الفصل الثالث عشر

حين استعادت وعيها كانت تصرُخ، أو أنها كانت ستصرخ لو كان حلقها المُمزَّق قادرًا على فعلِ ذلك. آلمها التنفُّس. رقدت على الأرض، على بُعد مسافة قليلة من حيث كان التنين يرقد مُتكوِّمًا أمام سفح الجبل، ورأسه وذيله مَمدودان بلا حَراك. قالت في نفسها لا بد أنها قتلته في نهاية المطاف؛ لكن تلك الفكرة لم تَسُرَّها كثيرًا. إذ كانت تتألم كثيرًا. وكانت الفكرة التالية التي واتتها هي الماء. كان يُوجَد جدول ماء. جعل التفكير في الماء جروحها تطِن وتئزُّ بعنفٍ أكبرَ بكثير، فغابت ثانيةً عن الوعي.

وخلال الفترة الطويلة بعد الظهيرة، زحفت بطريقةٍ ما نحو الجدول؛ ولم تمدَّ يدَها فيه أخيرًا إلا وقت الغسق — يدها اليمنى التي تخثَّر دم التنين عليها — وشعرت بالماء يجري عليها. كانت قد خشيت أن تكون، من شدةِ احتياجها للماء، قد تخيَّلت صوت الماء الجاري ورائحته، وكانت الفترات التي فقدت فيها وعيها مليئةً بالأحلام التي هُيِّئ لها فيها أنها تزحف في الاتجاه الخاطئ. ثم انسلَّت دمعتان أو ثلاث على وجهها المُسْوَدِّ، فأقامت نفسها على مرفقها الأيمن وجرجرت نفسها نحو الأمام وسقطت بجسدها كلِّه في الماء. وكان المكان الذي ترقُد فيه ضحلًا، فاستندت بوهنٍ على جلمودٍ صخري متوسط الحجم حيث يمكن للماء أن يجريَ على ذراعها اليُسرى وعلى الجانب الأيسر من وجهها ولا يزال بإمكانها أن تتنفس في الوقت نفسه.

وقد أمضت تلك الليلة على الأقل في ذلك الجدول البارد، ولم تكن تتحرك إلا لكي تشرب، ثم تُعيد وجهها نحو الأعلى في مواجهة الصخرة حتى تُواصل التنفُّس؛ وإن كانت تساءلت في بعض الأحيان فيما كانت تغيب عن الوعي وتستعيدُه عن سبب اهتمامها بمواصلة التنفُّس. وأقبل الفجر؛ أو ربما كان هذا الفجر هو الفجر الثاني منذ جرجرت نفسها إلى الماء؛ أو ربما كان هو الفجر الثاني عشر. راقبت الشمس وهي تُشرِق وهُيِّئ لها أنها تُمضي وقتًا أكثرَ وهي واعية، وأسِفَت لهذا. كانت الأمور ستُصبح أبسط لو أنها لم تَعُد للوعي حين غابت عنه في وقتٍ ما أثناء الليل، تاركةً جسدها المشلول في الماء البارد الجاري. لكن عوضًا عن ذلك وجدت نفسها تطرِف بعَينها بفعل نور الصباح، وتُحدِّق بهيكلٍ شاحب ومألوف بصورة غامضة عند شاطئ الجدول. إنه تالات.

ونادت بصوتٍ أجشَّ: «تالات»، وأدركت أنها لم تفقد صوتها تمامًا في نهاية المطاف. رفع تالات رأسه المطأطأة ونظر إليها؛ لم يكن قد أدرك قبلئذٍ أنَّ الشيء الذي في الجدول هو عزيزته إيرين، فراح يَصهل في حماسة لكن في عدم يقين.

همست إيرين: «إن كنتَ لا تزال موجودًا، فمن الأفضل أن أبقى أنا أيضًا»، ثم أحنت ظهرها مُتألمةً لتتَّخذ وضعيةَ الجلوس.

تراجع تالات خطوةً أو اثنتين بعيدًا عن الشيء الذي في الجدول وهو ينهض أمامه، لكن قال له الشيء ثانيةً بصوتٍ أجشَّ: «تالات»، فتوقَّف تالات. لم يكن الصوت مثلما ينبغي أن يكون صوت إيرين، لكنه كان واثقًا من أنه ذو صلةٍ بعزيزته إيرين، ومِن ثَم انتظر. وجدت إيرين أن الجلوس كان أقصى ما يُمكن لها فِعله وهي في ذلك الاتجاه؛ لذا رقدَت ثانيةً وتدحرجت على بطنها وتقدَّمت ببطءٍ نحو شاطئ الجدول. أرخى تالات رأسه في قلقٍ ونفخ، فنخَرت إيرين من الألَم لمَّا لمَس هواءُ نفْخَتِهِ وجهَها. أخرجت يدَها اليُمنى من القفَّاز المُخضَّل، ورفعت يدها السليمة إلى حصانها، فتلمَّس أصابعها بشفتَيه ثم أطلق تنهيدةً عميقة، تنهيدةَ ارتياح، حسبما ظنَّت إيرين؛ لكنها أشاحت بوجهها بعيدًا عن أنفاسه الدافئة. وهمست: «هذا لا يُحْتَمَل كما تعلم»، لكن خطر لها وللمرة الأولى منذ سقطا أمام التنين أنها قد لا تموت.

وبمجرد أن خرجت من الماء أخذت جروحها وكاحلها المكسور تخفق بقسوةٍ أكبر، وقالت في نفسها إنها يُمكنها أن تقضيَ بقية حياتها راقدةً في الجداول. وخطرت لها خاطرةٌ صغيرة جدًّا، وهي أن ذلك قد لا يستمرُّ مدةً طويلة جدًّا على أي حال. ثم فكَّرت: ينبغي أن أجد طريقةً لكي أقفَ على الأقل وأحلَّ عن تالات سَرجه قبل أن يُسبِّب له القُرَح. حسنًا، لا تزال لديَّ ذراع واحدة وساق واحدة.

كانت الطريقة التي شدَّت بها نفسها إلى أعلى قائمته الأمامية اليسرى مرهقةً كثيرًا وعند ذلك شعرَ تالات بالاستياء حتى تمكَّنت من الإمساك بحزام السَّرج وألقَت بكتفيها عبْر السَّرج واستندت لتنهض بتلك الطريقة؛ لكن تالات وقف جامدًا كالتنين الميت ولم يُنبئها بقلقِه إلا تصلُّب ظهره ورقبتِه. فتمتمت: «وأنا قلِقة كذلك يا صديقي.» وتمكنت من فكِّ أبازيم الحزام وتركت السرج ينزلق على الأرض؛ كان ثمَّة بُقعة زهرية اللون يكاد يكون الجِلد قد انسلخ عنها خلف مرفق تالات حيث احتكَّ الحزام المُبلل بالعَرق بها كثيرًا. كما كانت هناك كدمتان طويلتان حمراوان حادَّتان؛ إحداهما في رِدفه والأخرى أسفل خاصرته. نار التنين.

وانزلقت إيرين إلى الأرض ثانيةً فسقطت على السَّرج. ووجدت نفسها تحدِّق في الأبازيم التي تُحكم وثاق السرج. الطعام. أين تركت عُدتي؟ كانت بالقُرب من الجدول هنا في مكانٍ ما. خلف صخرة. نظرت حولها لكن نظرها كان ضبابيًّا ومشوشًا، ولم تستطِع أن تُميِّز خُرجَها من بين الأكم الصغير والصخور. أخذ فمها وحلقها يخفِقان. على الأرجح لا يمكنني تناوُل أي شيء سوى الثريد، هكذا فكَّرت في نفسها وتجهَّمت لذلك، لكن تجعُّد وجهِها من تجهُّمها كان مؤلمًا جدًّا حتى إنها لم تستطِع أن تفكِّر في أي شيءٍ آخرَ بضع دقائق.

كان تالات هو مَن وجد خُرجَها. سار الجواد بعيدًا عنها يتشمَّم الأرض على طول حافة الجدول؛ ثم توقَّف عند مجموعة بعَينها من أكماتٍ صغيرة قاتمة وضربها بأنفه؛ وعرفت إيرين من صوت الضربة أنها لم تكن صخورًا. ثم ابتعد تالات عنها ثانيةً وضربها بحافره ضربةً عابرةً فجاء صوت خشخشة خافت وليس صوت الارتطام المعروف من طَرق الحوافر على الصخر.

مرَّت فترة بعد الظهيرة طويلة قبل أن تجرَّ نفسها إلى حيث يمكن أن تمتدَّ يدُها إلى خُرجها؛ ذلك أنها كثيرًا ما كان يتعيَّن عليها أن تعود إلى الماء لتُخفِّف من الحروق التي بها ومن ألَم كاحلها الخافق. رقدت وإحدى يدَيها على جلد الخُرْج الناعم، وفكَّرت: لأوقد نارًا. لو أنَّ بإمكاني أن أغلي شيئًا فأُحوِّله عجينًا بحيث يُمكنني أن أبتلعه … ففتحت إحدى سدائل الخُرْج؛ وكان لا يزال به خبز، ووضعته في يدها وأمسكت به في الماء حتى شعرت أنه بدأ يتفتت، ثم لعِقته ببطءٍ.

وبالفعل أوقدت نارًا؛ إذ وجدت طريقةً تُقحِم بها حجرَ قدحِها بين الأحجار حتى يتسنَّى لها أن تضربه بيدِها السليمة؛ ولحُسن حظها، كان ثمة الكثير من الحطب بالقرب من شاطئ الجدول. إذ كانت الأشجار لا تزال تنمو هناك؛ لأنها كانت مَحميَّة بعض الشيء من وادي التنين بفعل الصخرة العالية التي كانت تحجب ماور عن موقع تخييم إيرين. وجدت بقايا نار مُخيمِها، وبدت قديمة ومسفوعة؛ وخطر لها أنها لاحظت أن ماء الجدول يجري صافيًا مرةً أخرى، وتساءلت ثانيةً عن المدة التي رقدت خلالها في الجدول. ووجدت صخرة مسطحة استخدمتها غطاءً، وبدأت عمليةً طويلةً من غلي لحمٍ جافٍّ في صفيحة حتى صارت لينة بما يكفي لأن تأكُلها. ولم تجرؤ على أن تجعل النار كبيرة؛ لأنها لم تقوَ على الذهاب بعيدًا لإحضار الحطب اللازم؛ ولم تقوَ كذلك على أن تحتمِل حرارة النار.

ونامت إيرين، أو فقدت الوعي مُجددًا؛ إذ كانت كثيرًا ما تنجرف جَيئة وذهابًا عبْر حدود الوعي؛ ولم يَعُد الإغماء وحدَه هو ما كانت تأتي به تلك الفَينات من الفراغ؛ إذ جلبت معها بداية التعافي. نزعت إيرين الحذاء الطويل الرقبة عن قدمها اليمنى، وتحسَّست كاحلها بحذرٍ شديد، ولفَّته في شرائطَ من قماش فائض، وربطت العُقَد بأسنانها ويدها؛ وأمَلت أن يكون ما فعلته شيئًا ذا نفع. ذكَّرتها الضمادات، إن لم يكن لها نفع آخر، بأن تُبقي قدمَها ساكنة، وانحسر الألم إلى دمدمة خافتة.

ولم تنظر إلى ذراعها اليسرى إلا مرة واحدة، وأعياها ما رأت كثيرًا حتى إنها لم تنظر إليها ثانيةً. لكن عدم نظرها إليها ذكَّرها بنفسِ ما كانت تُذكِّرها به ضمَّادات قدمِها؛ وانحسر ألم الحروق قليلًا، وكان يتعيَّن عليها بين الحين والحين أن تزحف عائدةً إلى الجدول لتنقع نفسها فيه. وفكَّرت في نفسها وهي ترتعش، كم سيمرُّ من وقتٍ قبل أن تمرض بفعل البرد؟ حتى الآن، وحيث كان جسدُها يحاول أن يقاوم، أدركت إيرين أن الرقادَ في الماء البارد مدةً طويلة ليس بالأمر الحسَن في العموم، وكانت أجزاء جسدها التي لم يلحق بها ضررٌ ترتجِف من البرد. عطست كثيرًا. وحدَّثت نفسَها في ضجرٍ أن «هذا رائع»، ووقعت عينها ثانيةً على الخُرج. كان من الصعب عليها أن تُفكِّر مما بها من ألَم.

ذهبت أفكارها إلى الكينيت. الكينيت. لا يُمكن أن تضرَّ المحاولة.

انتعش فيها الأمل فسَدَّ حلقها المتألِّم. زحفت إيرين نحو الخُرج وبسطت الحافظة الجلدية الطويلة التي احتفظت فيها بالكينيت؛ وشدَّت ذراعها اليسرى إلى الأمام وتركته يجثُم على الدهان الأصفر الثخين. وأغمضت عينَيها، محاوِلةً ألا تُفرِط في الأمل؛ إذ كانت تخشى أن يفقدها الألم صوابَها عمَّا قريب، ولم يكن بإمكانها أن تجد في نفسها من الطاقة ما يُعينها على تحمُّل خيبةِ أملٍ كبيرة كهذه. لكن وفيما كانت تُصارع نفسها تقلَّص الألم وانحسر وتلاشى أخيرًا فأصبح شعورًا مُزعجًا بعدم الراحة. قالت في نفسها إنها تتخيَّل هذا، وفي ذلك كانت تُحاول أن تبقى ساكنة تمامًا حتى لا تُعكِّر صفوَ حُلم السكينة الجميل وغير المُتوقَّع هذا. فتحت إيرين عينيها. كانت ذراعها لا تزال سوداء مريعة المظهر. ورقدت إيرين ببطء شديد جدًّا جدًّا، حتى أصبحت وجنتُها اليسرى على الدهان المضاد لنار التنين؛ وببطءٍ بدأ الألم في وجهها يقلُّ شيئًا فشيئًا حتى تلاشى تمامًا. غطَّت إيرين في النوم، نوم حقيقي، وكانت هذه أول مرة تنام فيها نومًا حقيقيًّا عميقًا منذ المساء الذي تسلَّمت فيه رسالة تور.

•••

حَلمَت بأنها استيقظت، راقدةً وذراعها اليسرى مُلتفَّة حول رأسها، ووجنتها اليسرى تضغط على الأرض. نهضت على كِلا مرفقَيها ولاحظت، دون أن يسترعيَ ذلك انتباهها، أن كلتا ذراعَيها كانت قويةً ومتعافية. انتصبت إيرين في جِلستها وأسقطت يدَيها بسهولةٍ وفتور في حِجرها. وفركَت راحتَيها معًا وفكَّرت في انزعاجٍ أنها قد راودَها أكثرُ الأحلام بشاعةً بشأن تنينٍ ضخم جدًّا … وعندما أطرقت برأسها سقط شعرُها أمامها أيضًا، ولاحظت أمرَين؛ أولهما أن شَعرها كان قصيرًا، يصل بالكاد إلى ذقنها. وقد أزعجها ذلك؛ إذ كانت تعرف أنها ما كانت لتقصَّ شعرها البتة؛ كانت تيكا مُتعنِّتة بشأن هذا، وكانت إيرين سرًّا فخورة قليلًا بأن شعرَها كان أطول حتى من شعر جالانا، فكان يسقط مفرودًا إلى قرب كاحليها، وكانت كثافته تُمدِّد عَقْصه في تموُّجات طويلة. كما كان شعرها الآن شبه مفرود؛ وحين كانت أصغر سنًّا وشعرها أقصر، كان شعرها مُجعدًا بشدة. لكن أسوأ ما في الأمر أنه كان بلونٍ غير لونه الصحيح. كان لا يزال أحمرَ، لكنه كان داكنًا بلون الجمر المُحترق، وليس باللون المُمتقع للهب المتواثب. سيطر عليها الذُّعر؛ لم تكن تشعر بأنها في حالتها الطبيعية؛ لقد ماتت؛ أو ما هو أسوأ، أنها كانت لا تزال موجودة، هي إيرين، لكن حُلم التنين لم يكن حُلمًا على الإطلاق، وكانت إيرين الحقيقية لا تزال راقدةً في مكانٍ ما بوجهٍ مُحترِق وذراع مسودَّة وكاحل مكسور، وهذا الجسد الصحيح غير المتألِّم الذي تسكُنه الآن يخصُّ شخصًا آخرَ؛ وأنه لن يُسمَح لها بالبقاء فيه.

جاءها صوتٌ يقول: «سأُساعدكِ إن استطعت» لكنها كانت تحلُم، ولم تستطِع أن تتأكد إن كانت الكلمات قد قِيلت جهرًا. رفعت نظرها من حيث كانت تجلس مُتكوِّمة على الأرض؛ وكان رجل طويل أشقرُ يقف إلى جوارها. ركع الرجل إلى جوارها؛ كانت عيناه زرقاوَين ورءوفتَين وحائرتَين. قال الرجل: «أيتها الأميرة إيرين. تَذكَّريني؛ أنتِ في حاجة لي، وسأساعدكِ إن استطعت.» وبدا في عينَيه الزرقاوَين اختلاجٌ ثم اختفى. «وستعودين لدامار عونًا، وسأُخبركِ بكيفية ذلك.»

قالت: «لا»؛ لأنها تذكَّرت ماور، وكانت تعرف أن ماور كان حقيقيًّا، سواء كانت تحلُم أو لا؛ وتوسَّلت تقول: «لا، لا أستطيع. لا أستطيع. دعني أبقى ها هنا. لا تُعِدْني.»

تشكَّل خطٌّ بين العينَين الزرقاوين؛ ومدَّ الرجل يدًا نحوها، لكنه تردَّد ولم يلمِسها. «لا يسعني ذلك. بالكاد يُمكنني أن أُبقيَك هنا مدة حُلم؛ حتى إنكِ الآن تنجرِّين عائدةً.»

كان هذا صحيحًا. عادت رائحة الكينيت إلى أنفها ثانيةً، وعاد صوت الماء الجاري إلى أُذنَيها. سألت في يأس: «لكن كيف سأجدك؟» ثم استيقظت. فتحت عينَيها ببطء؛ لكنها ظلَّت راقدة في مكانها مدةً طويلة.

•••

في النهاية بدأت تمشي ثانيةً، فكانت تتكئ كثيرًا على غُصن غليظ وجدَتْه وشذَّبته بجهدٍ جهيدٍ إلى الطول المناسب. وكان يتعيَّن عليها أن تسيرَ ببطءٍ شديد، ليس من أجل كاحلها وحسب، ولكن أيضًا لكي لا تهتزَّ ذراعها اليسرى كثيرًا؛ كما أنها كانت لا تزال تجد صعوبةً في التنفُّس. فقد كانت تتألَّم حتى حين كانت تتنفس أنفاسًا ضئيلةً سطحية، وحين كانت تنسى وتستنشق من الهواء الكثير، كانت تسعل؛ وحين تسعل، كانت تسعل دمًا. لكن وجهها وذراعها كانا يتعافَيان.

وكانت قد اكتشفت أيضًا أن شعرها على جانب رأسها الأيسر كان قد احترق بفعل نفثة النار نفسها التي شوَّهت خدَّها. لذا أخرجت سكين الصيد، النصل الثلم ذاته الذي استخدمتْه عنوة في صناعة عصاها، وقطعت بقيةَ شعرها حتى لم يتبقَّ من طوله ما هو أطول من عرضِ راحة اليد. شعرت أن رقبتها رشيقة بفعل خفة مفاجئة، وبدا أن الريح تَصفِر في أذنها وفي أسفل رقبتها بأكثر مما اعتادت. وربما تكون قد بكت قليلًا على شعرها، لكنها شعرت أنها عجوز وكالحة ورثَّة للغاية.

تفادت التفكير في شكل وجهها بعدما قصَّت شعرها. وركَّزت أفكارها على أشياءَ أخرى وهي تدهن خدَّها بالكينيت وترتدي الثياب وتُعيد تضميد ذراعها. ولم تفكِّر على الإطلاق بشأن كونها على استعدادٍ لأن تُواجِه الآخرين مجددًا، إلا من أجل أن تنكمش ذهنيًّا خوفًا من الفكرة وتطردها من رأسها. لم تكن إيرين مغرورةً مثل جالانا، لكنها دائمًا ما كرهت أن تكون مَحطَّ الانتباه، لكنها كانت بارزة بصورةٍ تلقائية؛ حيث كانت الصهباءَ الشاحبةَ البشَرةِ الوحيدةَ في بلادِ نساءٍ ذوات شَعر داكن وبشَرة بلون القرفة؛ ولم تستطِع الآن تحمُّل أن جراحها ستجعل مظهرها مشوَّهًا ومُنفِّرًا أيضًا. كان التعامل مع الناس يتطلب قوةً، قوةً لكي تُحقِّق نفسها بصفتها الأميرةَ الأولى، قوةً لأن تكون الشخصية العامة التي لم يسَعها إلا أن تكونَها؛ ولم تكن لدَيها أيُّ قوة مُتبقية. حاولت أن تقول لنفسها إنها قد اكتسبت تلك الجِراح بشرف؛ وإنها حتى فخورة بها، وقد أنجزت بنجاحٍ عملًا بطوليًّا؛ لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا. إذ حثَّتها غريزتها على الاحتجاب.

كانت قد فكَّرت باقتضابٍ وفي ذُعر أن القرويين الذين أرسلوا الرسول إلى الملِك ذلك الصباح قبل مدةٍ طويلة قد يُرسلون رسولًا آخرَ ليأتيَ بخبرِ ما وقع للأميرة أو التنين؛ لكنها أدركت بعد ذلك أنهم لن يفعلوا. فلو أن الأميرة قتلت التنين (وهذا مُستبعَد)، لأتت، من دون شكٍّ، وأخبرتهم. وإن لم تفعل، لافتُرِضَ أن التنين قتلها، ومن ثمَّ سيبتعدون قدْر المُستطاع.

في نهاية المطاف نفد صبرُها. فقالت لتالات: «ربما ينبغي أن نعودَ إلى الديار.» وتساءلت عما حلَّ بأرلبيث وتور والجيش؛ قد يكون كل شيءٍ انتهى الآن، وقد تكون دامار في حالة حرب أو — تقريبًا جميع الاحتمالات مطروحة. لم تعرف كم مرَّ عليها في وادي التنين، وبدأت ترغب بشدة أن تعرفَ ما كان يحدُث في العالَم الخارجي. لكنها لم تكن تملِك الشجاعة بعدُ لتُغامر بالخروج من قبر ماور الأسود، إلى حيث سيتحتَّم عليها أن تُواجِه الناس ثانيةً.

في تلك الأثناء كانت تسير أبعدَ قليلًا في كل يوم؛ وذات يوم غادرت ضفةَ الجدول أخيرًا، وسارت وهي تعرُج حول الصخرة المرتفعة التي كانت تفصل الجدول عن الوادي الأسود حيث يرقد ماور. وبينما كان صوت الجدول ينحسر ظلَّت تنظر إلى قدمَيها؛ كانت إحدى قدميها في فردة حذاء طويل الرقبة، وكانت الأخرى ملفوفة في خِرَق رثَّة وقذرة؛ وكانت إحداهما تخطو خطوةً أوسع من الأخرى. وظلَّت تُراقِب تقدُّم قدمَيها المتفاوت حتى تجاوزت الحاجز الصخري، فمرَّت بوجنتها نسمةٌ صغيرة تحمِل رائحةَ احتراق، وصار صوتُ قدمَيها صوتَ انزلاقٍ وانسحاقٍ جراء سيرِها على الرماد والجمر المُطفأ. فرفعت ناظريها.

لم تكن آكِلات الجِيَف قد أكلت كثيرًا من التنين الميت. كانت عيناه قد اختفتا، لكن جِلده الغليظ كان أقسى من المَخالب والأسنان العادية. ومع ذلك بدا لها ماور صغيرًا؛ إذ كان ذاويًا ومنكمشًا، وكان جِلده الثخين أكثرَ تجعدًا. عرَجت إيرين ببطء مقتربةً منه أكثر، وانعطفت الزوبعة الصغيرة فمرَّت بوجنتها الأخرى. ولم تكن ثمَّة رائحة لحم مُتعفِّن في الوادي الصغير، إلا أن الشمس كانت تنهال عليها من أعلى فجعلت وجنتَها تختلج ألمًا من الحرارة، وذلك رغم دهانها بالكينيت. كانت رائحة الوادي كريهة، لكن بسبب الدخان والرماد؛ إذ كانت رقائق سوداء صغيرة لا تزال عالقة في الجو، وحين مرَّت النسمة على وجهها بأكمله علِق الرماد في حلقها وسعَلت. سعَلت إيرين وانحنت على عصاها التي تتوكَّأ عليها، وشهقت وسعلت ثانيةً، حينها نفخ تالات — الذي لم يُرِد أن يتبعها إلى وادي التنين لكنه أيضًا لم يُرِد أن يتركها تغيب عن نظره — في قفاها العاري من الشعر ولمس كتِفَها بأنفه. التفتت إيرين نحوَه وألقت بذراعها على حَارِكه وضغطت بوجنتها على رقبته، وأخذت تتنفَّس عبْر شعر عُرفه الجميل حتى خفَّ السعال وتمكَّنت من الوقوف بنفسها ثانيةً.

انبسطت رقبةُ التنين الملتوية كالثعبان على الأرض، وكان خَطْمه الأسود الطويل يبدو كسلسلة نتوءات من الصخور السوداء. وكان الرماد أكثرَ كثافة حول التنين مما كان في بقية أرجاء الوادي الصغير، وذلك رغم نسمة الريح؛ لكن حول التنين رفعت النسمة غمامةً من الرماد أخذت تدور في دوامة وترتفع وتتموَّج وتتقلَّص حتى أصبح من الصعب معرفةُ أين ينتهي التنين وتبدأ الأرض، تمامًا كما كان الحال حين توجَّهت هي وتالات في البداية لمواجهة الوحش. وفيما أخذت إيرين تنظر، طافت نسمةٌ صغيرة سريعة أخرى بطول جسد التنين من أعلى كتفِه وحتى ذيله الضخم؛ فهبَّت موجةٌ كبيرة سوداء من الرماد في أثرِ النسمة فتفرَّقت وتذرَّت لتجوب أرجاءَ بقية الوادي. فخبَّأت إيرين وجهها في عُرف تالات مرةً أخرى.

وحين رفعت وجهها حدَّقت في ماور، تنتظر أن تُفكِّر في شيء، أو أن تشعر بشيءٍ من رؤية الشيء الذي قتلتْه والذي كاد يقتُلها؛ لكن ذهنها كان خاويًا، ولم يكن بها شيءٌ من ضغينة أو مرارة ولم يتبقَّ بداخلها أيُّ إحساس بالنصر؛ لقد أحرق الألَم كلَّ هذا وأزاله. ولم يكن ماور أكثرَ من كومةٍ سوداء قبيحة ضخمة. وفيما أخذت تُحدِّق فيه، أثارت نسمة صغيرة أخرى زوبعةً أو إعصارًا صغيرًا من الرماد، تمامًا عند طرَف أنف التنين. ولمع شيء على الأرض هناك. شيء أحمر اللون.

فرمَشَت إيرين بعينها. هدأت الزوبعة وتساقط الرماد في منحنيات ودوَّامات جديدة؛ لكن إيرين ارتأت أنه لا يزال بإمكانها رؤيةُ شيءٍ صغير بين الرماد، شيء صغير يلمَع بلونٍ أحمر خافت. فتقدَّمت نحوه ببطءٍ وهي تعرُج، وتبِعها تالات وقد أعاد أُذنَه للخلف قليلًا ليُظهِر استنكاره.

وقفت على قدَمٍ واحدة ونبشت بعصاها؛ فضربت الشيء الأحمر الصغير الذي انبثق من بين الجمر المُطفأ بفعل الضربة وشكَّل في الهواء دائرةً نارية صغيرة وسقط على الأرض ثانيةً، فدار الرماد وهو يرتفع عن الأرض في التيار الهوائي الذي تسبَّب به ذلك الشيء وتساقط في تموُّجات من حوله، وكأن حجرًا قد أُلقِيَ في بِركة ماء.

واجهت إيرين صعوبةً في الانحناء، لكن تالات، الذي كان قد تعوَّد على البُطء الجديد في حركةِ سيِّدته، أتى ووقف إلى جوارها وسمح لها أن تتمسَّك بيدِها بإحدى قائمتَيه الأماميتَين وهي تنزل نحو الأرض. والتقطت الشيء الأحمر؛ كان صلبًا ويتلألأ بلونٍ أحمرَ داكنٍ شفَّاف، وكأنه جوهرة. فهمست: «لا بأس. لا يُمكنني أن آخُذَ الرأس تذكارًا هذه المرة؛ لذا سآخُذ هذا. أيًّا كان.»

ودسَّت الشيء في مقدِّمة سترتها؛ حيث كانت ذراعها المربوطة بمثابة حمَّالة له، ثم رفعت نفسها على ساق تالات الأمامية ثانيةً. كان تالات قد أصبح مُتمرِّسًا في كونه مساعدًا لعاجزة، حتى إنها كانت تسند عصاها على جسده فلا يتحرَّك هو حتى تأخذها في يدها ثانيةً، حتى لا تحتاج إلى أن تَلتقِطَها من فوق الأرض.

بعد بضعةٍ أيام من عثورها على حجر التنين الأحمر بحثت حولها عن شيءٍ مرتفع بما يكفي لأن تمتطيَ بمساعدته ظهرَ تالات، ومُنخفضًا بما يكفي لأن تتمكَّن من الصعود عليه أصلًا. استغرق هذا بعضَ الجهد. وأخيرًا أقنعت تالات — كان على استعدادٍ لأن يقتنع بمجرد أن أدرك الشيء الغريب التالي الذي أرادَتْه منه — بأن يقف في الجدول بينما تخطو هي نحو الضفة وتتوازن بصورةٍ غير مُستقرة على رِدفَيها وتتعلَّق بإحدى يَدَيْها بغصنٍ ضخم طويل يتدلَّى من شجرة تنمو بالقرب من الضفة الضحلة؛ وتُنزِل جسدها بأبطأ ما يمكنها على ظهره العاري من السرج. أطلق تالات صهيلًا صغيرًا ينِمُّ عن سعادته لوجودها على ظهره ثانيةً، وخطا خطواتٍ سلسة كأنه يسير على الحرير عندما حمَلَها؛ وجلست على صهوته مُستقيمةً بأكثر قليلًا مما أمكنها وهي تقف على قدَمَيها، وشعرت بأنها ابنة ملِك أكثرَ قليلًا مما شعَرت قبل مدة طويلة. في ذلك اليوم امتطَتْه إيرين جَيئةً وذهابًا على ضفة الجدول، لمجردِ لذة التحرُّك من دون أن يُؤلِمها كاحلها الأيمن؛ وفي اليوم التالي سرَّجتْهُ وجرَّبت الأمر ثانيةً، وفي اليوم الذي يليه سرَّجتْهُ وحزمت بقيةَ أمتعتها حزمًا غير مُتقَن خلف السرج، وغادرا الجدول ووادي ماور إلى الأبد. وكان الحجر الأحمر يضرب أضلاعها برفق فيما تأرجح ظهرها للأمام والخلف تماشيًا مع إيقاع خطوات تالات المُتمهِّلة الواسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤