — لم يُعرَف إلَّا في الصين فقط، ومنها انتشر بعد ذلك إلى أوروبا.
(٣-٣) الملابس والزينة
عندما نتكلم عن الملابس، فإننا نجد الإنسان ككائن بيولوجي يواجه الظروف الطبيعية عامة والمناخية خاصة، ويتغلب عليها بواسطة الحضارة. فالإنسان — ككائن بيولوجي أيضًا — أقل تكيُّفًا مع الظروف الطبيعية من بقية الحيوانات. ومردُّ ذلك إلى انتشار الإنسان في كافة المناخات، بينما تتأقلم الحيوانات على مناخات محدودة. وصحيحٌ أن بعض سكَّان المناطق الباردة يتميزون بنمو غزيرٍ لشعرِ الجسم، ولكن ذلك لا يجعل منه غطاءً يقيه البرد مثل حيوانات الفراء، فهذا الشعر الغزير يتركز في أجزاء محددة ويترك الجلد عاريًا في أجزاء كثيرة. وغزارة الشعر هذه لا تتكافأ أبدًا مع كثافة الفراء الحيواني، كما أن الشعر الإنساني له صفات مغايرة تمامًا للفراء الحيواني.
وعلى هذا فإن الإنسان لم يهزم الظروف المناخية المختلفة إلَّا بابتكار الملابس، أو استعارة فراء وجلود حيوان البيئة، وهذا ليس في الواقع كل الحقيقة؛ فإن الملابس أيضًا — إلى جانب وظيفتها — قد أصبحت جزءًا جماليًّا من حضارة الإنسان، وذلك بفضل حب الإنسان للجمال. ولا نعني هنا مجرد الملابس، بل إن الزينة — كما سنعرف — جزءٌ من ملابس الإنسان في مختلف الحضارات، وهي أيضًا إنتاج جمالي بحت مرتبط بالقيم الجمالية عند الشعوب والحضارات المختلفة. وينطبق هذا على البدائيين وأصحاب الحضارات العليا القديمة، وعلى كافة الحضارات المعاصرة، ويكفي أن نتساءل — دون الحاجة إلى إجابة — ما هي جملة نفقات العالم في الوقت الحاضر على الملابس وكافة أشكال التزين (الشعر والوجه والجسد)؟
والمثال الثالث يوضح لنا أن الملابس لا تعني ما تعنيه عندنا في مفاهيمنا الحضارية العربية أو الغربية، وأن العري كذلك ذو مفهوم مختلف، ففي أوائل هذا القرن كان الرحَّالة فون نورد تشيلد يزور قبيلة بوتوكودو في غابات الأمازون، وبعد حوار طويل مع إحدى سيِّدات هذه القبيلة استطاع أن يقنعها بأن تبيع له الأقراص الخشبية الكبيرة التي يضعها أعضاء هذه القبيلة في الآذان والشفاه. وحينما خلعت هذه «الزينة» شعرت بخجلٍ شديدٍ وجرت مختفية في الغابة، وذلك برغم أنها كانت عارية تمامًا. فالخجل هنا يرتبط بأنها «تعرَّت» بخلعها هذه الأقراص الخشبية، فضلًا عن أن هناك ارتباطًا بين البوتوكودو كشخص وبينه بصفته يلبس هذه الأقراص الخشبية.
وعلى وجه العموم، فإن هناك اتجاهًا عامًّا إلى أن يكون من بين وظائف الملابس تغطية العورات، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك بين القبائل البدائية التي تلبس أنواعًا مختلفة من المآزر (مئزرة، نُقْبَة = تنورة قصيرة تتدلى من الوسط) مصنوعة من القش أو الخرز والأصداف أو نسيج بدائي أو الجلد، تغطي الجزء الأمامي أو الجزئين الأمامي والخلفي. وقد حاول بعض الإثنولوجيين القدماء — مثل تيودور فايتز — أن يفسِّرها بأنها تمنع العين الشريرة عن الأعضاء التناسلية؛ أي إن الوظيفة هنا مرتبطة بالسحر، ولكن ذلك التفسير لا ينطبق على الجماعات التي لا تعرف الملابس تمامًا، ومع ذلك تعتقد في وجود العين الشريرة. وقد يكون السبب مماثلًا للاعتيادات السلوكية والخلقية في حضارتنا المعاصرة، ولكن العُري عند غالبية البدائيين لا يعني الجنس، فليس هناك ارتباط بين الاثنين إلا حينما تنص اعتيادات مجتمع ما على عكسِ ذلك وتفرض عقوبات على العري، وبذلك يصبح التعري جريمة سلوكية. فالإسكيمو يلبسون رداء الفراء وغطاء الرأس والحذاء، وبذلك يتغطى الواحد منهم من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ولكنه بمجرد أن يدخل مسكنه يتعرى تمامًا حتى برغم وجود غرباء؛ لأنهم جميعًا يتعرَّون داخل المسكن: الضيوف وأصحاب البيوت.
وكما قلنا ليس الملبس عند كل الجماعات هو ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ضيق في ممارستنا اللغوية؛ فبرغم أن التجرد من الملابس يُعَدُّ عُريًا عندنا، إلَّا أنه ليس كذلك عند مجتمعات بدائية كثيرة؛ فعند الأستراليين الأصليين لا تكون المرأة عارية إلَّا إذا خلعت عقد الخرز الذي تلبسه حول عنقها. والعُري عند كثيرين هو أن يتعرى المرء عن العقد أو القرط أو الأقراط الخشبية التي توضع في الأنف أو الشفاه أو الآذان. وليس هناك عُري عند المجموعات التي تمارس الوشم أو تصبغ الجسم بألوان مختلفة أو تلك التي تمارس «تشليخ» الجلد في الوجه والجسم (التشليخ هو قطع الجلد بالسكين في أشكال متعارف عليها عند كل قبيلة على حدة). وعلى هذا فإن الفوارق هي بين ما نعتبره «ملبسًا» وما نعتبره «زينة» — وإن كانت الفوارق واضحة لدينا — فهي صعبة التحديد وغير واضحة بالنسبة لحضارات أخرى كثيرة. ويمكننا أن نقول إجمالًا إن مفهوم «الزينة» أعمُّ من «الملابس»، بحكم أن جزءًا من وظيفة الملابس هو التزين.
وليست الزينة — في مفهومها العام — قاصرةً فقط على الوظيفة الجمالية، فهي إلى جانب ذلك تقوم بوظيفة رمزية، والمثال الذي سبق أن ذكرناه عن البوتوكودو يوضح ذلك بجلاءٍ تامٍّ. فالأقراص الخشبية التي تُوضَع في الآذان والشفاه ترمز إلى البوتوكودو، وبدونها يفقد الشخص هويته، وأشكال التشليخ أو الوشم هي كذلك علامات رمزية على الهوية القبلية للشخص (مثل جواز السفر الحالي الذي تُوضَع فيه صورة الشخص وتختمه الدولة بخاتمها). وبالمثل أشكال العقود والأساور والأقراط وطريقة تصفيف الشعر، كلها رموز على الهوية، وبعض الإضافات في مثل هذه الأشكال من الزينة ترمز كذلك إلى المركز الاجتماعي. ومن أهم الأمثلة ريشة الزعيم القبلي عند الأمريند، وأنواع الأوسمة التي تمنحها الدول الحديثة، والتيجان الملكية. وفي الحضارات العليا القديمة والحديثة نجد أن أنواعًا من الزينة أو الملبس ليست سوى رمز على مهنة الفرد. فالجنود لهم ملابس معينة، وكذلك البحَّارة والطيَّارون، والعمَّال لهم ملابس عمل معينة، وكذلك الأطباء والممرضات وأساتذة الجامعات والقضاة ورجال الدين. بل إن ملابس معينة — مثل القبعة العالية والردنجوت والسموكنج — كانت ترمز إلى مناسبات معينة في أوروبا الملكية.
وهناك آراء ترجع أصل الملابس المخيطة إلى الصين، ومنها انتشر شمالًا إلى سيبريا ثم غربًا إلى شمال أوروبا، وشرقًا (من سيبريا) إلى أمريكا الشمالية، وآراء أخرى ترجِّح أن تكون هذه الملابس قد دخلت الصين من الشمال، وأن منشأها كان عند صيَّادي حيوان الرنَّة، وما زالت هذه مشكلة من مشاكل الدراسة الإثنولوجية.
والواقع أن أحسن ملابس مخيطة في الماضي هي تلك التي نجدها بين صيَّادي الرنَّة من قبائل شمال آسيا وأوروبا (من المغول)، وعند الإسكيمو والأمريند المجاورين لهم في حوض نهر ماكنزي، وهم صيَّادو حيوان الكاريبو (القريب الشبه بالرنة في العالم القديم). والملابس عند هذه القبائل المغولية جميعًا في شمال آسيا وأمريكا، مصنوعة من الفراء، وخاصة فراء الحيوانات الصغيرة، ولعلَّ هذا قد اقتضى الخياطة لربط هذه القطع الصغيرة معًا. وتُفصَّل الملابس بإحكامٍ شديدٍ على الجسم، وبحيث يصبح الفراء من الداخل ليُعطي الدفء المطلوب، بينما يُزيَّن الجلد من الخارج برسوم وأبليكات جميلة.
وهناك إلى جانب هذه الملابس المخيطة أنواعٌ مختلفةٌ من أردية مخيطة أيضًا تأخذ صورة الروب أو الجلباب، وتُصنَع من الجلود، وتُضاف إليها أبليكات من الخرز والصدف، وتكوِّن ملابس كثيرين من الأمريند في السهول الوسطى أنواعًا مختلفة من هذه العباءات. وحينما دخل الأوروبيون استبدلوا بها ملاحف من الصوف الأوروبي المنسوج، وأصبحت هذه الملاحف منذ ذلك الحين رمزًا على السكان الأصليين رغم أنها ليست أصلًا من إنتاجهم.
وتتعدد الخامة التي تُصنَع منها الملابس أو الملاحف والعباءات حسب ظروف البيئة ومصادر الخامة، وتمثِّل الجلود والفراء الخامة الرئيسية في صنع الملابس المخيطة في المناطق الشمالية الباردة. ولما كانت الجلود ليست صالحة للاستخدام بدون معالجة، فإن سكان هذه المناطق كانوا يعالجونها بطرقهم الخاصة، وأول أشكال المعالجة هي كشط الجلد من كل بقاياه الدهنية تمامًا، ثم طرقه ودقُّه جيِّدًا لكي يصبح طريًّا مرنًا، وتستخدم الزيوت والنخاع الحيواني في إعداد الجلود أثناء طرقها لكي تزيد من طراوتها. أمَّا دباغة الجلود بواسطة المواد النباتية، فلم تُعرَف لديهم، ولا شكَّ أن الجلود المعالجة بهذه الطريقة يجب أن تُعالَج بين الحين والحين بالزيوت والدهون لكي تظل طرية ومرنة.
والخامة الثالثة في صناعة الملابس هي الصوف الحيواني بعد غزله ونسجه، ويمكن أن يكون الصوف قد استُمِدَّ أولًا من الكلاب (من بين الحيوانات المستأنسة)، ثم تأتي بعد ذلك أنواع الصوف المختلفة حسب نوع الحيوان السائد. ومعظم المنسوجات الصوفية الشائعة مستمدة من صوف الأغنام، وبعضها من أصواف الماعز. وقد ظهر الصوف المنسوج في العالم القديم في خلال العصر الحجري الحديث.
أمَّا الأنسجة النباتية المنتشرة عالميًّا في الوقت الحاضر فهي المنسوجات القطنية والكتَّانية، وتتطلب هذه المنسوجات المعالجة بواسطة الغزل والنسج في نولٍ خاصٍّ، وهذه الفكرة قد نبعت من طريقة عمل السلال، لكن الفارق هو أن خيوط الغزل دقيقة، وليس لها قوامٌ ثابت كخامة السلال، ومن ثم تطلبت وجود النول. ورغم أن الغزل معروف في جهات العالم إلَّا أن النسج لم يكن كذلك، ولقد عُرِف النول في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط والهند منذ فترة طويلة، وعُرِف في أمريكا الوسطى بين ٦٠٠–٧٠٠ ميلادية، ولقد حدثت تطورات كثيرة على النول اليدوي ولا يزال له أشكال كثيرة إلى أن دخل النول الآلي الميكانيكي مجال الإنتاج.
غطاء الرأس والأحذية
وتُعتبَر أغطية الرأس والأحذية جزءًا من الملابس، ويختلف غطاء الرأس عادةً باختلاف الظروف المناخية؛ فالفراء يُستخدَم في المناطق الشمالية الباردة، واللباد في صورة القبَّعات يُستخدَم في المناطق الممطرة المتميزة بشتاء بارد، وقبعات الخوص المنسوخ ذات الخامات العريضة تُستخدَم في كثيرٍ من المناطق الحارة ذات الشمس الساطعة، وكذلك يستخدم البدو في الشرق الأوسط غطاء الرأس المعروف للوقاية من حرارة الشمس. وهناك أشكال كثيرة من غطاء الرأس، ولكن معظم الجماعات الأمية تسير عارية الرأس، وتحل أشكال تصفيف الشعر عند كثيرٍ من البدائيين محل غطاء الرأس، وخاصةً حيث لا يكون المناخ متطرفًا في البرودة أو الحرارة.
أمَّا النعال والأحذية فهي أهمُّ كثيرًا من غطاء الرأس من حيث وظيفة الحماية التي تعطيها لتأمين حركة الأفراد، ومع ذلك فإن المناطق المطيرة الحارة يسودها الحفاء؛ لأن أي نوعٍ من الأحذية سوف يؤدي إلى بلل الأقدام لفترة طويلة. أمَّا المناطق الباردة التي تتعرض لغطاءات الجليد خلال الشتاء، فإنها تحتِّم انتعال أحذية حقيقية سميكة طويلة، بحيث تغطي جزءًا من الساق، وتُصنَع هذه الأحذية من الجلد والفراء بحيث يكون الفراء إلى الداخل. ومن المعتقد أن مثل هذا النوع من الأحذية قد صنعه سكان آسيا الشمالية، وانتقل من هناك إلى الإسكيمو في شمال أمريكا الشمالية. وهناك أيضًا أنواعٌ من الأحذية الخفيفة التي تُصنَع من اللباد عن الأمريند في شمال أمريكا، وتُسمَّى «موكاسان»، وقد انتقلت أنواع الأحذية إلى أوروبا نتيجة لانتشار حضاري من شعوب الصيد من «الفن» التي كانت تعيش في شمال أوروبا في عصورٍ لاحقة، وانتشر الحذاء في جهاتٍ كثيرة من العالم بعد الكشوف الجغرافية والتوسع الأوروبي في العالم خلال القرن السابع عشر إلى الوقت الراهن.
وكانت هناك أيضًا أنواع من النعال المحلية التي تقوم بوظيفة وقاية القدم أثناء المشي. ففي مصر والبحر المتوسط نشأ الصندل، وفكرة الصندل مستمدَّة أصلًا من فكرة صنع السلال والنسيج، وبرغم اختلاف خامة وشكل الجلد المتداخل إلَّا أنه كان وما زال مرتبطًا بالطقس الحار القليل الرطوبة. وكذلك هناك أنواع من النعال التي يستخدمها البدو للتحرك فوق الرمال، وأنواع أخرى عند رعاة الجبال (مثل نعال البربر في شمال أفريقيا)، وفي الوقت الحاضر تعدَّت الأحذية والنعال وظيفة الحماية، حتى أصبحت أيضًا جزءًا من الإنتاج الجمالي للملابس والقبعات، ومن ثم تتعدد الأشكال وتتغير «الموضات» بسرعة في الملابس كافة.
أشكال الزينة الإنسانية
تحتل أشكال الزينة على الرأس والوجه والعنق مركز الصدارة بالنسبة لبقية أجزاء الجسم؛ وذلك لأنه الجزء الذي يميِّز الإنسان تمامًا، وترتبط فيه عدة وظائف إنسانية بحتة: التفكير والكلام إلى جانب النظر والشم والسمع. وكل هذا يؤدي إلى تركيز في أهمية الرأس عامةً عند البدائيين والمتقدمين على حدٍّ سواء، فأصبح الرأس رمزًا على العزة والفخر أو على المذلة والسقوط في الممارسات اللغوية للشعوب في غالبية الأحوال، إلى جانب الصفات الجمالية والفنية والعاطفية التي تُعطَى للوجه أو العيون والشفاه … إلخ.
وإذا كان الاهتمام بزينة الرأس والوجه عند الرجال قد قلَّ كثيرًا في الحضارات العليا، بينما برزت المرأة واحتلت الصدارة في هذا المجال، فلم يكن ذلك هو الحال عند الشعوب البدائية القديمة والمعاصرة. وبرغم أنني لست تطوريًّا بالمعنى الحرفي، إلَّا أنني أعتقد أن هذا التغير في زينة الرجال سببه التطور الحضاري من مرحلة المجتمع الأموي إلى السيادة الأبوية (مرحلة الوحشية إلى البربرية عند التطوريين).
ففي المجتمعات القديمة والمجتمعات الأموية اعتمد الرجال كثيرًا على التزين لاكتساب جاذبية أكبر أمام الفتيات، وفي عالم الحيوان نجد الذكور أجمل بكثيرٍ من الإناث، ولكننا لا نريد أن ندخل في جدلٍ عقيمٍ، ولا نريد أن نضع الإنسان في صورة مقارنة بعالم الحيوان. والخلاصة أن الأب في نظام المجتمع الأموي لم يكن له ولأسرته التي يكوِّنها استقلال اقتصادي، بل كانت السيادة معطاة لمجموعة نسب الرحم، وحينما تحوَّل المجتمع إلى سيادة الأب في النظام الأبوي أصبح للأسرة استقلالها وكيانها الاقتصادي داخل مجموعة نسب العصب. كما أدى النظام الأبوي أيضًا إلى نظام تعدد الزوجات، وبذلك أصبح للرجل أهمية أكبر من التي كانت له في التنظيم القديم؛ مما ترتب عليه تغيُّر في مفهوم الزينة بالنسبة للذكور. وعلى العكس، أصبح اهتمام المرأة بزينتها ضرورةً خاصَّةً لكي تكون أكثر جاذبية، ولكن تغير نمط ومفهوم الزينة لم يكن هو كل شيء؛ فإن عددًا من المجتمعات الأبوية، وخاصةً في الحضارات العليا القديمة قد طوَّر عددًا كبيرًا من المفاهيم الحضارية المتطرفة فيما يختص بسيادة الأب وسيطرته الكاملة الاجتماعية والقانونية على أعضاء أسرته؛ بحيث أصبح الأب هو المحور الذي يدور حوله التركيب الاجتماعي.
وفي عددٍ كبيرٍ من المجتمعات البدائية الأبوية المعاصرة لا نجد هذه السيطرة المتطرفة للأب، ومن ثمَّ يحدث تغير مشابه لما حدث في مجتمعات الحضارات العليا القديمة، وما زلنا نجد الرجال في هذه المجتمعات يتزينون، ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى أن الانتقال التام إلى سيطرة الأب لم يحدث تمامًا، فالكثيرُ من هذه المجتمعات تمارس نظام زواج أموي المكان أو على الأقل خلال الفترة الأولى من الزواج.
وعلى أي الحالات، فإن زوال التطرف في سيطرة الأب ونمو المساواة بين الجنسين في القرن العشرين قد أدَّى إلى إعادة الاهتمام بزينة الرجال بقدرٍ معين؛ فالشوارب كانت رمزًا للرجولة في فترة، وكذلك أشكال اللحية المختلفة، ثم أصبح الوجه الحليق نوعًا من الزينة، برغم أن ذلك يقرِّب الرجال من النساء. ونحن نعاصر الآن فترة تقارب شديد بين الجنسين في زينة الرأس والملابس، ولعلَّ هذا سببه الاستقلال الاقتصادي الذي بدأت المرأة تتمتع به؛ مما يعود بالتنظيم الاجتماعي مرة أخرى إلى عدم ظهور الدور الاقتصادي للرجل بدورٍ حاسمٍ في الأسرة، وإن اختلف تركيب الأسرة تمامًا عمَّا كان عليه في النظام الأموي.
وإلى جانب الأهمية الجمالية لطرق تصفيف الشعر، فإن لشكل الشعر وطريقة قصه وتصفيفه وظيفة حضارية؛ فعند الكثيرٍ من القبائل البدائية في أفريقيا وأمريكا نجد أن الأطفال يحلقون شعر الرأس تمامًا باستثناء خصلة معينة، ويدل مكان الخصلة وطريقة عقصها في أحيانٍ كثيرة على عشيرة الطفل، وعند البلوغ يمكن أن يُترَك الشعر ينمو أو يُحلَق أيضًا. فعند قبائل أوماها (أمريند أمريكا الشمالية) يُحلَق رأس الرجل تمامًا عدا خطٍّ واحدٍ من الشعر في أعلى الرأس من الجبهة إلى مؤخر الرأس. وعند أطفالنا المعاصرين تترك البنات شعرها مرسلًا أو معقوصًا في شكل الضفائر المعروفة، وبعد أن تصبح شابة يمكن أن تصفف شعرها عند الحلاق، وفي بعض المجتمعات المعاصرة تصفف الفتاة شعرها، وحينما تتزوج تغطِّي شعرها. ولطريقة تصفيف الشعر عند البدائيين دلالة على مركز اجتماعي معين، وعند زنوج الولايات المتحدة الحالية يسعى الزنوج إلى فرد الشعر وإزالة التجعدات الشديدة؛ لأن الشعر المستقيم أو المموج (عند البيض) رمز إلى المركز الاجتماعي الأعلى. وطرق تصفيف الشعر كثيرة ويمكن للخيال والابتكار أن يجعلها لا متناهية. وعند زنوج أفريقيا وميلانيزيا يُضاف إلى الشعر مواد أخرى لتثبيت الشكل الجديد. وفي أحيانٍ كثيرة تُستخدَم الحمرة وروث الماشية لهذا الغرض، ولصعوبة هذا النوع من التشكيل فإن كثيرين من البدائيين ينامون منبطحين على بطونهم خوفًا من تشويه شكل الشعر، واخترع بعضهم نوعًا من المساند للرقبة أيضًا للغرض نفسه؛ إذ كانوا ينامون على ظهورهم. ولقد اشتهر المصريون القدماء بالضفائر الكثيرة الرفيعة. وفي الوقت الحاضر نجد هذا النوع من الضفائر سمة مميزة لنساء واحة سيوة والبربر، والكثيرين من عرب السودان الشمالي والأوسط، ومن ثمَّ يمكننا أيضًا — مع وجود الأدلة التاريخية — أن نتتبع طرق تصفيف الشعر وانتقال هذه الطرق من مكان إلى آخر على المستوى الزمني.
وتتكون هذه المجموعة من وسائل الزينة الجسدية من سوائل ومساحيق ومعاجين وأصباغ معدنية وعطور وزيوت نباتية، والغرض الأساسي هو تغيير لون الجلد في جزءٍ منه أو كله، وتغيير رائحة الجلد وملمسه، وهذه الأغراض قديمة وحديثة؛ لأنها عالمية في كل الحضارات. والهدف من هذا التغيير هو إدخال تحسينات على الشكل المادي للشخص في ملمسه ورائحته ومنظره العام (وطعمه أحيانًا) إكسابًا لإعجاب الجنس الآخر.
وحتى حين يكون المركز الاجتماعي للشخص هو المهم (أو المركز المالي)؛ فإن هذه الأشكال من الزينة تضيف إليه أشياء ولا تنقص منه شيئًا.
واللون الأحمر هو أكثر مواد التجميل شيوعًا؛ لأنه مستمد من الحمرة (أكسيد الحديد) الشائعة في أماكن كثيرة من العالم بحيث يمكن الحصول عليه بسهولة، كذلك فإن اللون الأحمر يعطي أطول موجة ضوئية ملونة بالنسبة للعين البشرية، فهو بذلك أكثر الألوان إثارة وأكثرها جذبًا للعين والانتباه، وبإضافة بعض الشحوم والدهون إلى الحمرة يمكن استخدامها بسهولة ودون ضرر للجلد. والحمرة الكثيرة الشيوع هي «أحمر» الشفاه، ويلي اللون الأحمر في الاستخدام: الأزرق والأسود والأبيض والأصفر. وتُستخدَم هذه الألوان لأجزاءٍ معينةٍ من الوجه: الأسود أو الأزرق في منطقة العين (الرموش والجفون)، والأبيض مع مشتقات الأصفر والأحمر للخدود والوجنات. لكن البدائيين يستخدمون هذه الألوان أيضًا لتلوين أجزاءٍ كثيرة من الجسم بالإضافة إلى تلوين الوجه، وغالبية التلوين تحدث — بالنسبة للبدائيين — في المناسبات الطقسية والاحتفالات الرسمية. والتلوين عادةً يغيِّر الإنسان من شخص عادي متماثل مع غيره إلى شخصٍ مميزٍ بطريقة التلوين. وكثيرًا ما يلوِّن المحاربون أجسامهم بألوان معينة، والمعتقد أن لهذا ارتباطًا بقوى سحرية، وكذلك من المعتقد أن الغرض منه تقوية معنويات المحارب والإقلال من مخاوفه، وليس لإنزال الرعب في قلب العدو. وعلى هذا فإن للألوان والمساحيق عند البدائيين وظيفة رمزية إلى جانب قيمتها الجمالية.
وإلى جانب هذه الأشكال من الزينة (المرتبطة بالجسم والوجه)، كانت توجد أيضًا أنواع عديدة من الزينة المضافة إلى الجسم. ومن أوضح هذه الزينة المضافة: الأقراط، والعقود، والأساور، وعقود الخصر. وهذه الأشكال من الزينة تُصنَع من خامات متعددة: الخشب – العظام – الأصداف – الخرز – المعادن (نحاس – فضة – ذهب – ألماس). وما زال عند البدائيين أنواعٌ من الخزام يُوضَع في الأنف (عند أحد جناحي فتحة الأنف أو الفاصل بين الفتحتين)، ويُستخدَم فيه عصيٌّ صغيرةٌ أو قطعة من العظام أو حلقات معدنية، وهناك أيضًا الفتحات أو الثقوب التي تُصنَع في الآذان أو الشفة لوضع أقراص من الخشب صغيرة أو كبيرة (تصل أحيانًا إلى ١٥–٢٠سم)، ويؤدي ذلك إلى إطالة كبيرة للأذن أو الشفاه. وقد كان اختراع الأقراط التي تستخدم الضغط (بواسطة زنبرك أو مسمار «قلاووظ») في الفترة الأخيرة أثره في إعفاء البنات من إحداث الثقب التقليدي في الأذن. وإلى جانب ذلك كانت هناك أشكال من التشويهات الجسدية المتعمدة مرتبطة بالقيمة الجمالية أو بطقوس البلوغ. مثال ذلك إطالة الرأس منذ الطفولة، أو المحافظة على حجم صغير للأقدام، أو الختان، أو إسقاط الأسنان الأمامية أو بردها بحيث تصبح مدببة، أو تسويد الأسنان بصفة مستمرة (عند البولينيزيين)؛ لأن الأسنان البيضاء قبيحة وتشبه أسنان الكلاب. وهكذا تتعدد وتختلف وسائل الملبس والزينة عند المجتمعات المختلفة اختلافًا واسعًا نتيجة لاختلاف القيم الجمالية، واختلاف الوظائف وتطور الابتكارات عند الحضارات المختلفة.
(٣-٤) المسكن
المسكن واحتياجات الإنسان البيولوجية والخلقية
مضى على الإنسان قرابة مليون سنة على سطح الكرة الأرضية، وفي خلال هذه الفترة الطويلة استطاع أن يتقدم كثيرًا في مجالات عديدة من الحياة المادية والمعنوية والفكرية. لقد استطاع أن يطوِّر طاقته من الطاقة العضلية إلى الطاقة النووية، وأن يمدَّ مجال نفوذه الفعَّال من مرمى الحجر إلى الكواكب وفضاء الكون. واستطاع أن يتغلب على الكثيرِ من المشكلات الاجتماعية بالتنظيم والتقنين، وأن يمدَّ أفكاره إلى حقولٍ لا نهائية، ولكنه في مجال السكن لم يستطع أن يقدِّم تحسينات تجاري التقدم في النواحي الحضارية الأخرى؛ فالتحسينات التي طرأت على المسكن كانت بطيئة ومعظمها تحسينات شكلية لم تمس جوهر أو مبدأ المسكن، ولسنا نعرف سببًا معيَّنًا على وجه التحديد.
ففي القرن العشرين ما زالت مئات الملايين من الناس في الريف وفي الأحياء الفقيرة من المدن في مختلف المجتمعات تعيش في مساكن لا يمكن أن تُوصَف بأكثر من كونها سقف، ويبدو أن الحاجة إلى سقفٍ هي كل ما يحتاجه الإنسان، ومن ثمَّ فإن أبسط أنواع السقوف كانت وما زالت تكفيه، فهل المسكن أساسًا عبارة عن مأوى يحمي مَنْ بداخله من تقلبات الجو، ويعطيه الأمان ضد المعتدين من حيوان وإنسان؟ وهل فكرة الشعور ﺑ «الخصوصية» داخل المسكن فكرة قديمة تعكس رغبات الإنسان في الاختلاء الحر، وأن يكون بمنأى عن أعين الناس أم أن هذه فكرة حديثة نسبيًّا؟
ليست هناك إجابات نهائية مقابل هذه التساؤلات، إنما استقراءات منطقية أحيانًا ومدعمة بأدلة واقعية في أحيانٍ أخرى. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه ليسهل علينا الإجابة هو: ما هي احتياجات الناس المادية والخلقية بالنسبة للمأوى؟ وبعبارة أخرى: ما هي وظيفة المسكن في الحضارة؟
وعلى هذا النحو نستطيع أن نقول إن شكل المسكن في جوهره لم يحدث له تغير جذري؛ لأنه يكفي الاحتياجات المادية ومعظم الاحتياجات البيولوجية للإنسان.
المسكن وفكرة «الخصوصية»
ولكن هذا الجزء الخاص قد تضخم بحيث أصبح يشمل كل المسكن ابتداءً من نمو النظام الأبوي ونظام تعدد الزوجات، وأصبح المسكن مملكة خاصة حدودها باب أو بوابة في مجتمعات الحضارة العليا، أو سور من النبات الشوكي أو الطين والبوص في المجتمعات الأبوية البدائية. وقد ورثت الحضارة الغربية هذا النظام الأبوي وهذا النمط من السكن، حتى برغم سقوط جوهره وأساسه: نظام تعدد الزوجات.
لكننا نجد بعض الاتجاهات الجديدة التي تغزو فكرة الخصوصية في أكثر المجتمعات الصناعية تقدُّمًا، فعلى سبيل المثال بدأ يحدث تغير سريع في نمط الحياة الاجتماعية في الضواحي المدينية في أمريكا، ففي هذه الضواحي يحتل المسكن جزءًا من الطبيعة المحيطة، ويصبح باب السكن مفتوحًا دائمًا في وجه كل قادمٍ من الجيران. وفي النهاية نجد مجتمعات الضواحي المدينية الأمريكية مجتمعات منفتحة على نفسها تمامًا في شتَّى أشكال الحياة الاجتماعية (وفي أحيانٍ كثيرة تعدَّت هذه التشاركية الحدود إلى العلاقة بين الجنسين)، ولكن هذا المجتمع المنفتح على بعضه يصبح منغلقًا أمام الغرباء بطبيعة الحال. أليس هذا مثالًا قريب الشبه بالمسكن الطويل الذي كان يضم مجموعة نسب واحدة ينفتح على نفسه وينغلق أمام الغرباء؟! والفرق هنا أن المجتمع الحديث في الضاحية الأمريكية لا يسكن بيتًا واحدًا، ويتكون مجتمع من علاقة المكان لا علاقة النسب.
فالغالب إذن أن فكرة «الخصوصية» قد نبعت من تشكيل حضاري متكامل، تفاعلت فيه سلطة الأب والملكية الفردية بما في ذلك «ملكية» النساء في صورة تعدد الزوجات، وأن هذا التشكيل الحضاري قد بدأ يتغير باستقلال المرأة اقتصاديًّا واجتماعيًّا في المجتمعات المتقدمة الراهنة، وعودة الجنسين إلى المساواة التي كانت سائدة قبل نمو سلطة الأب. ولقد أصبح ذلك التكافؤ والتساوي بين الرجل والمرأة نمطًا اجتماعيًّا سائدًا، حتى ولو لم تكن المرأة مستقلة اقتصاديًّا.
ونتيجة لهذا التطور؛ فإن المسكن قد عاد من جديد إلى الانفتاح، وعادت «الخصوصية» تحتل ركنًا صغيرًا من وظيفة المنزل. ويؤدي هذا الاتجاه الجديد أيضًا إلى إمكانية سقوط عدد من الوظائف الأخرى التي كان المسكن يقدِّمها لرب الأسرة وأعضائها، وخاصة إعداد الغذاء. وقد أدت مجموعة التغايرات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع المعقد في مدن المناطق الصناعية ببعض مخططي الغد — وخاصة من اليابانيين — إلى التصور بأن نظام المساكن الحالية (في تلك المدن الكبرى) سوف يتغير ويتخذ طابعًا «فندقيًّا» أكثر منه «منزليًّا». وبطبيعة الحال، ينظر هؤلاء المخططون إلى الموضوع من زوايا مختلفة أهمها الزاوية الاقتصادية التي تنطوي على تجميع الخدمات المنزلية المتعددة، وبذلك تقل نسبة كبيرة من الفاقد والهدر الحالي في الجهد والمال والخدمات من جرَّاء وجود وحدات سكنية خاصة، وهناك أيضًا زاوية أخرى هامة هي حل مشكلة الإسكان الضخمة في المدن الصناعية الكبيرة، فهل يعني ذلك أننا سوف نعود مرة أخرى في بعض الحضارات إلى فكرة البيت الطويل، ولكنه في هذه المرة سيصبح البيت الرأسي؟ ويمكننا أن نعمم التساؤل مرة أخرى فنقول — كما يقول الديالكتيكيون — هل التطور في بعض أشكال الحضارة يسير في شكل حلزوني من أسفل إلى أعلى؟
تطور أشكال المسكن وخامة البناء
أمَّا فيما يختص بأنواع المساكن التي عرفها الإنسان منذ القدم، فنجد أن من الصعب ترتيبها تصاعديًّا لكثرة التداخل والفروق الحضارية ولاختلاف البيئة الجغرافية، ولكن هناك اتفاقًا عامًّا على أن الإنسان قد استخدم في البداية أكثر أشكال البيئة المحيطة به اقترابًا من تحقيق أغراضه السكنية. هذه الأشكال تأخذ صورًا متعددة من الحوائط الصخرية إلى التجاويف الصخرية الواسعة شبه المسقوفة بواسطة بروز صخري علوي، إلى الكهوف الضحلة والمتعمقة. ولعل هذه الأشكال الناتئة والغائرة من التكوين الصخري لم تُستخدَم تلقائيًّا عند كل الحضارات أو في كل البيئات. فلا شكَّ أن الكهف الغائر — برغم رطوبته — يعطي مأوى جيدًا ضد الرياح الباردة وضد البرودة عامة، خاصةً مع استخدام النار لتوفير المزيد من الدفء، وأن النتوء الصخري يكون استجابة ممتازة ضد أشعة الشمس المباشرة، مع وجود التهوية اللازمة لتخفيف وطأة الحرارة. على أن هذا لا يعني أن الإنسان لم يستخدم بعض المواد الهالكة؛ كأغصان الأشجار والأخشاب والأعشاب، كما يفعل بعض المجتمعات المعاصرة التي تعيش على الصيد والجمع في النطاق المداري للحماية من الأمطار أو الرياح.
ومنذ العصر الحجري القديم الأعلى نجد مساكن مبنية من الأخشاب والطين، وبعضها يستغل انخفاض الأرض في صورة حفر طبيعية ليبني فوقها المسكن، وبذلك ظهرت بيوت الحفر التي استمرت موجودة حتى وقتنا الراهن في معظم جماعات الصيد الشمالية.
ولم تختلف المساكن في شكلها وارتباطها بنوع النظام الاقتصادي السائد فقط، بل اختلفت أيضًا في مادة بنائها من حيث الارتباط بالخامات المتاحة في البيئة الطبيعية وإمكانات الحضارة البشرية؛ ولذلك يمكن أن نقسِّم المساكن عامة إلى قسمين من حيث تفاعل: خامة البناء، والإمكانات التكنولوجية. القسم الأول: هو المسكن المصنوع من الخامات الطبيعية، والثاني: هو المصنوع من خامات اصطناعية. والنوع الأول: هو المساكن المصنوعة من أفرع الشجر والأخشاب والحجارة والطين، بينما يمثل المسكن المصنوع من اللبِن والطوب والأسمنت النوع الثاني. وفي المجموع يمثل الفرع الأول الخامة الأقدم، ولكن هناك تداخلًا في الوقت الحاضر، بل عودة في بعض الأحيان إلى استخدام الخامة الأقدم من أجل أشكال جمالية مرغوبة أو من أجل بعض الاستخدامات الخاصة؛ مثلًا: بيوت «وشاليهات» الرعاة في المناطق الجبلية العليا المصنوعة من الحجر والخشب، أو «شاليهات» المصايف التي تُصنَع من خامات خشبية وجدائل القش، أو «شاليهات» الصيد الخشبية في مناطق الغابات. كذلك لا يعني استخدام الخامات الطبيعية أو الاصطناعية أن هناك فروقًا من حيث التخلف والتقدم من الناحيتين الجمالية والنفعية، بل نجد أحيانًا الكثيرَ من المساكن المصنوعة من الخامات الطبيعية عند البدائيين جميلة التصميم وفنية التنفيذ، وخاصةً إذا كانت المادة الخام طيعة التشكيل مثل الخشب المحفور والمنقور والمُطعَّم بالمعادن. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ مثل مساكن الأمريند في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية، ولكن أحسن تلك المساكن هي التي توجد في بولينيزيا عامةً، وإندونيسيا وسومطرة خاصةً. وفي أحيان كثيرة تصبح البيوت المصنوعة من خامات مصنعة أقبح شكلًا من المساكن الأخرى، ولكن الميزة الرئيسية للخامات المصنَّعة هو إمكان تعدد الطوابق، وخاصةً بالنسبة للطوب والأسمنت.
المسكن والأنظمة والوظائف الاقتصادية والاجتماعية
وكذلك في سيبريا الشمالية نجد نوعين من المساكن: الحجرية الثابتة المدفونة في الأرض، والخيام المتنقلة أثناء موسم الصيد في الصيف. وعند الجماعات التي تمارس الزراعات البدائية والرعي في أفريقيا المدارية نجد المساكن أو الأكواخ الدائمة المبنية من الطين عند الحقول ومعسكرات الرعاة أثناء موسم المطر خلال الصيف، وكذلك الحال عند رعاة البقر في المناطق الجبلية في أوروبا وآسيا الوسطى والغربية، نجد مساكن القرية الدائمة في بطون الأودية وأكواخ الرعاة المتناثرة في السفوح العليا للجبال التي تُستخدَم فقط خلال الصيف. وخلاصة القول أن الجماعات البدائية أو المتقدمة التي تمارس حياة اقتصادية قوامها الترحال (صيد أو رعي) تبعًا لفصول السنة (شتاء وصيف أو مطر وجفاف) تمتلك عادةً أكثر من نوع من المساكن تختلف فيما بينها في خامتها ووظيفتها وخطتها بالارتباط المحكم مع احتياجات التنقل.
أمَّا الجماعات المستقرة (زراعية أو صناعية) فالغالب أن لها نوعًا واحدًا من المساكن يرتبط أيضًا بالوظيفة الاقتصادية الاجتماعية. وباختصار، نجد أن مسكن الريفي عبارة عن مجمع يحتل القسم الأكبر منه مخازن المحصول ومأوى الحيوان ومخزن الأدوات والآلات المستخدمة في الزراعة، أمَّا القسم الأصغر فهو عبارة عن مأوى الأسرة، بينما المسكن في المدينة — رمز الاقتصاد الصناعي التجاري — لا يضم بين جدرانه سوى مأوى الأسرة، فهناك انفصال حقيقي بين المسكن ومكان العمل على العكس من المسكن الريفي الذي لا يوجد بينه وبين الحقل فاصل واضح للدرجة التي نعتبرهما معًا امتدادًا واحدًا لشيءٍ واحد: الحقل ويساوي مكان إنتاج الخامة، والمنزل ويساوي مكان إعداد هذه الخامة الزراعية (المصنع الزراعي بأسلوب استعاري).
على أي حال، فإننا نجد أشكال المساكن تختلف تبعًا لاختلاف شكل التجمع الأولي، ففي التنظيم القائم على الأسر النووية يصبح المسكن محدود المساحة، وهو بذلك أصلح أشكال التنظيم الاجتماعي للسكن المديني، وحتى في التنظيم الأبوي القائم على تعدد الزوجات نجد أيضًا مساكن مفردة. ففي أحيانٍ كثيرةٍ يصبح الحد الأدنى غرفة واحدة في المدن، أو يصبح كوخًا واحدًا لكل زوجة عند الجماعات البدائية، وبعبارة أخرى فإن الأسرة النووية تشغل سكنًا منفردًا لا تشاركها فيه أسرة أخرى، سواء كان المجتمع بدائيًّا أو متقدمًا.
أمَّا حينما تكون الأسرة الممتدة هي أساس التجميع الأولي، فإننا نجد السمة الأساسية للمسكن هي الاتساع، بحيث يشمل عدة الأسر التي يكوِّنها هذا التجميع. والغالب في مثل هذا التنظيم أن يكون أبويًّا، يسيطر فيه الأب الكبير — سواء كان أبًا أو أخًا أكبر — على الأسرة الممتدة المتكونة من عدة أسر نووية أبوية سيطرة اجتماعية اقتصادية معًا. وهنا أيضًا نجد الحد الأدنى لكل أسرة نووية غرفة واحدة داخل المجمع السكني، ونحن لا نعرف تمامًا ما إذا كان هذا النوع من التنظيم يسمح بتعدد الزوجات، لكن احتمال ذلك أكثر من نفيه.
وهناك أنواع أخرى من الأسر الممتدة تتكون داخل التنظيم الأموي، وفي هذه الحالة لا نجد فرصة لتعدد الزوجات إطلاقًا، كما أن الحياة داخل هذا المجمع السكني تصبح أكثر تشاركية مما في نظام الأسرة الممتدة الأبوية؛ لأن الزوجات إخوة أو بنات أخوات، بينما هنَّ في النظام الأبوي غريبات عن بعضهن، ومن ثم يمكن أن ينشب بينهن نزاعٌ في توزيع اختصاصات العمل، ونظام الأسرة الممتدة الأموية أكثر شيوعًا عند الجماعات التي تعيش على الصيد، ومن ثمَّ فإن أكثر البيوت الطويلة شيوعًا هي مساكن هذه التجمعات، بينما الأسرة الممتدة الأبوية غالبًا زراعية أو رعوية مستقرة تعيش في مساكن مبنية من اللبِن أو الطوب، أو تجمعات من الأكواخ المرتبطة معًا بسياج. ونظرًا لذلك فإن الغالب أن الأسرة الممتدة تستخدم موقدًا واحدًا للطهو، بينما تُوجَد عدة مواقد — عادة — عند الأسرة الممتدة الأبوية، وبطبيعة الحال توجد في مساكن الأسرة النووية مواقد خاصة.
ويرتبط شكل التجمع السكني للمساكن بعدد من الظروف الحضارية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، عادةً تأخذ المساكن شكلًا متجمعًا في صورة مجموعة من البيوت الطويلة عند الجماعات الأموية، وفي معظم الحالات تتجمع العشائر في قرى أو قرية واحدة أو جزءٍ من قرية واحدة، سواء كانت أموية أو أبوية، والتجمع في صورة قرية — وإن كان الحكم الشائع بالنسبة لمجموعات القرابة — إلَّا أنه مرتبط بالظروف الاقتصادية، فالمناطق ذات الوفرة تسمح بمثل هذا التجمع، سواء كانت وفرة الصيد أو السماكة أو المراعي ومصادر الماء أو الزراعة. وأحيانًا تدعو الوفرة الشديدة لمصادر مياه الشرب إلى تبعثر المساكن، خاصةً في مجموعات السمَّاكين والصيَّادين، لكن الاحتياج للعمل الجماعي في النشاط الاقتصادي بالإضافة إلى عامل الحماية يؤثر مرة أخرى مؤديًّا إلى التجميع السكني في صورة بدنات أو عشائر محدودة العدد. وكذلك تدعو ظروف الجفاف أو البرد الشتوي إلى التجمع السكني في الأماكن التي تؤمن المياه أو الدفء. وبطبيعة الحال، فإن الأنماط الاقتصادية العالية القائمة على أساس الإنتاج المتخصص والتبادل والتجارة — الزراعة الكثيفة والصناعة — تؤدي إلى تكاثف السكن في قرى كبيرة أو مدن، بغضِّ النظر عن أشكال القرابة والتجمع الأولي للناس.
الأنماط الرئيسية لأشكال المسكن
-
(١)
الكهوف: قلنا إن أقدم أشكال المسكن المعروفة لدينا هو الكهف. ولو أن ذلك لا يمنع أن تكون هناك أنماط سكنية سابقة من مواد هالكة لم تصل إلينا، وإذا كانت الكهوف نمطًا سكنيًّا قديمًا، إلَّا أن بعض الجماعات ما زالت تستخدم الكهوف كمقر للسكن، وخاصة في إسبانيا. وقد كان هناك اعتقاد سابق — مصدره الاتجاه النفسي في التفسير — يقول إن الكهف بتداخله في بطن الجبل وبمنحه الأمان للناس يشابه كثيرًا الأمان الذي يعرفه الناس عن الأجنة في الأرحام. وبعبارة أخرى، يقول هذا الاعتقاد إن الناس التجئوا إلى الكهوف بدافع نفساني غريزي وبيولوجي، لكن ذلك التفسير ليس صحيحًا، ففي حين تكون بطون الأمهات المأوى المثالي للأجنة، فإن الكهوف غير ذلك للأسباب التالية: (أ) عدد الكهوف الملائمة للسكن قليلة، وعدد الناس دائمًا أكثر مما تُقدِّمه الطبيعة من كهوف صالحة. (ب) قد تكون الكهوف الملائمة للسكن بعيدة عن مصادر مياه الشرب أو مصادر الصيد الغنية. (ﺟ) إن الكهف غير متحرك والارتباط به يؤدي إلى وقف تحركات الصيَّادين. (د) في الكهوف عددٌ من المشاكل على رأسها مشكلة التخلص من النفايات. (ﻫ) وأخيرًا فإن معظم الكهوف رطبة تؤدي إلى حدوث التعفن أحيانًا، وتصيب السكان بالروماتيزم وغيره من الأمراض. وبرغم ذلك فإن الإنسان القديم قد سكن الكهوف كملجأ جيد ضد البرودة الشديدة، وخاصة العصور الجليدية في أوروبا. وقد ترك لنا ذلك ثروة عظيمة أركيولوجية وأنثروبولوجية وإثنولوجية، بل وفنية أيضًا. فدراسة المخلفات العظمية للإنسان وحيوانات الصيد، ومخلفاته الحجرية، ونقوشه ورسومه على جدران الكهوف والحوائط الصخرية؛ كلها أعطتنا معلومات قيِّمة عن نوع الإنسان وشكل الاقتصاد وتقدمه التكنولوجي في صناعة الأدوات والأسلحة وشكل البيئة الطبيعية وأنواع الحيوان وطرق الصيد.شكل ٦-٥: الأنماط الرئيسية من المساكن.
(١) رصيف خشبي فوق جذع شجرة مقطوعة. (٢) أ، ب أنواع من الكهوف العميقة والضحلة. (٣) أنواع من الخيام: (أ) الخيمة العربية. (ب) «يورت» وسط آسيا. (ﺟ) «تيبي» أمريند أمريكا الشمالية. (٤) بيت حفر: (أ) نصف غاطس. (ب) مقطع أرضي. (ﺟ) بيت حفر ضحلة. (٥) بيت حفر غاطس مع المقطع الأرضي. (٦) تطور فكرة توسيع مساحة المسكن بالأعمدة الخشبية. (٧) (أ) كوخ مستدير قمعي من الأعشاب. (ب) كوخ وحوائط من الغاب والبوص فوق أعمدة. (٨) البيت المصنوع من الطوب: «بويبلو» أمريند جنوب غرب الولايات المتحدة. (٩) بيت من الطوب أو الحجر وسقف منحدر: مسكن زراعي (م = مخازن).
ولكن الإنسان باضطراره للتجول وراء الصيد، كان يفضِّل السكن في المناطق المفتوحة؛ ولهذا فإن هناك اتجاهًا قويًّا يدعو إلى الاعتقاد بأنه كان يلجأ إلى الأشجار بعد أن يقيم له محلًّا للنوم بواسطة عدة فروع يمدها بين الأغصان القوية، ويرتبط هذا الاتجاه بما هو معروف عن الرئيسيات من اختيارها الأشجار محلًّا للنوم وعدم استخدامها الكهوف. كذلك فإن الكهوف غالبًا مظلمة، وليس من طبع الإنسان حتى الآن أن يلجأ إلى الأماكن المظلمة إلَّا في حالات خاصة (انظر شكل ٦-٥). -
(٢)
مصدات الرياح: هذا النوع هو أبسط أشكال المساكن المصنوعة التي نعرفها عند المجتمعات البدائية المعاصرة، وهو عبارة عن إطار من الأغصان يُغطَّى بلحاء الأشجار وأوراقها، ويُوضَع في صورة مائلة بالاستناد إلى واجهة حائط صخري، أو في صورة قوس كبير يُقام تحت الأشجار ويُغطَّى بالأعشاب، وأحيانًا يُصنَع أيضًا من الجلد. ويحمي هذا النوع من المساكن — التي يمكن تفكيكها وحملها ونقلها — الناس من الأمطار أو الرياح. وما زال هذا النوع شائعًا بين البشمن في أفريقيا الجنوبية، وعند الأرونتا من قبائل أستراليا وأقزام الملايو.
-
(٣)
الأكواخ: يستخدم معظم البدائيين أشكالًا مختلفة من الأكواخ. وأبسط أشكال الكوخ يتخذ صورة قبَّة من الأغضان والأوراق والأعشاب مقامة فوق إطار من الخشب أو الغاب، ونوع آخر هو ذلك الكوخ الخشبي المكوَّن من أعمدة خشبية، وينتهي بسقف قمعي الشكل، وقد يُضاف إليه الطين في جزئه الأسفل والأعشاب والأغصان في الجزء الأعلى. وغالبية الأكواخ قمعية الشكل لتجنب تراكم مياه المطر وتأمين انزلاقها خارج الكوخ، وهناك أكواخ تُصنَع كلها من الخشب ولحاء الشجر، كتلك الأكواخ الشائعة في جنوب شرق آسيا وبولينيزيا، وهي أيضًا ذات سطوح منحدرة. وفي بعض المناطق — وخاصةً عند جماعات الصيد والسماكة في النطاق الاستوائي — تُرفَع المساكن كلها على أعمدة خشبية تُدَقُّ فوق مياه مستنقع، وذلك تجنُّبًا لرطوبة الأرض المستمرة، ولإعطاء أمان أكثر ضد الحيوان المفترس. ومساكن الميلانيزيين معظمها من هذا النوع، وتختلف خامة الأكواخ حسب المصدر الرئيسي الموجود في الإقليم، وفي الغالب يُضاف الطين إلى الحوائط إذا لم يكن البيت مصنوعًا من الخشب أو لحاء الشجر، وأحيانًا تُقام جدران الأكواخ من الحجارة ويُقام فوقها السطح المنحدر.
-
(٤)
الخيام: وهذه كما قلنا مرتبطة بالرعاة المتنقلين، وتُصنَع من شعر أو جلود الحيوان الرئيسي الذي ترعاه المجموعة، كما أن بعض الصيادين في آسيا الشمالية وأمريكا الشمالية يصنعون الخيام لكثرة تجوالهم وراء الصيد.
-
(٥)
بيوت الحُفَر: وهذه المساكن تستغل حفرًا طبيعية في الأرض، أو تحفر الأرض إلى العمق المطلوب، والميزة الأساسية هي أن جدران الحفرة تكون سندًا قويًّا للجدار الذي يبنيه الإنسان من أعمدة الخشب أو الحجارة. وفي خلال العصر الحجري الأوسط في فرنسا (حوالي ١٤ ألف سنة مضت) كانت مساكن الحفر هذه تُبنى في حفرٍ ضحلةٍ وتُغطَّى ببناء قبابي الشكل، وهذا النوع من المساكن ما زال شائعًا في النطاق الشمالي من آسيا وأمريكا. ففي الساحل الشمالي الغربي لأمريكا تكون هذه المساكن غاطسة في حفر إلى عمق حوالي ٢٫٥ متر، ثم تُغطَّى الحفرة بجذوع أخشابٍ قوية، وتُغطَّى بعد ذلك بطبقة من الطين، ويتخذ السقف في مجموعه الشكل القمعي أو السطوح المنحرة، ويُترَك وسط السطح مفتوحًا تمامًا بحيث يخدم غرضين: التهوية وفتحة الدخان، وباب المسكن. ولذلك يوجد سلَّم خشبي مثبَّت إلى هذه الفتحة، والمسكن بذلك عبارة عن حجرة واحدة مستديرة أو بيضاوية غالبًا، ويبلغ قطرها حوالي ٥٫٥ أمتار. ونجد عند صيَّادي شمال سيبيريا أيضًا مساكن الحفر، ولكنها نصف غاطسة، وأحيانًا تستند إلى حائط صخري من إحدى جهاتها، والمدخل أيضًا من أعلى. ولا شكَّ في أن هذا النمط من المساكن هو استمرار لنوع المساكن في العصر الحجري، وانتقل من آسيا إلى أمريند أمريكا. ويبني الإسكيمو أيضًا مساكن حجرية أو من عظام الحوت والحجارة، مع ممر طويل (٣ أمتار) منخفض أشبه بالنفق، ويُعلَّق عند المدخل ستار من الجلد ليقي الداخل من البرد القارس في الخارج.
-
(٦)
مساكن الطوب: تُشيَّد إمَّا من اللبِن أو الطوب المحروق، وهي عكس بيوت الحُفَر؛ لأنها مشيَّدة فوق سطح الأرض، وهذا النوع من المساكن شائع، ويمكن أن يرتفع إلى عدة طوابق، ومساكن أمريند «البويبلو Pueblo» (في جنوب غرب الولايات المتحدة) عبارة عن مساكن جماعية ترتفع إلى خمسة طوابق، وتتألف من شقق مختلفة. والواجهة الخارجية عالية، وليست بها فتحات للمساكن؛ مما يعطيها صورة القلاع، بينما تطل المساكن على ميدان داخلي واسع. والغريب أن أبواب هذه المساكن أيضًا من أعلى مثل بيوت الحُفَر؛ ولذلك فإن المنظر العام من الميدان الداخلي هو مجموعة من الأبنية المتراجعة إلى الخلف كلما ارتفعت. وهذا المجمع الكبير المتلاصق من المساكن يُسمَّى «بويبلو»، ومن ثمَّ أُطلِق على السكان هذا الاسم، ويكوِّن البويبلو تجمعًا لحياة مشتركة تعاونية، ولو أن الاتجاه إلى بناء مساكن منعزلة وتفكيك البويبلو كان اتجاهًا حديثًا بتأثير الاحتكاك الحضاري مع الأمريكيين.
-
(٧)
المساكن المشتركة: هذا نوع آخر غير البويبلو، وهو الذي نسمِّيه البيت الطويل، وبدايات هذا النوع من المسكن قديمة ترجع إلى العصر الحجري القديم الأعلى، وهو موجود حاليًّا في غابات الأمازون ومعظم أمريكا الجنوبية وغينيا الجديدة، وكثير من جزر المحيط الهادي، وكذلك كان شائعًا عند الإيروكويز، وقد وصفه لويس مورجان وصفًا دقيقًا، ومعظم هذه البيوت الطويلة تسيطر عليها التنظيمات الأموية.
(٣-٥) النقل
برغم أن وظيفة النقل جزءٌ لا يتجزأ من الأنظمة الاقتصادية وأنماط الحصول على الغذاء، إلَّا أننا سندرسه هنا دراسة موجزة كجزءٍ من الإنتاج الحضاري المادي بحكم ارتباطه بتكنولوجية الإنتاج، والأهمية الأساسية للنقل هي أنه الوسيلة الوحيدة بين الإنتاج بشتَّى أشكاله وبين الاستهلاك. وقد يبدو ذلك مرتبطًا فقط بإنتاج السلع النقدية واقتصاديات السوق، ولكن ذلك لا يمثل سوى مرحلة حديثة نسبيًّا في تاريخ الإنسانية؛ فقد كانت هناك باستمرار ضرورة للنقل حتى في أبسط أشكال الحضارات البائدة والمعاصرة.
فالجماعات التي تعيش على جمع النبات والصيد أو السماكة تحتاج إلى وسيلة ما من الوسائل لنقل ما تجمعه أو تصطاده إلى مكان الاستهلاك: المعسكر المتنقل أو القرية الثابتة، ولا نتصور أن الإنسان كان يأكل ما يجمعه أو يصطاده في المكان المباشر للجمع أو الصيد، مهما كان عدد عصبة الصيد أو الجمع صغيرًا، فهذه العصبة تضم الأطفال وكبار السن، وهؤلاء لا يتحركون بسهولة. كما أن الجمع والصيد ليس عملية يومية دائمة، وليست عملية تلقائية، بل هي عملية منظمة تتم في مجموعها بين الحين والحين، وكذلك لم تكن كل بيئة طبيعية أو كل منطقة محلية تفتح أبوابها كأنها مخازن دائمة يمدُّ الإنسان يده إليها ليحصل على غذائه، بل إن ما في الطبيعة من غذاء يحتاج إلى عناء وجهد كبير من جانب الإنسان لكي يحصل عليه، كما أن هناك مواسم للإنبات والإثمار، ومواسم لظهور الحيوان والأسماك بكثرة، ومواسم تهاجر فيها أعداد الحيوان من مكان إلى آخر حسب إيكولوجية الحياة والاحتياجات البيولوجية للحيوان والإنسان والأسماك، ومن ثمَّ فإن هناك تنظيمًا محددًا داخل هذه المجتمعات للحصول على الغذاء.
من هذا كله، يتضح لنا أن الإنسان كان محتاجًا للنقل لسببين رئيسيين؛ الأول: إطعام الأطفال وكبار السن وتوفير احتياجاتهم الغذائية بصفة مستمرة، والثاني: مرتبط بالظروف الإيكولوجية التي تستدعي نقل الكثير من وفرة الطبيعة في مواسمها إلى المعسكر لتأمين الغذاء للجميع. وهذا هو ما يحدث داخل المجتمعات البدائية المعاصرة مع استثناء حالتين؛ الأولى: عند السمَّاكين في منطقة الوفرة الدائمة، والثانية: عند الصيَّادين في حالة الحصول على صيدٍ كبير. وفي الحالة الأولى نجد السمَّاكين قد استقروا في قرى دائمة كبيرة أو صغيرة قرب مصدر السمك، ومن ثم لا تظهر الحاجة إلى النقل بصورة واضحة، وفي الحالة الثانية ينتقل المعسكر بأطفاله وكباره المسنين إلى مكان الحيوان الكبير الذي تم اصطياده ويتعذر نقله، مثل الفيل عند الأقزام في حوض الكنغو، والزراف عند البشمن في جنوب أفريقيا. ينتقل المعسكر ويقيم بضعة أيام إلى أن يأتي على معظم هذا «المخزن» الكبير من اللحم، لكن المجتمع يقوم أيضًا بتدخين وتجفيف بعض اللحوم وينقلها معه لتكون ذخيرة غذائية للأيام التالية.
وتختلف وسائل النقل كثيرًا بين الجماعات المختلفة، ولكن يمكننا أن نميِّز ثلاث مراحل تكنولوجية في عملية النقل، هي في الوقت نفسه مرتبطة بالتطور الحضاري من ناحية والظروف الإيكولوجية من ناحية ثانية. وهذه المراحل الثلاث في النقل هي: مرحلة استخدام الطاقة الإنسانية – مرحلة استخدام الطاقة الحيوانية – مرحلة استخدام الطاقة غير البيولوجية.
الطاقة الإنسانية في النقل
ظل الإنسان في الجزء الأعم من حياته يستخدم طاقته العضلية الذاتية في النقل (كل العصور الحجرية حتى بداية استئناس الحيوان في العصر الحجري الحديث). ولكن مسطح النقل والحمل عند الإنسان صغير (الرأس والأكتاف)، ولا يعتمد على قوائم ثابتة (لأن الإنسان يقف على قدمين فقط)؛ ولذلك يحتال الإنسان منذ البداية على توسيع مسطح الحمل وتثبيته باستخدام حلقة من مادة غير خشنة (نسيج أو ألياف نباتية) تُوضَع فوق الرأس لجعل المسطح الأعلى للرأس أفقيًّا، أو استخدام لوح من الخشب إذا كان ما يحمله على رأسه خفيفًا ولكنه يحتاج إلى مسطح واسع، وأحيانًا يستخدم الإنسان ملابسه كوعاء للحمل، وذلك في صورة اﻟ «عب» الذي يصنعه باستخدام نطاق (حزام) حول وسطه، وبذلك يصبح الجزء الأعلى من الملابس صالحًا لنقل بعض الأشياء.

وينتشر النقل باستخدام الرأس في المناطق المدارية من أفريقيا وآسيا، وقد يحمل الشخص ما بين ٢٠ و٢٥ كيلوجرامًا، أمَّا النقل على الرأس فيشيع بين نساء الأمريند فقط.
الطاقة الحيوانية في النقل
لا شكَّ أن الحيوان يفضل الإنسان كثيرًا كوسيلة نقل، وذلك لثبات قوائمه الأربع على الأرض ولاتساع مسطح الحمل الذي يشمل كله ظهره، وقد استُخدِم الحيوان في مراحله الأولى في الحمل، ثم تطور استخدامه أيضًا في الجر، ولكن ليست كل الحيوانات قابلة أو تصلح للجر بسبب طبيعة تكوينها مثل الجمل. وقد تداخلت ظروف البيئة الجغرافية في تحديد أنواع الحيوانات التي تصلح للنقل: الرنة والكلاب في النطاق الشمالي البارد، الخيول في النطاق العشبي المعتدل، البغال في المناطق الجبلية والوعرة، الإبل في النطاق الجاف، والأبقار في نطاق الحشائش المدارية. ونستطيع أن نضيف إليها الجاموس والفِيَلة في المنطقة الموسمية من آسيا، واللاما (جمل العالم الجديد) في الأنديز.
والاختلافات واضحة بين كل حيوان وآخر في طاقته وقدرته على الحمل أو الجر أو هما معًا، ولكن المجتمعات المختلفة استفادت من الحيوان الرئيسي في بيئتها بالطريقة الملائمة التي خدمت أغراضها في النقل. ولقد كان لأنواع الحيوان انعكاس على التركيب الاجتماعي والسياسي للمجتمعات المختلفة (مثل مجتمع رعاة الخيل القائم على أساس القيادة القوية والتنظيم العسكري والغزو والحركة السريعة، إلى جانب إيكولوجية السهوب والإستبس التي تساعد على ذلك بطبيعة الحال). ولقد ساعد النقل بواسطة الحيوان على زيادة كمية السلع المنقولة، وخاصة في المناطق الزراعية، كما أنها دلَّت إلى زيادة الاتصال والاحتكاك بين الشعوب عن طريق التجارة والحركة السريعة، وخاصةً في صورة القوافل التي كانت تَعْبُر العالم القديم من أقصاه في الصين إلى أقصاه في الشرق الأوسط وأوروبا، ومن البحر المتوسط إلى العالم المداري الأفريقي. ولا شكَّ أن اكتشاف مبدأ العجلة (الدولاب) قد رفع أيضًا طاقة الحيوان في نقل كميات أكبر من الحمولة التجارية أو الأشخاص نقلًا سريعًا، لكن العربات لم تحل محل القوافل التجارية في العالم القديم التي كانت تعتمد على الحيوان كأداة حمل وليس كوسيلة للجر، ومع ذلك فقد ساعدت العربات على نحو التجارات الإقليمية والمحلية، وعلى هجرة الشعوب، وخاصة في العالم الجديد حينما استوطن الأوروبيون أمريكا. وما زال مبدأ العجلة قائمًا حتى الآن، وأصبح جزءًا بديهيًّا من حياة الحضارات العليا القديمة والمعاصرة برغم حداثته النسبية، فقد اكتُشِف هذا المبدأ وطُوِّر إلى أن أُضِيفَ إلى القرص الخشبي حلقة حديدية تعطيه متانة وعمرًا أطول في منطقة الشرق الأوسط (الأناضول والشرق الأوسط العربي) في حدود الألف الثانية قبل الميلاد.
ولقد طوَّر الإنسان عددًا من الابتكارات لرفع إمكانيات الحيوان في النقل. وتختلف هذه الابتكارات باختلاف استخدام الحيوان: للحمل أو للجر، وفيما يختص بابتكارات الحمل نجد المبادئ نفسها التي طوَّرها الإنسان لنفسه لكي يزيد من طاقته في النقل، وأهمُّها العصا أو العصيُّ المتوازية بشكل تركيبة خشبية تُوضَع على ظهر الحيوان يُثبَّت إليها أوعية مختلفة من الجدائل أو السلال. وزاد عليها إمكانية تثبيت «الهودج» على ظهر الحيوانات القوية مثل الإبل والفِيَلة بعد أن كان يُحمَل على أكتاف عدد من الأشخاص. ويستخدم البقَّارة العرب في السودان الثيران لحمل هودج مشابه لذلك الذي كان شائعًا بالنسبة للإبل، وبذلك نرى تعديلًا حضاريًّا لاستخدام الحيوانات بطرقٍ مختلفة. أمَّا بالنسبة لابتكارات الجر، فقد استُخْدِمت الزحافَّات منذ فترة طويلة في المناطق الجليدية، وكانت الطاقة المستخدمة غالبًا هي مجموعة من الكلاب، أو الرنة بعد استئناسها. كذلك استُخدِم الحيوان لجر الأشياء الثقيلة على متوازيين من الخشب، وأخيرًا استُخدِم الحيوان في جرِّ العربات، والعربة في حد ذاتها ابتكار حضاري قيِّم تطلب تكنولوجية متقدمة لربط ألواحٍ من الخشب معًا في هيئة وعاء كبير، ثم إضافة محور إلى العربة تدور عليه العجلة.
الطاقة غير البيولوجية في النقل
ولكن القوارب الحقيقية ظهرت لأول مرة — حسب معلوماتنا الراهنة — في خلال عصر النحاس في مصر منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وهي قوارب مصنوعة من ربط الأخشاب بعضها إلى بعضٍ حسب خطة معينة. وقد كانت هناك قوارب مصرية كبيرة تَعْبُر البحار المحيطة بمصر، وبرغم أن التجديف بواسطة المجاذيف كان أساس الدفع لمثل هذه القوارب الكبيرة، إلَّا أن الرسوم المصرية الملونة على «الفازات» التي تعود إلى ما قبيل ٣٠٠٠ق.م تضيف شراعًا إلى القوارب. وقد ظلت الملاحة البحرية بالنسبة للحضارات العليا آلاف السنين على الأسس التي طوَّرها المصريون، رغم أن المصريين لم يكونوا من شعوب البحر، لكن لا شكَّ أن النيل كان مدرسة ممتازة للاهتمام بالملاحة؛ لأنه كان يمثِّل شريان النقل الرئيسي طول السنة، كما أن الفيضان السنوي وامتلاء الحياض بالمياه كان يضطر السكان إلى الاستعانة بالقوارب للانتقال من مكانٍ إلى آخر. ولم يحدث تطور في الملاحة إلى السفن الكبيرة المتعددة الأشرعة إلَّا حوالي تاريخ الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك برغم الشهرة والنشاط البحري لعددٍ من شعوب البحر المتوسط ذات الحضارة العليا: الفينيقيين، والإغريق، والرومان.
ولم تكن قوة المياه في حمل القوارب بمختلف أشكالها، أو قوة جريان الماء في الأنهار هي وحدها الطاقة غير البيولوجية التي استخدمها الإنسان مبكِّرًا، بل عرف المصريون أيضًا — كما رأينا — استخدام الشراع لتسخير طاقة الرياح منذ فترة مبكِّرة أيضًا، لكن استخدام الشراع كان يمثِّل استخدام طاقة طبيعية خطرة في حالات العواصف والأعاصير؛ ولهذا لم يلجأ الإنسان إلى استخدام الرياح إلَّا في أوقات محدودة، وخاصةً بعد أن كبر حجم القوارب. ومعظم البدائيين إلى الآن لا يستخدمون الرياح ويفضلون استخدام الطاقة العضلية في التجديف.
وعلى وجه العموم كان الإنسان في استخدامه للنقل المائي يتحكم في سير القارب إمَّا بالجهد العضلي في صورة التجديف، أو استخدام المزارق (عمود من الخشب يُدفَع في الماء إلى أن يصل إلى القاع، ولا يُستخدَم إلَّا في حالة المياه الضحلة)، وإمَّا باستخدام الشرع والدفة (السكان) وبذلك كان يستخدم طاقة غير بيولوجية لتحريك القارب في الماء.
ويوضح تاريخ النقل المائي كيف أن عنصرًا حضاريًّا قد اشترك في تطويره عددٌ كبيرٌ من الشعوب، رغم أنه نشأ نشأة مستقلة في عشرات المناطق على سطح الأرض، وهذه النشأة المستقلة المتعددة لاستخدام الماء في النقل والانتقال تعلل سبب الاختلافات الشاسعة في أشكال ومادة «الطوف» أو «القارب المحفور» أو «القارب الجلدي» أو «القارب الحقيقي». ثم يأتي دور الابتكار فيضيف المصريون القدماء الشراع إلى القارب، وتتبنى شعوب البحر المتوسط هذا الشكل، ويظل المجذاف الأساس في تسيير القارب أو السفينة، وفي شرق آسيا يظهر الشراع أيضًا، وتصبح الملاحة الصينية متطورة في البحار الشرقية والمحيط الهندي والهادي على السواء، ويأتي العرب بسفنهم الشراعية المطورة، ويطوِّرون أيضًا مبدأ البوصلة البحرية نقلًا عن الصين. وأخيرًا يأتي دور أوروبا الغربية فتأخذ عن العرب وشعوب البحر المتوسط وتطوِّر السفن والبوصلة، وبذلك تنشط الملاحة الأوروبية وتتمكن من التوغل في مياه لم يطرقها أحد (أو لم يتردد عليها أحد بحيث تصبح معروفة)، وتتم كشوف المحيط الأطلنطي والأمريكتين وأفريقيا الجنوبية. وأخيرًا يُعتبَر استخدام البخار ثم آلات الديزل والمحركات في السفن حدثًا قريبَ العهدِ جدًّا، فإن بداية استخدام البخار دون شراع حدثت في نهاية القرن الماضي فقط.
وبالرغم من تعدد أشكال النقل في الوقت الحاضر وسيادة استخدام الطاقة غير البيولوجية، إلَّا أن النقل بواسطة الإنسان أو الحيوان أو القوارب البدائية ما زال شائعًا في مناطق كثيرة من العالم البدائي، كذلك علينا أن نلاحظ أن الطاقة الإنسانية في النقل ما زالت مستخدمة حتى في أكثر المناطق تقدُّمًا، فالعمالة اليدوية موجودة وقائمة في الموانئ، والمطارات، ومحطَّات السكك الحديدية، والأسواق الكبرى في المدن. وعلى ذلك، فإن النقل ما زال يُستخدَم في كل ما ابتكره الإنسان من وسائل منذ القدم، ولا يجب أن نظنَّ أن الإنسان كان ينحِّي جانبًا وسيلة نقل قديمة بمجرد ابتكاره وسيلة جديدة.