الفصل الحادي عشر

كانت رحلة العودة صامتة، وبدا أنها استغرقت دهرًا. وحين دخلوا من بوابات المدينة أخيرًا كان لا يزال الوقت نهارًا، وإن كانت إيرين واثقةً أن هذا النهار قد دام أسبوعًا منذ سمِعَت شكوى الرجل القروي إلى والدها يستجديه لقتل التنين. كان الناس محتشدين في شوارع المدينة، وفي حين أن مظهرَ سبعةٍ من رجال الملك في عُدة الحرب ويحملون رماح قتل التنانين لم يكن غريبًا عليهم، كان من الغريب مرأى الأميرة الأولى بينهم وهي تمتطي صهوة جواد وتبدو الأسوأ من حيث الملبس، وكانت تلك الرفقة الصغيرة محطَّ الكثير من نظرات الفضول الطويلة. فكَّرت إيرين في نفسها مُتجهِّمة، أنه لا بأس أن يَرَوني عائدةً إلى الديار. أتمنى لو أعرف أين ذهبت تلك الصورة التي غادرتُ بها أيًّا كانت.

وحين وصلوا إلى الفناء الملَكي ظهر هورنمار بنفسه عند مرفقها ليأخذ منها تالات إلى الإسطبلات. وبدا لها أن مُرافقيها يترجَّلون عن ظهور جيادهم بطريقةٍ خرقاء، فكان لترجُّلهم قرعٌ مدوٍّ على الركائب وصريرٌ في الأحزمة. وسحبت إيرين الحُزمة من خلف سَرج تالات وأقامت كتفَيها باستقامة. ولم تستطِع أن تمحوَ نظرةَ الحزنِ من فوق وجهها في إثر تالات المُطمئن الذي تبِع هورنمار طوعًا في الاتجاه الذي كان واثقًا أنه يعني أنه سيحصل على الشوفان؛ لكنها عادت بانتباهها إلى نفسها فوجدت جيبيث يُحدِّق فيها بوجهٍ جامد، فتقدَّمَتْهم إلى داخل القلعة.

بدا أرلبيث نفسه مشدوهًا حين دخلوا عليه جميعًا. كان في أحد غرف الانتظار الملحقة بقاعة الاستقبال الرئيسية، وجلس تُحيطه الأوراق واللفافات وشمع الأختام والمبعوثون. وقد بدا متعَبًا. لم تتبادل إيرين كلمةً واحدة مع مُرافقيها الراغمين منذ غادروا القرية، لكنها شعرت بأنها تُساق ولم تُحاول أن تهرُب. كان جيبيث سيرفع تقريره إلى الملك فور عودته، ومن ثمَّ كان يتحتَّم عليها ذلك؛ ربما كانت مِثل نعجةٍ خجولة مُحاطة بالكثير من كلاب الرعي؛ لأنها ربما كانت ستميل إلى تأجيلِ تقديم تقريرها النهائي لو أنها كانت قد عادت وحيدة.

قالت إيرين: «سيدي.»

نظر أرلبيث إلى إيرين، ثم إلى جيبيث ووجهه الجامد، ثم إلى إيرين ثانيةً.

قال أرلبيث: «ألديكم شيءٌ يتعيَّن إبلاغي به؟» وكانت نبرة العطف في حديثه موجَّهة لكلٍّ من ابنتِهِ وخادِمِه الأمين المُخزي.

ظلَّ جيبيث ملتزمًا الصمت؛ لذا قالت إيرين: «انطلقتُ صباح اليوم وحدي وذهبتُ إلى قرية كثا، لكي … أقاتل التنين هناك. أو … بالأحرى، التنينَين.» ما الشكل المناسب لتقرير بالإبلاغ عن قتل تنِّين؟ كان بإمكانها أن تُولِيَ مثلَ هذه الأشياء مزيدًا من الاهتمام قليلًا لو أنها كانت قد فكَّرت في الأيام القليلة القادمة. لم تكن إيرين قد أوْلَت مُطلقًا ما بعد قتل التنانين أيَّ اعتبارٍ خاص؛ فقد كان من المُفترض أن يكون قتلها إياها كافيًا. لكنها شعرت الآن وكأنها طفلة ضُبِطَت أثناء ارتكابها تصرفًا سيئًا. وقد كانت كذلك، على الأقل في نظر جيبيث.

فكَّت الحُزمة التي كانت تحملها تحت إبطها، ووضعت رأسَي التنِّينَين المقطوعَين على الأرض أمام طاولة والدها. وقف أرلبيث والتفَّ حول حافة الطاولة ووقف يُحدِّق إلى الأسفل فيهما وقد علَت وجهه نظرةٌ لم تُشبه نظرةَ جيبيث حين أدرك للمرة الأولى ما على الأرض عند قدمي جواده.

قال جيبيث، وقد اختار ألا ينظر إلى تذكارات نصرها القبيحة: «وصلنا إلى القرية … بعد وقوع هذا، وعرضتُ رفقتنا على الأميرة إيرين في طريق عودتها.»

ولدى قوله «عرضتُ رفقتنا» مرَّت على مُحيَّا أرلبيث لمحةُ ابتسامة، لكنه قال بنبرة غايةً في الحزْم: «أرغب في التحدُّث إلى الأميرة إيرين على انفراد.» اختفى الجميع كالفئران في الجدران، عدا أنهم غلَّقوا الأبواب من خلفهم. وما كان جيبيث، الذي كان لا يزال غاضبًا لكرامته، لِيقول شيئًا، لكن لم يكن بمقدور أحد ممن كانوا في الحجرة، حين قالت إيرين للملك إنها قتلت من فورها تنينين، أن ينتظر ليبدأ في نشر القصة.

قال أرلبيث: «حسنًا.» بنبرةٍ تخلو من أي تعبيرٍ حتى إن إيرين خشيت أن يكونَ غاضبًا جدًّا منها رغم الابتسامة التي رأتها. لم تعرف من أين تبدأ قِصَّتها، وفيما تذكَّرت السنوات المنصرمة وذكَّرت نفسها أنه لم يضَع أيَّ حدٍّ أو حاجز لعملها مع تالات، ووضع ثقتَه في حُكمها، شعرت بالخجل من سرِّها؛ لكن الكلمات الأولى التي جالت بخاطرها كانت: «ظننتُ أنك ما كنت ستسمح لي بالذهاب لو أخبرتك أولًا.»

ظلَّ أرلبيث صامتًا مدةً طويلة. وقال في الأخير: «هذا صحيح على الأرجح. أيمكنكِ أن تُخبريني سببًا كان سيجعلني أمنعكِ من الذهاب؟»

زفرت إيرين زفرةً طويلة. وقالت: «أقرأتَ من قبلُ كتاب «تاريخ أستيثيت»؟»

قطَّب أرلبيث لحظةً يتذكَّر. «أظن … أنَّني قرأته، حين كنتُ بعدُ صبيًّا. لكني لا أتذكَّره جيدًا.» ونظر إليها بحملقةٍ ملكية، وهي أكثر شراسةً من حملقة عامة الناس. «أذكر أن الكاتب خصَّص جزءًا كبيرًا من الوقت والمساحة فيه للمعرفة بالتنانين، وكثير من ذلك أسطوريٌّ أكثر من كونه واقعيًّا.»

فقالت إيرين: «أجل. لقد قرأته قبل مدة، حين كنتُ … سقيمة. وثمَّة وصفةٌ من نوعٍ ما لدهانٍ يُدعى كينيت، مضاد لنيران التنانين، في ظهره …»

عاود أرلبيث التقطيبَ وظلَّت ملامحه كذلك. وقال: «هذا شيءٌ من خرافة وهراء.»

فقالت إيرين بنبرةٍ مؤكِّدة: «كلَّا. ليس هراءً؛ إنما هو غير مُحدَّد وحسب.» وسمحت لنفسها أن تتجهَّم بسببِ ما اختارت من تصريحٍ مُبسَّط. «لقد أمضيتُ معظم السنوات الثلاث المنصرمة أُجرِّب تلك الوصفة غير المُكتملة. وقبل بضعة أشهر، اكتشفتُ أخيرًا ما … التركيبة الصحيحة.» كان عُبوس أرلبيث قد خَفَّ، لكن كان لا يزال باديًا على وجهه. قالت: «انظر.» ثم نزعت إيرين لِفافة القماش الثقيل التي كانت قد علقتها على كتفها وأخرجت منها كيس الدهان اللين. ودهنت به إحدى يديها، ثم دهنت الأخرى، ولاحظت في أثناء ذلك أن كلتا يديها كانتا ترتعشان. وبسرعةٍ كي لا يُوقفها، ذهبت إلى المدفأة وأمسكت، بإحدى يديها المدهونتَين باللون الأصفر، غُصنًا كان يحترِق في المدفأة فجعلته على مسافة ذراع منها، ودسَّت يدَها الأخرى مباشرة في اللهب الذي تموَّج حولها.

كان عبوس أرلبيث قد اختفى. «لقد أثبتِّ مقصدكِ؛ والآن أعيدي النار إلى الموقد؛ لأن هذا ليس بالشيء المُريح مشاهدته.» ثم عاد إلى خلف الطاولة وجلس؛ وبدت الخطوطُ التي تنِم عن التعب تظهر ثانيةً على وجهه.

جاءت إيرين إلى الجانب الآخَر من الطاولة وهي تمسح يدَها المليئة بالرماد في سروالها الجلدي. قال والدها، وقد رفع عينيه إليها: «اجلسي»؛ فأزالت إيرين ما على أقربِ كرسي، مخلِّفةً بأصابعها آثارًا من الفحم على لِفافةٍ حاوَلَت أن تُحرِّكها بحذَر شديد، وجلست. رمقها والدها، ثم نظر بعدها إلى الشقوق المُتهرِئة في تنُّورتها. وقال: «أكان من السهل إذن قتلُ التنانين وهي لا تستطيع أن تُحرقكِ؟»

بسطت إيرين أصابعها على ركبتَيها وحدَّقت فيها. ثم قالت في هدوء: «لا. لم أتجاوز بتفكيري ما بعد النار. ولم يكن الأمر سهلًا.»

تنهَّد أرلبيث. وقال: «إذن فقد تعلَّمتِ شيئًا.»

فأجابت: «لقد تعلَّمت شيئًا.» ورفعت نظرها إلى والدها في رجاء مفاجئ.

نخَر أرلبيث، أو ضحِك ضحكة خافتة. وقال لها: «لا تنظري إليَّ هكذا. لديكِ نظرةُ جرو متضرِّع يظنُّ أنه لا يزال بإمكانه الإفلاتُ من عِقابٍ مستحَق. ألا تظنين أنكِ تستحقِّين العِقاب؟»

لم تردَّ إيرين بشيء.

فاستطرد: «لا أقصد باستفهامي هذا أن يكون مجازيًا وحسب. ما نوع العِقاب الذي تستحقِّينه؟ أنتِ أكبر قليلًا من أن أرسلكِ إلى حجرتكِ من دون عشاء، وأظنُّ أني وهبتكِ استقلاليتَك عن تلقِّي الأوامر من تيكا حين سمحتُ لكِ أن تمتطي تالات وحيدةً.» ثم سكت برهة. وأكمل: «أظنُّ أنك احتجتِ أن تبتعدي عن المدينة قدْر الإمكان لكي توقدي نارًا كبيرة بما يكفي لتختبري اكتشافكِ بدقة.» ظلَّت إيرين صامتة. «لا يُمكنني أن أمنعكِ من تالات، لأنه الآن جوادكِ الخاص، وأنا أُحبه كثيرًا فلا يُمكنني أن أحرمه من سيدته.»

ثم سكت مجددًا. «أنتِ تبدين مشكلةً من النوع العسكري، وبما أنكِ لا تتمتعين برتبة عسكرية فلا يُمكنني أن أُجرِّدكِ منها، وبما أنكِ لا تحملين سيفًا من سيوف الملِك فلا يسعه أن يأخذه منكِ ويضربكِ بنصله.» واستقرَّت عينه لحظةً على هدية إيرين في عيد مولدها الثامن عشر التي تتدلَّى من جنبها، لكنه لم يأتِ على ذكرها.

كان الصمت طويلًا هذه المرة. «هل تُعلِّمين الآخرين كيفيةَ صناعة الدهان المضاد للنار إذا ما طلبتُ ذلك؟»

رفعت إيرين رأسها. كان بإمكانه أن يأمُرها بتفسير كيفية ذلك، وكان يعرف أنها تعرف أن بإمكانه أن يأمرها. «سأُعَلِّم بكل سرورٍ مَن … مَن سيُسَرُّ بتَعَلُّم ذلك مني»، وإذ أدركَتْ أنه لم يأمرها بذلك، أدرك هو أنها قالت «مَن سيُسَرُّ بتَعَلُّم ذلك مني»، ابنة الساحرة؛ ذلك أنه كان يعرف ما كان يُطلَق على زوجتِهِ رغم أن أحدًا لم يُحدِّثه بذلك مباشرةً.

«أنا أودُّ أن أتعلَّم.» ومدَّ يده إلى كيس الدهان الذي تركته إيرين على الطاولة، وأخذ شيئًا ضئيلًا من الدهان الأصفر على أنامله، وفرك به الإبهامَ والسبابةَ معًا. واشتمَّه. «أظنُّ أن هذا يفسِّر أخبارَ زيارات الأميرة الأولى المنتظمة والمفاجئة لمتاجر العطارة.»

ازدردت إيرين ريقَها وأومأت إيجابًا. «سيُشرفني أن … أن أريك كيفيةَ صناعة الكينيت يا سيدي.»

نهض أرلبيث وتقدَّم إلى ابنته ليحتضِنها، وترك ذراعه حول كتفَيها، غير عابئٍ بفراء كمِّه الأملس وحالة تنُّورتها الجلدية. «اسمعي أيتها الحمقاء الشابة الساذجة. أتفهَّم سببَ تصرُّفكِ بالطريقة التي تصرَّفتِ بها، وأنا مُتعاطف معكِ، كما أني فخور بكِ أيَّما فخر. لكن أرجوكِ لا تَعبثي بالأرجاء وتُخاطري بحياتكِ لإثبات المزيد من مقاصدكِ، أيمكنكِ ذلك؟ تعالي إليَّ وحدِّثيني في الأمر أولًا على الأقل.»

«والآن اذهبي، ودَعِيني أعود لما كنتُ أفعله. كان لا يزال أمامي عصرُ يوم عمل طويل قبل أن تقاطعيني.»

وغادرت إيرين مسرعةً.

•••

بعد أسبوع، حين تجرَّأت أخيرًا على لقاء أبيها على الإفطار ثانية، الأمر الذي كان يعني أن تجلس إلى الطاولة وأن تُجازفَ بالدخول في مناورات المحادثات كما يحلو له أن يبدأ، قال أرلبيث: «كنتُ قد بدأت أشعر بأنني شرير وشنيع. يسرُّني أنكِ خرجتِ من مخبئكِ.» ضحِك تور، الذي كان حاضرًا أيضًا، وهكذا علمت إيرين أن تور هو الآخر عرف قصَّتها مع التنانين. احمرَّ وجهُ إيرين خجلًا؛ لكن حين هدأت أُولى فوْرات الارتباك كان عليها أن تقرَّ أمام نفسها بأن المدينة بأسرِها على الأرجح تعلم القصةَ الآن.

انتهوا من الإفطار من دون المزيد من اللحظات المُزعجة أو المربكة، لكن وفيما نهضت إيرين لتنسلَّ خِلسة — ولم تكن قد تعافت بعدُ بما يكفي لأن تحتمِل الذهاب إلى قاعة الاستقبال، وكانت تُمضي أيامها تُعدِّل في عُدتها وتمتطي تالات — قال أرلبيث: «انتظري لحظة. لديَّ شيء لك، لكني توقَّفتُ عن إحضاره على الإفطار قبل عدة أيام.»

نهض تور وخرج من الحجرة، وعمد أرلبيث إلى أن يَصُبَّ لنفسه كأسًا أخرى من مشروب مالاك. وعاد تور سريعًا، وإن كانت اللحظات قد مرَّت طويلة على إيرين، وكان يحمل رُمحَين وسيفها الأملس الصغير، ولا بد أنه ذهب إلى حجرتها لإحضاره من مكان تعليقه على الجدار بجوار سريرها. ثم قدَّمها تور إلى الملِك بطريقةٍ رسمية، راكعًا وجسده منحنٍ ويداه الممدودتان اللتان ترفعان الأسلحة تصِلان إلى ارتفاع رأسه؛ فارتجفت إيرين؛ ذلك أن ولي العهد لا ينبغي له أن يمنح أحدًا هذا الشرف. وبدا أرلبيث موافقًا على ذلك؛ لأنه قال: «كفى يا تور، نحن نعرف بالفعل شعورك تجاه ذلك»، فنهض تور وقد بدا على وجهه أثرُ ابتسامة.

نهض أرلبيث والتفت إلى إيرين، التي نهضت بدورها، باديًا عليها الذهول. قال أرلبيث: «أولًا، أقدِّم لكِ سيفكِ»، وقدَّمه إليها فكانت إحدى يدَيه أسفل المِقبض تمامًا والثانية قد تخطَّت منتصف النصل المُغْمَد، فأحاطت يدَيه بيدَيها. أسقط السيف في يديها، ثم أحاط بأصابعه أصابعها المُطبقة. وقال: «وبهذا تتسلَّمين أول سيفٍ لك من مليككِ» ثم تركه؛ وأنزلت إيرين ذراعَيها ببطءٍ إلى جانِبَيها، حتى صار السيف على فخذيها. كانت الآن تحمل سيف الملك؛ وبهذا يمكن للملك أن يَستدعيَه ويستدعيها متى احتاج إلى ذلك، لكي تفعل، أو لا تفعل، ما يأمُرها به. جرى الدم في وجهها ووَلَّى، وابتلعت إيرين ريقها.

ثم قال أرلبيث بنبرةٍ مرحة: «والآن، بعدما تسلَّمتِ رسميًّا سيفكِ بيدي، يمكنني رسميًّا أن أنهركِ بحقِّه.» ومدَّ يده نحو المقبض فيما وقفت إيرين مندهشةً ممسكة بغمده، واستلَّ السيف. وحرَّكه في الهواء، وبدا صغيرًا في يده؛ ثم أوقفه أمام أنفها تمامًا. وقال: «هكذا»، وصفع خدَّها بقوة بنصلِه، وقال أيضًا: «وهكذا»، وصفع خدَّها الآخر بالجهة الأخرى من النصل، وأخذت إيرين تَطرِف بعَيْنَيها؛ ذلك أن الضربتَين جعلتا عينَيها تدمعان. وقف أرلبيث ينظر إليها حتى صفا بصرها، وقال بنبرةٍ جادة: «أنا آخُذ هذا الأمر على محمل الجِد، يا عزيزتي، وإن أمسكتُ بكِ تُغادرين من دون أن تتحدَّثي إليَّ أولًا، فسأُعاملكِ باعتباركِ خائنة.»

فأومأت إيرين.

واستطرد: «لكن حيث أنكِ رسميًّا تحمِلين سيفي، وحيث إننا نفتخر بأن نُثني رسميًّا على مهارتكِ في قتل التنانين، والتي تجلَّت حديثًا»، ثم التفت وأمسك بالرُّمحَين اللذَين كان تور لا يزال مُمسكًا بهما وأردف: «فهذان لكِ.» مدَّت إيرين ذراعيها، فارتفع حزام الغمد بسرعةٍ فتدلَّى من إحدى كتفيها. قال أرلبيث: «هذان منذ أيام صيدِي التنانين.» فرفعت إيرين ناظِرَيها إليه بحدة. تابع: «أجل؛ كنت أصيد التنانين حين كنت أكبُركِ بقليل، ولديَّ بضع ندوب تثبت هذا.» وابتسم مُستعيدًا ذكريات الماضي. «لكن سرعان ما يُصَدُّ أولياء العهد عن فعلِ أي شيءٍ خطيرٍ وغير مُستحَب كصيد التنانين؛ لذا لم أستخدم هذين إلا بضع مرات قبل أن أُضطر إلى طرحهما جانبًا إلى الأبد. ولم يكن احتفاظي بهما طَوال هذه المدة إلا محض عناد.»

ابتسمت إيرين مُطْرِقةً إلى ما في يدَيها.

«يمكنني أن أخبركِ على الأقل أنهما قوِيَّان ومتينان ويتَّجهان نحو الهدف مباشرةً.»

«ويُمكنني أن أخبركِ أيضًا أن قد وصلَنا بلاغٌ آخرُ عن تنين، وصلَنا صباح أمس. وقد أخبرتُ الرجل أنني سأُجيبه صباح اليوم؛ وهو آتٍ إلى الانعقاد الصباحي للبلاط. فهل ستعودين برفقته؟»

تبادلت إيرين وأبوها النظرات. للمرة الأولى صار لها مكان رسمي في مجلسه؛ لم تكن قد مُنِحَت فحسب تلك المكانةَ — كما مُنِحَت على مضضٍ منها مكانتها التي لا يمكن نكرانها إلى جواره باعتبارها ابنته — بل استحقَّتها. إنها تحمل سيف الملك، ومن ثمَّ فإنها من جنوده وخدَمه المُحلَّفين على الولاء له — وإن كان ذلك بصورةٍ غير منتظِمة — إضافة إلى كونها ابنته. كانت لها مكانتها الخاصة، على صعيدَي المَنْح والاستحقاق. ضمَّت إيرين الرُّمحَين إلى صدرها فضربت في أثناء ذلك ركبتها بغمد السيف، فآلَمها ذلك. وأومأت.

«حسنٌ. لو كنتِ بقيتِ في مخبئك، كنتُ سأرسل جيبيث ثانيةً، وفكِّري في الشرف الذي كنتِ ستُضيِّعينه على نفسكِ.»

فأومأت إيرين ثانيةً؛ إذ بدا أنها فقدت صوتها.

«إليكِ درسًا آخرَ لتتعلَّميه يا عزيزتي. لا يُسمح لأفراد العائلة الملكية بالاختباء، على الأقل ليس بعد أن يُعلنوا عن أنفسهم.»

عاد إليها شيء من قُدرتِها على الحديث، فقالت بصوت متحشرج: «لقد اختبأتُ طَوال حياتي.»

فالتمع شيءٌ مثل ابتسامةٍ في عيني أرلبيث. «ألا أعرف هذا؟ كثيرًا ما فكَّرتُ فيما ينبغي عليَّ فِعله إن لم تُدافعي عن نفسكِ من تلقاء نفسكِ. لكنك فعلتِ — وإن كان بطريقة غير التي كنتُ أتمنَّاها — وسأستغلُّ هذا أحسنَ استغلال.»

•••

كانت الرحلة الثانية لقتل التنانين أفضلَ من الأولى. ربما كان سببُ ذلك رمحَي والدها، اللذَين كانا يتَّجِهان صوب هدفها بدقةٍ ظنَّت أنها لم تكن تملِكُها لا في ذراعها ولا في تصويبها؛ وربما كان سبب ذلك حماسة تالات وسرعة تعلُّمه لما يتعيَّن عليه فعله. كما أنه لم يكن هناك إلا تنين واحد.

كانت القرية الثانية أبعدَ عن المدينة مما كانت القرية الأولى؛ لذا فقد باتت فيها ليلتها. غسلت دماءَ التنين عن ملابسها وجسمها — إذ خلَّف الدم بقعًا حمراء صغيرة طافحة حيث لامست جسدها — في الحمَّام العام، الذي حُظِرَ على الجميع حتى يتسنَّى للأميرة أن تحظى بخصوصيتها، وباتت في منزلِ كبير القرية فيما بات هو وزوجته في منزلِ نائبه. وتساءلت إيرين في نفسها إن كان نائبه قد نام في منزل نائبه بدوره، وإن كان هذا يعني أن أحدهم بات في نهاية المطاف في إسطبلٍ أو في حديقةٍ خلفية، لكنها ظنَّت أن سؤالهم عن هذا يعني وضْعَهم في مزيدٍ من الحرج. وقد شعروا بما يكفي من الحرج حين احتجَّت هي على إخراج كبير القرية من منزله. قال كبير القرية: «نحن نمنحكِ الشرفَ اللائق بابنة الملك وقاتلة هذا الشيطان.»

لم يرُقها استخدامُ كلمة «شيطان»؛ وتذكَّرت قول تور إن زيادة شرور الشمال ستزيد من وقوع مشكلاتٍ صغيرة ومُزعجة كالتنانين. وتساءلت أيضًا في سريرتها إن كان كبير القرية لم يرغب في أن يقضيَ ليلته هو وزوجته الحُبلى تحت نفس السقف الذي تبيت تحته ابنةُ الساحرة، أو إن كانوا سيُحضِرون كاهنًا — كانت القرية أصغرَ من أن يكون لها كاهن خاص بها — ليُباركَ المنزلَ بعد أن تُغادره. لكنها لم تسأل، ونامت وحدَها في منزل كبير القرية.

وكان خامس تنين تقتله هو أول تنين يترك في جسدها ندبة. كانت مستهترةً، وكان الخطأ خطأها. كان هذا التنين هو أصغر التنانين التي واجهتها، وكان أسرعها، وربما أذكاها؛ لأنها حين ثبَّتته إلى الأرض بأحد رُمحَيها القوِيَّين وأتت إليه لتقطع رأسه، لم ينفُث فيها نارًا، كما تفعل التنانين عادةً. كان قد نفَث فيها النار من قبلُ وكانت نتيجة ذلك مُخيِّبة للآمال، من وجهة نظر التنِّين. فحين اقتربت إيرين منه، دار في موضعه رغم الرمح الذي كان يُثبِّته، وغرس أسنانه في ذراعها.

سقط سيفُها من يدِها، حتى إنها أحدثَت حفيفًا وهي تتنفَّس، لأنها اكتشفت أنها أكثرُ اعتدادًا بنفسها من أن تصرُخ. لكن عدم صراخها استنفد تقريبًا كلَّ طاقتها وقوَّتها، فنظرت مُرتاعةً إلى عين التنين الحمراء الصغيرة فيما انحنت إلى جواره في وهن. وفي ارتباكٍ التقطت سيفَها بيدها الأخرى، وفي ارتباكٍ لوَّحت به؛ لكن التنين كان يُحتضَر بالفعل، فكانت لمعةُ العين الصغيرة تزول، لقد استَنْفَد آخرَ غضبةٍ له في القبض على ذراعها بفكَّيه. ولم يكن لدَيه من القوةِ ما يُجنِّبه حتى ضربةً بطيئة وخرقاء، وحين ضربت حافةُ السيف رقبةَ التنين شهق شهقةً أخيرة، وارتخى فكُّه، ومات، وانسكب الدم من ذراع إيرين واختلط بدم التنين الأغمق والأغلظ.

لحُسن الحظ كانت تلك القرية كبيرةً بما يكفي ليكون فيها مُعالِج، وقد ربط ذراعها وقدَّم إليها جرعة منوِّمة لم تتجرعها؛ لأنها اشتمَّت منه رائحةً طفيفة لسحرٍ حقيقي وخشيت ما يُمكن أن يمزجَه المعالِج في جرعاته. وعلى أقل تقدير، كانت الضمادة على ذراعها مفيدةً لها ولم تُسبِّب لها أذًى، حتى ولو لم تنَلْ قسطًا من النوم في تلك الليلة بسبب الألم الحاد الذي تسبَّب فيه الجُرح.

وفي الديار، كانت مكانتها المرموقة وتشجيع أرلبيث على ذلك قد جعلاها تحضُر مزيدًا من اجتماعات البلاط والمجالس التي تُدار من خلالها البلاد التي يَحكمها أرلبيث. وقد قال لها أرلبيث: «لا تَدَعي اللقبَ يضلِّلكِ. فما الملِك إلا الشخص البارز والمرئي. وأنا بارز كثيرًا، في واقع الأمر، حتى إنَّ أُناسًا آخرين يتحتَّم عليهم القيام بمعظم الأعمال المهمة.»

فقال تور: «هراء.»

وضحِك أرلبيث ضحكةً مكتومة. وقال: «ولاؤك يُعلي قدْرك، لكنك بصدد التحوُّل إلى شخص بارز للغاية لدرجةِ أن يُعيقك هذا من أن تكون ذا تأثير، فماذا تعرف عن الأمر؟»

أهم ما تعلَّمته إيرين كان أن الملِك يحتاج إلى أناس يمكنه أن يثق بهم، ويثقون به. ومن ثمَّ عرفت مجددًا أنها تفتقر إلى أهم جانبٍ من جوانب موروثها؛ ذلك أنها لم يكن بإمكانها أن تُولِيَ قومَ والدها ثقتَها؛ لأنهم ما كانوا سيُولُونَها ثقتَهم. ولم يكن تَعَلُّم ذلك سائغًا. لكنها كانت قد خرجت من مَخبئها، ومثلما لم تستطِع أن تصرخ حين عضَّها التنين، لم تستطِع أن تعود إلى حياتها السابقة.

وبالفعل تزايدت البلاغات عن التنانين، ولهذا كثيرًا ما كانت بعيدةً عن الديار، ومن ثمَّ كان عذْرها لتفادي المناسبات الرسمية والملَكية هو عذر الغياب الأنسب، أو كان عذرها في ذلك الإنهاك لعودتها لتوِّها من الصيد. وقد اكتسبت سرعةً ومهارة في قتلها المخلوقات الصغيرة الخطرة، ولم تتأذَّ بأكثر من احتراق خُصلة من شعرها انفلتت من خوذتها المعالَجة بالكينيت لدى مواجهتها شراسةَ تلك المخلوقات. وقد أضحى أهل القرى الصغيرة يُحبونها، ويُطلقون عليها إيرين ذات الشعر الناري، وكانوا لطفاء معها وليس مُوَقِّرين لها فحسب؛ ومع أنها كانت تحذَر أشكال اللطف كافةً، إلا أنها توقَّفت عن الاعتقاد في أن كل كبار القرى كانوا يطلبون من الكهنة أن يطردوا روحَ ابنةِ الساحرة من بيوتهم بعد أن تغادرها.

لكنَّ قتلها التنانين لم يكن ذا نفع لها مع حاشية أبيها؛ إذ كان الوزراء السَّريعو التقلُّب الذين كانت حِرفتهم الكلام ويتنقلون على المحفَّات ولا يستطيعون أن يحملوا سيفًا، ما زالوا لا يثقون بها، وشعروا في داخلهم أنه كان ثمَّة شيءٌ مُخزٍ في أن تكون أميرةٌ هي مَن تقتل التنانين، حتى ولو كانت هجينة الدم. ولم يتسبَّب خوفهم المتزايد من الشمال إلا في زيادة عدم ثقتهم بها، هي التي كانت والدتها قد أتت من الشمال؛ وتسبَّب قتلها التنانين في جعلهم يخافون منها، خاصة أن الجُرح الوحيد الذي أُصيبت به في مهمةٍ غالبًا ما تتسبَّب في قتلِ الجياد وتعجيز الرجال هو جُرحٌ سطحي بسيط؛ كذا كانت قصة وقوع الأميرة الأولى في الحب، والتي كانت قد بدأت تختفي حيث لم يكن يَجِدُّ فيها جديد، عاودت الظهور، وقال أولئك الذين أرادوا لتلك القصة أن تعاود الظهورَ إن ابنةَ الملِك كانت تمارس لعبةَ الصبر والانتظار. كانوا يعرفون قصةَ الكينيت، وكانوا يعرفون أن بإمكان أي أحد أن يتعلَّم إعداده لو أراد؛ لكن لماذا كانت الأميرة إيرين هي مَن اكتشفته؟

ولم يطلب أحدٌ سوى أرلبيث وتور أن تُعَلِّمَه إعداد الكينيت.

وذات ليلة، بعد أن تناول بيرليث الكثيرَ من النبيذ وصار مخمورًا، روَّح عن الحضور بأن غنَّى أغنيةً شعبيةً جديدةً قال إنه كان قد سمِعها مؤخرًا من منشدةٍ تغنيها في إحدى الأسواق الصغيرة القذرة في المدينة. وأضاف مبتسمًا أن منشدةً كانت صغيرة الحجم وقذرة هي الأخرى، وأنها كانت تُسافر مؤخرًا عبْر القرى الصغيرة المغبرة في التلال، ومن هناك أتت الأغنية الشعبية.

وكانت الأغنية الشعبية تقصُّ قصةَ إيرين ذات الشعر الناري، التي كان شعرها يتوهَّج أكثرَ من نار التنانين، وهكذا كانت تقتلهم من دون أن يُصيبها أذًى؛ لأن التنانين كانت تجبُن أمامها حين تراها، ولم تكن تستطيع أن تقاومَها. وكان صوت بيرليث عذبًا وصداحًا وخفيفًا، ولم يكن نظْم الأغنية سيئًا للغاية، أما لحنُها فكان قديمًا ووقورًا استمتعت به أجيالٌ كثيرة. إلا أن بيرليث سخِر من إيرين بتلك الأغنية باستخدام أدقِّ تغييرات الصوت وألطف المفارقات، وكانت براجِمها بيضاء حول كأس نبيذها وهي تستمع.

وحين انتهى بيرليث، أطلقت جالانا إحدى ضحكاتها الصغيرة الحادة. وقالت: «كم هذا رائع. أن نتصور … أننا نعيش مع أسطورة. أتظنون أن أحدًا سيؤلف الأغاني لأحد من بقيتنا، على الأقل لنستمتع بها ونحن لا نزال على قيد الحياة؟»

قال بيرليث بهدوء: «لنأمُل على الأقل أن أي أغنيات تُغنى على شرَفنا لن تُبدينا بهذه الفظاعة، حيث تُفسِّر هذه الأغنية سببَ قتل أميرتنا للتنانين بسهولة بالغة.»

كانت إيرين تعرف أنه يتعيَّن عليها أن تجلس ساكنة، لكنها لم تستطِع، وغادرت القاعة وسمِعت ضحكةَ جالانا تتردَّد ثانيةً في أرجاء الممر من خلفها.

•••

وحدَث أن جاءت أخبارُ نيرلول بعد أسبوع من غناء بيرليث أغنيتَهُ. كانت إيرين في الخارج تقتل تنينًا آخرَ في اليوم الذي وصل فيه الرسول، ولم تَعُد إلى المدينة إلا عصرَ اليوم التالي. هذه المرة لم تكن تواجِه زوجًا من التنانين البالغة وحسب، بل أربعة تنانين وليدة صغيرة؛ وكاد يستحيل عليها الإمساكُ برابعها، لأنه كان لا يزال صغيرًا بما يكفي لأن يَختبئ بسهولة، كما كان أذكى من إخوته ليفعل ذلك. لكن التنانين الصغيرة كانت كبيرة بما يكفي لأن تعتمد في طعامها على نفسها، ومن ثمَّ لم تجرؤ على أن تترك آخرَهم دون أن تقتله. وما كانت لتجده على الإطلاق لولا كبرياؤه بوصفه تنينًا والذي جعله يطلق عليها خيطَ لهبٍ صغيرًا. كان من المروِّع قتلُ شيء بهذا الصِّغر؛ فلم يكن التنين الصغير كبيرًا بما يكفي حتى لأن يحرق جلدًا بشريًّا بنيرانه الضئيلة الضعيفة. لكن إيرين ركَّزت على حقيقةِ أنه سيكبُر ذات يوم ويتحوَّل إلى مخلوقٍ شرس قادر على أكلِ طفل صغير، فأخرجته من حفرته وقتلته.

وكانت البلدة التي كانت التنانين تُغِير عليها كبيرةً بما يكفي لأن تقيمَ وليمةً على شرفها وأن تُحضِر إليها البهلوانات والمنشدين، وهكذا أمضت أمسيتها، وظلَّت نائمة حتى ساعةٍ متأخرة من صباح اليوم التالي. وقد شعرت بالانفعال المُتَّسم بالتوتر في المدينة فيما دخلتها راكبةً في اليوم التالي، وهذا جعل تالات قلِقًا ومتملمِلًا.

سألت إيرين هورنمار: «ماذا حدث؟»

فهزَّ رأسه. وقال: «وقعت مشكلة؛ نيرلول يُثير المتاعب.»

فقالت إيرين: «نيرلول.» كانت تعرف نيرلول، وتعرف طباعَ نيرلول، وذلك من اجتماعات المجلس التي حضَرتها.

بعد ستة أيام، وقفت إيرين في مواجهةِ والدها في القاعة الكبرى وسيفها الذي تلقَّته من يده مُعلَّق إلى جانبها، لتطلُب منه أن يسمح لها بالركوب معه؛ ورأت وجهَه الذي كان قد تغيَّر كثيرًا عن حاله فيما مضى ليكون لطيفًا معها؛ واكتشفت قيمةَ المكانة التي فازت بها في حاشية والدها. إيرين قاتلة التنانين. وابنة الملِك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤