الفصل الثامن

التنظيم الاجتماعي١

الإنسان والمجتمع

لا جدال في أن الإنسان والمجتمع شقان لشيءٍ واحد. فلا يوجد مجتمع بدون أفراد، ولا يستطيع الأفراد أن يعيشوا دون تجمعٍ ما. وبصورةٍ عامة، نستطيع أن نقرر أنه لا بد من وجود مجتمعات تترابط فيها العلاقات الفردية وتنتظم. وبرغم اعترافنا بوجود المجتمع، فإن الجدل كثير بين العلماء على ماهيته: هل هو تكوين عضوي بحت، أم هل هو «أنا» تشاركية أو علاقة «أنا-نحن»؟ ومعنى ذلك: هل للمجتمع حقًّا وجود فعلي، أم لا وجود له إلا من خلال الأفراد الذين يكونون المجتمع؟ وتجنبًا للكثير من المواقف الفلسفية، يكفينا أن نقول ببساطة إن الإنسان يحتوي على الحياة الاجتماعية، وإن التجمع عند الإنسان جزء جوهري منه. وبذلك نستطيع أن نبرر القول المأثور: «الإنسان مدني (اجتماعي) بالطبع.» فكل فرد يقوم بدور معين في شتى أشكال الحياة المادية وغير المادية، وبذلك يعطي للمجتمع وجوده، لكن الإنسان يستمد العون والمساعدة من المجتمع كي يستطيع أن يعيش ويؤدي دوره.

وعلى هذا يمكن أن ننظر إلى المجتمع على أنه تركيب فوق الإنسان، وعلى أنه تمثيل للإنسان في نمط مادي مؤسس على صفة جوهرية من طبيعة الإنسان؛ هي التجمع.

ولكي تتحدد وتتناسق علاقات الأفراد، فإننا نجد المجتمع يتكون من عدد من التركيبات والتنظيمات تأخذ صورة الأنماط والقوالب الاجتماعية، ويعطي التركيب الاجتماعي الشكل العام والنظام الدائم للمجتمع، وهو بذلك ثابت غير متطور إلا على فترات زمنية طويلة. أما التنظيمات الاجتماعية، فهي عبارة عن القوالب التي يتحقق من خلالها تطبيق قواعد وشكل التركيب الاجتماعي، وبذلك فإن التنظيم الاجتماعي يتسم بالدينامية والتطور.

ويشتمل التنظيم الاجتماعي على عدد كبير من الأنماط والقوالب الثابتة والدينامية، ومن أهم أشكال التنظيم الاجتماعي:
  • (١)

    العلاقة بين الجنسين: وتشتمل على علاقات عديدة؛ منها تقسيم العمل، ووظيفة ودور الرجل والمرأة في المجتمع. كذلك تشتمل على تنظيم العلاقة الجنسية، نظام الزواج وأنظمة القرابة ونوع الأسرة.

  • (٢)

    علاقات المكان وعلاقات الدم في تكوين أشكال التجمعات المحلية؛ كالبدنة والعشيرة والقبيلة.

  • (٣)

    طبقات السن وتقسيم المجتمع إلى وظائف اجتماعية مرتبطة بالسن، وتكوين الوظائف السياسية والقانونية.

  • (٤)

    المعتقدات الدينية وتكوين هيئة رجال الدين، ومجموعة القوالب الحضارية الخاصة بالطقوس المختلفة في حياة الأفراد.

(١) العلاقات بين الجنسين

(١-١) العلاقات خارج الزواج

الإنسان — كأي الكائنات البيولوجية الأخرى — يتكون من جنسين، ولا يمكنه أن يهرب من الملزمات البيولوجية التي يمليها عليه الجنس، تمامًا مثل ملزمات بقائه التي تملي عليه الأكل بانتظام. لكن الإنسان ليس كائنًا بيولوجيًّا فقط، بل هو كائن حضاري أيضًا؛ ولهذا نجد كافة المجتمعات القديمة والحديثة تقوم بتنظيمٍ ما في العلاقات الجنسية؛ لأن كينونة الإنسان حضاريًّا قد عقدت مشكلة الجنس وجعلتها شديدة الاختلاف عن العلاقة الجنسية البسيطة بين الكائنات الأخرى والتي تستند فقط إلى الدوافع البيولوجية. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن غالبية النظم الاجتماعية والقوانين الدينية والخلقية في غالبية المجتمعات تسعى بصور مختلفة إلى تنظيم علاقات الجنسين.

وتدل الدراسات الأنثروبولوجية على أن مجتمعاتنا العليا الراهنة تضع الكثير من القيود على هذه العلاقة فيما قبل الزواج، وتحرم أي علاقة خارج العلاقة الزواجية. ومن أجل ذلك تضع مجتمعاتنا العليا المعاصرة الكثير من العقوبات الأدبية والقانونية على أي إخلال بهذه القيود والتحريمات. لكننا نرى في مجتمعات الحضارة الغربية — وخاصة في أوروبا وأمريكا — اتجاهات كثيرة في الوقت الحاضر تبعد بالإنسان عن هذه القيود والتحريمات. وعلى وجه العموم، فإن المسح الاجتماعي الذي قامت به جامعة ييل الأمريكية (بإشراف الأستاذ مردوك) عن نظم القرابة والزواج في ٢٥٠ مجتمعًا، قد دل على أن ٥٪ فقط من المجتمعات هي التي تفرض تحريمًا عامًّا على العلاقات الجنسية خارج العلاقة الزواجية. ويوضح الجدول نتائج هذه الدراسة:٢
معلومات عن القيود على علاقات الجنسين.
عدد المجتمعات
مجموع المجتمعات المدروسة ٢٥٠
مؤشرات على احتمال وجود قيود وتحريمات على العلاقات الجنسية ٣
أدلة قاطعة على عدم وجود قيود وتحريمات على العلاقات الجنسية منها: ١١٥
السماح بعلاقات جنسية قبل الزواج ٤٩
السماح بالعلاقة الجنسية الخارجية أثناء الزواج ٣
علاقات مسموح بها عامةً ٢٣
مجتمعات تسمح بأكثر من واحد من العلاقات الجنسية المذكورة ٤٠
مجتمعات لا توجد عنها معلومات عن العفة قبل الزواج ٧
مجتمعات لا توجد عنها معلومات عن العفة قبل وخلال الزواج ٣٥
مجتمعات لا توجد عنها معلومات إطلاقًا عن هذا الموضوع ٩٠
ولا شك في أن نتائج هذه الدراسة تبدو غريبة كل الغرابة عن ممارساتنا الاجتماعية الحالية. كذلك كانت مثل هذه المعلومات بمثابة صدمة للإثنولوجيين الأول أمثال مورجان وباخوفن، ومن ثم جاءت الأفكار الخاصة بوجود مرحلة من الشيوع سابقة على التنظيمات الاجتماعية الأخرى. وقد سُمِّيَتْ هذه المرحلة بعدة أسماء، منها الشيوع الجنسي Sexual communism، والاختلاط الجنسي البدائي Primitive promoscuity، ونظام السرايا والمحظيات Hetairism، ولكن عدد الجماعات التي تمارس مثل هذه النظم المشاعية قليل جدًّا في الوقت الحاضر.

وأيًّا كانت الأوضاع الحضارية، فإن هناك بعض التنظيمات في المجتمعات المختلفة لتقنين العلاقة الجنسية كنوع من التوفيق بين الدوافع الجنسية البيولوجية البحتة، وبين النظام الاجتماعي والحضاري. وهنا يجب أن نميز بين المعاشرة والزواج كنظامين مختلفين؛ فالعلاقة الأولى بيولوجية بحتة، بينما الزواج في مجموعه هو نظام حضاري بحت، إلا أنه يقوم بإشباع العلاقة البيولوجية أيضًا، ومن ثم فهو علاقة أعم من المعاشرة. والزواج كنظام هو تجميع لعدد من الأنماط والقوالب الحضارية التي تحدد وتحكم العلاقة بين: (١) الرجل والمرأة المتعاشرين. (٢) وعلاقاتهما بالأقرباء. (٣) وعلاقاتهما بالأولاد. وأخيرًا: (٤) العلاقة العامة بالمجتمع. وأنواع الزواج هي التي تحدد شكل ونشاط التجمع الذي نعرفه باسم الأسرة.

(١-٢) علاقات الجنسين قبل الزواج

هناك مجتمعات تسمح بعلاقات قبل الزواج، ولعل أشهرها مجتمع جزر التروبرياند Trobriand (بجوار غينيا الجديدة في ميلانيزيا)، الذي يسمح بالعلاقة قبل الزواج بين كل الشباب، وتدريجيًّا تنتهي هذه العلاقات المتعددة إلى ارتباطات أكثر دوامًا بين شاب وفتاة لتنتهي بعد ذلك بالزواج. وعند قبيلة الإيفوجاو Ifugao في القليبين يسمح بالمعاشرة بين الفتيات والشباب الذين ينتمون إلى الطبقات غير الموسرة أو الحاكمة. ففي كل ليلة، يأتي الشباب إلى بيت أرملة — وهو في نفس الوقت مكان مبيت الفتيات البالغات — إذ لا يُسمَح لهن بالمبيت في بيوت ذويهن، وأيضًا تتطور هذه العلاقات المتعددة بين الجميع إلى ارتباط بين اثنين ينتهي بالزواج بعد تبادل الهدايا. أما الإيفوجاو الأغنياء، فإنهم يهتمون بزيادة أملاكهم من حقول الأرز بتزويج أبنائهم من بنات الطبقات الغنية منذ الطفولة، بل وفي أحيانٍ كثيرة يتم الاتفاق بين الأسر قبل أن يُولَد الأطفال. وفي ساموا بجزر بولينيزيا يحرم على الأميرات ما يُسمَح به لرفيقاتهن كل ليلة، وإلا تعرضن للقتل أو الفضيحة حينما يأتي اليوم الذي تُزوَّج فيه لابن زعيمٍ آخر.

ويتضح من هذه الأمثلة أن الزواج عند بعض البدائيين لا يرتبط إطلاقًا بفكرة العفة والعلاقة البيولوجية والحب الرومانسي، كشروط أساسية للزواج عند مفاهيم حضاراتنا العليا؛ فإنه لا يوجد أي شعور بالذنب للمعاشرة قبل الزواج. بل في بعض مجتمعات السفانا السودانية في أفريقيا، يمكن للزوج أن يتهم زوجته العفيفة بأنها غير جميلة أو أنها لم تكن مرغوبة من أي من شباب المجتمع قبل الزواج لأسباب متعددة، وفي هذه الحالة يقول الزوج لزوجته: لم يَرَ وجهك سواي والذباب!

كذلك يتضح من هذه الأمثلة أيضًا دور التحديد الاقتصادي في فرض أشكال مختلفة من العلاقات الجنسية قبل الزواج عند الأغنياء والفقراء، وعند الحكام وأبناء الشعب. وإلى جانب دور الاقتصاد نجد للمعتقدات الدينية دورًا في بعض الحالات، في أشكال العلاقة بين الجنسين. فمن الشائع في بولينيزيا أن هناك قوى روحية معينة عند الأميرات تجعل معاشرتهن ذات تأثيرٍ خطر على حياة الشباب من عامة الشعب. ومثل ذلك نجده شائعًا أيضًا عند الإنكا في بيرو. كذلك تحتم بعض الطقوس الدينية وجود بعض العفيفات، ومن ثم تظهر فكرة الرهبنة عند الإناث مبكرة عند كثيرٍ من الشعوب، لكن هذه الرهبنة غالبًا ما تكون مؤقتة وليست دائمة كما هو الحال عند بعض الطوائف المسيحية. وفي الوقت نفسه، تعتقد كثير من الشعوب البدائية أن المرأة تحمل طاقات خفية، غالبًا خطرة وذات نتائج سيئة بالنسبة للقوى الروحية للرجال الذين يعملون في قطاع الدين البدائي، ومن ثم نجد الكثيرين من هؤلاء يميلون إلى الرهبنة الدائمة، وربما كان هذا هو جذور الرهبنة في الديانات العليا.

وفيما بين ممارسات المعاشرة الحرة قبل الزواج وبين أفكار الرهبنة، نجد درجات مختلفة من العلاقات بين الجنسين عند الحضارات والمجتمعات المختلفة. وعلى وجه التعميم، فإن غالبية الحضارات العليا كانت تتطلب العفة عند المرأة قبل الزواج، وتلح على أهمية العفة كثيرًا، بينما المجتمعات البدائية تتخذ مواقف مختلفة أقل تشددًا من مجتمعات الحضارة العليا.

(١-٣) نظام المحارم Incest

نلاحظ في كل المجتمعات أنواعًا من التحريم على العلاقة الجنسية بين أفراد معينين، وفي الغالب ينطبق هذا التحريم على كل من تربطهم الحضارة بعضهم ببعض بنوع أو أنواعٍ معينة من القرابة. وبرغم وجود نظام المحارم في مجتمعات العالم المختلفة، إلا أن هذا النظام ليس غريزيًّا كما ادعى بعض الكتاب، إنما هو حضاري بحت يرتبط بتقنينات المجتمع فقط. ومن ثم توجد نصوص في كل الحضارات تحدد المحارم، ولو كان الأمر غريزيًّا لما دعا ذلك إلى النص عليه صراحةً. كذلك نجد أن بعض المجتمعات كانت تسمح بزواج الإخوة — كما كان شائعًا بين الأسر المالكة في مصر الفرعونية وجزر هاواي وفي حضارة الإنكا. لكن هذا السماح كان يُطبَّق فقط على أعضاء الأسرة الحاكمة، وهو ناجم عن أفكار القداسة والأصول الإلهية لهذه الأسر المالكة.

وفي الوقت الحاضر يمكن للتوأمين أن يمارسا علاقة جنسية في جزيرة بالي (إندونيسيا) باعتبار أنهما كانا جنينًا واحدًا، ولكن لا بد من حفلة طقسية للتطهير إذا حدثت مثل هذه المعاشرة بين التوأم وأخته، بل السماح لهما بحياة زواجية طبيعية وسط المجتمع، وذلك علمًا بأن القوانين الاجتماعية في بالي تمنع زواج الإخوة منعًا باتًّا. وتسمح قبيلة «لامت Lamet» في الهند الصينية بزواج الإخوة إذا كان كلٌّ منهما قد نشأ في منزلٍ مختلف؛ أي يمكن السماح بمثل هذا الزواج باعتبار أنهما مختلفان اجتماعيًّا بحكم النشأة المنفصلة، ولعل هذا يوضح قوة الأبوة الاجتماعية فوق قوة الأبوة البيولوجية. ويُقال أيضًا إن الأينو (في شمال اليابان) كانوا يسمحون بزواج الإخوة، وفي مقابل ذلك نجد الكثير من المجتمعات تحدد بشدة ووضوح أنواع المحارم في علاقات الجنس، ويبلغ الإسلام درجة كبيرة في التحريم ليشمل أخوة الرضاعة أيضًا.
وغالبية المجتمعات تحرم المعاشرة والزواج بين أعضاء الأسرة الواحدة وعدد من الأقارب كالعم والخال والعمة والخالة، ولكن إذا انطبق هذا تمامًا على المجتمعات التي تمارس النظام الوصفي في القرابة (مثل مجتمعات الحضارة العليا المعاصرة)، فإننا نجد هذه القواعد تختلف وتتسع كثيرًا عند مجتمعات نظام القرابة التصنيفي أو الطبقي (طبقة الآباء – طبقة الأبناء – طبقة الأجداد … إلخ)؛ ولهذا فإن كلمة أخت أو أم تختلف تمامًا في مجتمعات القرابة الوصفية والطبقية. ففي الوقت الذي تصبح فيه الأخت «الوصفية» شخصية محددة، نجد الأخت «الطبقية» تنطبق على عدد كبير، وبالتالي يشمل التحريم عددًا كبيرًا من البنات. ونظرًا لهذا الشمول في التحريم، نرى بعض المجتمعات تلجأ إلى تنظيم قرابي طبقي أكثر تحددًا، يحرم بمقتضاه الزواج بين أبناء العم والخالة (القرابة الكاملة أو المتوازنة Parallel-cousin) باعتبار أن العم والخالة من نفس جنس الأب والأم على التوالي، وبهذا يمكن الزواج من بنت الخال وبنت العمة (القرابة الجزئية أو المتقاطعة Cross-cousin) باعتبار أنهما من جنسين مخالفين لجنس الأم والأب على التوالي، وفي مقابل ذلك نجد بعض المجتمعات تحبذ زواج بنت العم، كما هو الحال عند العرب.
وتوضح هذه الأمثلة القليلة وجود نظم مختلفة للمحارم عند الحضارات المختلفة، لكن اختلافها عند بعضها يؤكد مرة أخرى أنها ليست نظامًا غريزيًّا كما قال روبرت لوي وغيره، بل نظام حضاري بحت؛ فما تحرمه حضارة تسمح به حضارة أخرى. ولقد حاول الكثيرون من الإثنولوجيين أن يفسروا ظاهرة المحارم على أسس بيولوجية بحتة؛ فقد ذكر لويس مورجان ووستر مارك أن السبب راجع إلى ضعف النسل بالإضافة إلى التربية والنشأة المشتركة، وفي الحقيقة لم يثبت بعدُ أن مثل هذا النوع من الزواج يؤدي إلى ضعف النسل إلا في الأحوال المرضية. فإذا افترضنا أن غالبية ملوك مصر الفرعونية والبطلمية كانوا نسل زواج الإخوة، فإننا لم نَرَ أي ضعف بيولوجي أو ذهني عند هؤلاء الملوك.٣

ويتفق عدد كبير من الإثنولوجيين مع مالينوفسكي على أن قيام نظام المحارم — وخاصة بين الإخوة أو بين الآباء والأبناء — يؤدي إلى حفظ كيان الأسرة؛ إذ لا يمكن السماح بعلاقات بيولوجية متعارضة داخل التجمع الأسري. وبعبارةٍ أخرى، لا يمكن السماح بوجود تنافس في العلاقات الجنسية داخل الأسرة؛ لأنه يهدم كيانها. ولهذا نجد غالبية المجتمعات تفرض العقوبات على مرتكبي هذه «الجرائم»، وتتراوح العقوبات بين التحقير كما هو عند بعض الأمريند، وبين القتل أو النفي خارج المجتمع عند غالبية المجتمعات.

(٢) أنماط الزواج

برغم أن هناك عددًا كبيرًا من أنواع الزواج، إلا أن هذا العدد الكبير يمكن أن يُصنَّف نمطيًّا إلى قسمين: الزواج من خارج المجموعة، أو من داخلها. وفيما يلي معالجة موجزة لهذين النمطين:

(٢-١) الزواج الاغترابي Exogamy

هذا هو أكثر أنماط الزواج شيوعًا؛ فقد ترتب على وجود نظام المحارم ونظام القرابة الطباقية أن غالبية المجتمعات ذات التركيب العشائري Clan ومجموعات النسب Lineage (مهما اختلف حجمها) تمارس نظام الاغتراب في الزواج؛ أي إن الأفراد لا يتزوجون من داخل مجموعتهم، بل يبحثون عن زوجة خارج هذه المجموعة. وعند هذه المجتمعات نجد — نتيجة لاستمرار الزواج الاغترابي — مجموعات محلية أو قرابية تتبادل الزوجات فيما بينها بحيث يكاد أن يصبح ذلك نمطًا: أن تعطي المجموعة «أ» زوجات المجموعة «ب» وبالعكس. ونظرًا لذلك النوع من الاستمرارية رأى الأستاذ كلود ليفي ستروس أن هذا النظام قد نشأ مكملًا لعمليات التبادل المستمرة للسلع بين مجموعتين أو قبيلتين،٤ وبذلك فإنه يرى أن الزوجات أيضًا كانت إحدى سلع التبادل بين الجماعات البدائية. وقد انتقد هذا الرأي على أنه عملية ميكانيكية بسيطة لا يمكن أن تنطبق على موضوعٍ هام من موضوعات الحياة مثل اختيار الزوجة، كما أن سعي ستروس المستمر للتنظير الفلسفي ومحاولة الوصول إلى أنماط عالمية تعرضه دائمًا للنقد.٥

وللزواج الاغترابي عدة مميزات هامة، فهو أولًا يساعد المجتمع على تجنب الوقوع في زواج المحارم، كما أنه يؤدي إلى توسيع الروابط الاجتماعية بين أقسام المجتمع الكبير، ويؤدي إلى تقوية الوحدات الاجتماعية سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. وتساعد حالات الزواج الاغترابي من خارج القبيلة أو من خارج المكان الجغرافي المحدد للمجتمع على الانتشار الحضاري لكثير من العناصر الحضارية.

وقد قام الأستاذ مردوك بدراسة ١٧٥ مجتمعًا من تلك المجتمعات التي تحسب النسب في جانبٍ واحد من الوالدين Unilineal (نسب أبوي أو أموي) من أجل تحري الزواج الاغترابي إحصائيًّا. وكانت النتائج كما يلخصها الجدول التالي:٦
نسب أبوي Patrilineal نسب أموي Matrilineal
١٢٣ ٧٠
مجتمعات ذات تقسيم نصفي أو شقي Moiety اغترابي ١٠ ١٩
مجتمعات ذات تقسيم نصفي غير اغترابي ومجموعات نسب اغترابية ٤ ٥
مجتمعات شقية وغير شقية غير اغترابية ٣ صفر
مجتمعات الزمرة الأخوية المغتربة phratries ٩ ٥
مجتمعات العشائر Sibs المغتربة ٧٤ ٣٣
مجتمعات عشائر غير اغترابية ومجموعات نسب اغترابية ٤ صفر
مجتمعات عشائر ومجموعات نسب غير اغترابية ٣ صفر
مجتمعات ذات مجموعات نسب اغترابية ١٠ ٥
مجتمعات ذات مجموعات نسب غير اغترابية ٦ ٣

ويلاحظ أن العدد الكلي للمجتمعات الأبوية والأموية الواردة في هذا الجدول — وهو ١٩٣ مجتمعًا — أكبر من عدد المجتمعات المدروسة (١٧٥ مجتمعًا)، وهذه الزيادة راجعة إلى تداخل بعض المجتمعات التي تحسب النسب في الجانبين الأبوي والأموي (كما نفعل نحن).

ويعطينا هذا الجدول ١٥ مجتمعًا غير اغترابي الزواج في مقابل ١٦٥ مجتمعًا اغترابيًّا و١٣ مجتمعًا يُمارَس فيه الاغتراب الجزئي في أقسام المجتمع الصغرى. وخلاصة هذه الدراسة أن ما يقرب من ٨٪ من هذه المجتمعات غير اغترابية الزواج؛ مما يؤكد أن الزواج الاغترابي نمط يكاد أن يكون سائدًا عند غالبية المجتمعات البدائية والمجتمعات العليا المعاصرة. ويرى مردوك أن عددًا من المجتمعات التي لا تمارس الاغتراب قد تغيرت تقسيماتها القبلية الداخلية بتأثير نفوذ حضاري وافد إليها؛ مما أدى إلى تغير عادة الاغتراب الزواجي عندها. ومن أمثلة ذلك مجتمع الأكراد والكبابيش (شمال السودان)؛ فقد تأثر هذان المجتمعان بنظام زواج بنت العم الذي يمارسه العرب، ومن المعروف أن العرب نقلوا هذا النظام غير الاغترابي إلى كثير من المجتمعات مع انتشارهم بالإسلام.

(٢-٢) الإضواء والتزاوج الداخلي Endogamy

هذا النوع من الزواج هو عكس الاغتراب؛ بمعنى أن الزواج يتم داخل المجموعة وليس خارجها. وبطبيعة الحال، لا توجد مجتمعات تتخذ الإضواء والاغتراب معًا نمطًا لنظام الزواج، إلا في حالة انتقال مجتمعات الإضواء إلى النظام الاغترابي. وتتضح هذه الحالة عند بعض المجتمعات العربية المعاصرة؛ حيث يمارس المثقفون وأبناء الطبقة العليا نظام الاغتراب، بينما يتبع غالبية السكان نظام الإضواء كقالب زواجي مفضل. ولا يجب أن يعني هذا أن الاغتراب أفضل من الإضواء أو يمثل مرحلة أعلى، بل إن الإضواء قد نشأ في ظل ظروف كانت تدعو إلى تماسك أعضاء المجتمع تماسكًا شديدًا، كما كان الحال عند العشائر والبطون العربية من أجل الحفاظ على كينونة العشيرة أو الأقسام الأدنى منها في تحركاتها الرعوية المستمرة وفي نزاعاتها الدائمة وحروبها الكثيرة على المرعى ومصادر الماء.

ولسنا نريد أن نغالي كثيرًا في توضيح أثر النشاط الاقتصادي على تقسيم المجتمع البدوي العربي، ولكن واقع الأمر أن ظروف الجفاف وقلة مصادر الماء والمرعى قد أدت إلى أن يصبح التنظيم الأساسي البدوي مرتبطًا بتجمع صغير؛ لكي يسهل التحرك، ولتجنب تعقيدات القيادة لمجتمع متحرك كبير العدد في بيئة فقيرة. ولهذا فإننا نجد الوحدات الأساسية للبدو لا تزيد عن مجموعة نسب مباشرة لا تتعدى في عمقها ثلاثة أو أربعة أجيال يمكن أن نسميها «عشيرة»، أو «آل»، أو «بني»، أو «بدنة» Lineage.٧ وتنقسم البدنات بسرعة كلما زاد عمرها وكثر عددها؛ ولهذا فإن زواج «بنت العم» كان نمطًا ضروريًّا لمزيد من وحدة المجتمع الأساسي وتماسكه.

وقد لُوحِظ أن التراخي ينتاب نظام الإضواء العربي بعد أن يستقر البدو، وقد يحل محله أو يكمله اتخاذ زوجات من مجموعات أخرى مستقرة في المكان أو الجوار — أيضًا لإيجاد ترابط سياسي لمجموعة المكان المستقرة. وقد ساعد نظام تعدد الزوجات على إمكان ممارسة الإضواء والاغتراب معًا حسب الظروف الاقتصادية السائدة، والأوضاع السياسية الاجتماعية المرغوبة في حينها. وقد حدث ذلك كثيرًا حينما انتشر العرب مع الإسلام في ربوع العالم الإسلامي من التركستان إلى زنجبار ومن سومطره إلى السنغال. ومرة أخرى، يؤكد نظام زواج «بنت العم» أن فكرة المحارم ليست بيولوجية ولا غريزية، كما أنها لا تظهر تجنبًا للزواج من شاب وفتاة ينشآن معًا، ولكنها فكرة قائمة على ما تنص عليه حضارة المجتمع فقط.

ولا يمثل البدو نظام الإضواء وحدهم، وإن كانوا أشهر من مارسوا هذا النظام الزواجي غير الاغترابي. فهناك عدد من المجتمعات تمارس نظامًا للزواج الداخلي العام؛ أي داخل الجماعة الحضارية أو السلالية أو اللغوية أو الاجتماعية. ففي المجتمع الكبير المتعدد اللغة أو الدين أو السلالة نجد تزاوجًا داخليًّا ضمن المجموعة الطائفية، سواء كان ذلك في المجتمعات العليا أو البدائية. مثلًا عند مجتمعات غرب أوغندا وشرق الكنغو نجد الواتوتسي (الرعاة) والباهوتو أو البائيرو (الزراع) والباتوا (الجماع والصيادون)، ولكل من هذه المجموعات الطائفية صفاتها السلالية والحضارية والاجتماعية: الواتوتسي من أصل سلالة كوشية (حامية) ويكونون الأرستقراطية الحاكمة، والباهوتو من أصل زنوج البانتو ويكونون مع الباتوا الأقزام طبقة المحكومين؛ ولهذا نجد أن نمط الزواج السائد في هذا المجتمع المركب هو الزواج الداخلي في كل مجموعة على حدة. وقد نجد فردًا من فقراء الواتوتسي يتزوج امرأة من الباهوتو، لكننا لا نجد تزواجًا مشتركًا على الإطلاق بين الواتوتسي أو الباهوتو من ناحية وبين الباتوا من ناحية ثانية. وفي المجتمعات العليا المعاصرة نجد غالبية الزيجات داخل الطبقة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة.

وفي المجتمع الطباقي الهندي نجد أيضًا تزواجًا داخليًّا في كل طبقة على حدة. وبرغم الدستور الهندي الحديث إلا أن فكرة الزواج عبر الطبقات لا تزال غير مقبولة بين الغالبية الساحقة من الهنود، ومثل ذلك أيضًا يحدث عند أصحاب بعض المهن في المجتمعات البدائية أو الزراعية. ومن أشهر المجموعات المتزاوجة داخليًّا طبقة الحدادين، وأحيانًا الفخارين أيضًا. لكن أشهر الأمثلة على التزاوج الداخلي في مجموعة واسعة الانتشار في آسيا وأفريقيا وأوروبا هي مجموعة الغجر (أو النَّوَر) Gypsy.

وعلى هذا، فإن الإضواء أو الزواج الداخلي يتخذ طابعين؛ أولهما شديد التحديد بمجموعة القرابة المباشرة، كما رأينا في نظام زواج بنت العم، وهو ما يمكن أن نسميه الإضواء، وثانيهما مرتبط بالتكوين المركب من فئات أو طوائف أو طبقات داخل المجتمع، وهو في مدلوله أوسع مدى من الإضواء بحيث قد يكون زواجًا اغترابيًّا داخل الفئة أو الطبقة، لكنه داخلي ضمن إطارها ولا يتعدى حدود هذه الفئة.

(٣) أنواع الزواج

هناك أنواع مختلفة من الزواج التي تحددها المجتمعات المختلفة، على رأسها زواج الأقارب وزواج الوراثة، ومجموعة أخرى من قوالب الزواج: الخطف، والتبني، والهرب، والخدمة … إلخ.

(٣-١) زواج الأقارب

يرتبط هذا القالب بالزواج بين أبناء العمومة أو الخئولة، ونادرًا ما نجد مجتمعًا يمارس النوعين معًا، بل يتخذ من أحدهما قالبًا مرعيًّا: زواج أبناء العمومة أو الخئولة حسب نوع المجتمعات أحادية النسب (التي تسلسل القرابة في جانب واحد: الأب أو الأم)؛ ولهذا نجد المصطلحات الشائعة التالية لتحديد قالب الزواج:

(١) زواج بنت العم Patrilineal parallel-cousin قرابة كاملة مجتمع نسب أبوي
(٢) زواج بنت الخالة Matrilineal parallel-cousin مجتمع نسب أموي
(٣) زواج بنت العمة Patrilineal cross-cousin قرابة جزئية مجتمع نسب أبوي
(٤) زواج بنت الخال Matrilineal cross-cousin مجتمع نسب أموي

ويُلاحَظ أن النوعين الأول والثاني يمثلان زواجًا إضوائيًّا، والثالث والرابع زواجًا اغترابيًّا. كما يُلاحَظ أن زواج بنت العم والخالة محدود بمجتمعات معينة، بينما معظم الجماعات البدائية تمارس النوعين الثالث والرابع، وذلك انسجامًا مع ما ذكرناه من شيوع الزواج الاغترابي. وفي الحالتين الثالثة والرابعة يجب أن نلاحظ أيضًا أن أبناء العمة والخال لا يصبحون أقارب بالمعنى المفهوم عندنا، إنما هم غرباء بحكم نوع النسب؛ ولهذا تُسمَّى هذه العلاقة زواج تقاطع لأنها تعبر حدود النسب.

وفي هذه الأنواع من الزواج يجب علينا أيضًا أن نتأكد ما إذا كان هذا القالب: (أ) شديد المراعاة والتطبيق. أو (ب) يمثل نوع الزواج المفضل والمحبب. أو (ﺟ) يمثل نوعًا مسموحًا به بين أنواع أخرى من الزواج. ولكي نفهم ذلك يجب أن نربطه بنظم القرابة السائدة وشكل التسلسل والإرث.

ويمكننا أن نرى في زواج الأقارب دوافع معينة يتغلب بها المجتمع على عدد من العقبات الاجتماعية السائدة. ومن بين هذه الدوافع ما يلي:
  • (١)

    الزواج من أشخاص معروفين منذ نعومة أظفارهم؛ مما قد يوثق بينهم بروابط الحب، وبالإضافة إلى ذلك قد يكون زواج الأقارب ناجمًا عن الخوف من الارتباط الزوجي بأشخاص من خارج القرابة.

  • (٢)

    تجنب أو تقليل التابو (المحرم) على العلاقة بين الزوج والزوجة من ناحية والحمو والحماة من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الحما والحماة في هذه الحالة هما في الحقيقة عم وعمة أو خال وخالة. فالعلاقة القرابية أسبق من العلاقة التي تنجم عن الزواج بعد ذلك.

  • (٣)

    تأكيد بقاء الإرث والملكية والقوة الاقتصادية داخل مجموعة القرابة.

  • (٤)

    زواج التقاطع (القرابة الجزئية) يسهل على المجتمعات الصغيرة عدم الوقوع في زواج المحارم.

fig60
شكل ٨-١: محاولات تفسير الزواج التقاطعي.

(١) حالة أمريند كاليفورنيا: (أ) حق الزوج في تزوج ابنة أخي زوجته. (ب) وتنازله عن هذا الحق لابنه. (٢) حالة البانتو الجنوبيين: (ب) حق الزوج في تزوج ابنة أخي زوجته حينما تُتوفَّى الزوجة. (ﺟ) ووراثة هذا الحق في حالة وفاة الزوج. (٣) نظام القرابة المزدوجة (من ناحيتي الأب والأم) يمكن الشخص من تزوج: (أ) ابنة خاله. (ب) أو ابنة عمته؛ وذلك في حالة تحريم زواج ابنة الخالة. (ﺟ) وابنة العم. (د) على أنهما من المحارم.

وهناك محاولات من جانب الإثنولوجيين لتفسير ظاهرة الزواج المتقاطع، لكنها كلها تقوم بالاستناد إلى دراسات محلية. مثلًا بين بعض الأمريند في كاليفورنيا الوسطى كان من حق الزوج أن يتزوج أيضًا ابنة أخي زوجته، لكنه يتنازل عن هذا الحق إلى ابنه، ومن ثم ينشأ نظام زواج ابنة الخال. وعند البانتو الجنوبيين (جنوب أفريقيا) يحق للرجل التزوج من ابنة أخي زوجته إذا ما تُوفِّيَت الزوجة، كنوع من التعويض عن الثمن الذي دفعه عند زواجه (الصداق)، وحتى حينما يموت الزوج يمكن لابنه أن يطالب بابنة خاله كنوع من زواج الوراثة، وتمثل هاتان الحالتان محاولة لتفسير نشأة زواج بنت الخال عند المجتمعات الأموية النسب. أما ظهور زواج بنت العمة فيُفسَّر في غالب الأحيان بنظام التسلسل القرابي الثنائي Dual System؛ أي حساب القرابة في جانبي الأب والأم معًا، ومن ثم يصبح للشخص الحق في زواج ابنة عمته أو ابنة خاله كنوع من تجنب زواج المحارم (بنت عمه وبنت خاله في هذه الحالة). وبرغم منطقية هذه المحاولة النظرية، إلا أن نظام القرابة المزدوج لم يكن شائعًا في المجتمعات القديمة (انظر شكل ٨-١). أما نظام زواج ابنة العم، فقد سبق أن شرحناه من قبل [انظر القسم الثاني – الفصل الثامن: التنظيم الاجتماعي – أنماط الزواج – الإضواء والتزاوج الداخلي].
وينتشر الزواج التقاطعي عند عدد كبير من المجتمعات البدائية في أستراليا وميلانيزيا ومناطق مختلفة من آسيا وغالبية زنوج أفريقيا، عدا إقليم السودان وجزر بولينيزيا. وعند الدرافيديين يمكن أن يتم الزواج بين ابنة العمة أو الخال دون تفضيل، بينما تحدد مجتمعات أخرى نوع القرابة المفضلة، فزواج ابنة العمة شائع بين التروبرياند (ميلانيزيا) والهاييدا من أمريند الساحل الكندي الغربي، ويفضل التسمشيان (من أمريند الساحل الغربي لكندا وجيران الهاييدا) الزواج من ابنة الخال، ويُسمَّى تفضيل الزواج من ابنة الخال فقط أو ابنة العمة فقط بالزواج المتقاطع غير المتناسب Asymmetrical، ويُسمَّى السماح بزواج ابنة الخال أو العمة دون تفضيل بالزواج المتقاطع المتناسب Symmetrical.

ولا يقتصر زواج الأقارب على زواج أبناء العمومة والخئولة فقط، إنما يتعداه في أحيان معينة إلى أنواع من الزواج بين جيلين مختلفين من الأقرباء. مثال ذلك: زواج الخال من ابنة أخته، أو زواج العمة من ابن أخيها، أو أكثر من ذلك زواج الشخص بحفيدة أخته أو زواج الشخص بأخت جده، وهو بذلك زواج بين طبقة الأحفاد والأجداد. ولا توجد أسباب واضحة عامة تُخدَم كتفسير لمثل هذا الزواج الشاذ، بل إن كل حالة قائمة بذاتها وتُفسَّر على ضوء التاريخ الحضاري لكل مجتمع يمارس هذه الأنواع من العلاقات الزواجية. وينطبق هذا أيضًا على تفسير زواج أبناء العمومة أو الخئولة؛ بحيث إنه لا يكاد يُوجَد تفسير واحد عالمي التطبيق، وربما يرجع ذلك إلى أن كل مجتمع ينظم الزواج بطريقته الخاصة ولا يتركه حرًّا، باستثناء مجتمعاتنا العليا المعاصرة التي لا تضع سوى قيود محدودة على تنظيم الزواج.

(٣-٢) زواج الوراثة

ويمكن أن يُسمَّى أيضًا الزواج التعويضي أو الاستمراري أو الوراثي، وهو يحدث هنا بين وارث الزوج وزوجته. وقد يكون هذا الوريث أخًا أصغر أو ابنًا أو حفيدًا، وبذلك يمكن أن يُسمَّى أيضًا زواجًا بالعلاقة التصاهرية Affinal؛ لأنه يؤدي إلى استمرار علاقة التصاهر حتى بعد وفاة المسبب الأول لهذا التصاهر، ويُبقي على الأطفال الناتجين عن الزواج الأول داخل مجموعة الزوج المتوفى. وينقسم زواج الوراثة إلى ثلاثة أقسام: زواج الأرملة بوريث زوجها، زواج الشخص بشقيقة زوجته حينما تتوفى وزواج أرملة الشقيق مسبقًا.
fig61
شكل ٨-٢: احتمالات زواج الأرملة من أقارب زوجها.

(١) مع أخ لزوجها غير متزوج. (٢) مع أخ لزوجها متزوج. (٣) مع ابن لزوجها. (٤) مع ابن شقيقة زوجها.

fig62
شكل ٨-٣: احتمالات زواج الأرمل من أقارب زوجته.

(١) مع شقيقة زوجته. (٢) مع ابنة شقيق زوجته. (٣) مع عمة زوجته سواء كانت أرملة أو لم تتزوج. (٤) في الحالات القصوى حيث لا توجد الاحتمالات الثلاثة السابقة يتزوج زوجة شقيق زوجته بعد أن يطلقها الأخير.

  • زواج الأرملة بوريث زوجها Levirate: وهذا النوع من زواج الوراثة هو أكثر الأنواع شيوعًا عند غالبية المجتمعات البدائية، ويظهر أحيانًا عند مجتمعات عليا، ولكن لا يكون عامل الوراثة واضحًا، بل الغرض هو المحافظة على الأولاد الذين أنجبوا من قبل. وقد مارس اليهود والإنكا وغيرهم مثل هذا النوع من الزواج، لكنه عند البدائيين يُعتبَر زواجًا بالوراثة بكل ما تحويه الكلمة من معنى؛ إذ إن الزوجة أو الزوجات تُعَدُّ جزءًا من الميراث.
    وتنص قوانين كل مجتمع على الوريث. غالبية المجتمعات تنص على أنه أخو الزوج المتوفى سواءً كان الكبير أو الصغير. وفي الحالة الأخيرة يصبح ذلك Jonior Levirate، وفي بعض القبائل يرث الابن أباه بما في ذلك الزوجات (عدا أمه بطبيعة الحال)، كما هو ممارس عند النيليين. وكان الإنكا يورثون كل الزوجات عدا الزوجة الأولى.

    وتختلف مواقف المجموعات من هذا النظام. عند الكومانشي (أمريند الولايات المتحدة) يستولي الوريث على تعويض إذا أرادت الزوجة الموروثة أن تتزوج غيره، وعند جماعات أخرى نجد الزوجة الموروثة تذهب للوريث سواءً رضي أم أبى. ولما كان نظام الزواج بالوراثة يأتي حينما يكون الوريث متزوجًا من قبل، فإن الدول التي تعارض مبدأ تعدد الزوجات، كما هو الحال في أمريكا، تجبر الوريث على طلاق زوجته الأولى ليتزوج من تلك التي ورثها، بغض النظر عن المواقف العاطفية.

    وفي غالبية الأحوال لا يكون هناك عند زواج الوراثة حفل زواج بالمعنى المفهوم؛ لأن الزوجة ستكون كما هي داخل بيتها. وفي أحيان كثيرة، يظل المجتمع وزوجها الجديد ينظران إليها على أنها زوجة المتوفى، لدرجة أن أولادها من زوجها الجديد يُنسَبون إلى الأب المتوفى وليس للأب الفعلي. ولا شك في أن في خلفية هذه العادات فكرة عبادة أرواح السلف.

    ومن بين أسباب هذا النوع من الزواج: (١) تأمين الزوجة وأولادها وبقاؤهم في كنف العم. (٢) إبقاء العلاقات والواجبات بين عائلتين متصاهرتين. (٣) الزواج بهذه الطريقة لا يُنظَر إليه على أنه رابطة بين شخصين، بل بين المجموعتين اللتين ينتمي إليهما كل من الزوج والزوجة. (٤) يتدخل في هذا الموضوع أيضًا الصداق المدفوع للحصول على الزوجة. ففي الغالب، لا يكون الزوج هو وحده الذي دفع الصداق، بل يعاونه في ذلك أسرته وأقاربه، ومن ثم يصبح لأسرة المتوفى مصالح مادية في الزوجة حينما يموت زوجها؛ ولهذا تبقى داخل العائلة.

  • الزواج بشقيقة الزوجة المتوفاة Sororate: وهو أيضًا زواج تعويضي أو امتدادي؛ لأنه عبارة عن امتداد لزواج الشخص بزوجته المتوفاة. ويتدخل في هذا الموضوع أيضًا الصداق المدفوع من قبل؛ إذ إن شقيقة الزوجة ستكون استيفاء للصداق الأول. ويختلف هذا النوع من الزواج عن نظام تعدد الزوجات الشقيقات، في أنه لا يتم إلا بوفاة الزوجة الأولى، ولا يبيح الجمع بين شقيقتين على قيد الحياة.

    وهناك أنظمة خاصة تنص عليها المجتمعات في حالات مختلفة، هي امتداد لهذا النظام التعويضي. فقد يحدث ألا يكون للزوجة المتوفاة شقيقة. وهنا يصبح من حق الزوج أن يتزوج ابنة شقيقها — أي إن الفتاة تضطر لأن تتزوج زوج عمتها.

    وكذلك يمكن للشخص أن يتزوج عمة زوجته المتوفاة إذا لم يكن لزوجته شقيقات، على شرط أن تكون هذه العمة أرملة أو لم تتزوج بعد. وفي الحالات القصوى يُطلِّق شقيق الزوجة المتوفاة زوجته ليعطيها إلى زوج شقيقته، وهذا أمر شائع في أفريقيا الزنجية. ومثل هذه الحالة القصوى نجدها في حالة وراثة الأرملة التي لا يوجد لزوجها المتوفى شقيق أو ابن، فهي تصبح من حق ابن أخت زوجها؛ أي إن الشخص في هذه الحالة يتزوج زوجة خاله بوصفه وريثًا لهذا الخال (انظر شكلي ٨-٢، ٨-٣).
  • زواج أرملة الشقيق مسبقًا Anticipatory Levirate: يتم هذا النوع من الزواج دون أن يكون الزوج قد تُوفِّي بعد. فباعتبار أن الزوجة ستئول بالميراث إلى شقيق غير متزوج، فإن الزوج يسمح بعلاقات جنسية بين زوجته وشقيقه غير المتزوج، على اعتبار أنه سوف يكون له مثل هذا الحق حينما يتزوج هذا الشقيق. ويشيع هذا النوع من العلاقة الجنسية المفتوحة بين الشقيقين وزوجة أحدهما أو كليهما بين كثير من الأمريند — وخاصة قبيلة الشوشوني — وينادي الشخص زوجة شقيقه بلقب «زوجة»، باعتبار أنها يمكن أن تئول إليه بعد وفاة شقيقه. وبهذا نصل إلى وضع قريب من نظام تعدد الأزواج.

(٣-٣) زواج البدل

يتم هذا النوع من الزواج بين مجموعتين، بحيث تعطي كل مجموعة عددًا من البنات مقابل عدد مماثل من بنات المجموعة الأخرى. وليس معنى هذا أنه يتم جماعيًّا، بل في أحيانٍ كثيرة قد يتم بين عائلتين، بحيث تُعطى فتاة من كل عائلة لتتزوج في العائلة المقابلة. وربما كان هذا النوع من الزيجات أقدم أنواع الزواج؛ لأنه بسيط ولا يدعو إلى كثير من الطقوس والاتفاقات، ويمارسه الآن عدد قليل من البدائيين؛ مثل: أقزام الكنغو، وقبائل أستراليا.

(٣-٤) الزواج بالأسر أو بالخطف Capture

كان هذا النوع من الخطف سائدًا بين غالبية شعوب العالم، وفي أحوالٍ كثيرة كان يؤدي إلى قتالٍ دموي، وقد تحول في بعض المجتمعات البدائية إلى معركة تمثيلية — بالاتفاق بين الأطراف المعنية. فإنه بعد تجهيز الفتاة تمامًا يختطفها الزوج ويهرب بها وتقوم معركة غير حادة بين أنصاره وأهل العروس وأقربائها. وتدل هذه المعارك الهزلية على تحول حضاري لنمط خطف الزوجات القديم مع بقاء النمط محتفظًا بالشكل دون المضمون. وما زال هذا النوع من الزواج يُمارَس بين غالبية سكان ميلانيزيا وبعض قبائل أفريقيا كالباهيا في شرق أفريقيا، وكثير من قبائل الأمريند. ويعترض أنصار الوظيفية على أن هذا النوع من الزواج كان نمطًا شائعًا في العالم، وأيما كان الاعتراض فإنه يجب ألا يُفهَم أن الخطف كان يمثل في فترةٍ ما نوع الزواج الوحيد، بل إنه كان أحد أنواع الزواج، وربما نشأ مع الغزوات والحروب بين المجتمعات. ولا تزال معرفتنا قليلة بالوضع القانوني للزوجة التي تُخطَف قسرًا ووضع أولادها داخل مجموعة الأب. هل لها ولأولادها نفس الحقوق أم يُنظَر إليها نظرة أقل من الزوجة التي يتم زواجها بواسطة العادات المرعية في المجتمع؟

(٣-٥) الزواج بالهرب Elopement

يمكن أن نعتبر هذا النوع من الزواج بمثابة صمام أمن داخل ترتيبات الزواج الاعتيادية في كافة المجتمعات، وهو بذلك نوع مقبول من الزواج؛ لأن اعتيادات الزواج قد تكون صارمة، بحيث يؤدي تنفيذها الحرفي إلى انفجار داخلي في المجتمع. فالزواج مليء بكثير من العقبات التي يضعها المجتمع، مثل المحارم والاغتراب أو الإضواء، وفوق كل هذا الوضع الاجتماعي للأسر والعائلات. ولا بد أن يحدث بين أفراد من المجتمع صدام بين العواطف والموانع الاجتماعية، حينئذٍ يتم الاتفاق على هروب الفتاة مع الشاب — غالبًا بعلم الآباء بطريق غير مباشر. ويظل بعض الأقارب على صلة بالأسرة الجديدة لتسهيل حياتها بطريقةٍ أو بأخرى، إلى أن يتم الاعتراف بالزواج بوسائل مختلفة، منها تبادل الهدايا بين أسرتي الفتاة والفتى.

ولكثرة التعقيدات في الزواج يكاد يصبح الزواج بالهرب نمطًا عند معظم سكان بولينيزيا وأستراليا، ولعل ذلك راجع — في بعض مجتمعات ميلانيزيا وبولينيريا — إلى تحكم كبار السن في الحياة الاجتماعية، وتعدد زوجاتهم، ورغبتهم مع مقدرتهم على التزوج من أي فتاة. ومن ثم كان لا بد من نشأة نظام الزواج بالهرب حتى يمكن التغلب على مثل هذه التحديدات والتحديات أمام الشباب، والمتوقع أن يساعدهم على الهرب رجل الطب (عراف المجتمع). وهناك ملجأ إذا وصل إليه الهاربان لا يمكن أن يتعرضا فيه للأذى، ولكن إذا لحقهما المطاردون فإنهما قد يُصابا بجروح وإصابات قد تؤدي إلى موتهما أو موت أحدهما، وفي إمكان اللذين استطاعا الوصول إلى الملجأ العودة بعد ذلك إلى المجتمع حيث يُعترَف بهما زوجين أمام الجميع.

(٣-٦) الزواج مقابل الخدمة

يرتبط هذا النوع من الزواج بنوع الزواج مقابل الصداق، لكنه يختلف عنه في أن الشاب المتقدم يقوم بالعمل لصالح حماه مدة محددة قبل أن يتزوج الفتاة، وبذلك لا يكون هنا قد دفع صداقًا ماديًّا. وإلى جانب ذلك، فلعلَّ من فوائده أن يتعرف الشاب على زوجة المستقبل، وأن يتعرف عليه أهلها عن قرب، قبل أن يأخذ ابنتهم ويرحل بها إلى مكان ذويه. وفي بعض المجتمعات يظل الزوج مقيمًا مع أهل زوجته ويقوم بالخدمة لصالح أسرة الزوجة على الدوام أو إلى أن يُولَد له طفل. وفي مثل هذه المجتمعات تصبح البنات محببات إلى أبيهن؛ لأنهن بزواجهن في المستقبل سوف يجلبن له عمالة دون أجر. وفي هذا كان يُقال إن الزواج بالخدمة كان يرتبط بمجموعات النسب الأموي. ولكن ذلك الزواج ليس قاصرًا على مثل هذه المجموعات؛ فالساميون القدماء كانوا يمارسون هذا النوع من الزواج مع تنظيماتهم الأبوية. وقد خدم سيدنا يعقوب حماه سبع سنوات لكي يتزوج راشيل، وسبع سنواتٍ أخرى لكي يتزوج أختها.

وتمارس قبائل شمال شرق سيبيريا (التشوكشي والكورياك) زواج الخدمة. وقد لُوحِظ ارتباط زواج الخدمة بالمجتمعات التي تمارس الزواج الرحمي (الأموي) المكان، ولم يوجد له أثر عند مجتمعات الزواج العصبي (الأبوي) المكان، وقد دلت دراسة الأستاذ مردوك (سابقة الذكر) أن حوالي ١٥٪ من ٢٤١ مجتمعًا تمارس زواج الخدمة بطريقةٍ أو أخرى.

(٣-٧) الزواج بالتبني

في إندونيسيا واليابان يمكن لأسرة لم تنجب أبناء أن تتبنى شابًّا يصبح ابنًا لها وتُزوِّجه من إحدى بناتها، وبذلك يصبح الأولاد أبناء الأسرة؛ لأن الأب في هذه الحالة قد أصبح ابنًا للأسرة. وهذا بطبيعة الحال موقف معقد؛ لأنه ينطوي على زواج بالمحارم. فهو — كابن متبنَّى — يتزوج من شقيقته بالتبني، وينجب منها أطفالًا يرتبطون بنسب الأسرة لأنه «ابن» الحماة!

بطبيعة الحال، يجب أن نغض الطرف عن المنطق ونكتفي بأن مثل هذه الممارسة تحل مشكلات كثيرة.

(٣-٨) الزواج النظري أو التخيلي Fictive

يتم هذا الزواج بغية المحافظة على بقاء المركز الاجتماعي والثروة لشخص ليس له أبناء يمكنه توريثهم. فمثلًا عند الكواكيوتل (الساحل الغربي لكندا) لا يمكن لزعيم أن يورث زعامته إلا إلى حفيده من إحدى بناته — أي لا يمكن أن يورث ابنه أو ابن ابنه — فإذا لم يكن للزعيم بنات يمكن أن يحدث تزاوج نظري (بملامسة الأيدي أو الأرجل أو الجنب) بين الزعيم أو ابن الزعيم وشخص آخر بحيث يصبح هذا الشخص كأنه زوج لابنة الزعيم، ثم يتزوج هذا الشخص من فتاة وينجب منها أبناء يصبحون أحفادًا للزعيم، ومن ثم تنتقل الزعامة إلى الحفيد. وعند النوير والنيليين في السودان الجنوبي يمكن لشخص أن يتزوج عن روح شقيقٍ له تُوفِّي دون أن يتزوج أو ينجب، وتصبح الزوجة نظريًّا زوجة الشقيق المتوفى والأولاد أولاده؛ وذلك أيضًا للإبقاء على اسم المتوفى (عبادة روح السلف). ويُسمَّى هذا النوع من الزواج «الزواج الشبحي».

وكذلك عند النوير يمكن لامرأة عاقر أن يصبغ عليها المجتمع صبغة الرجال، ثم تقوم بتزويج شاب وفتاة على أن يكون الشاب ممثلًا لها بصفتها من الذكور، ويجب أن تُؤسَّس سلسلة نسب من الأبناء والأحفاد خاصًّا بها (به نظريًّا).

(٣-٩) الزواج الجماعي Group Marriage

من الناحية النظرية نجد أن الزواج الجماعي عبارة عن مجموعة من الجنسين تتزوج وتقيم معًا علاقات شرعية بين الكل، وهذا يساوي نظامَيْ تعدد الزوجات والأزواج معًا. ويتشكك كثير من الباحثين في وجود مثل هذا الزواج في الماضي أو الحاضر، وقد ظهر كمرحلة من مراحل الزواج بين نظريات التطوريين، باسم مرحلة الشيوع، وكل ما لدينا من حالات قد لا تصل إلى هذه المرحلة الجماعية. فعند بعض القبائل الأسترالية يحدث اتفاق بين عدد من الرجال على تبادل العلاقة مع الزوجات في أوقاتٍ معينة، لكن هذا نوع غير الزواج الجماعي؛ لأنه يقيم علاقات بين زوج وزوجة أخرى؛ أي إن هناك زواجًا أحاديًّا سبق مثل هذه العلاقات المباحة التالية.

وهناك أنواع أخرى من الحقوق التي تُمنَح لبعض الأشخاص والأقارب لإقامة علاقات مع زوجة واحد منهم، وبالتالي علاقات متبادلة بين الأزواج والأقارب وزوجاتهم؛ ففي وسط أستراليا من حق الأقارب معاشرة زوجة قريبهم، وفي هاواي من حق الإخوة معاشرة زوجة أخيهم ومن حق الزوج معاشرة أخوات زوجته، وعند الإسكيمو ما يمكن أن نسميه علاقات الزيارة؛ وهو نظام بمقتضاه يتبادل الأزواج زوجاتهم عند زياراتهم لبعضهم البعض، وهذا النظام يمكن أن يؤدي إلى علاقة جماعية إذا تزاورت عدة أسر معًا في وقتٍ واحد وبيتٍ واحد، ولكن الشائع أن يقدم الزوج زوجته للضيف الزائر. وهناك محاولات لتفسير هذا النظام، منها طول الأسفار التي يقوم بها الإسكيمو خلال الشتاء أو أثناء عمليات الصيد؛ مما يؤدي إلى ترك زوجته فترة طويلة واضطراره للإقامة عند آخرين فترات محدودة أو طويلة.

ولقد أصبح ذلك النظام تقليدًا عند الإسكيمو؛ مما دعا بعض الباحثين إلى تفسيره بكرم الضيافة لأنه يتعدى أعضاء القبيلة إلى أي ضيفٍ آخر، ولكن لا شك في أن هذا الكرم مبني على أسباب مادية على رأسها قسوة الظروف البيئية؛ مما أدى إلى الالتزام بمبدأ الضيافة الكامل بما في ذلك العلاقة بين الجنسين. وعلينا أن ندرك أيضًا أن مثل هذه الظروف خاصة فقط بمنطقة الإسكيمو، وهي ظروف طبيعية وحضارية معًا؛ لأن الظروف الطبيعية القاسية — كالنطاق الصحراوي — لم تؤدِّ عند البدو إلى مثل هذه الخصائص الحضارية.

(٣-١٠) الزواج مقابل الصداق

هذا هو أكثر أنواع الزواج شيوعًا في العالم. وقد وجد الأستاذ مردوك أن هذا النوع منتشر بين ٣٠٣ مجتمعات درست في هذا الموضوع، فالصداق شائع في أفريقيا، ويكاد يكون النظام المتعارف عليه في القبائل الأبوية في إندونيسيا، ويظهر بشكلٍ أو آخر في أجزاء العالم المختلفة.

ولا يعني الصداق، أو «ثمن العروس» كما هو متعارف عليه، الحط من قدر المرأة، أو أنها تُعَامَل معاملة الرقيق أو كسلعة. وبرغم احتياج الأسر إلى الصداق لكي تزوج به الأبناء، إلا أن النساء لسن سلعة في السوق. وبطبيعة الحال، نجد الأسرة التي أنجبت ثلاث فتيات وشابًّا أو شابين أسعد حظًّا من تلك التي لديها ثلاثة شبان وفتاة واحدة.

وتدل دراسات الأستاذ مردوك المشار إليها سابقًا أن ١٠٣ من ١٢١ مجتمعًا يمارسون الزواج مقابل الصداق يكونون مجموعات ذات زواج عصبي (أبوي) المكان، وأربعة مجتمعات رحمية (أموية) المكان فقط. وعلى هذا فإن الصداق نشأ مع مجموعات أبوية النسب.

وفكرة الصداق أو ثمن العروس قد يُرمَز إليها على أنها لمجرد سد احتياجات العروس قبل الزواج، ولكن حقيقة الصداق أنه في الأصل — وما زال عند المجتمعات البدائية المعاصرة — عبارة عن تعويض يتقاضاه أهل العروس مقابل خسارتهم للفتاة ومن تنجبه من أولاد. أي إنه تعويض مادي لفقدان عدد غير محدود من النسل كان يمكن أن يلحق بمجتمع الفتاة ويقوي هذا المجتمع عدديًّا وسياسيًّا؛ ولهذا نجد في أغلب الحالات أن الصداق المدفوع لأهل العروس يُعاد دفعه لجلب فتاة أخرى كزوجة لأحد أبناء المجموعة، وبذلك تُعوَّض الفتاة التي تزوجت خارج المجموعة بفتاة من الخارج تُدمَج في المجموعة هي ونسلها المرتقب. كذلك علينا ألا ننسى أن مبدأ زواج الأخت بزوج أختها حين تُتوفَّى، هو تعبير آخر عن مدى مفهوم الصداق ودوام فاعليته؛ أي إن الصداق لا يزول مفعوله بوفاة الزوجة، إنما هو رباط دائم بين الزوج وأسرة زوجته، بحيث تصبح هذه الأسرة مسئولة باستمرار عن إمداد هذا الزوج بزوجة. وفي بعض الأحيان القصوى حينما لا تكون في أسرة الزوجة المتوفاة فتاة تحل محل المتوفاة، فإن على شقيق الزوجة المتوفاة أن يعطي زوجته لزوج شقيقته. مثل هذه الممارسات موجودة بكثرة عند غالبية الزنوج في أفريقيا.

وتدل أبحاث الأستاذ رالف لنتون R. Linton عن مدغشقر، أن طلاق الزوجة عند قبيلة السكلافا لا يعني بالضرورة إعادة الصداق المدفوع — كما هي العادة عند القبائل الأفريقية. بل إنه يمكن لهذه الزوجة المطلقة أن تتزوج مرةً أخرى بإذن من زوجها السابق وموافقته، وفي هذه الحالة يُشترَط على المطلقة وزوجها الجديد أن ينتمي الأبناء الأوَل الذين ينجمون عن زواجهما إلى عائلة الزوج الأول (الحد الأقصى ثلاثة أبناء)، وما عدا ذلك يصبح منتميًا للأب الجديد. ويدل هذا مرةً أخرى على مدى استمرارية وفاعلية الصداق المدفوع، كما يدل على أن الأبوة الاجتماعية أقوى من الأبوة البيولوجية.
ومرةً أخرى نستطيع أن نرى الفاعلية والمفهوم الحقيقي للصداق من المثال التالي: عند الفندا Venda (من بانتو جنوب أفريقيا) لا يمكن أن ينتمي الأبناء الناجمين عن الزواج إلى مجموعة أبيهم، إلا بعد أن يكون الأب قد دفع آخر أقساط الصداق.
وفي معظم المجتمعات لا يختص أبو العروس وحده بالصداق، بل هناك أنصبة للأب والأم والإخوة والأعمام والخال … إلخ. وتوضح حالة توزيع الصداق عند قبيلة النوير في السودان الجنوبي العلاقات المتشابكة لمجموعات القرابة فيما يختص بموضوع الصداق. فمتوسط الصداق عند النوير ٤٠ رأسًا من الأبقار والعجول والثيران تُوزَّع على النحو التالي:
  • (١)

    الأسرة المباشرة للعروس: ٨ رءوس للأب، ٣ رءوس للأم، ٧ رءوس للأخ الشقيق، رأسان لأخ غير شقيق للعروس. وبذلك يصبح نصيب الأسرة ٢٠ رأسًا — أو نصف الصداق.

  • (٢)

    أقارب أبي العروس: ٤ رءوس لعم العروس (شقيق الأب)، رأسان للعم الصغير الشقيق، ٣ رءوس للعم غير الشقيق، ورأس لعمة العروس. وبذلك تنال هذه المجموعة ربع الصداق.

  • (٣)

    أقارب أم العروس: ٤ رءوس للخال الأكبر (شقيق الأم)، رأسان للخال الأصغر، ٣ رءوس للخال غير الشقيق، رأس للخالة. وبذلك تنال هذه المجموعة الربع المتبقي من الصداق.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأقارب الآخرين ينالون أيضًا بعض الهدايا من أسرة العريس. ومثل هذه الحالة نجدها شائعة أيضًا عند كثير من النيليين وقبائل أفريقية أخرى.

وليس الصداق وحده هو كل ما يتحمله العريس في نظام الزواج مقابل الصداق، بل إن تبادل الهدايا يسبق الصداق. وقبول هذه الهدايا يمكن اعتبارها بمثابة إعلان للخطوبة. وهذه الهدايا متعددة، وقد لا تُقدَّم للأب أو الأم، إنما تُقدَّم إلى بعض الأقارب وخاصة أخا العروس. وبمفهوم آخر، يمكن أن نقول إن تقديم الهدايا على هذا النحو يُعَدُّ نوعًا من «الرشوة» لأقارب العروس كي يتخذوا موقفًا إيجابيًّا عند النظر جديًّا في موضوع الزواج. فالهدايا الأولية تمهد الطريق وتذلل العقبات أمام الزواج، ثم يأتي الصداق بعد ذلك فيصبح الزواج ملزمًا لأهل العروس.

وهكذا يتضح لنا من هذه الدراسة الموجزة لقوالب الزواج وأنواعه أن الزواج، وخاصة عند المجتمعات البدائية ليس أمرًا يخص الفتى والفتاة، بل يهم المجتمع ككل، ولأهل العروسين مصالح مباشرة في الكثير من ترتيبات الزواج والعلاقات الناجمة عنه. وبغض النظر عن المصالح المادية لأسر الزوجين، فإن الزواج في مفهومه الأساسي عند البدائيين يُشكِّل نوعًا من التآلف والتحالف بين مجموعتين من مجموعات القرابة، وأن الزوجين ليسا سوى «وصلة» مباشرة في هذا التحالف.

(٤) أين يقيم الزوجان الجديدان؟

قد لا يكون هذا الموضوع مثار تساؤل في المجتمعات العليا، لكنه موضوع تقرره ظروف المجتمعات البدائية، ويرتبط بشدة ببقية التنظيمات الاجتماعية عند كل مجتمع على حدة، وإقامة الأسرة الجديدة التكوين تأخذ ثلاثة احتمالات ممكنة؛ هي: (١) عند عائلة الزوج. (٢) أو الزوجة. (٣) أو مستقلة المكان أو متنقلة بين ١، ٢ أو مزدوجة بينهما. ولكل من هذه الاحتمالات أقسام فرعية، توضيحها كما يلي:
  • أولًا: الإقامة عند أهل الزوج أو التي نسميها الإقامة العصبية (نسبةً إلى العصب = الزوج) أو إقامة ذكرية Virilocal (Vir = كلمة لاتينية بمعنى ذكر). ويحل هذا المصطلح محل المصطلح السابق الشائع «إقامة أبوية المكان patrilocal»؛ لأن الإقامة الأبوية المكان تكون جزءًا من كل وتنقسم الإقامة العصبية إلى قسمين؛ هما: (أ) إقامة عصبية أبوية Viri-patrilocal؛ وتعني أن تقيم الأسرة الجديدة في بيت والد الزوج وتُسمَّى اختصارًا إقامة عصبية Virilocal. (ب) إقامة عصبية أموية Viri-matrilocal، وتعني الإقامة عند أحد أقارب أم الزوج، ولكن هذا القريب هو غالبًا شقيق الأم (الخال)؛ ولذلك تُسمَّى مثل هذه الإقامة اختصارًا وتوضيحًا بإقامة خئولية avonculocal (Avonculus = خال).
  • ثانيًا: الإقامة عند أهل الزوجة، ونسميها إقامة رحمية (نسبةً إلى صلة الرحم = الزوجة) أو إقامة أنثوية uxorilocal (Uxori = زوجة). ويحل هذا المصطلح محل المصطلح القديم «إقامة أموية المكان Matrilocal». وتنقسم الإقامة الرحمية إلى قسمين؛ هما: (أ) إقامة رحمية أبوية Uxori-patrilocal، بمعنى الإقامة في بيت والد الزوجة، وتُسمَّى اختصارًا إقامة رحمية Uxorilocal. (ب) إقامة رحمية أموية Uxori-matrilocal، وتعني الإقامة عند إحدى قريبات الزوجة، وتكون غالبًا عمة الزوجة amitalocal (Amita = عمة).
  • ثالثًا: (أ) إقامة مستقلة Neolocal. (ب) إقامة متنقلة Bilocal، بمعنى أنه يُسمَح بالإقامة العصبية أو الرحمية والتنقل بينهما حسب الظروف المختلفة. (ﺟ) إقامة مزدوجة Duolocal؛ بمعنى أن يظل كل من الزوج والزوجة في بيته، ويقوم الزوج بزيارة زوجته بين الحين والآخر. وقد نشأ عن هذا النوع من الإقامة نظام «زواج الزيارة». (د) الإقامة الموحدة Unilocal، وهذه تنشأ عن وجود أهل العروسين في مكان أو محلة واحدة، ومن ثم لا نستطيع أن نقول إن الإقامة عصبية أو رحمية.

وليست هذه الأنواع من الإقامة ثابتة على الدوام، بل يحدث تغير في الإقامة حسب الظروف المختلفة. كما أن بعض المجتمعات تنص على إقامة مبدأية عند أهل الزوج أو الزوجة لفترة معينة أو لحين الإنجاب الأول، ثم تنتقل الأسرة إلى المكان الآخر. وفي الغالب نجد احتمال تغيير المكان يتم على النحو التالي:

إقامة رحمية ← عصبية، إقامة رحمية ← مستقلة، إقامة رحمية ← خئولية، إقامة عصبية ← خئولية.

(٥) الطلاق

ويمكننا أن نختتم هذا الموضوع بأن الطلاق عند البدائيين ليس أمرًا صعبًا كما هو الحال عند غالبية المجتمعات ذات الحضارة العليا، وهناك عشرات الأسباب البسيطة التي تؤدي إلى الطلاق؛ منها التطير أو كثرة وفيات الأطفال أو علاقات السباب المستمرة، ولكن عدم الإنجاب على رأس القائمة. وفي أحوالٍ كثيرة يطلق الزوج زوجته، ولكن دراسات الأستاذ مردوك قد دلت على أن للمرأة حق الطلاق أيضًا في عدد لا بأس به من المجتمعات.

وبغضِّ النظر عن المشكلات المادية المعقدة المرتبطة بالطلاق عند مجتمعات زواج الصداق، فإن الطلاق لا يخلف وراءه مشاكل عاطفية. ففي الغالب، يذهب الأبناء مع الأم، ويصبح الزوج الجديد أبًا للأولاد السابقين، وهذا يؤكد مرةً أخرى قوة الأبوة الاجتماعية. والمرأة المطلقة لا تكون مشكلة في المجتمعات البدائية؛ لأنها تتزوج مرةً أخرى، ولا يكاد يوجد مجتمع بدائي يعاني من وجود فتيات أو مطلقات غير متزوجات.

وعند بعض المجتمعات لا يحدث طلاق، بل تُفَضُّ علاقة الزواج بخطف أو سرقة الزوجة بواسطة حبيب سابق. عند الإسكيمو يقتل الحبيب الزوج ثم يسرق الزوجة ويتزوجها. أما إذا سرقها دون أن يقتل الزوج، فغالبًا ما يبحث عنه الزوج المخدوع ويقتله. وعند كثيرين من الأمريند في أمريكا الشمالية تخطف العشائر زوجات رجال العشائر الأخرى وتتزوجهن في حفلات صاخبة، قد يشارك فيها رجال العشيرة التي خطفت منهم الزوجة، دون أن يكون هذا مدعاة للحرب. وهذا النوع من الخطف يوافق عليه المجتمع، إلا إذا كان الخاطف له علاقة سابقة بالزوجة المخطوفة قبل زواجها.

(٦) الأسرة

نظرًا لثبات نظام الأسرة لفترة طويلة، فإن مفهومها قد يبدو واضحًا وبسيطًا. لكن الأمر ليس كذلك. إن الأسرة — في الحضارات العليا والبدائية على السواء — تكون المحور الأساسي لتنظيم المجتمع، وهي بذلك القاعدة التي ينبني عليها أي مجتمع وتركيباته الحضارية المختلفة وعلى رأسها نظم القرابة. ونظرًا لشيوع نظام الأسرة بأنماطها المختلفة، فإن المعتقد حتى الآن أن الأسرة نظام عالمي. لكنها — كأي نظام حضاري آخر — ليست ثابتة، بل يعتريها التغير في المضمون والشكل. وتحتوي الأسرة في أساسها على ثلاثة موضوعات متداخلة؛ هي: (١) الرابطة التي تجمع ذكرًا وأنثى برباط المعاشرة ونظم هذه الرابطة ومدى استمرارها، وهنا تظهر كافة أشكال الزواج على نحو ما أسلفنا. (٢) التنظيم الداخلي للأسرة، بمعنى دور كل فرد فيها ووضعه الاجتماعي والخلقي والوظيفي. (٣) وضع الأسرة ووظيفتها داخل إطار المجتمع ككل. وفيما يلي الأنماط الرئيسية للأسرة:

(٦-١) الأسرة الأحادية

وتُسمَّى بأسماء عدة منها الأحادية الزواج (زوجة واحدة) Monogamous Family، أو الأسرة النووية ( الزوج والزوجة والأطفال) Nuclear، أو الأسرة المفردة أو الصغيرة أو البيولوجية، وكذلك تُسمَّى الأسرة الزواجية Conjugal، ولو أن هذا المصطلح ينطبق أيضًا على أنواع أخرى من الأسر الزواجية.
وترتبط الأسرة الأحادية الصرفة بنظام الزواج، وهو نظام يكوِّن أقل من ٢٠٪ من أنظمة الزواج في العالم،٨ ولكنَّ من الصعب البتَّ في هذا الموضوع بنسب مئوية وإحصائية. ففي المجتمع الواحد يجب أن نُفرِّق بين ما هو مسموح وبين ما هو مُمارَس فعلًا. فالمجتمعات الإسلامية تُجِيز تعدُّد الزوجات، ولكن عددًا ضئيلًا جدًّا من المسلمين يمارسون هذا الحق لأسباب اقتصادية واجتماعية معًا؛ ولذلك علينا حينما ندرس مجتمعًا أن نجيب على هذه التساؤلات: هل أحادية الزواج هو النظام الوحيد؟ أم هل هو النظام المفضل؟ هل هناك أكثر من نظام؟ وما هو مدى ممارسته بنسب تقريبية أو إحصائية؟

وعلى وجه العموم، نلاحظ أن نظام الزواج الأحادي غير مرتبط بنظم اجتماعية أو حضارية معينة، ولكنه شائع عند البدائيين وأصحاب الحضارات المعاصرة على حدٍّ سواء، وإن كانت بعض المجتمعات المعاصرة تمنع تعدد الزوجات بقوة القانون. كذلك نلاحظ أن الزواج الأحادي شائع في المجتمعات الأموية أكثر من شيوعه في المجتمعات الأبوية، وهو فضلًا عن ذلك يظهر في كثير من العقائد الوضعية الأسطورية؛ حيث تظهر بداية المجتمع من تزاوج شخصين، كما يظهر في العقائد والديانات السماوية (آدم وحواء)، وأخيرًا يرتبط هذا الزواج بنظام الزواج الحر غير المقيد بنمط اجتماعي محدد وملزم بزواج معين.

وتتكوَّن الأسرة الأحادية من الزوجين وأبنائهما، وقد يقيم معهم قريب أو أكثر. وفي اعتقاد الكثيرين من الباحثين أن الزوجين دون أطفال لا يكونان أسرة. وأهم مميزات الأسرة الأحادية ما يلي: (١) وجود الركن القانوني كأساس للمعاشرة بين الزوجين. (٢) تكوين مجموعة وثيقة الصلة مؤسسة على علاقة الآباء والأبناء حسب الأنماط والقوالب السائدة (أبوة اجتماعية أو بيولوجية). (٣) سكن مشترك لأعضاء هذه المجموعة. (٤) مشاركة جميع الأعضاء البالغين في الأسرة في الحياة الاقتصادية للأسرة. (٥) التربية الأساسية للأطفال. (٦) في معظم المجتمعات البسيطة والبدائية لا تكون الأسرة الأحادية منعزلة، بل تصبح عضوًا في نظام قرابي واجتماعي واسع. أما في المجتمعات الصناعية، فإنها تكون وحدة مستقلة.

وتشتمل الأسرة الأحادية على جيلين: الآباء، والأبناء. وعلى ثماني علاقات متبادلة؛ هي:
  • (أ)

    علاقة الأب مع: (١) الزوجة. (٢) الابن. (٣) الابنة.

  • (ب)

    علاقة الأم مع: (٤) الابن. (٥) الابنة.

  • (جـ)

    علاقة الأخ الأكبر مع: (٦) الأخ الأصغر. (٧) الإخوة البنات.

  • (د)

    علاقة الأخت الكبرى مع: (٨) شقيقاتها.

وتكون هذه العلاقة أسس نظم القرابة والبناء الاجتماعي، وتوجد بين كل فرد علاقات متبادلة اجتماعية اقتصادية عاطفية وأخلاقية. وعلاقة الجنس في الأسرة قاصرة على الأب والأم فقط، ومع ذلك فإننا نجد المجتمعات البدائية تخضع بعض القيود عليها: فتصبح هذه العلاقة ممنوعة ومحرمة (تابو) في أوقات معينة: الحيض، والحمل، والرضاعة. ولعل أحد أسباب تعدد الزوجات عند أصحاب الحضارات البسيطة هو طول الفترات التي تحرم فيها المعاشرة الزوجية.

وفي بعض المجتمعات نجد ضرورة قيام علاقات جنسية بين الزوجة وشخص آخر قبل علاقة المعاشرة الزوجية الحقة. مثلًا عند قبيلة بانارو Banaro في شمال غينيا الجديدة (إيريان) لا يسمح للزوجين بالمعاشرة قبل أن تعاشر الزوجة شخصًا من أصدقاء أقارب والد العريس، وتنجب منه طفلًا. وقديمًا، كان المُتبَع بين مجتمعات الزراعيين في شرق أوروبا، أن يعقد الأب لابنه الصغير على فتاة بالغة، ويعاشرها وينجب منها أطفالًا حتى يكبر الابن ويقوم بواجباته الزوجية مع زوجته،٩ ومثل هذه العلاقة النادرة تنبع من تضخم دور الأب في تكوين الأسرة والعائلة. ويرى الأستاذ مردوك أن من الخطأ الاعتقاد بأن فكرة الزواج تتأسس على العلاقة الجنسية بين الزوجين، وقد أوضح مردوك إحصائيًّا أن العلاقة الجنسية يمكن أن تُشبَع خارج العلاقة الزواجية، وذلك بسماح من المجتمع، قبل الزواج وخلاله (انظر الفصل الثامن: العلاقات بين الجنسين). وعلى الرغم من أننا لا نأخذ هذه القضايا الحساسة إحصائيًّا لتعقد المفاهيم والمواقف الحضارية؛ فإن الاتفاق سائد بين الباحثين على أن الزواج والجنس عند الحضارات البسيطة لا يرتبطان ذلك الارتباط العضوي كما نفهمه نحن، ولا يتأسس أحدهما على الآخر.

وبذلك فإن الجنس ليس المحرك الأول للزواج عند البدائيين، وبالتالي ليس أساس قيام الأسرة. بل إن الأساس الذي تنبني عليه الأسرة في جوهرها هو التعاون الاقتصادي، وبرغم حدوث التعاون الاقتصادي بين أعضاء المجتمعات البسيطة، فإن الأسرة في الواقع تكون التجمع التعاوني المثالي، ويقوم هذا التجمع المثالي على: (١) الحاجة البحتة للتعاون من أجل الحصول على الطعام وتأمينه للزوجين والأطفال. ومثل هذا الدافع موجود على صورة أوسع من التعاون بين أعضاء المجتمع، ويمكن نظريًّا أن يؤدي هذا التعاون بين أعضاء المجتمع إلى إشباع كل الاحتياجات، بما فيها رعاية الأطفال دون الحاجة إلى نشأة الأسرة. (٢) لكن التعاون بين أعضاء الأسرة يصبح تقسيم عمل إجباري، وليس اختياري؛ وذلك راجع إلى أن العلاقة التي تنشأ عن الزواج تُوثَّق اجتماعيًّا (وربما دينيًّا أيضًا)، بالإضافة إلى وجود العلاقات الثماني بين أفراد الأسرة — التي أشرنا إليها من قبل — وهي علاقات لا توجد كلها سوى جزئيًّا بين أفراد المجتمع.

ولا تقتصر العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة على التعاون بين الأب والأم، بل تتعداها إلى الأبناء أيضًا. ففي المراحل الأولى يعمل الزوجين من أجل تنشئة أطفالهما، وفي مقابل ذلك يعمل الأبناء حينما يكبرون من أجل والديهما. ويمكن أن نوضح دورة هذه العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة على النحو التالي:
  • (أ)

    الأب والأم.

  • (ب)

    الأب ← الابن، الأم ← الابنة: امتداد للعمل حسب تقسيم العمل على أساس الجنس، وتعليم الأبناء.

  • (جـ)

    الإخوة الكبار ← الإخوة الصغار، الأبناء ← الآباء: تقسيم العمل على أساس فئات العمر.

وإلى جانب العلاقات الاقتصادية كسبب من أسباب نشوء الأسرة، فإن هناك مجموعة أخرى من الأسباب المرتبطة ببطء النمو البيولوجي والحضاري عند أطفال الإنسان — على عكس ما هو موجود في عالم الحياة البيولوجية الأخرى. فالنمو البيولوجي البطيء للأطفال يؤدي إلى ضرورة إيجاد نظام يمكن بمقتضاه رعاية الأطفال، من ناحيتَيْ توفير الغذاء والحماية ضد الأمراض والأخطار الأخرى. ولهذا فإن جانبًا من نشاط المرأة يرتبط بتنشئة الأطفال لفترة طويلة؛ مما يؤدي إلى علاقات بيولوجية وعاطفية بين الأطفال والأمهات. ولعل هذا هو أحد أهم الدوافع لقيام نظام النسب الأموي ونشأته المبكرة عن نظام النسب الأبوي. وفي خلال فترة الطفولة الطويلة يتعلم الأبناء النظام الحضاري للمجتمع، ومع تعقد النظم الحضارية وتخصصها نجد فترة التعلم تزداد كثيرًا في مجتمعات الحضارة العليا عنها في المجتمعات البسيطة.

ويمكننا أن نلخص مهام وواجبات الأسرة الأحادية على النحو التالي:

(١) تنظيم للحياة الجنسية. (٢) تجمع تعاوني اقتصادي مثالي. (٣) تنشئة الأطفال بيولوجيًّا. (٤) تعليم الأطفال حضاريًّا. ويمكننا أن نقول عامةً إنه بدون المهمتين الأولى والثالثة لا يوجد مجتمع، وبدون المهمة الثانية تتعذر الحياة، وبدون المهمة الأخيرة لا يمكن تكوين الحضارة وتطويرها. وبرغم هذه الحقائق الشائعة والمنطقية، إلا أننا نعتقد أن هذا نوع من التبسيط والتعميم. فالحضارات والمجتمعات مليئة بنظم كثيرة تختلف عن نظام الأسرة الأحادية، وكلها تشبع المهام الأربع السالفة الذكر، كما سنرى من أنواع الأسر التالية.

(٦-٢) الأسر المركبة Compound Family

تكوِّن الأسرة الأحادية ما يمكن أن نسميه استعاريًّا بالخلية الأولية. وهذا النمط من الأسرة شائع في الوقت الحاضر بصورة أو أخرى في مجتمعات الحضارة الصناعية، ولكن في المجتمعات الأخرى العليا والبسيطة كانت هذه الخلية الأولية دائمًا جزءًا من تجمع عدة خلايا تكون أنواعًا مختلفة من الأسر المركبة. وأهم الأشكال العامة للأسر المركبة: الأسرة الممتدة، والأسرة المتعددة الزوجات، والأسرة المتعددة الأزواج.

الأسرة الممتدة Extended Joint Family

تتكون الأسرة الممتدة من عدة أسر أحادية ترتبط معًا برباط التسلسل القرابي الأموي أو الأبوي، وتعيش معًا في مسكن واحد. وبهذا يمكن أن نطلق عليها اسم «العائلة» الموحدة المسكن، وتتركب مثل هذه الأسرة من أكثر من جيلين: جيل الأجداد، وجيل الآباء، وجيل الأحفاد. وقد تزيد عن ذلك أيضًا. وليس من الضروري أن تكون الخلايا الأسرية التي تكون الأسرة الممتدة أحادية الزواج؛ ففي مجتمعات النسب الأبوي يمكن أن تكون الخلايا أسرًا متعددة الزوجات، بينما في مجتمعات النسب الأموي نجدها أحادية الزواج. ويقرر شكل هذه الخلايا نوع المسكن: عصبي Virilocal أو رحمي Uxorilocal. ففي نوع المسكن الأول يبقى الأبناء ويحضرون زوجاتهم إلى بيت الأب، بينما في النوع الثاني تبقى الفتيات ويقيم معهن أزواجهن، وفي كلتا الحالتين نجد أن المسكن بيت كبير يتسع للأجيال المتعاقبة التي تعيش معًا. والمسكن الطويل (انظر الفصل الثامن: المسكن)، هو مكان سكن للأسرة الممتدة الأموية غالبًا. ولكن هناك أيضًا المساكن المجمعة الأبوية التي نطلق عليها «بيت العائلة» والذي يأوي أيضًا الأبناء المتزوجين.

وأهم ما يميز الأسر الممتدة أو العائلات الكبيرة الموحدة المسكن، هو خضوعها اقتصاديًّا للجد أو الأخ الكبير الذي يتصرف في كل دخل أو نشاط أفراد هذه الخلايا المتعددة. وكذلك تسيطر في التنظيم الأموي الجدة أو الأخت الكبرى على أشكال النشاط الاقتصادي للأسر الأحادية التي تكون أسرتها الممتدة. وبذلك فإن هذا النوع من التنظيم الأسري المركب يلغي إحدى مهام الأسرة الأحادية، وهو التعاون الاقتصادي المستقل، ويجعلها معتمدة تمامًا على التعاون الاقتصادي لعدد أكبر من أفراد الأسر الأحادية. ولا شك في أن تنشئة الأطفال بيولوجيًّا وحضاريًّا تصبح جزئيًّا من مهام الأسرة الأحادية، ويشارك مجتمع الأسرة الممتدة في هذه المهام بدور كبير، وبذلك تنحصر مهام الأسرة الأحادية هنا في العلاقة الجنسية بين الزوجين.

ويسمح نظام الأسرة الممتدة بنشأة النظام الأبوي المتسلط (أو السلطوي) Patriarcal أو الأموي المتسلط، بحكم أن رئيس العائلة يجمع في يديه غالبية السلطات الاقتصادية، بالإضافة إلى سلطات أخرى اجتماعية وقانونية بحكم علاقات الأب أو الأخ الأكبر بالأبناء والإخوة الأصغر. وهو بذلك يكون سلطة وقوة لها خطرها في المجتمعات البسيطة أو التقليدية، وخاصة في شكل التركيب والاتجاهات السياسية العامة.

الأسرة متعددة الزوجات Polygynous Family

يمكننا أن نميز — بادئ ذي بدء — بعض المصطلحات المتداخلة في هذا الموضوع. فمصطلح Polygamy يعني نظام الزواج المتعدد (Polygyny = تعدد الزوجات) و(Polyandry = تعدد الأزواج). ويجب أن نُفرِّق بين هذه المصطلحات ومصطلح آخر هو تعدد المضاجع Polykoite (Koite = سرير)؛ إذ إنه لا يكون أي نوع من الزواج أو الأسرة.

ونظام تعدد الزوجات أكثر أنواع الزواج شيوعًا في العالم، وبالتالي فإن الكثير من الأسر في العالم متعددة الزوجات. ويرتبط هذا النظام أساسًا بالمجتمعات الأبوية النسب، ولا يظهر في مجتمعات النسب الأموي، ولا في المجتمعات الصناعية المعاصرة. وبرغم شيوع التعدد في مجتمعات كثيرة، إلا أن تعدد الزواج الفعلي لا يحدث دائمًا بين كل أفراد المجتمع لأسباب اقتصادية. فالزواج عادةً أمر يتطلب تكاليف اقتصادية، ولا يحدث تعدد الزوجات مرة واحدة، إنما على مراحل مختلفة، كلما تجمع لدى الشخص ما يستطيع أن يجد به زوجة ثانية وثالثة؛ ولهذا فإن الرجل في مقتبل العمر يكون أحادي الزوجة، ثم يصبح متعدد الزوجات في منتصف العمر. وفي الغالب تحدث الزيجات التالية على الزوجة الأولى بموافقتها ورغبتها؛ لأن الزوجات الأخريات يساعدن الأولى في أعمال البيت والحقل الصغير أو قد يحملن عنها هذا العبء، كذلك تصبح الزوجة الأولى هي الزوجة الرئيسية. وموضوع الغيرة بين الزوجات أمر لا يكاد يعرفه الناس في المجتمعات البسيطة، ولا يعني هذا أنه لا توجد غيرة، إنما تظهر أحيانًا في صور فردية. فمثلًا شنقت زوجة من الأمريند الشايين نفسها بعد أن تزوج زوجها امرأة أخرى، وكان رد الفعل عند جدة هذه الزوجة أنها وصفتها بالسخف؛ لأنها شنقت نفسها من أجل موضوع تافه!

ولتجنب الغيرة نجد عددًا كبيرًا من المجتمعات تمارس الزواج من عدة شقيقات، وهو ما يُسمَّى Sororal Polygygny، فالأخوات يعرفن بعضهن جيدًا، وغالبًا لا تقوم بينهن منافسة جنسية من أجل إرضاء الزوج — على عكس تعدد الزوجات الغريبات عن بعضهن. وهذا النوع من الأسر يمكن أن يكون تطبيقًا مسبقًا لعادة الزواج بشقيقة الزوجة حينما تُتوفَّى (زواج الوراثة).

ولا توجد أسباب محددة لنشأة الأسرة المتعددة الزوجات، لكن هناك مجموعة من الأسباب التي تظهر في المجتمعات المختلفة. ومن بين هذه الأسباب ما سبق ذكره من فرض محارم على العلاقات الجنسية مع الزوجة خلال الحمل وأثناء الرضاعة، ولكن يبدو أن الأسباب الاقتصادية تأتي في مقدمة الدوافع لنشأة تعدد الزوجات؛ فقد لوحظ كثيرًا أن الأغنياء هم أكثر الناس ارتباطًا بنمط الأسرة المتعددة الزوجات في معظم المجتمعات، كما لُوحِظَ أيضًا أن الأسرة المتعددة الزوجات عادةً أغنى من الأسر أحادية الزوجة لأن طاقة العمل أكبر. فمن المعروف أن الطاقة البشرية هي الأساس الذي يرتكز عليه زيادة الإنتاج في المجتمعات البسيطة. ولما كانت النساء جزءًا هامًّا من الطاقة الإنتاجية (الزراعة القريبة من المسكن، وإنتاج فائض إنتاجي بسيط للتسويق المحلي؛ مثل: الدواجن، والبيض، والألبان … إلخ)، فإن كثرة الزوجات تؤدِّي إلى رخاء عام للبيت والأسرة التي يسيطر عليها الزوج — حتى لو كان هذا الزوج فقيرًا في بداية حياته الزوجية. ويجب أن نضيف إلى ذلك أن تعدد الزوجات يعني أيضًا كثرة الأولاد، ومن ثم كثرة الأيدي المنتجة، وبهذا فإن تعدد الزوجات يمكن أن نعده نظامًا اقتصاديًّا مثاليًّا أكثر من نمط الزواج الأحادي (بطبيعة الحال في أنماط الحياة والحضارة البسيطة التي تُستخدَم فيها الطاقة البيولوجية في الإنتاج).

ومما يؤكد أهمية الدور الاقتصادي في نشأة أو توسع نظام تعدد الزوجات، ذلك التغيير الذي طرأ على أمريند السهول في أمريكا الشمالية بعد بدايات الاستيطان الأوروبي. فحينما أصبحت المجتمعات الأوروبية الجديدة في حاجة متزايدة إلى الجلود المدبوغة، انتشر نمط تعدد الزوجات واتسع بين هؤلاء الأمريند؛ لأن دباغة الجلود كانت مهنة نسائية عندهم. وباختصار، حاول كل شخص أن يثري باقتناء (تزوج) أكبر عدد ممكن من أدوات الإنتاج (النساء) لهذه السلعة الرائجة.

وبطبيعة الحال، هناك أسباب أخرى لتعدد الزوجات؛ منها: عقم المرأة، وسيادة الأب، والرغبات الجنسية، والمركز الاجتماعي المترتب على كثرة عدد الزوجات. وهو أمر مرتبط بالثروة والقوة الاقتصادية قبل أو بعد الزواج المتعدد.

ويحاول الإنثروبولوجيون في أوروبا وأمريكا أن يؤكدوا أن نظام تعدد الزوجات ليس إلا زواجًا أحاديًّا في أساسه؛ فكل زوجة تكوِّن مع الزوج أسرة أحادية. ولا شك في أن هذا التفسير يستند إلى عدم قدرة هؤلاء الدارسين على فهم الزواج المتعدد؛ لأن مجتمعاتهم أحادية الأسرة منذ فترة طويلة، وهم لذلك يحاولون تبرير الأسرة متعددة الزوجات بأنها في جوهرها تجمع لعدة أسر أحادية، ولكن الواقع غير ذلك. صحيح أن كل زوجة في الأسرة المتعددة الزوجات تكوِّن ما يشبه الأسرة الأحادية نظريًّا، لكن ارتباط وتشابك كل الزوجات معًا في زوج واحد يهدم فكرة الأسرة الأحادية، وفضلًا عن ذلك فإن الأسرة المتعددة الزوجات عبارة عن خلية واحدة متشابكة ومترابطة اقتصاديًّا واجتماعيًّا ومكانيًّا (المسكن المشترك)، وهذه كلها أشياء تلغي تمامًا فكرة الأسرة المركبة عامةً — تعدد الزوجات أو الأزواج — عبارة عن أسر أحادية. فالحقيقة إذن أن الأسرة المركبة ليست عبارة عن تجمع للخلية الزوجية «الأولية» (الأسرة الأحادية) — كما يحلو لهؤلاء الباحثين أن يصفوها — وإنما هي — بتعدد زوجاتها أو أزواجها — عبارة عن خلية واحدة. ويمكننا أن نضرب مثالًا من عالم الطبيعة: كل الأشياء تتكون في أساسها من ذرات، لكن بناء هذه الذرات يختلف نتيجة غياب إلكترون أو زيادة بوزيترون؛ مما يؤدي إلى عناصر مختلفة تمامًا في كل صفاتها ووظائفها. فالحديد غير الذهب، وكذلك الأسرة المركبة عبارة عن تركيب حضاري متكامل، ولا يتكون من أسر أحادية متعددة؛ لأن الأخيرة بدورها تركيب حضاري آخر متكامل.

الأسرة المتعددة الأزواج

مثل هذا النوع من الأسرة مرتبط بنظام تعدد الأزواج Polyandry، وهو بذلك عكس تعدد الزوجات، ولكنه لا يعني سيطرة الزوجة مثل ما يعنيه النظام الآخر من سيطرة الزوج على الزوجات، بل إن السيطرة هنا تقع غالبًا في يد الزوج الأكبر سنًّا.
والأسرة متعددة الأزواج أقل ظهورًا من أنواع الأسر الأخرى، وأكثر مناطق ظهورها بين زراع التبت، وفي جنوب الهند، وعند الإسكيمو وبولينيزيا، وبعض مناطق من أفريقيا، كما كان سائدًا عند عدد من أمريند أمريكا الشمالية. وعند التودا في جنوب الهند نجد الأزواج إخوة غالبًا، وبعض الكتاب يرى أن الأخ الأكبر هو الزوج الحقيقي، وأن بقية الإخوة لهم فقط حرية العلاقة الجنسية والحياة معًا، وبذلك يصبح هؤلاء الإخوة أزواجًا ثانويين Cicisbeism، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن تعدد الأزواج يصبح عبارة عن تعدد لعلاقات السرير Polykoity فقط. ولكن ذلك غير صحيح، فبرغم أن للزوج الأول حقوق البنوة، إلا أن هذه الحقوق ليست مستمرة طوال الحياة. فعند التودا يمكن لأخٍ أصغر أن يقوم بطقوس معينة تُسمَّى «إهداء القوس»، وبذلك يصبح الأب الاجتماعي للطفل التالي أو للطفلين التاليين، وتتكرر هذه الطقوس بعدد الإخوة الأزواج كل فترة زمنية ليس لها توقيت محدد. ويَقُودنا هذا مرةً أخرى إلى التأكيد بأن الأبوة الاجتماعية عند عدد كبير من البدائيين أهم بكثير من الأبوة البيولوجية.

ولم يُعرَف بَعْدُ سبب أو مجموعة من الأسباب تؤدي إلى نظام الأسرة المتعددة الأزواج، ولكن الواضح أن هناك أسبابًا مختلفة في كل حالة على حدة. وربما كان الفقر الاقتصادي هو واحدًا من أهم الأسباب عند عدد من الجماعات: التبت، وجنوب الهند، وبعض قبائل شرق أفريقيا. وحيث نجد فقر البيئة هو المسئول عن تعدد الأزواج في التبت (إذ يتعذَّر على الشخص الواحد أن يعول زوجته وأولاده — ومن ثم لا بد من اشتراك عدد من الرجال للقيام بهذه المهمة) نجد كثافة السكان وقلة الموارد عند التودا مسئولة عن تضامن عدة إخوة في الزواج من فتاة واحدة، ونجد ارتفاع المهور مسئولًا عن مثل هذه الأسرة عند فقراء الباهيما والبانيكولي في شرق أفريقيا (حيث يساعد عدد من الإخوة أخاهم على تجميع المهر المطلوب، ويصبح لهم حق في الزوجة حتى تحمل فتعيش مع زوجها ويصبح هو الأب الاجتماعي لكل الأطفال).

ومن بين الأسباب التي قُدِّمَتْ لتفسير هذه الأسرة عند سكان التبت وبعض الإسكيمو عادة قتل المواليد من الإناث. وبرغم ممارسة هذه العادة؛ إلا أن تقديرات السكان في التبت أو عند الإسكيمو لم تُوضِّح زيادة عدد الرجال على النساء بالصورة التي قد نتصورها. بل أثبتت بعض الدراسات الإحصائية أن عدد النساء يزيد عن عدد الرجال في كل مجتمعات الإسكيمو. ومن ثم، فإن هذا السبب لم يَعُدْ له وجاهته الماضية، خاصة إذا عرفنا أن وأد البنات بين عرب الجاهلية لم يؤدِّ إلى نمطٍ ما من أنماط تعدد الأزواج.

ولقد دلَّت الدراسات الأنثروبولوجية العديدة عن أمريند أمريكا الشمالية على وجود نظام الأسرة المتعددة الأزواج عند عدد كبير من أمريند السهول والهضاب الغربية. ويرى الأستاذ هويبل١٠ أنه من السهل أن نرى أن الأمريند قد أُشْرِبُوا فكرة التعادل والتكافؤ بين الإخوة والأخوات في العلاقات الجنسية؛ بمعنى أن الإخوة يتساوون في إقامة علاقة جنسية مع زوجة كل منهم أو مع زوجة واحدة لهم جميعًا، وكذلك تتساوى الأخوات في إقامة علاقات جنسية مشتركة مع شخصٍ واحد. ويقول هوبيل أيضًا إن هذه الفكرة ربما تكون مسئولة عن تعدد الأزواج عند بعض الإسكيمو وغير ذلك من مظاهر الضيافة الجنسية التي يمارسونها.
وليست كل الأسر المتعددة الأزواج على النحو السابق ذكره، بل هناك أنواع أخرى مثل حالة أمريند بوني Pawnee. فالنظام السائد هو أن ينتقل الشاب بعد البلوغ للإقامة عند خاله، وله حق معاشرة زوجة خاله حينما يكون الأخير متغيبًا عن البيت. وطبيعي أن هذا نوع مؤقت من تعدد الأزواج، كما أنه زواج مسبق بالوراثة كما سبق أن ذكرنا. وعند قبيلة الجواري Gwari في شمال نيجيريا يكون للزوجة عدة أزواج وأسر في قرى مختلفة، وتعيش متنقلة بين هؤلاء الأزواج حسب رغباتها الخاصة، وفي هذه الحالة لا يُنسَب الأطفال للزوج الأول؛ إنما يُنسَب كل طفل إلى أبيه البيولوجي.

والفوارق بين تعدد الأزواج وتعدد السرير قد تصبح غير واضحة عند بعض المجتمعات، أو حينما نحاول أن نفهمها. فمثلًا في بولينيزيا وبعض قبائل جنوب الهند، يمكن للزوجة أن تتخذ لها «عشاقًا» بعلم زوجها، لكن الأبناء دائمًا هم أبناء اجتماعيون للزوج: هل هذا نوع من تعدد الأزواج أم مجرد تعدد سرير؟ علمًا بأن المركز الاجتماعي للمرأة في تلك الجزر مركز ممتاز للدرجة التي يرى معها بعض الدارسين أن اتخاذها العشاق حق من حقوقها. وعند سكان جزر ماركساس (بولينيزيا أيضًا) يمكن للرجل أن يستأجر عددًا كبيرًا من الرجال يعملون لحسابه إذا كانت زوجته جميلة ومرغوبة؛ لأن أجر هؤلاء هو الحق في معاشرة الزوجة الجميلة (لهذا يتنافس الرجال على زواج الجميلات)، ولكن هذا لا يمثل حقًّا نظام أسرة متعددة الأزواج، إنما هو «حريم رجالي» إذا جاز التعبير!

أسرة زواج الزيارة

عند الجماعات التي تمارس زواج الإقامة المزدوجة — بمعنى بقاء الزوجة في بيت أهلها والزوج في بيت أهله — يصبح الزواج زواج زيارة؛ أي يزور الزوج زوجته بين الحين والآخر. ومثل هذا النوع من الزواج تمارسه الجماعات الأموية النسب المتطرفة في تطبيق هذا النظام؛ حيث تترأس الأخت الكبرى المسكن بمن فيه من شقيقاتها وأبنائهن من الفتيات والأبناء، حتى لو كبر الأبناء وتزوجوا. والأمثلة قليلة على هذا النوع من الأسر، وأشهرها ما كان سائدًا عند الإيروكيز، وعند مجموعة ميننجكاباو Minangkabau في سومطرة والطبقة الاجتماعية المعروفة باسم نايار Nayar في ساحل ملبار في جنوب غرب الهند.

ويمكن أن يتغير هذا النمط في الأسرة، بحيث يُسمَح للزوج الإقامة مع أهل زوجته، حينما يموت شقيق الزوجة، أو حينما لا يوجد رجل آخر من أقرباء الزوجة في البيت، أو حينما تموت أو تمرض الأخت الكبرى. ومن ثم، تتحول هذه الأسرة إلى أسرة رحمية المكان. كذلك يمكن للزوج أن يأخذ زوجته معه حينما يصبح هو الرجل الوحيد في عائلته، وبذلك تصبح أسرة عصبية المكان. وقد لُوحِظ أن هذا النظام لا يرتبط بالزواج الأحادي، إنما يظهر في إطار تعدد الزوجات أو تعدد الأزواج.

بعض نماذج للأسر المركبة

فيما يلي نُقدِّم نماذج مختصرة لعدد من أنواع الأسر المركبة الأبوية والأموية:
  • الأسرة المركبة الأبوية Patriarcal: القوزاق من رعاة وسط آسيا. تتكون الأسرة من الأب والأم وأولادهما الذكور مع زوجاتهم وأبنائهم، والبنات غير المتزوجات. يتكون البيت غالبًا من ١٥ إلى ٢٠ شخصًا. أساس النظام الاقتصادي هو العمل الرعوي الذي يشترك فيه كل الرجال، وتتطلب عملية الرعي والتنقل عددًا كبيرًا من الرجال؛ ولذلك لا يمكن أن تقوم أسرة أحادية وحدها بالأعباء، ومن ثم ظهر هذا النوع من الأسرة الممتدة الأبوية العصبية المكان. الميراث يذهب إلى أصغر الأبناء باعتبار عاملين؛ أولهما: أن الأبناء الكبار قد حصلوا من الأب على ما أعانهم على الزواج وتكوين ملكية لا بأس بها، وثانيهما: أنه يمكن للأولاد الكبار أن يتركوا الأسرة ليؤسسوا أسرة ممتدة أخرى، بينما يظل الابن الأصغر مرتبطًا بالأب. أسرة القوزاق الممتدة تتأسس إذن على أساس علاقة الأب بالأبناء، وخاصة الابن الأصغر — مبدأ السن الأصغر.
  • العائلة الأخوية المُركَّبة Fraternal Family: قبيلة بوبو Bobo من زراع ثنية النيجر في غرب أفريقيا. تتكون العائلة من عدة إخوة مع زوجاتهم وأبنائهم في مسكنٍ واحد كبير، ولكل أسرة أحادية مكان خاص فيه: الرئاسة للأخ الأكبر الذي ينظم العمل الزراعي ويوزعه على أعضاء العائلة، وزوجته هي التي تُعِدُّ الغذاء للجميع. كما يتقبل المهور الخاصة ببناته وبنات إخوته وأحفاده، وهو القاضي والحاكم داخل البيت، كما أنه هو كاهن المجموعة المسئول عن طقوس عبادة السلف، ويكون إخوته المجلس الاستشاري للعائلة. وريثه هو الأخ الذي يليه في العمر؛ وبهذا فإن هذه العائلة عبارة عن تجمع أُسَر أحادية عصبية المكان. حينما يزدحم المكان يمكن أن يؤسس بعض الإخوة بيتًا جديدًا وعائلة جديدة؛ إذن أسس هذه العائلة هي علاقة الأخ ← الأخ مع مبدأ احترام السن.
  • عائلة الخال الأكبر Sororal-Fraternal Family: قبيلة جاو Jao في منطقة نياسا بشرق أفريقيا. تتكون العائلة من الشقيقات المتزوجات وأبنائهن في مسكن كبير مع شقيقهن الأكبر وزوجته، أما أزواج الشقيقات فإنهم يأتون للزيارة بين الحين والآخر [انظر القسم الثاني – الفصل الثامن: التنظيم الإجتماعي – الأسرة – زواج الزيارة]. والملاحظ أن الأزواج يرتبطون عاطفيًّا ببيت أخواتهن، وليس بالبيت الذي يوجد فيه أبناؤهم وزوجاتهم، ومن ثم فإن الأبناء يرتبطون عاطفيًّا بأمهاتهم وأخوالهم. ولهذا فإن مسئولية تنشئة الأبناء تقع على عاتق الخال، ورئاسة العائلة بالطبع في يد الخال، وتصبح زوجته رئيسة البيت أيضًا. وبهذا فإننا نجد أنفسنا أمام تركيب أسري يجمع أسرة أحادية (أو متعددة الزوجات) عصبية المكان (أسرة الخال)، وأسرًا أحادية رحمية المكان (الشقيقات وأبناؤهن) مع زواج زيارة (انظر شكل ٨-٤).
  • الأسرة المركبة الأموية Matriacral family: قبيلة الزوني Zuni من أمريند البويبلو في جنوب غرب الولايات المتحدة، زرَّاع مستقرون. تتكون هذه الأسرة من مجموعة من الشقيقات وأزواجهن وأولادهن وأحفادهن، وهي أسرة أموية رحمية المكان، تكون وحدة اقتصادية تحت رئاسة «المعلمة»، وهي إمَّا الجدة أو الأخت الكبرى. يُعَدُّ الأزواج غرباء عن الأسرة، وهم بدورهم يرتبطون عاطفيًّا ببيت أمهاتهم، ويصبحون الآباء الاجتماعيين لأولاد شقيقاتهم (دور الخال)، لكنهم الآباء البيولوجيين لأبنائهم؛ لذلك يقيم مع زوجته ويعمل في حقل الأسرة الأموية (انظر شكل ٨-٥).
  • العائلة رحمية المكان Matrilocal Family: قبيلة الشايين Cheyenne من أمريند السهول في البراري الأمريكية الغربية، مجتمع صيد متنقل، تتكون العائلة من عدة شقيقات مع بناتهن المتزوجات وأزواجهن وأبنائهن غير المتزوجين. يختلف هذا النمط عن الأسرة الأموية عند الزوني في أن لكل أسرة أحادية خيمة مستقلة، وبذلك تتكون العائلة من مضرب خيام كبير أو صغير حسب عدد الأسر. تتميز خيمة «المعلمة» بأنها تحتوي على الموقد ومطبخ العائلة، وبذلك ترتبط زعامة المعلمة بتقديم الغذاء فقط. أمَّا رئاسة العائلة فتُترَك لأحد الأزواج، برغم أنه غريب عن المجموعة، لكنه يدخل إلى هذه الوظيفة باعتبار أنه أب للبنات. وبما أن نظام الزواج هنا يقتضي أن يخدم الزوج حماه؛ فإن الرجل الذي ينجب عددًا أكبر من البنات يُصبح صاحب مركز اجتماعي أحسن داخل هذه العائلة؛ (إذ سوف يكون له أصهار كثيرون). ومبدأ التنظيم في هذه العائلة يقوم على علاقة الأب ← البنت (انظر شكل ٨-٦).
fig63
شكل ٨-٤
fig64
شكل ٨-٥
fig65
شكل ٨-٦

على هذا النحو تتعدد أشكال الأسر والعائلات في العالم، وتتنوع تنوعًا كبيرًا؛ مما يجعلنا نؤكد مرة أخرى أن مجالات الاختيار الحضاري عند الإنسان واسعة ومتنوعة، وتنفي فكرة أن نوعًا واحدًا فقط من أنواع الأسر أو علاقة واحدة من أنواع العلاقات بين الجنسين، هي القاعدة الغريزية أو الطبيعية عند الإنسان، وما عداه من الأنواع والأشكال شذوذ عن هذه القاعدة.

وبذلك فإن شكل الترابط بين الرجل والمرأة والأبناء خاضع للتغير والتطور بالارتباط بالبناء الحضاري العام، والتركيبات الاجتماعية الاقتصادية بصفة خاصة، وهي التركيبات التي تعيد باستمرار صياغة وتشكيل حياة المجتمعات وتنظيماتها.

(٧) تنظيم القرابة Kinship systems

بناءً على ما رأيناه من تعدد أشكال الأسر وما يترتب عليه من الأشكال المختلفة في النسب، تختلف كذلك نظم قرابة الأشخاص بعضهم إلى بعض في المجتمعات المختلفة اختلافًا كبيرًا. ونظم القرابة على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لحياة المجتمعات؛ فمن خلالها يتضح المركز الاجتماعي للأشخاص الذين يمتون لبعضهم البعض بأنواع الصلات المختلفة، كما يترتب عليها تحديد العلاقات والواجبات والمميزات المتبادلة بين الأشخاص ذوي العلاقة.

وشكل الأسرة هو واحد من أهم العناصر في تحديد علاقات القرابة بين الأب والأبناء والأحفاد والإخوة والأخوات، وكذلك تنبع من خلال الزواج أشكال أخرى من القرابة التي تربط الزوج بأصهاره وأنسبائه، وتربط الأبناء بأسرة الأب أو الأم أو بهما معًا.

ولهذا فإن هناك نوعين أساسيين من أنواع القرابة؛ الأول: هو القرابة الدموية، والثاني: هو قرابة التصاهر. والنوع الأول ينقسم إلى نوعين ثانويين؛ هما: (أ) القرابة الدموية المباشرة، وهي التي نجدها بين الأب والأم والأبناء والأحفاد. (ب) القرابة الدموية الجانبية، وهي التي نجدها في صيغة العم والعمة والخال والخالة وأبناء العمومة والخئولة. أما القرابة التصاهرية فتتحدد بناءً على نمط الأسرة السائد ونوع مصطلحات القرابة السائدة.

(٧-١) مصطلحات القرابة

مصطلحات القرابة متعددة؛ لأن المجتمعات تختلف كثيرًا في بنائها الاجتماعي، ولكنها في مجموعها تنقسم إلى نوعين رئيسيين هما:
  • (١)
    مصطلحات القرابة التصنيفية أو الطبقية Classificatory، وهي التي تصنف المجموعة المحلية إلى طبقات عمر، وبذلك يصبح هناك طبقة الأجداد وطبقة الآباء وطبقة الأبناء وطبقة الأحفاد، وكل فرد في طبقة معينة يصبح أخًا أو أبًا أو جَدًّا … إلخ.
  • (٢)
    مصطلحات القرابة الوصفية descriptive، وهي التي تصف العلاقة الحقيقية للقرابة بحيث يصبح لكل شخص مصطلح معين؛ كالأب والعم والجد والأم والخال والخالة وابن الخال … إلخ.

ولقد كان من الشائع بين الإثنولوجيين القدماء سهولة الفصل بين هذين النوعين، لكن الدراسات التفصيلية العديدة قد أوضحت أن هناك عدم وضوح المصطلحات عند بعض المجتمعات، وأخرى تستخدم النوعين معًا، وثالثة تمثل مراحل مختلفة بين هذين النوعين. ومن الأدلة التي نَسُوقها على ذلك أن المجتمع الريفي المصري يطلق على العم مصطلح أب في الوقت الذي يعرف فيه هذا المجتمع نوع القرابة التي تصف العم تمامًا، وكذلك يطلق على الحمي (الحمو) أبًا، والحماة أُمًّا تجاوزًا. ويُطلَق مصطلح خالة على كثيرات من السيدات من طبقة عمر الأم، بغض النظر عن وجود علاقة قرابة فعلية. وكثير من هذه الأمثلة من الاستخدامات غير المحددة لمصطلحات القرابة موجود عند أكثر المجتمعات التزامًا بنظام القرابة الوصفية، كالمجتمع العربي والمجتمع الأوروبي والغربي عامة.

وتقوم مصطلحات القرابة عند المجتمعات المختلفة على الأسس التالية:
  • (١)

    مبدأ الأجيال:

    الجد والجدة.

    ↑ الوالدان وأخواتهم.

    جيل الأنا الإخوة والأخوات.

    ↓ الأبناء وأبناء العمومة والخئولة … إلخ.

    الأحفاد.

    ويمكن حسب هذا المبدأ تطبيق النظامين الوصفي والطبقي في مصطلحات القرابة؛ فمثلًا العم والخالة يصبحان أبًا وأمًّا.

  • (٢)

    مبدأ الجنس: وهذا يتبع التفريق بين الأقارب حسب الجنس.

  • (٣)

    مبدأ المصاهرة: وهذا يرتبط بالزواج وأنماطه، وأحيانًا يصح التغاضي عن وصف قرابة بعض الأصهار، فيُقال: عم لزوج العمة أو الخالة.

  • (٤)

    مبدأ خط النسب: وهو يُفصِّل ويُوضِّح التسلسل القرابي المباشر أو الجانبي. مثال ذلك أن الجد والأب والابن تسلسل قرابي مباشر، بينما العم والخال والعمة والخالة وأبناؤهم تسلسل قرابي جانبي. ويرتبط بهذا أيضًا مبدأ التشعيب لتمييز القرابة القريبة والبعيدة.

  • (٥)

    مبدأ التبادلية: وبمقتضاه ينادي الشخص من جيل أعلى قريبه في جيل أدنى بنفس اللقب، مثال ذلك أن ينادي الجد حفيده ﺑ «جدو»، أو العم ابن أخيه ﺑ «عمو» … إلخ. وعلى عكس ذلك نجد أن مبدأ السن يُراعى عند بعض المجتمعات للتمييز بين الأخ الأكبر والأصغر.

وإلى جانب هذه المبادئ هناك أيضًا الاعتبارات الاجتماعية والحضارية الخاصة بكل مجموعة لغوية في استخدامات ألفاظ القرابة الخاصة، ومن الأمثلة التي توضح ذلك خير توضيح ما نجده من مصطلحات القرابة الشائعة عند قبيلة الكومانشي (من أمريند أمريكا الشمالية) على النحو التالي:
  • (١)

    العم يُسمَّى «أب» والخالة تُسمَّى «أم»؛ وذلك مرتبط بنظام زواج أخي الزوج من زوجة أخيه ونظام زواج الزوج من أخت زوجته.

  • (٢)

    زوجة الأخ تُسمَّى زوجة، وأولاد الأخ يُسمَّون أبناء، وذلك مرتبط بنظام زواج زوجة الأخ في حالة وفاة الأخير.

  • (٣)

    عديل الزوج (زوج أخت الزوجة) يُسمَّى «أخ» وليس عديلًا، وكذلك تُسمِّي السيدة زوج أختها باسم أخ، ويرتبط ذلك بنظام المتبادل، وفي هذه الحالات جميعًا نجد مبدأ طبقة العمر يلعب دورًا واضحًا في إعطاء مصطلحات قرابة طبقية. وأخيرًا، فإن مصطلحات القرابة خاضعة للتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على مجتمعٍ ما، كأن يتغير نمط الزواج من النظام الرحمي المكان إلى العصبي المكان، أو تتغير الأسرة من أمومة إلى أبوية.

(٧-٢) أنماط القرابة

وبناءً على الدراسات الكثيرة في هذا الموضوع أمكن استخلاص عدد من أنماط القرابة السائدة في العالم،١١ وفيما يلي دراسة موجزة للأنماط الرئيسية للقرابة في العالم:
  • القرابة الإسكيماوية: في هذا النمط لا تميز مصطلحات خاصة بين العم والخال والخالة والعمة، بل يُطلَق عليهم جميعًا عم أو عمة، كما لا يوجد تمييز بين أبناء العمومة والخئولة وأبناء العمات والخالات — أي لا يوجد تمييز بين القرابة الكاملة (أبناء العم والخالة) والقرابة المتقاطعة (أبناء الخال والعمة)، ويسود هذا النمط عند المجتمعات ذات الأسر الأحادية الزوجة. وحيث تصبح الأسرة النووية المكون الأساسي في البناء الاجتماعي، فلا تظهر أشكال بنوية اجتماعية أخرى كالعشائر والقبائل. ويظهر هذا النمط بين الإسكيمو وقبائل الرعاة والصيادين في شمال سيبيريا وأوروبا القطبية (اللاب)، كما يظهر أيضًا عند السلكنام في تييرا، ولفويجو، وأقزام جزر أندمان، وأقزام السمانج في الملايو. إن أكثر الجماعات التي تتبع هذا النمط من القرابة عددًا في الوقت الحاضر، هم أصحاب الحضارة الصناعية من الأوروبيين والأوروبيي الأصل.
  • نمط هاواي: وفي هذا النمط يُطلَق على كل الأقارب من جيل الوالدين أب وأم، وعلى أبنائهم وبناتهم إخوة، وعلى أحفادهم أبناء. وبعبارةٍ أخرى، فإن مبدأ طبقة العمر يلعب دوره في تحديد نوع القرابة، وينتشر هذا النمط في جزر بولينيزيا وبعض قبائل الفلبين وأمريند السهول وأمريند الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية، ومجموعة شعوب الإنكا في أمريكا الجنوبية، وقبيلة السيامانا في تييرا ولفويجو (خليط بين النمط الإسكيماوي والهوائي). وبذلك فإن النمط الهوائي ينتشر في عالم المحيط الهادي.
  • نمط الإيروكويز والداكوتا: هنا مصطلح قرابي واحد لأبناء العمة والخال (قرابة متقاطعة)، أما أبناء العم والخالة فهم إخوة وأخوات. وعند الإيروكويز نجد مصطلحًا واحدًا للأم والخالة والعمة، ونجد في بعض العشائر مصطلحًا واحدًا للأم والخالة ومصطلحًا آخر للعمة. أما عند الداكوتا فهناك مصطلحات قرابية مختلفة لكلٍّ من الأم والخالة والعمة. وأسباب هذا الاختلاف راجعة إلى أن الإيروكويز يمارسون زواجًا رحمي الإقامة، ويكونون أسرًا أموية مركبة مع زواج أحادي ويلتزمون بالنسب الأموي. أما الداكوتا فهم يمارسون زواجًا عصبي الإقامة، ويكونون أسرًا أبوية مركبة مع نسب أبوي وزواج أحادي أو متعدد الزوجات. وينتشر نمط الإيروكويز بين الإيروكويز والهورون من أمريند الشمال الشرقي، ويظهر عند قبيلة مينانج كاباو في سومطرة، وفي الملايو وجنوب غرب الهند (قبيلة نايار) وعدد من قبائل ميلانيزيا، وأستراليا، وأفريقيا. أما نمط الداكوتا فواسع الانتشار في أفريقيا وأوشينيا وكثير من الأمريند.
  • نمط كرو Crow: في هذا النمط نجد مصطلحات مختلفة لأبناء الخال وأبناء العمة، وكذلك مصطلحات مختلفة لأبناء العم وأبناء الخالة، وفي الوقت نفسه يُطلَق على الأب والعم مصطلح واحد، وكذلك على الأم والخالة، بينما تُوجَد مصطلحات خاصة لكلٍّ من الخال والعمة. ولا يعني مصطلح «أب» الأب والعم فقط، بل يُطلَق أيضًا على كل قريب للأب من جهة أمه، مثلًا ابن خالة أو خال الأب. وكذلك يعني مصطلح «أم» كل سيدة متزوجة من أي قريب من أقارب الأب من جهة أمه — أي زوجة من يمكن أن يُطلَق عليه «أب». وهذا ناجم عن أن الكرو (أمريند السهول) ينتظمون اجتماعيًّا في عشائر أموية تمارس الإقامة الرحمية المكان مع الزواج الأحادي.
    ويتميز نمط الكرو بأن هناك تصعيدًا لبعض الأقارب من مرحلة عمر إلى مرحلة أعلى، ويقابل ذلك هبوطًا ببعض الأقارب إلى مرحلة عمر أدنى. فعندهم بنت العمة تُسمَّى عمة، وابن العمة يُسمَّى أبًا، بينما يُطلَق على الخال أخ أكبر، وتُسمَّى زوجة الخال: زوجة، وأبناء الخال: أبناء. فالعمة وأبناؤها يصعدون جيلًا بأكمله، بينما يهبط الخال وأبناؤه جيلًا إلى أدنى. والهبوط بالخال ناجم عن الاحتمال القائم عند الكرو بإمكانية زواج الشخص من زوجة خاله في حالة وفاة الخال، أما تصعيد أبناء العمة فتفسيره مرتبط بمضاعفة البعد القرابي مع أقارب الأب من جهة شقيقاته؛ لأن الأب في هذه الحالة يصبح خالًا لأبناء أخته، وينطبق عليه مبدأ تهبيط الخال إلى جيل أدنى (انظر شكل ٨-٧)، وينتشر نمط الكرو القرابي بين أمريند الجنوب الشرقي من أمريكا الشمالية وبعض عشائر قبائل السو Sioux، وبين أمريند البيوبلو، وبعض قبائل فنزويلا وشرق البرازيل وبعض مناطق أفريقيا وأوشينيا.
  • نمط أوماها: وهو عكس نمط الكرو القرابي، فهنا نجد مصطلحًا واحدًا للأم والخالة وبنت الخال؛ أي تصعيد للخال وابن الخال. وفي مقابل ذلك نجد هبوطًا للعمة وجيلها. ولعل ذلك راجع إلى ممارسة النسب الأبوي وتكوين عشائر عصبية المكان بحيث يصبح الخال ونسله أقارب بعيدين، (انظر شكل ٨-٨)، وينتشر هذا النمط كثيرًا في أفريقيا وعند قبائل السو من الأمريند في أمريكا الشمالية.
  • النمط السوداني: وهو عكس القرابة الهاوائية تمامًا — أي إنه نمط قرابي وصفي لكل شكل من أشكال القرابة: عم – عمة – خال – خالة – ابن عم – ابن خال … إلخ، وهو شائع الانتشار عند المجتمعات الأبوية تمامًا مثل المجتمعات العربية والكثير من قبائل النطاق السوداني من أفريقيا.
fig66
شكل ٨-٧: نمط القرابة عند الكرو (عشائر أموية).

مبدأ تهبيط وتصعيد بعض الأقارب إلى أجيال أخرى: (١) ارتفاع ابن عمة الأنا إلى جبل أعلى لاحتماله تزوج زوجة خاله. (٢) تهبيط خال الأنا الى أخ أكبر توقعًا لاحتمال تزوج زوجته في حالة وفاته.

fig67
شكل ٨-٨: نمط القرابة عند الأوماها (عشائر أبوية).

مبدأ تصعيد وتهبيط بعض الأقارب إلى أجيال أخرى: (١) تهبيط عمة الأنا إلى جيل أدنى. (٢) تصعيد أبناء خال الأنا إلى جيل أعلى.

هذه هي أهم أنماط القرابة، وهذا هو هيكلها الرئيسي؛ بمعنى أن هناك تغايرات عديدة لكل نمط في أماكن مختلفة، أو حتى عند العشائر المتقاربة، بحيث نجد مثلًا بعض أشكال القرابة من أنماط أوماها وداكوتا والسودان مشتركة معًا عند مجموعةٍ ما من مجموعات النسب الأبوي، أو أشكالًا قرابية تنتمي إلى الإيروكيز والكرو معًا عند مجتمع أموي النسب أو رحمي الإقامة. كما نجد في أحيانٍ أخرى بعض صفات قرابية تشترك فيها أنماط متناقضة؛ مثل: هاوائي، والإسكيمو أو داكوتا، والإيروكيز. وقد يحدث ذلك عند طبقات مختلفة داخل القبيلة الواحدة، وذلك راجع إلى اختلاف الأصول التاريخية في تكوين طبقات القبيلة أو الشعب. وكما سبق ذكره فإن هذه الأنماط ليست جامدة، بل قابلة للتغيير والتبديل نتيجة للتغير الحضاري المستمر؛ مما يؤثر على علاقات الأجيال والأنساب بصفة مستمرة.

(٧-٣) أمثلة على دور القرابة في الحياة الاجتماعية

قلنا إن تحديد قرابة الأشخاص يحمل في طياته واجبات وحقوقًا اجتماعية مختلفة. ولهذا التحديد أهمية أكبر في المجتمعات البدائية عنها في مجتمعات الحضارة العليا؛ لأن في الأخيرة الكثير من النظم والقوانين التي تحدد الحقوق والواجبات، وتقوم بدور الردع أو التشجيع، في حين تتركز كل هذه الأشياء داخل مجموعات القرابة الصغيرة أو الكبيرة. وفيما يلي بعض نماذج لعلاقات القرابة وما تنطوي عليه من مفاهيم اجتماعية وقانونية.
  • علاقة الأب والابن: لا تنبني هذه العلاقة على الغريزة والاعتياد فقط، بل على أسس اجتماعية حضارية أيضًا. فالأبوة يمكن أن تكون بيولوجية أو اجتماعية فقط، وسلطة الأب المعروفة لا تُمارَس عند كل مجتمع، بل تختلف اختلافات كبيرة بين سلطة قوية (كما كان عند الرومان) وبين عدم وجود سلطة على الإطلاق. ويُلاحَظ في كثير من المجتمعات البدائية وجود وشائج وعلاقات قوية بين الابن والأم، أو بين البنت والأب أكثر من العلاقات المقابلة.
  • علاقة الأخوة: يُلاحَظ وجود علاقة احترام متبادل بين الأخ وأخته، خاصة بعد طقوس البلوغ؛ حيث نجد تباعدًا كبيرًا بينهما تجنبًا للمحارم. أما العلاقة بين الأخوة من نفس الجنس، فهي علاقة الرفقاء القوية مع احترام كبير للسن.
  • علاقة الزوج والزوجة: غالبًا ما تكون علاقة رسمية؛ لأن الزواج عادةً عبارة عن ترتيبات تحدث بين عائلتين، ونادرًا ما يكون نتيجة علاقة عاطفية. وفي المجتمعات التي تسودها التنظيمات العشائرية نجد الترابط القرابي أقوى أحيانًا من علاقات الزواج. وفي أحيانٍ أخرى، قد تتحول العلاقة الزوجية تدريجيًّا إلى علاقة عداء أو انفصالٍ تام في المأكل والنوم، وتقتصر العلاقة على الضروريات فقط.
  • علاقة العمومة والخئولة: في المجتمعات الأبوية، نجد العم يُعامَل معاملة الأب، ولا يصبح للخال مثل سلطة الأب. أما في المجتمعات الأموية فإن سلطة الخال تتعاظم وتصبح أكبر من سلطة الأب على الأبناء، ولا يصبح للعم أي سلطة على أبناء أخيه، ولكن توقير الخال يمكن أن يوجد أيضًا في مجتمعات أموية النسب. وفي عدد من المجتمعات تصبح العلاقة وثيقة بين الخال وأبناء أخته لتبلغ مرحلة الصداقة والمعاونة، وتنشأ بين الطرفين علاقة أقرب ما تكون إلى التآخي تنتفي فيها العلاقة الرسمية. وعند بعض المجتمعات تنشأ علاقة وطيدة بين العمة وأبناء أخيها تصل إلى إلغاء الرسميات في بعض الأحيان، وتصل إلى تكوين سلطة للعمة على أبناء أخيها مماثلة لسلطة الأم في أحيانٍ أخرى (بعض قبائل ميلانيزيا).
  • علاقة الأجداد والأحفاد: في غالبية المجتمعات نجد علاقات التعاطف والود والحماية والمساعدة تميز الارتباطات بين الأجداد وأحفادهم، ومن الأمثلة على وجود هذا التعاطف رغم البعد الزمني أن بعض القبائل تسمي الشمس «الجد»؛ لأنها قديمة وبعيدة لكن أثرها الطيب محسوس في كل مكان، وكذلك تسمي قبائل الداكوتا من الأمريند الوجود الأعظم باسم «الجد».
  • علاقة أبناء العمومة والخئولة: تتحدد هذه العلاقة على أساس تصنيف نمط القرابة السائدة عند المجتمع. وفي الغالب، نجد أفراد القرابة المتوازية (أبناء العم وأبناء الخالة) يُعامَلون معاملة الإخوة والأخوات، بينما نجد علاقة متباعدة مع أفراد القرابة المتقاطعة (أبناء العمة والخال)، وأحيانًا يمكن الزواج من هؤلاء الأفراد.
  • العلاقة مع الأحماء والحموات: تخضع هذه العلاقة إلى متغيراتٍ كثيرة تتراوح عند المجتمعات المختلفة بين الاحترام والتبجيل، أو الكره ورفض إقامة أي علاقة مع الأصهار. وقد قام الأنثروبولوجي الأمريكي أدامسون هويبل بدراسة تحليلية لمائة حالة في أمريكا، وكانت نتائج الدراسة مفيدة وممتعة عن العلاقة الاجتماعية والنفسية مع الأصهار. وقد وجد هويبل أن ٩٤٪ من النكات والملح موجهة ضد الحماة، وأن ثلثي الرجال يتمنون موت الحماة، وأن ثلثي الحموات قد أعربت عن علاقة عدائية تجاه أزواج بناتهن أو زوجات أبنائهن، كذلك كان ٢٠٪ من الحالات يرفضون وجود حماتهم معهم. ولا شك في أن النكات والملح هي صمام أمن ضد علاقة العداء التي يشعر بها الشخص تجاه حماته.

وليس من المستغرب أن تكون الأوضاع مماثلة كذلك عند المجتمعات التي تمارس الاغتراب في الزواج؛ لأن الزوج عادةً هو عضو جماعة أخرى. كما أن العلاقة بين الأم وابنتها من القوة بحيث تزيد من علاقات العداء مع زوج البنت، ويزداد الموقف سوءًا إذا كانت إقامة الأسرة رحمية المكان؛ أي: عند عائلة الزوجة أو في مسكنها. وفي مثل هذه الحالة نجد «تابو» بمعنى تحريم أي علاقة — حتى ولو كانت كلامية — مع الحماة، وفي أحيانٍ أخرى يخف هذا التحريم إلى إمكان التحادث من وراء حائط أو ساتر. أما علاقة الأصهار الأخرى؛ مثل: علاقة الزوج بحماه، أو الزوجة بحماتها وحماها، فهي أقل عداءً، ولا يوجد «تابو» مماثل لعلاقة الزوج بحماته.

(٨) بناء المجتمع

يتحدد شكل المجتمع عند الجماعات البدائية على أساس القرابة، وإلى جانب ذلك تلعب عدة عناصر أخرى دورها في بناء المجتمع؛ مثل: طبقات السن، والتكوين الجنسي، وجمعيات الرجال، إلى جانب أغراض حضارية أخرى تؤدي إلى تكوين الجمعيات الدينية أو السياسية أو السرية والأيديولوجية والحرفية، وفوق هذا فهناك أيضًا مبدأ التجمع المحلي الناجم عن كثرة التزاوج والإصهار. وفيما يلي دراسة موجزة لأهم أشكال التجمعات التي تنقسم إليها المجتمعات البدائية.

(٨-١) مجموعة النسب Lineage١٢

تقع الأسرة في أول قائمة الأشكال التي تكون البناء الاجتماعي، ولا يجب أن يُفهَم من هذا الأسرة بمعناها الذي نمارسه، بل أي من أشكال التكوين الذي يربط فردين من الجنسين مع ذريتهما بصفة دائمة أو مؤقتة وفي تجمع نووي أو تشاركي كما سبق شرحه. ويترتب على الأسرة بهذا المعنى الواسع علاقات نسب للفرد، وتختلف المجتمعات اختلافًا بيِّنًا في أنسابها، فهناك مجتمعات يُحسَب فيها النسب متعددًا Bilateral descent؛ أي ينتسب الفرد لكل مجموعة أبيه وأمه القرابية. وهناك مجتمعات أخرى تمارس نسبًا أحاديًّا Unilineal descent: خط الأب في المجتمعات الأبوية، أو خط الأم في المجتمعات الأموية.
ومجتمعات أخرى تحدد النسب على أساس الجنس، وبذلك يتبع الأبناء خط النسب الأبوي والبنات خط النسب الأموي، أو مجتمعات تمارس النسب المزدوج Double descent بمعنى الانتساب إلى خط الذكورة من مجموعة الأب وخط الأنوثة من مجموعة الأم. وفي حالة النسب المتعدد يصبح للفرد أربعة أجداد؛ هم: جد وجدة أبيه وأمه. بينما في الحالات الأخرى جميعًا يصبح للفرد جد واحد وجدة واحدة (للأب أو الأم أو جد من ناحية الأب وجدة من ناحية الأم). ويمكننا أن نقيس على ذلك نسب الأقرباء الآخرين إلى الفرد، ففي الحالة الأولى يصبح للفرد الواحد أعمام، وعمات، وخالات، وأخوال، وأبناء عمومة وخئولة … إلخ، بينما في الحالات الأخرى تتحدد قرابة الفرد إلى الأشخاص الآخرين حسب نمط القرابة وحساب النسبة.
وعلى هذا النحو من التسلسل القرابي والنسب تتكون مجموعة النسب Lineage، التي تُعَدُّ الركن الأساسي في بناء المجتمع البدائي. وأيًّا كان النسب متعددًا أو أحاديًّا فإن النسبة عادةً ترتبط إما بعائلة الأب أو الأم، وبذلك فإن مجموعات النسب إما أبوية Patrilineal lineage أو مجموعة نسب أموية matrilineal lineage. ومجموعة النسب عادةً عبارة عن وحدة اجتماعية محدودة الإقامة بمكان محلي واحد، ونادرًا ما توجد مبعثرة على أكثر من مكان. وتتكون مجموعة النسب عادةً من خمسة إلى ستة أجيال، ولو أن بعضها قد يصل في حالات نادرة إلى عشرة أجيال. وفي العادة أيضًا أن تنفصل مجموعة النسب بعد هذه الأجيال الخمسة أو الستة إلى مجموعات نسب متعددة جديدة، أما مجموعات النسب ذات الأجيال الكثيرة فإنها في الغالب قد لا تصبح تعبيرًا حقيقيًّا عن ارتباطات بيولوجية دموية؛ إذ كثيرًا ما يصبح الانتماء إلى الجد الكبير غامضًا وغير محدد تمامًا. وتمارس غالبية مجموعات النسب الزواج الاغترابي، ولها ارتباطات اقتصادية بحيث يصبح أفراد مجموعة النسب ملتزمين بالتعاون الفعلي في كثير من أوجه النشاط الاقتصادي، وبذلك فإن مجموعة النسب هي عبارة عن مؤسسة اقتصادية اجتماعية مبنية على وشائج النسب الدموي. ويمكن أن تزداد متانة الروابط في مجموعة النسب من خلال التقائها حول رابطة أيديولوجية، أو معنوية، أو تاريخية، أو دينية؛ مثل ممارسة عبادة الأجداد Ancestor cult.

ويكتسب الفرد تلقائيًّا من خلال عضويته في مجموعة النسب كافة حقوقه وواجباته ومكانته الاجتماعية والسياسية على المستوى المحلي أو على مستوى العشيرة والقبيلة، وذلك مرتبط باستمرارية وديمومة مجموعة النسب كتجميع محلي أكثر وأشمل من الأسرة والعائلة، وبواسطتها تتحدد الحيازة والملكية وتُورَّث جماعيًّا، وكذلك الوظائف الاجتماعية والقيادية والعسكرية والدينية والألقاب المختلفة.

(٨-٢) العشيرة clan١٣

لا تظهر العشيرة كنمط تنظيمي اجتماعي في كل المجتمعات. وكلمة العشيرة مصطلح غامض بعض الشيء، ولكنه في مجموعه يعني ارتباط عدد من مجموعات النسب معًا في أصلٍ واحد مشترك، سواءً كان ذلك الأصل حقيقيًّا أو من القِدَم بحيث أصبح جزءًا من الأسطورة. وفي كلتا الحالتين لا يجب أن نتوقع أصولًا واحدة لكل أعضاء العشيرة، فهناك كثيرون من الأفراد الذين انضموا إلى عضوية العشيرة خلال تاريخ العشيرة الطويل. ويحدث هذا الانضمام لأسباب كثيرة، منها الغزو أو الرغبة في تدعيم العشيرة عدديًّا بقبول مجموعات نسب مختلفة داخلها.

إن بعض العشائر ذات تنظيم أموي والبعض الآخر عشائر أبوية، حسب نمط القرابة السائد، ولكن يجب أن نلاحظ دائمًا أن العشائر ترتبط بالمجتمعات ذات النسب الأحادي، كذلك نجد أن الغالبية الساحقة من العشائر تمارس الزواج الاغترابي، ولعل الاستثناء الرئيسي هو التنظيم العشائري العربي الذي يمارس الزواج الداخلي. وعلى وجه العموم، يمكن أن تنقرض العشائر وتنشأ عشائر جديدة في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة والموارد المحدودة، بينما تعمر العشائر في مناطق الموارد الاقتصادية الغنية والأعداد السكانية الكبيرة، ويرجع ذلك إلى أن التزاوج من خارج العشيرة قد يؤدي إلى انقراض ذرية الرجال، بينما تتزوج النساء من أعضاء عشائر أخرى.

وفي المجتمعات التي تمارس اقتصاديات الجمع نجد انتشارًا واسعًا لأعضاء المجتمع على مساحات واسعة من الأرض، وفي داخل هذه المساحات الواسعة نجد تنظيمات المجتمع تقوم غالبًا على أساس مجموعات النسب قليلة العدد لفقر الموارد أو لتخلف تكنولوجية الإنتاج؛ ولهذا فإن دور العشيرة عند هذه المجتمعات محدود. وعلى عكس ذلك، نجد التنظيم العشائري يكون الركيزة الأساسية في القبائل الزراعية والرعوية؛ حيث تشتد الحاجة إلى تساند وتعاضد مجموعة كبيرة من الناس — أكبر من مجموعة النسب — للدفاع عن مصالح المجتمع وأرضه ومجاله الحيوي، ومن ثم تظهر التنظيمات العشائرية كضرورة حيوية لبقاء المجتمع.

والمفروض نظريًّا أن القبيلة Tribe هي التجميع النهائي لعدد من العشائر تنحدر من أصل واحد بعيد، إلا أنه توجد عند بعض المجتمعات تنظيمات أخرى تتوسط بين التنظيم العشائري والقبلي. ففي حالات انقسام المجتمع إلى عشيرتين كبيرتين تمارسان الاغتراب، فإنه يُطلَق على هذا التنظيم المجتمع الشِّقِّي أو النصفي moiety (من الكلمة الفرنسية moitié = نصف). وفي حالة اشتراك عدد من عشائر القبيلة في مصالح معينة، فإن هذه العشائر المتشاركة يُطلَق عليها المجموعة الأخوية أو الزمرة الأخوية phratries، وبذلك فإنه يحدث أن نجد قبيلة واحدة تنقسم إلى شقين، وعدة تجمعات أخوية وعدد أكبر من العشائر. وبرغم ذلك، فإن مثل هذه التكوينات الاجتماعية (قبيلة – شق – زمرة أخوية) لا تلعب دورًا خطيرًا في حياة المجتمع إلا في حالات قليلة كالحرب أو الانقسامات الداخلية، وفيما عدا ذلك تظل مجموعة النسب أو العشيرة حجر الزاوية في التكوين الاجتماعي الذي يعلو التنظيم العائلي والأسري.

الطوطمية والعشيرة

في كثير من الدراسات نجد ارتباطًا واضحًا بين الطوطمية Totemism والتنظيم العشائري. وأكثر المعاني شيوعًا للطوطمية هي اعتقاد عشيرةٍ ما بأن مؤسسها (طوطمها) كان أحد المظاهر غير الطبيعية أو مظهرًا من المظاهر الطبيعية في محيط العشيرة البيئي؛ ولهذا نجد أسماء العشائر مرتبطة بالطواطم التي تعتقد أنه سبب وجودها وبقائها؛ مثلًا: عشيرة القط أو الأسد أو نوع من عالم النبات أو الطيور أو الأسماك أو روح من باطن الأرض أو البحر أو النهر أو من السماء نزلت وتزاوجت مع واحدة من النساء. ويرتبط الطوطم عادةً باحتفال طقسي في مكانٍ معين، ولعل له رموزًا أو شواهد أو أضرحة في مكان أو عدة أماكن، وفي الغالب يحرم على أعضاء العشيرة صيد الحيوان أو الطائر، أو قطع النبات الذي يكون طوطم العشيرة، أو استخدام فرائه أو ريشه أو أوراقه. وكثيرًا ما يُعزى للطوطم قوى فوق طبيعية تساعد أعضاء المجتمع في حياتهم، وبذلك يمكن أن يكون الطوطم راعي المجتمع.

(٨-٣) تنظيمات اجتماعية أخرى

وهذه التنظيمات الاجتماعية لا تنبني على القرابة الدموية الفعلية، كما في العائلة أو مجموعة النسب، أو القرابة البيولوجية الغامضة كما هو الحال في التنظيم العشائري أو القبلي. وفيما يلي دراسة لبعض أنواع من التنظيم الاجتماعي:

الرتب الاجتماعية Rank

رغم أن الغالبية من المجتمعات البدائية ذات الاقتصاد البسيط تمارس ما يمكن أن نسميه بكل التطبيقات العملية للروح الديموقراطية بين كل الأشخاص، إلا أن في بعض من هذه المجتمعات يظهر نوع من التفرقة نتيجة لوجود طبقة حاكمة. وبعبارةٍ أخرى: إن الترتيب الاجتماعي عند هؤلاء يأتي بحكم المولد فقط. لكن الأفراد لا يتساوون تمامًا في كل شيء، فالتوأم قد يختلف كثيرًا عن شقيقه في الشخصية أو الشجاعة أو أي قدرات ذهنية أو يدوية مكتسبة. وهذا الاختلاف بين الأفراد يؤدي إلى نوع من الترتيب الاجتماعي للأشخاص، ولكنه لا يصل إلى مرحلة تكوين طبقات إلا في حالة تطور أشكال الاقتصاد البسيطة إلى أنماط اقتصادية يشيع فيها عدم التكافؤ بين الأفراد.

الطبقات Classes

أدى تطور تكنولوجية أدوات الإنتاج في أواخر العصر الحجري القديم الأعلى إلى ظهور بعض فائض الإنتاج، وهذا قد أدى بدوره إلى بداية ظهور عدم التكافؤ الاقتصادي بين الأفراد. ومن ثم، بدأت بذور الطبقات الاجتماعية المعتمدة على أسس اقتصادية، ويمكن أن نقول إنه برغم بعض الاختلافات بين الأنثروبولوجيين على تحديد مفهوم للطبقة الاجتماعية (كما هو الحال بالنسبة إلى الاختلافات على مفاهيم الطوطم والعشيرة … إلخ) إلا أن غالبية هؤلاء العلماء قد اتفقوا على أن المفهوم الذي يستخدمه الاقتصاديون للطبقة هو أكثر المفاهيم التي تؤدي إلى تحديد الطبقة الاجتماعية. وعلى ضوء هذا التحديد، فإن الطبقة هي جزء من المجتمع أو السكان يتحدد نمط علاقاته الاجتماعية بملكيته الخاصة لغالبية الموارد الإنتاجية، أو هي جزء من السكان (مثل العامل الأجير) تتحدد علاقاته بارتباطات مختلفة مع ملاك هذه الموارد.

ولهذا فإننا لا نجد طبقات بهذا المعنى عند المجتمعات التي تمارس جمع الغذاء أو الزراعة البسيطة؛ لأن وسائل الإنتاج وتكنولوجيته لا تساعد على تكوين طبقات اقتصادية واضحة، كما أن الموارد الإنتاجية عندهم ملك مشاع لكل أعضاء المجتمع. فمثلًا يمتلك فرد من الإسكيمو زحافة وخمسة كلاب وثلاثة هاربونات (الرماح المسننة) وزوجة واحدة، بينما يمتلك فرد آخر ضعف ما يمتلكه الأول، ولكن هذا لا يؤدي إلى تغيير اقتصادي جذري بين الشخصين؛ لأن المورد الإنتاجي الأساسي ملك مشاع للكل. وبرغم تقدير المجتمع لشجاعة شخص أو مهارته الفنية بالقياس إلى كسل شخص آخر، إلا أن ذلك لا يتعدى التقدير إلى التكوين الطبقي؛ ولهذا فإن مجتمعًا كالإسكيمو يمثل المجتمعات الديموقراطية التي تنتقي فيها الطبقات برغم تقديرهم العظيم لصفاتٍ خاصة عند بعض الأفراد،١٤ والسبب الأساسي يكمن في الملكية المشاع لأراضي صيد حيوان الكاريبو. وعلى عكس المجتمع الإسكيماوي، نجد هناك جذورًا اقتصادية للتفرقة بين الأشخاص في مجتمعات الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية تتمثل في امتلاك عدد من الرقيق أو امتلاك مناطق معينة لصيد سمك السلمون، أو قنص الحيوان، أو جمع الأصواف.

وكان توزيع المنتجات غير متكافئ؛ لأن الطبقة العليا كانت تستحوذ على القسم الأكبر منها نتيجة امتلاكها لموارد الثروة، وقد أدى هذا إلى نشأة طبقة اجتماعية اقتصادية وراثية عند الهاييدا أو التلنجت تتمثل في زعماء القرى وأقربائهم، وطبقة من الفقراء تتكون من عامة الشعب، وطبقة من الرقيق نتيجة للغزوات والأسر.

وفي غالبية المجتمعات البدائية التي تعيش على الزراعة والرعي نجد ملكية خاصة للموارد الاقتصادية الأساسية، لكنها في الغالب ملكية جماعية للطبقة العليا أو لعشيرة أو مجموعة نسب. وفي أفريقيا نجد طبقات وراثية عند غالبية المجتمعات باستثناء البشمن والأقزام، وكذلك نجد طبقات وراثية عند الأمريند في المكسيك وجبال الأنديز. لكننا نجد أن غالبية الطبقات في أفريقيا تمثل أيضًا غالبية السكان في المجتمع، بينما الأقلية تتمثل في جماعات تمارس حرفة أخرى غير الحرفة السائدة. وعلى سبيل المثال، تتكون غالبية السكان عند قبائل النيليين في جنوب السودان من الرعاة المزارعين الذين يملكون الأرض جماعيًّا في صورة ملكية القبيلة والعشيرة ومجموعة النسب، بينما أقلية السكان يمارسون السماكة أو ينتظمون في بدنة الحدادين. وبذلك فإن الطبقة الاجتماعية الرئيسية ليست قاصرة على عدد قليل من السكان كما هو الحال في الطبقات الاقتصادية الاجتماعية في مجتمعات الحضارة العليا.

(٨-٤) مركز ومكانة الجنسين

من خلال ما نعرفه من أدلة دراسية عن المجتمعات ذات الاقتصاد البسيط، ومن الدراسات الأركيولوجية عن مجتمعات عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية، نجد أن مركز ومكانة المرأة قد انتابهما الكثير من التغير بالقياس إلى مكانة الرجل. وفي بدايات الفكر الإثنولوجي الحديث، كانت هناك اتجاهات تؤكد وجود مرحلة أولية في تاريخ الإنسانية سيطرت فيها المرأة على المجتمع. وهذه المرحلة «الماترياركية» — أي سيادة المرأة — هي في الحقيقة مرحلة نظرية لم يثبت وجودها؛ ذلك أنه لم يكن هناك تقسيم للعمل خلال معظم العصر الباليوليتي إلا على أساس الجنس؛ المرأة تحمل وتلد وتربي الأطفال وتجمع بعض الطعام من المحيط النباتي المحلي، والرجال يقومون بجمع الطعام الذي يستدعي الحركة والترحال الواسع بعيدًا عن محلة الإقامة: السماكة والقنص. ولم يكن هناك تقييم للعمل المنتج، على أساس أن عمل الرجال — بما فيه خطورة واحتمالات الموت العنيف — أعلى قيمة من عمل المرأة، إنما كان كلا النوعين من العمل شقين متساويين في القيمة والضرورة لحياة المجتمع. وبهذا فإن المجتمعات البسيطة في العصر الحجري القديم، أو مجتمعات الصيد والسماكة الراهنة، كانت تتكون من عُصَب صغيرة من الناس تمارس حكمًا ديموقراطيًّا حقًّا تنتفي فيه ملكية موارد الغذاء، وتتساوى فيه مكانة الجنسين وقيمة إنتاجهما. أما نشأة النظام الماترياركي كنظام سابق على التنظيم الباترياركي (الأبوي)، فمرده مرتبط بالإقامة الدائمة للمرأة في المحلة أو حولها (عكس ترحل الرجال كثيرًا) بالإضافة إلى اعتبارات حضارية أخرى على رأسها نسبة الأبناء إلى أمهاتهم ومجتمع الأمهات: الأم الكبيرة (الجدة أو الخالة الكبرى) + الخال (راجع فيما سبق نظام الزواج الأموي المكان وزواج الزيارة … إلخ)، ولم يؤدِّ هذا النظام إلى سيادة المرأة وتخلف مركز الرجل؛ إذ لم يوجد أي شكل من أشكال ملكية الموارد الغذائية في حوزة النساء.

ولكن مع تقدم تكنولوجية الإنتاج وأدوات الإنتاج يبدأ الرجال في الاستفادة من حرية الحركة والقوة العضلية، وعمليات الغزو واسترقاق آخرين كي يعملوا لحسابهم، وتبدأ مع هذا فكرة امتلاك موارد الغذاء: مناطق الصيد والسماكة. وقد أدَّى ذلك إلى رفع مكانة الرجال اجتماعيًّا، وبالتدريج إلى ظهور نفوذ الرجال وبداية تحكمهم في حياة المجتمع: النظام الباترياركي بكل ما يعنيه من نظم قرابية وزواجية ودينية وسياسية. وقد ترتب على ذلك سقوط مكانة المرأة إلى مجرد سلعة إنتاجية (حمل الأطفال وتربيتهم)، وقد تضاعفت هذه الصورة في المجتمع الزراعي والرعوي، منذ بداية استئناس النبات والحيوان، وتطور تكنولوجية الأدوات القاطعة من الأحجار إلى المعادن، وخاصة البرونز والحديد، وظهور الحضارات العليا القديمة، ولم تَعُدْ للمرأة قيمة فعلية في الإنتاج، وظهرت الدعارة بمختلف صورها الاجتماعية والدينية، على أنها شكل صريح من أشكال شراء المرأة كسلعة يتقبله المجتمع.

وقد ظلت مكانة المرأة متخلفة كثيرًا خلال العصر التاريخي كله باستثناء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أعطاها الإسلام لها — وخاصة في صدر الإسلام. ومع بداية عصر النهضة الأوروبية بدأ مركز المرأة في التحسن نتيجة انفتاح بعض آفاق العمل أمامها. ومع نمو الطب والتوليد ورعاية الأطفال لم تَعُد الطفولة عائقًا أمام تحسن مركز المرأة وتفتح شخصيتها.

وقد أدت الثورات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية الأوروبية — ضد النظم الإقطاعية وأشكال الرق المختلفة — إلى ظهور مبادئ حقوق الإنسان، ومن بينها كثير من الحقوق الخاصة بالنساء. وبعبارةٍ أخرى، نجد أن سيادة أشكال الحكم الديموقراطية الحديثة قد تضمنت إعادة تأهيل المرأة إلى نوع من أنواع المساواة مع الرجال اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

(٨-٥) طبقات السن والأندية والجمعيات

من الطبيعي أن يقسم المجتمع نفسه إلى طبقات أو درجات السن Age grades حسب المراحل الرئيسية الثلاث: الطفولة إلى ما قبل البلوغ، الرجولة فيما بعد البلوغ، الكهولة والشيخوخة؛ ولها حدود تبدأ منها ومتعارف عليها عند كل مجتمع على حدة. ويفصل البلوغ عند كل الشعوب البدائية بين مرحلتي الطفولة والرجولة، وفي بداية مرحلة البلوغ يُدرَّب الشاب الحدث ويتعلم مهنة المجتمع ليصبح بعد فترة زمنية قصيرة عضوًا عاملًا بالمجتمع. أما المرأة فتُنقَل بعد البلوغ إلى طبقة النساء المنتجات للأطفال، ثم تنتقل بعد سن اليأس إلى طبقة كبار السن (العجائز).

ولكننا نجد إلى جانب هذا التقسيم الطبيعي مجتمعات تقسم المراحل إلى أقسام فرعية متعددة؛ ففي المجتمعات الزراعية أو الرعوية الغنية في غرب وشرق أفريقيا نجد أشكالًا كثيرة لطبقات السن، وتصبح كل طبقة ناديًا خاصًّا ذا لباس متماثل، ويغير الأعضاء نوع ملابسهم بانتقالهم إلى مجموعة سن أعلى. ولكل مجموعة سن مهام محددة، وهناك سن معينة للزواج … إلخ. وفي مجتمعنا الحالي، نجد أيضًا تقسيمًا لدرجات السن يتمثل في انتظام الأولاد في المدارس الابتدائية ثم الثانوية وهكذا، وكذلك نجد التأهيل واضحًا ومحددًا لوظيفة الفرد في مجتمعنا. والفرق هو أن طبقات السن في المجتمعات البدائية إجبارية، بينما هي في مجتمعنا ليست إلزامية، باستثناء مراحل التعليم الأولية.

وتكمل الأندية Clubs والجمعيات السرية Secret Societies دور طبقات السن في المهام الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية والدينية. ونادرًا ما نجد مثل هذه الأندية في مجتمعات الاقتصاد البسيط، ولكنها تكثر وتشيع في المجتمعات الزراعية والرعوية أو مجتمعات السماكة الغنية؛ كقبائل الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية. وفي الغالب، تصبح عضوية الفرد في النادي أو الجمعية أمرًا اختياريًّا، بل إن بعضها لا يمكن دخوله إلا بواسطة دفع رسوم وبتزكية من أعضاء قدامى، وفي بعضها الآخر ترتبط العضوية بالمولد أو بالانتماء إلى مجموعة نسب أو عشيرة معينة. كذلك نجد في بعض هذه المجتمعات أندية أو جمعيات خاصة بالنساء، وتختلف مهام الأندية ووظائفها باختلاف نمط الاقتصاد السائد عند كل جماعة. ومن بين المهام المعروفة: المساعدة، والتعليم، والخدمة العسكرية، والعلاج، وصناعة المطر. وهناك مهام أخرى طقسية أو سياسية، وفي كثير من الأحيان يصبح للجمعية أملاك خاصة نتيجة الرسوم التي تتقاضاها من الأعضاء، وبذلك تصبح تنظيمًا قويًّا له نفوذه داخل المجتمع. وقد تتحول الجمعية السرية إلى أداة سياسية يُحسَب لها حساب ضد السلطة الخارجية التي يتعرض لها المجتمع. ومن أهم الأمثلة على ذلك بعض الجمعيات السرية التي حاربت الاستعمار الأوروبي في أفريقيا.

•••

ويتضح من هذا العرض السريع أن البناء الاجتماعي للقبائل والمجتمعات البدائية ليس أمرًا بسيطًا على وجه العموم، بل تتفاعل فيه أساسًا روابط القرابة البيولوجية والاجتماعية تفاعلًا شديدًا مع الأوضاع الاقتصادية والدينية والسياسية مؤديةً إلى تركيبات بنيوية على أساس الإقامة المحلية والتبعية اللغوية والأسطورية والتاريخية لمجتمع أكبر يتضمن عشيرة أو قبيلة أو شعب. وتشارك الظروف الاقتصادية والتكنولوجية بنصيب وافر في تقسيم المجتمع إلى طبقات مختلفة قام معظمها على أسس وراثية جامدة، على عكس المجتمعات الحديثة.

وأخيرًا، فإن المجتمعات البدائية تنقسم حسب فئات العمر الطبيعية إلى طبقات سن لها وظائفها الاجتماعية الاقتصادية، وحسب الاستعدادات الذهنية والنفسية والخلقية المكتسبة إلى ترتيب لمكانة الأفراد داخل المجتمع، وحسب كلٍّ من الجنسين إلى مهام ووظائف اقتصادية اجتماعية وسياسية وتربوية.

(٩) القانون والحكم

(٩-١) القانون

القانون هو مجموعة الحالات والإجراءات والأحكام التي يتذكرها الناس، أو التي تُسجَّل وتدوَّن عند الشعوب غير الأمية. والقانون عامةً مرتبط عادةً بالعادات والتنظيم السياسي والأيديولوجيات والميثولوجيا (الأساطير) أو الدين والمعتقدات والخلقيات وتجارب السلف. وعلى هذا، فإن كل مجتمع يمتلك هذا النوع من التراث، وينظم أجهزة خاصة لها الحق في نظر القضايا وتنفيذ القانون.

وبهذا فإن القانون نوع من التنظيم الاجتماعي، عالمي الوجود عند كل المجتمعات، بحيث لا نجد أي مجتمع دون قانون ينظم كل العلاقات بين أفراده، وكذلك علاقاته بالمجتمعات الغريبة.

ولا توجد في المجتمعات البسيطة (القنص والجمع والسماكة) مواقف معقدة تستدعي التقاضي بمثل درجة المجتمعات المركبة (الزراعة والرعي والصناعة)، ويُضاف إلى ذلك أن روابط القرابة وغيرها من مكونات بناء المجتمع توجد على مستوى قريب وفعال عند المجتمعات البسيطة قليلة العدد — على عكس المجتمعات كبيرة العدد.

في المجتمعات البسيطة توجد مجموعة قوانين محدودة، بسبب قلة الحوادث والحالات التي يخرق فيها الفرد القانون. فكل عضو في المجتمع المحلي يعرف ما يفعله الآخر؛ ولهذا فإن الرأي العام في هذه المجتمعات يمثل الجانب الأكبر من القانون، وهو يقوم بالتنفيذ المباشر والفعال على نحو أكثر من الجهاز القانوني ذي الشكل المرسوم والعلاقة غير الشخصية مع أصحاب القضايا في المجتمعات المركبة. وعلى هذا فإن حكم الجماعة في المجتمعات البسيطة يُنفَّذ فورًا. مثلًا ضد شخص متهم بقتل آخر، أو أحد رجال الدين أو السحر (شامان) المتهم بقتل آخر بالسم أو السحر. والتقليد هنا هو الذي يلقي الضوء على الأحكام التي تصدر، بالإضافة إلى تعاليم أو نصوص الميثولوجيا. أما في المواقف الجديدة فيُؤخَذ الرأي العام بعد المداولات وتحري الخلقيات وأحداث التاريخ الميثولوجي.

وتشبه مجتمعات الزراعة الأولية بقية المجتمعات البسيطة في هذا المجال؛ أي نظام حكم الأغلبية — الديموقراطية بمعناها الحرفي — ولكن هناك بعض المجتمعات البسيطة التي تمارس منهج الحكم الأوتوقراطي غير الديموقراطي، كما هو الحال عند مجموعات الأمريند في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا. هنا نجد القانون والحكم في حوزة الزعيم الغني: هو المدعي والقاضي، ويقوم أتباعه بتنفيذ أحكامه. لكننا نجد أيضًا الميثولوجيا والاستدلال بالحالات السابقة تتدخل لتلعب دورها في تحديد أحكام ونزوات الزعماء. وحيث إن الزعماء يتقاضون جزءًا من الغرامات التي يفرضونها على المتخاصمين، فإنهم لا يلجئون إلى أحكام تخالف السلف كثيرًا، فليس من صالحهم اتخاذ أحكام قاسية قد تقلل التخاصم أو تثير عليهم بغضاء الناس.

والفوارق بين هذين النوعين من المجتمعات هو أن الأول ديموقراطي بينما الثاني أوتوقراطي. وهذه الأوتوقراطية غالبًا ما تنشأ عن الغنى وامتلاك مصادر الثروة مع أو بدون الوراثة الاجتماعية، والأصل الأجنبي أو الأسطوري لعشيرة الزعماء (غالبًا يمثلون جماعات غازية قيادية). ومن ناحية الخلقيات العامة للمجتمع لا يمكن أن يعاقب الشعب زعيمه؛ لأنه يحكم كتجسيد لروح البطل الأسطوري أو نصف الإله، وكتجسيد لكل تقاليد المجتمع وتاريخه، ولكن يمكن لزعيمٍ آخر أو عضو من عشيرة الحكام أن يتولى معاقبة الزعيم المخطئ أو أن يتم ذلك بإجماع الآراء في عشيرة الزعامة.

وفي أحيان كثيرة يرضي الزعيم بعض الرعية بواسطة توزيع جزء من الغرامات التي تُدفَع للمتضررين. وللزعيم هيئة خاصة ثابتة لتنفيذ الأحكام، وبذلك تختفي صورة التطوع الاختياري المؤقت من قبل أفراد المجتمع للقيام بتنفيذ الأحكام في حالة المجتمعات البسيطة.

ويمثل القانون في مجتمعات الزراعة والرعي تطورًا آخر، فهنا نجد محاكم دائمة وقضاة يعينهم الحكام. وتتعدد مهام المحاكم بحيث تشمل تأمين الضرائب والرسوم وجمع الغرامات ونزع ملكية المذنبين وتقليل أعمال مثيري الشغب والمتاعب ضد راحة الحكام الأتوقراطيين وأملاكهم وأوضاعهم، وبذلك تتداخل هنا الأشكال الطبقية والأوضاع الاقتصادية تداخلًا كبيرًا في نوع القانون وشكله وطرق تنفيذه. وما زلنا نعايش مثل هذا النوع من القوانين التي تُشكَّل بواسطة مبادئ عامة تحكم المجتمع، سواء أكان زراعيًّا أم صناعيًّا.

وهناك فروق بين أنواع الجرائم التي تُرتكَب ضد المجتمع، وتلك التي تُرتكَب في حق الأفراد والأقارب. وفي المجتمعات البسيطة نجد نسبة جرائم النوع الثاني عالية، ويتولى الأفراد بأنفسهم رفع الأضرار التي لحقت بهم دون اللجوء إلى عمل جماعي من جانب المجتمع. وهناك أيضًا جرائم محدودة ضد المجتمع، مثل الاعتداء على محرم (تابو) غذائي أو جنسي أو ديني، وهنا نجد المجتمع كله يعاقب الفاعل إلا إذا عُفِي عنه لجهله أو لاعترافه بالذنب، مع مطالبته بتعويض أو تطهر. وتلجأ المجتمعات البسيطة أيضًا إلى الأدلة والشهود إذا كانت القضية غير واردة في السوابق، أو لا يمكن البت فيها بواسطة القسم أو الاختبار الإلهي Ordeal (كالمشي على الجمرات دون أن تُصاب الأقدام بالحروق كدليل على البراءة). وعلينا أن نلاحظ أن القسم Oath عند المجتمعات الحديثة لا يُؤخَذ دليل براءة؛ لأنه قد يكون كاذبًا، أما في المجتمعات البدائية فإنه يُؤخَذ دليلًا على البراءة؛ لأن الخوف من عقاب وانتقام الأرواح عند البدائيين خوف حقيقي وكبير.

أما شأن «النية» عند وقوع جريمةٍ ما، فإنه قليل جدًّا عند المجتمعات البدائية، بينما له في المجتمع الحديث وزنه المخفف للعقاب. عند البدائيين أن ما وقع من جريمة — كالقتل مثلًا — قد وقع بغض النظر عن النية أو التعمد، فالقتل قد حرم المجتمع من عضو، ويجب التعويض عن هذا الجرم بطريقة أو أخرى. وهنا لا نجد كل خطأ متماثل، بل إن نوع الضرر هو الذي يحدد نوع العقاب أو الغرامة؛ كالدية عند القبائل العربية. فمثلًا يمكن أن يُؤخَذ شخص من عشيرة القاتل أو أقاربه ليصبح عضوًا في جماعة القتيل إذا كان الجاني من أعضاء المجتمع نفسه. أما إذا كان الجاني من مجتمع آخر فإنه يُقتَل، وعلى وجه العموم يمكن التعويض عن القتل حتى ولو كان السحر أو السم قد استُخدِم كأداة سببت الموت.

وأخيرًا، فإن مفهوم العدالة عند المجتمعات البدائية ما زال غير واضح لقلة الدراسة وصعوبتها. أما العدالة كمفهوم مطلق في المجتمعات الحديثة، فإنها مرتبطة بمبدأ الحكم السياسي السائد ومنطقه والقياس على السوابق. وفي الوقت الذي يرتبط فيه السجن بالقانون في المجتمع الحديث، لا نجد مثل هذه الممارسة عند المجتمعات البسيطة؛ فالشخص عندهم إما مذنب أو بريء. وعقاب المذنب: القتل أو الدية أو التشويه الجسدي. وعلى العموم — ومن منطلق المنطق البحت — يمكن أن نقول إن العدالة كمفهوم مطلق تُمارَس عند البدائيين أكثر من ممارستها في المجتمعات الحديثة لسيادة الديموقراطية وقلة الفوارق الاقتصادية الاجتماعية، ولممارسة حكم الأغلبية عند المجتمعات البسيطة. بينما ينشئ الحكام والزعماء أجهزة وتشريعات تنبع من الرغبة في المحافظة على وجودهم.

(٩-٢) الحكم

هناك شكلان للحكم: الديموقراطي، وغير الديموقراطي بأنواعه العديدة. ويسود الحكم الديموقراطي المجتمعات البسيطة الاقتصاد، ويستند في الغالب إلى حكم كبار السن Gerontocracy؛ ذلك أن الاعتياد والتعليم الحضاري في مثل هذه المجتمعات يؤديان بالناس في المجتمعات الصغيرة عدديًّا إلى اتباع نصائح وتجارب وأحكام المجربين وذوي الخبرة من الجنسين على السواء. ومع ذلك، فإن الصفة الأساسية هي حكم الأغلبية مع زعامة منتخبة أو مجلس كبار السن، وفي كثيرٍ من الحالات نجد هناك جمعًا بين الوظيفة السياسية والدينية والقانونية لارتباط حياة المجتمع عضويًّا بالسحر والدين.

وقد تظهر في بعض المجتمعات البسيطة مجموعة أو عشيرة معينة تتوارث الزعامة أو القيادة. وإلى جانب ذلك، قد تظهر أيضًا الجمعيات السرية، وهي — كما رأينا سابقًا — ذات عضوية اختيارية وزعامة منتخبة. وعلى وجه العموم، فإن الزعامة بالمعنى الذي نعرفه قليلة الظهور كوظيفة عامة في هذه المجتمعات (الجماعون وأصحاب الزراعة الأولية)؛ وهي إن وُجِدَتْ فإنها لا تطغى على حكم الأغلبية.

أما في المجتمعات الغنية (رعاة وزراع) فإننا نجد أشكالًا مختلفة من الحكم غير الديموقراطي، فهنا تظهر الزعامة بمعناها الحقيقي مرتبطة بشخصية الزعيم وقدراته الاقتصادية (رقيق وزوجات وملكية خاصة لجزء من موارد الثروة)، بالإضافة إلى تحصيل الضرائب والإتاوات والهدايا والغرامات القضائية. وللزعيم حرس خاص يقوم بحمايته وفرض سلطانه، إلى جانب القيام بالغزوات الخارجية والحملات التأديبية. وللأغنياء الآخرين وأقارب الزعيم نفوذ وتأثير على أحكام الزعيم، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون الحكم النهائي خاضع له. وفي المجتمعات كبيرة العدد نجد صورة مصغرة للزعيم الكبير في كل إقليم على حدة، فهناك رؤساء وزعماء محليون لهم شرطتهم الخاصة وسلطانهم القضائي والتأديبي. لكنهم في النهاية يخضعون لجميع سلطات الزعيم الكبير. وقد تطور هذا إلى النظام الإقطاعي الذي ساد أوروبا والشرق فترة طويلة، إلى أن تمت إزالته بواسطة نشاط الملوك الأوتوقراطيين، ثم بواسطة التشريعات النيابية الممثلة للشعب بصورة أو أخرى.

(٩-٣) النزاعات والحروب

هناك فارق بين النزاعات والحروب؛ فالأولى قتال صغير المدى، وهو دائم الحدوث في كل المجتمعات. أما الحروب فهي واسعة المدى، وتشمل مجموعة كبيرة من أعضاء المجتمع. ولسنا نعرف على وجه التحديد متى بدأت ظاهرة الحرب، لكن أغلب الآراء ترى أنها بدأت مع تركيز واستقرار بعض المجتمعات في العصر الحجري القديم الأعلى أو الحجري الأوسط، بعد ظهور ملكية أراضي المجتمع والرغبة في الحفاظ عليها أو توسيعها.

وتحدث المنازعات والقتل لأسباب كثيرة، منها الحسد والغيرة والثأر والقتل بواسطة السحر والتعدي على أراضي الصيد، ويستمر النزاع بين مجموعتين إلى أن يُقتَل فرد أو اثنان من جانب المجموعة المعتدية أو التي ينتمي إليها القاتل، ولكن ذلك يؤدي بالمجموعة الأكبر إلى إعادة الكرة في وقتٍ آخر، ومن ثم تبدأ سلسلة من القتل للثأر، ويتحول الثأر إلى جزء من حياة المجتمع — كما كان الحال عند القبائل العربية.

أما الحروب فإنها — كما قلنا — تنشب لأسباب كثيرة، أهمها التوسع من أجل امتلاك مصادر جديدة للثروة: المال، والرقيق، والممتلكات الأخرى. وقد أصبحت الحرب جزءًا من حياة الرعاة والمزارعين، وفي أحيانٍ قليلة تندلع الحروب لأسباب دينية أو معنوية، ولكن الغالب أن لها جذورًا اقتصادية. والحرب عند المجتمعات البسيطة محدودة وضحاياها معدودة، ولا يُؤسَر المغلوبون، بل يُقتَلون لأن الإنتاج الغذائي مع وسائل الإنتاج البسيطة لا يسمح بزيادة سكانية. أما عند الجماعات الغنية، فإن أسرى الحرب يتحولون إلى رقيق يزيد القدرة الإنتاجية للمجتمع أو للزعماء. وفي بعض المجتمعات عمليات صيد الرءوس — بمعنى قتل الأسرى والاحتفاظ برءوسهم — وفيها الكثير من المواقف الدينية والسحرية؛ بمعنى أن الحصول على رأس يعني حصول الشخص على طاقات صاحب الرأس. أما عادة أكل أو طهو وأكل جزء من أجسام الأعداء أو ظاهرة أكل لحوم البشر على الإطلاق، فهي غالبًا عادة نادرة — إذا وُجِدَتْ — وهي ظاهرة لم تسجل علمًا، برغم كثرة القصص حولها، وبرغم بعض الأدلة التي تشير إلى توحش «إنسان الصين» القديم. لكن هناك بعض الأدلة على «نهش» جزء من الجسم، في عدد قليل من القبائل. وهذه أيضًا محدودة بالنسبة لقتلى الحرب، وربما كان الدافع الأساسي لها هو الحصول على قوى سحرية من القتيل أو شدة التشفي وليس القصد الغذاء.

١  Ethnosoziologie Social Anthropology.
٢  Murdock, G. P., “Social Structure” Macmillan Free Press, New York 1966, PP 263-264.
٣  هناك كثير من الشكوك حول زواج الإخوة عند ملوك مصر الفرعونية، ويرى بعض الباحثين أن الزواج كان يتم فقط بين الإخوة غير الأشقاء وليس بين الإخوة الأشقاء.
٤  Levi-Strauss, C., “Les Structures Elémentaires de la Parenté” Paris 1949.
٥  يُعَدُّ الأستاذ ليتش من أكثر العلماء الذين تناولوا دراسات ستروس بالدراسة والنقد، وقد عارض آراء ستروس في كتابه: Leach, E., “Levi-Strauss”, Fontana Modern Masters, Collins, London, 1970 pp, 95–111.
٦  Murdock, G. P., “Social Structure” Macmillan Free Press, New York, 1966, p. 49.
٧  برغم أن القبائل العربية عبارة عن تجمعات كبيرة تنقسم إلى بطون وأفخاذ وعشائر وبدنات، إلا أن تركيبها غالبًا نظري ودور القبيلة السياسي والاقتصادي لم يظهر إلا فيما ندر. ويؤكد ذلك أن مفهوم القبيلة والعشيرة متداخل وغير محدد، وأن مصطلح «بني» أكثر وضوحًا وتحددًا ويعطينا على الفور أهمية مجموعة النسب في التكوين الاجتماعي البدوي العربي.
٨  من بين ٢٣٨ مجتمعًا وجد الأستاذ مردوك ٤٣ مجتمعًا يراعي أحادية الزواج، و١٩٣ مجتمعًا يسمح بتعدد الزوجات، ومجتمعَيْن يسمحان بتعدد الأزواج. راجع: Murdock, G. P., “Social Structure” Macmillan, Free Press, New York 1966, p. 28.
٩  Murdock, G. P., Social Structure Macmillan, Free Press, New York 1966, P. 5.
١٠  Hoebel, A., “Man in the Primitive World” Mc Grâw, New York 1958, P. 328.
١١  في عام ١٩٤٩ عدد الأستاذ مردوك في كتابه «البناء الاجتماعي» ١١ نمطًا من أنماط القرابة، لكنه عاد في ١٩٥٧ فاختصرها إلى تسعة أنماط.
١٢  يطلق الأستاذ أحمد أبو زيد (الأنثروبولوجيا الاجتماعية، المعارف الإسكندرية ١٩٦٠) مصطلح بدنة على مجموعة النسب، وهو اصطلاح جيد لولا اختلاف القبائل العربية في مفاهيم البدنة والعشيرة والقبيلة اختلافًا كبيرًا.
١٣  يستخدم الأمريكيون مصطلح sib أو gens بدلًا من clan أو مرادفًا لها في أحيانٍ كثيرة، أو يخصصون clan للعشائر الأموية فقط أو العشائر غير المنتشرة في أماكن كثيرة. ولا تزال هذه الاستخدامات أو تلك غامضة كما هو الحال في المصطلحات العربية أيضًا.
١٤  في بعض الأحيان يصبح فرد من الإسكيمو قوي النفوذ نتيجة امتلاكه لعدد كبير من الممتلكات الفردية (الزحافات، أو الكلاب، أو الملابس، أو الحراب … إلخ)، ويصبح هذا الشخص مرموقًا أو محسودًا، ولكنه لا يصبح عضوًا في طبقة اجتماعية أعلى؛ لأنه لا توجد مقومات اقتصادية جوهرية لتكوين هذه الطبقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤