الفصل الخامس عشر

لم تستطِع أن تنام، وأخذت تسعُل، وتركت الدماءُ بقعًا على وسادتها؛ أما الحُمَّى، التي كانت تأتيها وتذهب عنها، ولم تتركها وشأنَها حتى حين شُفِيَت حروقها ونما شعرها، فجاءتها مُجددًا تلك الليلة، وبينما كانت تُعاني دُوارًا استحضرت المشهدَ الذي كان في القاعة؛ فسمِعت الجمجمة تضحك وسمِعت الحاشية تقول: ابنة الساحرة.

وقُرب الفجر رأت في منامها الرجلَ الأشقر الطويل الذي كانت قد رأته مرةً واحدة من قبلُ بينما كانت نائمةً في وادي التنِّين. لم يُخاطبها، ولم يبدُ عليه أنه كان يعرف أنها تُراقبه. قالت في نفسها وهي تحلُم: «ربما هذا مجرد حلم»؛ لكنها نظرت إلى كيفية سقوط أشعة الشمس على أهدابه، وإلى النَّمَش على ظهر يدَيه، وإلى الطريقة التي انعقفت بها أصابعه الدقيقة تحت قاعدة الكأس التي كان يُمسك بها، وإلى البخار الذي كان يتصاعد من الكأس. ورمش الرجل بعينَيه حين انبعث فيهما البخار.

قالت في نفسها وهي تحلُم: «أين؟ إن كان موجودًا، فأين؟»

واستيقظت، وهي تسعُل.

كان الرجل قد قال إنه سيُساعدها. فكيف يُمكنه أن يساعدها؟ كان قد قال لها إنه سيخبرها بالكيفية التي يُمكنها بها أن تساعد دامار. لكن كان يبدو أن دامار لم يكن يروقها أن تساعدها. انقلبت على ظهرها وتمدَّدت حتى استوى حلقُها وصدرها وتسطَّحا؛ أحيانًا كان ذلك يُخفِّف سُعالها. وأخذت تستمع إلى صرير أنفاسها المُغرغِرة؛ كان الهواء لا يزال يخشخش في رئتَيها مهما حاولت أن تتنفَّس أنفاسًا قصيرة. وقالت في نفسها في فتور: «سيقتُلني هذا السُّعال عما قريب، وسيكون ماور قد قتلني في نهاية المطاف.»

«ربما كان بإمكان الرجل الذي أراه في أحلامي أن يَشفيني من سعالي.»

ليت باستطاعتها أن تجدَه. ليته موجود. كانت مُنهكة كثيرًا؛ ولم يكن بوسعها حتى أن تتخيَّل كيف هو شعور ألا تكون مُتعَبة. غلبها النوم ثانيةً، وهي تستمِع إلى أنفاسها تخشخش في صدرها وكأنها أوراقُ شجر جافة، واستيقظت متعبةً. أخذت تُحدِّق في القبة فوق رأسها بضع دقائق، وكانت عيناها تتبَعان الأشكال المُطرَّزة الدقيقة للخيول العادِيَةِ بأعرافِها وذيولها الفائقة الطول، فكانت الأعرافُ تكاد تبدو كالأجنحة، وكان العُشب تحت حوافرها يكاد يكون كالسَّحاب.

لم تترُكها الحُمَّى. ولم تستطِع أن تُغادر فراشها في ذلك اليوم، ولا اليوم الذي تلاه. وجاء تور ليعودَها، وأَبَتْ أن تُكلِّمه؛ إلا أنه جاء ثانيةً، وتذكَّرت أن ثمة شيئًا واحدًا كان يلزمها أن تقوله له. ظلَّ يسألها مِرارًا وتَكرارًا: «ماذا حدث؟»

أخيرًا قالت: «أصابَني دُوار»، لكنها لم تقُل أكثر من ذلك؛ وألجم الصمت لسانَ تور، وهو مُمسك يدَها في يده التي كانت تكاد أن تكون محمومةً مثل يدها.

كانت قد تذرَّعت أمام ماور بأنها كانت مسألةَ حظ فحسب. أكانت كذلك؟ هكذا أجابتها رأسُ ماور.

«إيرين.» كان هذا صوت تور. ما الذي أرادت أن تقوله له؟

«هلَّا … تُنزِل رأسَ ماور عن الجدار … وتضعه … بعيدًا … بحيث لا يراه أحدٌ؟»

فقال مُتلهفًا: «بالطبع. بكل تأكيد. اليوم سيُفعَل هذا.»

ولم تتذكَّر إيرين شيئًا بعد هذا إلا بقليلٍ من الوضوح؛ رأت وجه تيكا منكبًّا عليها، وكذلك وجه تور ووجه أبيها ووجوه آخرين تذكَّرت بصعوبةٍ أنهم المُعالجون الذين لم ينفعوها من قبلُ إلا قليلًا. لم تعرف كم أمضت من أيامٍ أو أسابيعَ وهي على هذه الحال؛ ثم ذات ليلة استيقظت مُجددًا من حُلمٍ واضحٍ جدًّا عن الرجل الأشقر.

«أيتها المرأة الغبية؛ اتركي فِراش موتكِ فيما لا يزال بوسعكِ ذلك، وتعالي إليَّ.»

كانت الكلمات لا تزال تتردَّد في أُذنَيها. فنهضت ببطء. ولبست حذاءها وسروالها وسُترتها؛ وأخذت الحجَر الأحمر من فوق الطاولة إلى جوار سريرها، ودسَّته في جيب قميصها. ونظرت إلى سيفها — سيفِ الملك — المُعلَّق فوق سريرها، ولم تمَسَّه؛ ثم مدَّت يدَها تتحسَّس تبغي عباءتها، ووضعَتْها على كتفَيها. وتعيَّن عليها أن تجلس على حافة السرير ثانيةً من أجل أن تلتقِط أنفاسها.

قالت في نفسها: «لا بدَّ أن أُخبرهم إلى أين أنا ذاهبة. لكنِّي لا أعرف إلى أين أنا ذاهبة.»

نهضت ثانيةً، وتحرَّكت ببطءٍ نحو حجرة الجلوس، إلى المكتب الموجود فيها. كان الحِبر جافًّا؛ فتعيَّن عليها أن تحمِل كوب ماء من فوق طاولة سريرها، وصبَّت فيه الماء من الإبريق، وذهبت به إلى حجرة الجلوس لتُبلل الحِبر؛ اهتزَّت يدها وسكبت معظمَ الماء على المكتب ولم يختلط الحِبر بالماء، بل ظلَّ باهتًا ومتباينَ اللون. سيفي بالغرض. لكن لم يكن يُوجَد شيء تكتب عليه. جلست إلى المكتب، تُحدِّق في سطحه الخاوي، وكأن الورق أو المخطوطات ستظهر من تلقاء نفسها إذا ما انتظرت. ولم يبدُ أنها قادرة على أن تستجمِع أفكارها، لكنَّ يدَها امتدَّت من تلقاء نفسها وتلمَّست مؤخَّر الخزانة الصغيرة للمكتب وسحبت منها شيئًا. كانت تلك هي الرسالة التي كتبها لها تور قبل فترةٍ طويلة، يطلب منها أن تُودِّع جيش الملِك في الصباح التالي.

فقلبت الرسالة وأخذت قلمًا؛ وتساقط الحِبر وجرى على الورقة. كتبت إيرين: «تور. لقد حلمتُ بشخصٍ ربما يُساعدني، وأنا ذاهبة لأبحث عنه. سأعود حين يُمكنني العودة.»

شقَّت طريقها خلسةً إلى الطابق الأرضي ثم إلى الخارج. كانت الممرات الداخلية حالكةَ الظُّلمة، لكنها وجدت أن بإمكانها أن ترى طريقها؛ كان ثمة ضوءٌ فِضي خفيف حولها — أدركت إيرين فجأةً أنها تتوهَّج؛ وللمرة الأولى منذ أن تحدَّث إليها رأس ماور شعرت ببارقة أمل، فأثلج هذا الأمل صدرَها قليلًا، وثبَّت خُطاها.

ولا بدَّ أن أحدًا رآها وهي تقطع الفِناء المفتوح، خاصة أنها أخذت تتوهَّج كالفطريات المُضيئة في شجرة مُتحللة؛ لكن لم يأتِ أحد. وجرَّت سَرج تالات الصغير والخفيف من فوق إسفينه في مواجهة مربطه، لكنها تركت جُلَّ درع الصدر الخاص بالملك كما تركت سيفها. اندفع إليها رأس تالات الأبيض من فوق باب الإسطبل القصير. وتحرَّك مِنْخراه في صهيلٍ صامت ترحيبًا بها، لكنَّه من أيام اشتراكه في القتال استطاع أن يتعرَّف التكتُّم والسِّرية. وتعيَّن على إيرين أن تُكافح من أجل أن تضع السَّرج على ظهره؛ لأنها كانت أضعفَ من أن تستطيع رفْعه؛ لكنها وضعتْه في نهاية المطاف وتقدَّم تالات في إثر سيِّدتِه برفقٍ كأنه عاشق يتقدَّم إلى فِراش محبوبته.

فوجئت إيرين حين اكتشفت أن هذا الوقت من العام كان مُنتصف فصل الصيف؛ لأنها كانت قد فقدت كلَّ إحساسٍ بمرور الوقت حين كانت حبيسة مرضِها. وهمست في أُذنَي تالات المنتصبتَين: «وإن كان ذلك من حُسن حظي.» وكانت تأكل الثمار من الشجر حين كانت تتذكَّر أن تأكل الطعام، وفي الليل نامت مُتكئةً إلى جنب تالات، بينما أرخى هو أنفه على الأرض بالقُرب من ركبتَيه المَثنيتَين. وأحيانًا كان ينفُض ذيلَه في نومه، للتخلُّص من الذباب، الحقيقي وغير الحقيقي، فكانت إيرين تصحو نَعْسى — ولم تكن قَطُّ تنام بعُمق أصلًا — فتشعر بشَعر ذيلِه الحريري ينسال على وجهها كقطرات المطر.

ارتحلا جهةَ الغرب في بادئ الأمر، ثم شَمالًا، فكانت الجبال عن يمينهما وغابات إيردثمار الكثيفة عن شِمالهما، تلك الغابات التي لم تكن قد استُكشِفت بالكامل مطلقًا، والتي كانت تحوي مخلوقاتٍ لم يمنحها أحدٌ اسمًا من قبل. في أوقات السِّلم كان ملوك دامار يُرسلون بعثاتٍ استكشافية لتخوض في أعماق الغابة؛ ذلك أنها كانت تقِف في طريق التجارة الحرة بين مُدن مملكتهم والتقاء تلك المدن بعضها ببعض؛ لكن إيردثمار لم تكن حانيةً على أولئك الذين حاولوا رسم خريطةٍ لها وشقَّ الطرق عبْرها. وزعم أرلبيث أنه مُتيَّم بتلك الغابة. إذ قال: «إنها هادئة، ولا تُسبِّب أي أذًى لعابري السبيل المُتأدِّبين، وتحتفظ بأسرارها. وذلك لو كان كل سكان دامار مُتحضِّرين معها.»

حدَّقت إيرين في الأشجار وهي تسير بالجواد، لكنها لم ترَ شيئًا يُبادلها النظر سوى الظلام. كانت في الأصل قد فكَّرت أن تتَّجِه غربًا لأن غابات إيردثمار بدت المكان البديهي للبحث عن مشعوذٍ غامض يزور الناس في أحلامهم؛ لكن بعدما اجتازا سفوح الجبال أحجم تالات وانحرف شَمالًا، وسمَحت له إيرين بذلك على مضض، ولم تأبَ.

لم يكن ثمة مسارٌ يتَّبعونه؛ فعادا أدراجهما إلى سفوح الجبال، بعيدًا عن الطريق المُعبَّد الذي سلَكه أرلبيث وجيشه للالتقاء بنيرلول، أو الذي يسلكه أيُّ أحدٍ له غرض مشروع حول الحافة الشرقية لغابة إيردثمار؛ لم تُرِد إيرين أن تلتقيَ بأحدٍ يمكن أن ينقل عنها خبرًا إلى المدينة، ولا أن يلحَق بها أحدٌ أُرسِل في إثرها.

وصلا أخيرًا إلى غورٍ في التلال؛ وادٍ صغير غير مميَّز كأوديةٍ كثيرة مثلِه، أرضُه ذات عشب أرجواني كثيف، لم يكن ينمو في المدينة، وبه أشجار قليلة. وكانت الشمس تغرُب حين توقَّفا، ولمَّا رأت إيرين صخرةً تصلح منصَّةً للركوب، فكَّرت في أنَّ هذا مكان مِثالي للتوقُّف أثناء الليل؛ لكنها لم تأتِ على أي حركةٍ تدلُّ على أنها كانت تنوي الترجُّل عن ظهر تالات، وظلَّ تالات واقفًا وأُذناه منتصبتان، غير مكترثٍ باللون البراق، الذي كان يُفضِّله في عموم الأمر عن أي شيءٍ آخر. وعندما اختفت الشمس بدا لإيرين أن الضوء لم يختفِ تمامًا؛ لكن قد يكون ذلك من أثر الحُمَّى.

نظر تالات خلفَه، فحوَّلته ركبة إيرين، وكأنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها، نحو الجبال خلف السفوح — جهةَ الشرق مرةً أخرى؛ وفي الحال وجد تالات المسار الخفي الذي كانت بدايته عند طرَف الغور.

سرعان ما أصبح الطريق شديدَ الانحدار حتى إنَّ إيرين شعرت بالقلق بشأن ساق تالات الضعيفة؛ لكنها حين حاولت أن تنزلِق عن صهوته لتسير إلى جواره هُنيهة كان يتمايَل ويحكُّها في الأشجار التي كانت تنمو قريبةً حولهما، وفي نهاية المطاف توقَّفت عن محاولتها. كان تالات على حق؛ إذ إنَّ تسلُّق التلِّ كان سيجعلها تسعُل. تقدَّم تالات ببطءٍ فكانت قوائمه الأربع تطأ الأرض باعتدال، وركَّزت إيرين على التمسُّك بمقدمة السَّرج بكِلتا يدَيها. وكذلك على التقاط أنفاسها. فمؤخرًا تذكَّرت أنَّ عليها أن تتنفَّس؛ إذ بدا لها أن رئتَيها تُفضِّلان أن تَبقَيا ساكنتَين.

بحلول الفجر شَعرت بدُوار من الحُمَّى والارتفاع والإنهاك، فعلى الرغم من أنها نامت مدة قليلة، إلا أن التمدُّد على الأرض في سكونٍ كان طريقة أسهلَ لتمضية الوقت من التشبُّث بسَرج مائج. وظلَّ تالات يكدُّ في التسلُّق، والعَرق يجري على كتفَيه، رغم أنَّ الهواء كان باردًا. تركت إيرين السَّرج ولفَّت أصابعها الباردة في عُرف تالات لتُدفئها.

وفجأةً استوت الأرض. توقَّف تالات، في عدم تصديقٍ، وقوائمه الأربع كلُّها في حالة تأهُّب؛ ثم عاود سيرَه، وقد انفرجت الأشجار أمامهما، وأصبح المسار الذي كان تالات قد سلَكه بكلِّ ثقةٍ طريقًا مُنبسطًا أمامهما، وفي نهاية طريقٍ قصير كان ثمَّة فناء صغير خاوٍ تحفُّه من جوانبه أعمدةٌ وبه بناء عظيم من حجر رمادي. سار تالات إلى داخل الفناء وتوقَّف. رفعت إيرين يدَها عن عُرف تالات وحدَّقت في الأرض من فوق كتفَيه المُبلَّلتَين وفكَّرت في الترجُّل عن صهوته؛ بعد ذلك كان رجلٌ طويلٌ أصهبُ يقف إلى جوارها. تمنَّت لو أنها انتبهت إلى قدومِه لأنها لم ترَه ولم تسمعه يقترِب؛ لكن تالات لم يرتبك، وتعرَّفت على وجه الرجل من أحلامها. رفع الرجل جسدَها من فوق السَّرج، وفيما تلقَّت ذراعاه وزنها، مرَّت لمحةُ خوف بوجهه، وقال: «فلتسمع الآلهة جميعًا؛ لم يتبقَّ فيكِ شيء.»

وحمَلها إلى داخل القاعة الحجرية، وأسندت رأسها إلى صدره ولم تُفكِّر في شيء. كان حذاؤه ذا نعلٍ ليِّنٍ وخطواته صامتة؛ لكن خشخشة أنفاسها تردَّدت عبْر القاعة وكأنها أجنحة سِرب طيور صغيرة. وضعها الرجل في كرسيٍّ ذي ظهر مرتفع في الجانب الأقصى من القاعة، والتقط قدحًا من فوق طاولة صغيرة، وحدَّق فيه، وتمتم قائلًا: «لا بد أن يفيَ هذا بالغرض» وأعطاها إيَّاه.

أمسكت إيرين بالقدح وهي شاردة، لكن القدح أخذ يتمايل وبدأ ينحني حتى وهي تُمسكه بكِلتا يدَيها، وفي تعجُّبٍ مكتوم مال الرجل عليها وقبض على القدح حول يدَيها. كانت يدُه دافئة كمِثل عُرف تالات، وكان القدح باردًا. سألت إيرين، وهي تنظر إلى وجهه العابس المنحني عليها: «مَن تكون؟»

فأجاب الرجل: «أنا لوث. اشربي.»

أخذت إيرين الرشفةَ الأولى بإذعانٍ كما كانت تشرب الجرعات التي تُحضِّرها تيكا حين كانت بعدُ صغيرة ومُصابة بالحُمَّى. ولم تتذكَّر أنها تناولت رشفةً أخرى.

•••

استيقظت والأغطية الثقيلة تُغطِّيها في سريرٍ ضيق لا حُجُب له. كان السرير واحدًا من مجموعةٍ كبيرة من الأسرَّة مصطفَّة بعضها بجوار بعض على طول ممرٍّ طويل وضيِّق؛ كانت مقدِّمة الأسرَّة مدفوعة إلى جدارٍ به نوافذُ طولية تُدخِل ضوءَ الشمس على مؤخَّرها؛ وبعد الأسرَّة كان يُوجَد ممرٌّ ضيِّق ثم الجدار الذي على الطرَف الآخر، والذي كان أطول من الجدار ذي النوافذ، وكان السقف يتَّجِه نحو الأعلى بزاويةٍ حادة بين الجدارين. أخذت إيرين ترمِش في خمولٍ وهي تنظر إلى الجدار البعيد؛ كان من حجرٍ رمادي خالٍ من النقوش، مثل بقية قاعة لوث. أو أنه لم يكن خاليًا من النقوش. جلست إيرين منتصبةً، وهي تزيل الأغطية وقطَّبت حاجبَيها؛ كانت ثمة صور منحوتة نحتًا سطحيًّا في الجدار الحجري الرمادي، لكنها لم تستطِع أن تُحدِّد ما تُصوِّره تلك الصور: رجال لهم قرون، نساء لهم أجنحة، شجرٌ له أعين تُراقِب. رمشت بعينَيها ثانيةً؛ فقدرتُها على الرؤية لم تكن موثوقةً منذ فترة طويلة.

كانت الحُمَّى قد ذهبت عنها. وشعرت بالضَّعف بقدْر ما شعرت به حين جرجرت نفسها إلى الجدول بعد موت ماور، لكنها شعرت بالسعادة، سعادة رائقة لا معنَى لها مثل سعادة طفل غضٍّ. كافحت مُبتهجةً لتتخلَّص من الأغطية التي كانت تلفُّها، ثم قامت على قدمَيها واهنة، وبدأت تشقُّ طريقَها على طول صف الأسرَّة، وذلك بالتشبُّث بمؤخَّر كلِّ سرير منها؛ كانت جميعها فارغةً وباستثناء سريرها كانت جميعها مُرتَّبة بأناقةٍ وعناية بأغطيةٍ خشنة داكنة وعليها وسادات ملفوفة بقماش ناعم داكن. وصلت إلى مدخلٍ مُقوَّس فنظرت من خلاله؛ كان سُمك الجِدار يجعل المدخل مُظلمًا، لكن خلف المدخل كانت القاعة الكبرى ساطعةً بضوء النهار. كانت ثمَّة نوافذُ مشقوقة على ارتفاعٍ كبير في جدارَي القاعة الكبرى الطويلَين، وكان الجداران نفسهما مُرتفعَين بما يكفي لأن تُطِلَّ النوافذ على أسقف الممرَّات الساكنة؛ ومع ذلك كان السقف من فوق تلك النوافذ مُختفيًا في الظلام.

رآها لوث فعبس. «كان عليكِ أن تنامي مدةً أطول.»

«لا، لم يكن ينبغي أن أفعل ذلك. لقد نمتُ بما فيه الكفاية؛ أشعر بأني …» وانقطعت أنفاسها، فاتكأت على المدخل، وتابعت: «جائعة على نحو مدهش. لم أشعر بالجوع منذ وقتٍ طويل.»

«سأعُدُّ أن في هذا عزائي؛ لكن من المؤكد أنني لم أتعلَّم بعدُ أن أتقبَّل مسألة الحصول على جرعات نومٍ بسيطة. كانت ليلي ستشعر بالحرج منِّي. تعالي وتناولي الطعام إذن.» وراقَبَها وهي تمضي مترنحةً نحوه؛ بدا أن الطريق طويل من باب الغرفة المُخصَّصة للنوم إلى الطاولة الموضوعة أمام المدفئة، وذلك حيث كان لوث واقفًا. كانت يداه مُمسكتَين بالظهر العالي للكرسي الذي وقف خلفَه وهو يُراقبها، لكنه لم يعرض أن يُساعدها. صارت أمام الطاولة في النهاية؛ كانت طاولةً صغيرة وضعيفة، لكن إيرين كانت في غاية الوهن، وحين بسطت كلتا يدَيها على سطحها لتُثبِّت نفسها، حملت الطاولة ثِقلها بسهولة.

رفعت إيرين نظرها إليه وابتسمت ابتسامةَ مُحبٍّ، ابتسامةً عذبة ومشرِقة، لكنها لم تكن موجَّهة إليه؛ نظرت عينُها إلى شيءٍ خفي لم تُدركه هي نفسها، إلا أن قلبه تحرَّك بشكلٍ لم يَرُقه. ردَّ على ابتسامتها بعبوس أشد، فضحكت، وكان صوت ضحكتها يُشبه النقر قليلًا، وكأنه وقْع أقدام فأرٍ على أرضٍ حجرية. «لستُ ضريرة يا سيدي، وإن كنتُ بالفعل أرى الضوء حيث لا يُوجَد إلا الظلام وأرى صورًا غريبة على جدارٍ غُلف؛ وأنا واثقة إلى حدٍّ بعيد أني أراك تعبس في وجهي بغضبٍ شديد، كمُعلِّم في وجه تلميذٍ مُصرٍّ على أن يُسيء التصرُّف. أرجوك أن تُخبرني بما اقترفت.»

«لقد انتظرتِ طويلًا جدًّا أن تأتي إلى هنا.»

تلاشت ابتسامتُها. وقالت: «لم أكن أفكِّر بوضوحٍ منذ مدة … كثيرة هي الأحلام الغريبة التي راودتني.» وفكَّرَت في رأس ماور يتحدَّث إليها من فوق جدار في قلعة أبيها، فتشنَّج وجهها تشنُّجًا عابرًا ورفعت إحدى يدَيها من فوق الطاولة لتُغطيه. وقالت من بين أصابعها: «كان من السهل ألَّا أُصدِّق أن ثمة نفعًا أو جدوَى منها.»

ساد الصمت بينهما؛ وتحرَّكت إيرين وأنزلت يدها من فوق وجهها، لكن كان وجهها لا يزال حزينًا. وسألت تقول: «ماذا عن تالات؟»

«… يتناول الطعام ملء جنبَيه في مرعًى وسط الماشية. ليس هناك ما يدعو إلى أن تخشَي عليه شيئًا.»

«لستُ أخشى عليه شيئًا.» وسألت فجأة: «هل أنا أُحتضَر؟»

«أجل.»

«هل يُمكنك أن تشفيني؟»

تنهَّد لوث. «لستُ متأكدًا من ذلك. أظنُّ ذلك. لم يسبق لي أن …»

قالت في شرود: «لو لم أستمِع إلى رأس ماور، لأتيتُ إلى هنا قبل مدةٍ طويلة. لو لم يُخبرني أنْ ليس باستطاعتي الفوزُ على التنين الأسود؛ لأن ذلك ليس في مقدور أحد، لربما صدَّقتُ أن ثمَّة بقية في حياتي تستحقُّ الشفاء؛ لكنَّني «قاتلة تنانين»، والأدنى شأنًا في أُسرتي، وقد فعلتُ شيئًا عظيمًا، فينبغي إذن أن أموت جرَّاءه.» طفَت كلماتها في الهواء بينهما واهنة، وكأنها خيوط عنكبوت.

قال لوث بنبرةٍ عنيفة: «لستِ الأدنى شأنًا في أُسرتكِ. كانت أمكِ بقدْر سبعة من زوجها، وأنت تتحلَّين بما تحلَّت هي به من شجاعة، وإلا لما حمَلت بكِ، ولَما كنتِ تقفين هنا الآن بعد ما فعله بكِ ماور، وما زال يفعله بكِ.»

حدَّقت إيرين به. «ما زال يفعله بي؟ … لقد علَّقوا جُمجمته في القاعة الكبرى، وقد تحدَّثت إليَّ. كنتُ أقوى بعض الوقت، حتى رأيتها هناك وتحدثَتْ إليَّ.»

«تحدَّثت …؟ كيف يمكن لأحد، ولو بعد مائة جيل، أن يكون غبيًّا لدرجةِ أن يعود برأس التنين الأسود غنيمةً ويُعلِّقها على جدار ليُحملق فيها الناس؟ لا شك …»

«طلبتُ منهم أن يزيلوها، إلى حيث لا يمكن لأحدٍ أن ينظر إليها ثانيةً.»

دار لوث حولَ الطاولة مرتَين قبل أن يقول شيئًا. «أنتِ بالفعل قاتلة تنانين. إنهم لا يعرفون كم هم محظوظون لأنهم حظُوا بكِ. أنهم حظُوا بكِ من الأساس. وأنا أحمقُ بما يكفي لأن أرغب في إعادتكِ إليهم.»

فكَّرَت إيرين في نفسها: ابنة الساحرة. لكنني أخبرتُ تور أنني سأعود حينما أستطيع.

جلس لوث ضَجِرًا. «لقد جلستُ بالأعلى هنا وقتًا طويلًا للغاية؛ وإنه لأمرٌ سارٌّ، فلا أحد يتطفَّل. ربما من الممكن أن ننسى بعد مائة جيل.»

«أكنتَ تعرف أمي؟»

«نعم.»

لم تكن إجابة، ولم تكن بنبرةٍ تشجِّع على طرح المزيد من الأسئلة. أطرقت إيرين، ولاحظت أن ثمة خبزًا وفاكهة على الطاولة التي اتكأت عليها، فالتقطت حفنةً من التوت الأحمر وبدأت تأكُل منها، واحدةً تلوَ الأُخرى.

قال لوث، بعد أن انتهت من آخِرِ حبةِ توت وبدأت تقضِم قطعةً من الخبز: «كانت تُشبهكِ، لكنها كانت أصغر حجمًا. كان العبء الذي كانت تحمِله على كاهلها مختلفًا عن عبئكِ، وكان قد أثقل كاهلها سنواتٍ طويلة. حين عرفتُها كانت قد نسِيَت البهجة، وإن كنتُ أظنُّ أن أرلبيث أعاد إليها قليلًا منها.»

بدا أن صوت إيرين الخفيض الأجشَّ يأتي من الجدران الرمادية العالية وليس من الجسد النحيف المُنحني على الطاولة أمامه حين قالت: «يُشاع في المدينة أنها ماتت قنوطًا حين عرفت أنها ولدت أنثى وليس ذكرًا.»

أجابها لوث بنبرةٍ هادئة: «هذا صحيح على الأرجح». «كانت تتحلَّى بقدْرٍ كبير من الشجاعة، ولكن بمخيِّلةٍ صغيرة؛ وإلا لَما نسيت البهجة، مهما كان عبئها ثقيلًا، وقد كان عبئها ثقيلًا جدًّا بالفعل.»

«أكان عبئًا يمكن لذَكَرٍ أن يرفعَه عن كاهلها؟»

«إنه عبء يمكن لأي أحدٍ من دمِها ويتحلَّى بشجاعتها أن يَحمله.» قال وقد علَت نبرته: «سحقًا لكِ. ألم تستطيعي أن تُفرِّقي بين الرؤيا وبين حُلم خبيثٍ سمَّمه تنين.»

أجابته: «لا شك في أني لم أستطِع» ونظرت إليه مباشرةً رغم أنها كانت تتكئ على الطاولة. وأكملت: «إن كان الأمر بهذا القدْر من الأهمية، وكان التنين بهذا الخبث والمكر حتى وهو ميِّت، فلمَ لم تأتِ لتأخُذني؟»

سكت كلاهما قليلًا، ثم ابتسم لوث ابتسامةً خفيفة. «لن أحاول أن أُرهبكِ ثانيةً.»

«لمْ تُجِب عن سؤالي.»

«لا أرغب في الإجابة عنه.»

لم تستطِع أن تتمالك نفسها، وضحِكت؛ إذ كان يُشبه إلى حدٍّ كبير طفلًا مُتجهِّمًا. وتردَّدت ضحِكتها في الأرجاء، صافيةً وطليقة، كما لم تضحك منذُ أن سمِعت اسم ماور أول مرة.

نظر إليها لوث مُتعجِّبًا. «أجل، أعتقد أن بإمكاني شفاءكِ. لا يُمكنني أن أُصدِّق أنني يمكن أن أفشل.»

قالت هي: «يسرُّني سماع ذلك»، ووجدَت نفسها مندهشةً من أنها نطقت بالحقيقة، والتوى فمُها بابتسامةٍ ظريفة. «يسرُّني هذا.»

وبينما راقبَها لوث، كان يعرف الحقيقةَ وراء كلماتها والمفاجأة التي تسبَّبت فيها تلك الكلمات لها. سارت إيرين حول الطاولة حتى وصلت إلى كرسيٍّ آخرَ واستقرت فيه بخفَّة؛ وارتخى جَفناها فيما كانت لا تزال الابتسامة مرسومةً على شفتَيها وراحت في غفوةٍ خفيفة كغفوة قعيدٍ لا أملَ في شفائه، وارتخت على جانب كرسيِّها وأخذ لوث يُراقبها في نومِها كما كان يفعل تور، وكانت أفكارهما مُتشابهةً كثيرًا. لكن كان لدى لوث اختيار، وهو اختيار لم يكن يروق له؛ لكنه كان اختيارًا لا بد أن يبتَّ فيه عما قريب. وحتى وهو يُفكِّر في هذا الاختيار، كان يعرف أن القرار كان قد اتُّخِذ بالفعل. لكنه لم يكن في عجلةٍ حتى تستيقِظ إيرين مُجددًا، وحينها سيفعل ما يتحتَّم عليه فعله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤