الفصل الثامن عشر

بعد هذا، أصبح الشتاء قصيرًا فجأة، رغم الكوابيس عن رجلٍ يرتدي عباءة حمراء وله عينان ألمع من عيون التنانين. وذاب الثلج مبكرًا جدًّا، ومبكرًا جدًّا أيضًا خرج أول البراعم المُغلقة من الأشجار، وفارقت أولى البواكير الأرجوانية الزاهية عشبَ العام الماضي الجاف. وكان ثمَّة رائحةُ أريج عبقة في الجو، وظلَّت إيرين ترى أشياء في الظلال عند آخرِ ما يمكن لبصرها أن يبلُغ، وتسمع ضحكاتٍ عاليةً جدًّا بحيث لم تكن تستطيع أن تجزم أنها لم يكن يُخيَّل إليها. وفي بعض الأحيان حين كانت ترى تلك الأشياء أو تسمعها كانت تلتفت بسرعةٍ لتنظر إلى لوث، الذي غالبًا ما كان يُحدِّق في نقطةٍ متوسطة البُعد وترتسِم على وجهه ابتسامةٌ مُبهمة بلهاء.

قالت إيرين: «أنت لستَ وحدَك تمامًا هنا، أليس كذلك؟» وفوجئت بأنها شعرت بشيءٍ ظنَّت أنه غيرة.

أعاد لوث تركيزَ انتباهه لينظر إليها نظرةً جادة. «لا. لكن … أصدقائي … في غاية الخجل. هم أسوأ خجلًا منِّي.»

أجابته إيرين: «سأُغادر عما قريب على أي حال. عما قريب سيعودون إليك.»

لم يردَّ عليها لوث من فوره. «أجل. عما قريب.»

أخرجت إيرين سَرج تالات والعُدة ونظَّفت كلَّ شيءٍ ودهنت الجلد بالزيت؛ وبناءً على طلبٍ منها قدَّم إليها لوث قماشًا ثقيلًا وقِطَعًا جلديةً نحيلة، فجهَّزت درعًا جلديةً بسيطة، ذلك أن غارب تالات كان هزيلًا على أن يحمل سَرجًا بصورةٍ موثوقة. كما صنعت أيضًا جرابًا جلديًّا صغيرًا لتحمِلَ فيه حجر التنين، الذي كان موضوعًا تحت زاوية من فراشها، وعلَّقت الجراب في رقبتِها بشريطٍ جلدي. ثم أمضت ساعات وساعات تُمشِّط تالات فيما أخذ شَعْر الشتاء يرتفع من حولهما كالسَّحاب وكان تالات في أثناء ذلك يُبدي بوجهه تعبيراتٍ شنيعةً تعبِّر عن النشوة والابتهاج.

ذات مساء دخلت إيرين إلى القاعة الرمادية عند الغسق وهي تقطر ماءً بعد أن أسقطت قدرًا كبيرًا من الشَّعر والغبار في الحمَّام، ووجدت لوث يزيل الأغطية عن سيف. كان القماش أسودَ ومُهترئًا وكأن ذلك بسبب قِدَمه، لكن غمد السيف كان يلمع بلونٍ أبيضَ فضي، وكانت الجوهرة الزرقاء الكبيرة المُثبَّتة في مقبض السيف برَّاقة كالنار. تنهَّدت إيرين في انبهارٍ وهي آتية من خلفه.

التفَت لوث إليها وابتسم، وقدَّم إليها مِقبض السيف وهو يمسك به في قطعة من القماش الأسود الرث. أمسكت به إيرين من دون تردُّد، وكان ملمسه ناعمًا كالزجاج، وبدا أن مقبضه يُناسب يدَها تمامًا. وحرَّرت إيرين السيف من الغِمد فبرق في الحال بريقًا شقَّ أبعدَ بقعةٍ مُظلمة في قاعة لوث الدائمة الظُّلمة، وبدا وكأن صدى قصفٍ شديدٍ أصَمَّ المرأة الحمراء الشَّعر والرجل الأشقر الطويل؛ إلَّا أن أيًّا منهما لم يسمع شيئًا. ثم بدا السيف مجردًا، يتلألأ بضوءٍ خافت في ضوء النار وبه جوهرة كبيرة زرقاء عند قمَّة مِقبضه.

قال لوث: «بلى، كنتُ أميل إلى الظن أنه لكِ. قال جوريولو إنني سأعرف حين يحين الوقت. الغريب أنني لم أُفكِّر فيه في وقتٍ أبكر؛ لن تَجِدي حليفًا لك أمام أجسديد أفضلَ منه.»

«ماذا — مَن هو؟» هكذا قالت إيرين وهي تُمسك بطرَفه باستقامةٍ حتى يجري ضوء النار على طول نصلِه وكأنه ماء.

قال لوث: «اسمه جونتوران. وجدتُه … قبل وقتٍ طويل … في أسفاري نحو … الشرق. قبل أن أستقر هنا. وإن كنتُ أُرجِّح أن يكون قد دعاني إليه؛ فلم يكن ثمَّة سببٌ وجيه لأن تتملَّكني رغبةٌ في أن أنطلق في رحلةٍ طويلةٍ نحو الشرق. فلم يكن من طبعي حبُّ السفر.»

سألته إيرين قائلة: «دعاك إليه؟» وإن كانت لا تجد أيَّ صعوبة في تصديق أن هذا السيف بعينه يمكن له فِعل أي شيء، كأن يقفز أعلى من القمر، أو أن يُحوِّل نفسَه إلى قوةٍ ماحقة، أو أن يتحدَّث بأحاجٍ يمكن أن تكون نبوءات.

فأجابها لوث: «تلك قصة طويلة.»

أبعدَتْ إيرين عينَيها عن السيف مدةً طويلة بما يكفي لترمقه بنظرة سخط واستياء.

وأكمل: «سأقصُّها عليكِ يومًا»، لكن صوته لم يكن مُقنعًا.

قالت إيرين في هدوء: «سأُغادر عند غرة القمر التالي.»

وقال لوث: «أجل»، قالها بنبرةٍ ناعمة للغاية حتى إنها لم تسمعه، لكنها عرفت أنه لا بد أن يوافق؛ وانزلق جونتوران كالحرير في غِمده. وقَفا لا ينظُران إلى أي شيء، وأخيرًا قالت إيرين مُمازحة: «مِن الجيد أن أحظى بسيف؛ فقد تركتُ سيفي في المدينة، ذلك أني أقسمتُ عليه بخدمة الملك وشئونه؛ مع أن أرلبيث لو عرف بأمر أجسديد لأقرَّ بأنه من شئون الملك.»

فقال لوث: «سيفعل؛ لكنه ما كان ليُقرَّ البتَّة بأنه شأنكِ، حتى ولو عرف القصة بأكملها. أرلبيث رجل فاضل، لكنه … تقليدي. لكن جونتوران سيُرافقكِ، وهو أفضل من عصبةٍ من فرسان دامار.»

وقالت إيرين: «وأسهل في إطعامه.»

•••

فقال لوث: «يجب أن تنطلقي جهة الشمال. جهة الشمال والشرق. أظن أنكِ ستجدين الطريق.»

وقف تالات ساكنًا فيما كانت إيرين تربط آخرَ حُزمةٍ خلف سَرجه، لكنَّ أُذنيه كانتا تنطِقان بنفاد صبره. قالتا إن المُقام كان سارًّا وسائغًا، وإنهما سيسُرُّهما أن يعودا في يومٍ ما؛ لكن الوقت قد حان لينطلقا الآن.

ربطت إيرين حِزامًا بأن سحبته للمرة الأخيرة ثم التفتت إلى لوث. كان لوث يقف إلى جوار أحد الأعمدة أمام قاعته. حدَّقت إيرين وثبَّتت نظرَها على سُترته المفتوحة الرقبة حتى لا تُضطَر إلى رؤيةِ أشعة شمس الربيع اللطيفة المُشرقة وهي تتراقَص في شَعره؛ لكنها وجدت نفسها تُشاهد نبضًا صغيرًا سريعًا ينبِض في جوف حلقه، ومن ثمَّ حوَّلت انتباهها إلى كتفه اليسرى. قالت: «وداعًا. وشكرًا لك. أممم»

امتدَّت نحوها الذراع المتصلة بالكتف التي كانت تنظر إليها، وكانت منهمكة كثيرًا في ألا تفكِّر بشأن أي شيءٍ آخر حتى إن قبضة تلك الذراع أمسكت بذقنها قبل أن تُفكِّر في جفول مُبتعدة. وبذلت اليد جهدًا نحو الأعلى فانثنت رقبتُها على مضضٍ نحو الخلف، لكن عينَيها كانتا مثبَّتتَين على ذقنه وظلَّتا كذلك.

قال لوث: «مهلًا، هذا أنا، أتذكُرينني؟ ليس من المسموح لكِ أن تتظاهري بأنني لستُ موجودًا إلا بعد أن تُغادري جبلي.»

رفعت عينَيها والتقت بعينَيه؛ فابتسمت العينان الزرقاوان للعينَين الخضراوين المُحتجِبتَين. أرخى لوث يده وقال ممازحًا: «لا بأس، افعلي ما يحلو لكِ. أنا لست موجودًا.»

كانت قد أشاحت بوجهها بالفعل، لكنها التفَتت له حين قال ذلك، فطوَّقها بذراعَيه ووقفا هكذا بينما سطعت الشمس على جسدَيهما الساكنَين وعلى الجواد المُتملمِل.

حرَّرت إيرين نفسها في نهاية المطاف وألقت بنفسها على سَرج الحصان فكانت بطنها إلى السَّرج ودارت بساقها على عجَل من الخلف فضربت حُزمة من أمتعتها بحذائها إثرَ ذلك. فنخَر تالات.

قال لوث من خلفها: «عودي إليَّ.»

فقالت صوب أُذنَي تالات: «سأفعل»، وبعد ذلك مضى تالات يهرول بخفَّة على الطريق. وكان آخِر ما رأى لوث منهما هو لمعة زرقاء شاردة من قبضة السيف.

•••

بدا وكأن الربيع يتفجَّر من حولهما في كل مكانٍ وهما يمضيان، وكأن حوافر تالات الصغيرة المستديرة تضرب في الأرض خضرة؛ وكأن آخرَ شعرات طبقة شَعره الشتوية البيضاء تبثُّ في الأرض سِحرًا عندما تلمِسها. وحين كانا ينامان، كانا ينامان في فُرجٍ شجرية صغيرة بدأت الأوراق تُزهر فيها للتو؛ لكن في الصباح وبطريقةٍ ما تكون الأوراق متفتحة وثقيلة من كثرة نُسغها؛ حتى العشب الذي ترقد عليه إيرين كان يزداد كثافة أثناء ساعات الليل. وبدا أن تالات يزداد شبابًا يومًا بعد يوم، فكان لونه الأبيض اللامع يتألق في ضوء الشمس، وكان يعدو المِيل تلوَ الآخر بلا كلل؛ وكانت الطيور تتبعهما كما كانت الأوراق تتفتح لهما والزهور تبث عبيرها من حولهما. رأت إيرين كلَّ ذلك وتعجَّبت، وظنَّت أنها يُخيَّل إليها أشياء؛ وقد لا يكونُ هذا تخيُّلًا؛ لكن الشمس أنبأتها بأنهما كانا يتَّجِهان شمالًا بثباتٍ وانتظام، وذكَّرها ملمس جونتوران الصلب في يدها بسبب ارتحالهما.

كانا في بداية الرحلة قد نزلا إلى سهل الغابة حين تركا لوث، ثم انعطفا يمينًا — أو جهة الشَّمال — في سفوح التلال؛ وهنا كان العشب ينمو حتى ركبتَي تالات، فكان يتعيَّن عليه أن يشقَّ طريقَه خلالَه بصعوبة محدثًا صوتَ اندفاع كأنه مقدمةُ سفينة تمخُر عُباب البحر. أمامهما كان العشب أرفع؛ وخلفهما رأت إيرين، حين التفتت لتنظر، أن العشب كان أعلى نموًّا في المسار الذي سلكاه، وكان العشب يتموَّج من ذلك المسار بموجات مُتقوِّسة عريضة. ضحِكت إيرين. وقالت في نفسها: «أعتقد أننا نرتحل ومعنا رفقة في نهاية المطاف، وإن اختارت الرفقة أن تلزم الصمت.» نصب تالات أُذنَيه جهة الخلف ليستمع إليها.

لكن سرعان ما صعدا إلى الجبال ثانيةً، وهناك كان الربيع يلقى صعوبةً أكبرَ في أن يتبَعهما، وإن كان قد استمرَّ في محاولة ذلك. ولم تكن إيرين تُدرك شيئًا عن وجهة تالات مثلما لم تكن تُدرك شيئًا عن ذلك حين انطلقا يبغِيان الوصولَ إلى لوث؛ إذ كان كلاهما يعرف إلى أين كانا يتجهان كما أن وجهتهما كانت تجذبهما؛ وخلفهما كان الربيع يحثُّهما على المُضي قُدمًا. أخذا يمضيان أعلى وأعلى، فكانت الشمس تشرق فوق رأسيهما وتغيب خلف ظهريهما، ولم تَعُد الأرض من تحتهما عشبية؛ بل صارت صخرية، فأخذت حوافر تالات تجلجل وتصدِر رنينًا حين تدبُّ على الأرض.

حين مسَّت حوافر تالات الأرض الصخرية أول مرة، أصدرت دقاتُها تنبيهًا شديدًا؛ بدا أن الحوافر تقصف بأصوات الهلاك والفقد والإخفاق، وأجفل تالات من وقْع أقدامه. فقالت إيرين: «ترهات»، ونزلت عن صهوته، مُمسكةً جونتوران في يدها؛ ثم لوَّحت به فوق رأسها وإلى الأسفل، ثم طعنت به المسارَ من تحتها، ولم يكن المسار صخريًّا على الإطلاق بل كان ترابيًّا؛ وبينما سحبت نصل السيف خارج الأرض ثانيةً، كان هناك بعض سُوق الأعشاب الصغيرة المسحوقة بالثقب الذي أحدثتْه بالسيف. ركعت إيرين على رُكبتها، والتقطت حَفنة من التراب والحصى من قطعة الأرض الصغيرة التي تفتَّتت تحتها؛ وألقت بالحَفنة على المسار الصخري من أمامها بقدْرِ ما أمكن لذراعها أن تقذف؛ وبينما كانت الحَفنة التي ألقتها تتفتَّت، أخذت أجزاؤها تُومِض. ثم ألقت بحَفنة أخرى بعد الأولى؛ وحين ألقت بتلك في الهواء كانت رائحتها كرائحة أوراق نبتة سوركا مسحوقة، ولما نظرت أمامها رأت شُجيرة رمادية هزيلة تحمل أوراقًا خضراء، وكأن عينَيها غفلت عنها وحسْبُ في المرة الأولى؛ وفي الجزء الأعلى من فروعها ظهر عصفور، وكان العصفور يُغرِّد؛ وحول أسفل الشجرة نما برعمُ نبتة سوركا؛ الأمر الذي فسَّر وجودَ الرائحة النفَّاذة الثقيلة في الجو.

قالت إيرين بنبرة جافة: «يا له من مكانٍ يبعث على السرور»، لكن بدا أن كلماتها قد سُحبت بعيدًا وتردَّد صداها في مكانٍ ضيِّق لم يكن المكان الذي تقِف فيه. أحكمت قبضتها قليلًا على مقبض جونتوران، لكنها رفعت ذقنها وكأنَّ هناك احتمالًا بأن أحدًا ما كان يُراقِبها، وعادت تعتلي صهوة تالات. والآن صارت حوافره ترنُّ في مرَحٍ وابتهاج، وكأنها دقات حوافره على الطرق الصخرية في المدينة؛ وكان هناك عشبٌ ينمو في شكل خُصَل بين الصخور، وبعض الأزهار البرية مُتعلِّقة بالشقوق والصدوع فوق رأسيهما.

وزاد شعورها بأنَّ هناك مَن يُراقبها أثناء تقدُّمهما، إلا أنها لم ترَ أحدًا، عدا ليلًا ربما، حين بدا أنَّ هناك خشخشةً أكثرَ مما كان عند وجودهما في السهل، كما كان هناك المزيد من الومضات الخاطفة التي ربما كانت عيونًا. وفي الليلة الخامسة منذ أغمدت جونتوران في الأرض، والثانية عشرة منذ رحلت عن لوث، وقفت إيرين قُرب النار ونادت في الظلام: «فلتأتِ إذن، ولتُخبرني بما تريد.» فزِعت من صوتها؛ لأنه بدا وكأنه يعرف ما يفعل، وكانت هي واثقة تمامًا من أنها لم تكن تعرف ما تفعل؛ ومن ثمَّ ترنَّحت وكادت تسقط حين أتاها بالفعل شيءٌ بعد بضع دقائق، وضغط على الجانب الخلفي من فخذَيها. لم تتحرك؛ ورأت أمامها ومضات أزواج كثيرة من الأعين تقترِب منها، تقريبًا عند نفس مستوى ارتفاع مخلوقاتٍ بحجم المخلوق الذي ضغط على ساقيها. كانت ذراعاها متقاطعتَين على صدرها؛ وفي تردُّد لا نهائي أرخت مِرفقها الأيمن وتركت يدها تتدلَّى خلف ظهرها على ساقها، وهنا شعرت بأنفاس المخلوق. أغمضت إيرين عينَيها ثم فتحتهما ثانية في صرخةٍ لاإرادية حيث مرَّ لسانٌ خشن للغاية على ظهر يدِها. ثم تغيَّر الضغط على ساقِها بعض الشيء بفعل وزن المخلوق، ثم ضغطت جمجمة مستديرة على باطن يدِها.

نظرت خلفها إلى أسفل منها في خوف، فبدأ الشيء الشبيه بقطةٍ كبيرة يُخرخر، وكان أحد حيوانات الفولستزا البرية الجبلية، التي كان بإمكانها أن تحمِل خروفًا كاملًا أو أن تُسقِط حصانًا. قالت إيرين وهي ترتعش: «يُسعدني التعرُّف إليك. على ما أظن.»

كانت عيناها قد أصبحتا أكثرَ اعتيادًا على الظلمة، وفي الظلام كان بإمكانها الآن أن ترى المزيدَ من الفولستزا، عشرة، دَزينة، ستة عشر، عشرين؛ كانت تجوب الشجيرات من دون كللٍ بينما تقترِب منها؛ لأنها، مثل القطط، أيًّا كان حجمها، لم ترغب في أن تُظهِر أنها تقترب منها؛ وكانت كلها تفعل ذلك عدا تلك التي أدفأت فخذ إيرين اليُمنى وأصابتها خرخرتها برعشة. في آخر الأمر جلست قطط الفولستزا أمامها في دائرةٍ غير مُكتملة، وعيونها ترمِش بألوان الأخضر أو الذهبي أو البُني، أو تنظر في الأرجاء وكأنها لا تستطيع أن تستوعِبَ كيف وجدت أنفسها في ذلك المقام. كان بعضها يجلس جِلسةً أنيقة، فكانت أذيالها ملتفَّةً حول أقدامها الأربع؛ وكان البعض الآخر يجلس مُمَدَّدًا كالقطيطات. وجلست واحدة أو اثنتان منها موليةً إيرينَ ظهرها. كانت مُختلِفة الأحجام؛ منها الصغير الذي لم يكتمِل نموُّه بعدُ ليصل إلى أقصى طول لسيقانه وحجم أقدامه، ومنها الذي أصبح خَطمه رماديًّا لتقدُّمه في العمر.

قالت إيرين: «في الواقع، أنا واثقة من … أنني مُمتنَّة لرفقتكم. إن كان أجسديد يُسبِّب لكم المتاعب أيضًا، فأنا واثقة من أنكم ستكونون مُفيدين في … لقائنا.»

وكأن حديث إيرين ذلك كان إشارة إليها، قامت القطط، وأخذت تقترب نحو نار التخييم الصغيرة، حيث أرجع تالات أُذنَيه المُسطَّحتَين للخلف نحو جمجمته وأخذ يدور بعينَيه حتى بدا بياضهما. فقالت إيرين في ارتباك: «كلَّا؛ أميل إلى أن أظنَّ أنهم أصدقاؤنا، ألا تظن ذلك؟» ثم نظرت إلى الأسفل نحو المخلوق الذي لفَّ نفسه بين ساقَيها (كان عليه أن يدفس نفسه قليلًا ليتمكَّن من فِعل ذلك) وأخذ يفرُك رأسه في مودَّةٍ وحنان في فخذها.

كان هذا هو الأكبر بين المجموعة كلِّها. أما البقية فكانوا يتَّخِذون مواضعَهم حول النار، فتكوَّم بعضهم فوق بعض، وتكوَّم بعضهم على نفسه في حلقاتٍ ودوائر. أما هذا الذي كان يجلس الآن ويُحدِّق في إيرين فكان أسودَ اللون، وله عينان صفراوان، وأذنان قصيرتان مُستدقَّتان حولهما أهدابٌ من شَعر أسودَ طويل ودقيق؛ وعلى رقبته وظهره كانت ثمَّة بقعٌ رمادية بلونٍ داكن تتناثر على كتفَيه وعَجُزِه. رأت إيرين الاختلاج في عين المخلوق وثبَّتت نفسها في الوقت المناسب حين وثب على قائمتَيه الخلفيتَين ووضع قائمتَيه الأماميتَين على كتفَيها. وكانت أنفاسه تمرُّ على وجهها في لُطف، وداعب طرفا شاربِه وجنتَيها. وبدا المخلوق خائبَ الأمل قليلًا حين ظلَّت جالسةً وبادلتْهُ التحديق؛ فنزل على قوائمه الأربع ثانيةً وأخذ يخطو في صمتٍ على فراشها واستلقى مفرودَ الجسم مُتهيِّئًا بالقُرب من النار. وأخذ يُعدِّل الفراش بخُفِّ إحدى قائمتَيه الأماميتَين كما يروقُه، ثم استلقى عليه مُمدَّدًا وابتسم لها.

نظرت إليه إيرين. ثم نظرت حولها؛ كانت القطط الأخرى تُراقِب باهتمامٍ بعيونٍ ضيِّقة، لِما بها من تراخٍ وكسل؛ ولم يكن أيٌّ منها يُدير ظهره لها الآن. نظرت إيرين إلى تالات الذي تراجع حتى أصبح عَجُزه وذيله المفرود يضغطان على إحدى الأشجار، وكانت أُذناه لا تزالان مُسطَّحتَين على جمجمته. ونظرت في تلهُّف إلى جونتوران، الذي كان يتدلَّى من الشجرة على الجانب القصيِّ من النار، حيث وضعته حين بدأت في إعداد المُخيَّم. التمع جونتوران تحت نار المُخيَّم، لكن إيرين ظنَّت أنه يُخادعها حتى كما فعلت الهرة الكبيرة، وعرفت أنه لا عون هناك.

قالت إيرين جهرًا: «حتى الحليف يجب أن يعرف قدْرَه»، وأجفلها ثانيةً كم بدا صوتُها حازمًا وقاطعًا. ومشت في شموخٍ إلى بطانيتها والقط الذي عليها، وأمسكت بحافة البطانية وجذبتها. تدحرج القط دورةً كاملة وقام ثانيةً مذهولًا، لكن إيرين لم تتوقَّف لتُشاهد ذلك. لفَّت بطانيتها حول كتفَيها، والتقطت الربطة التي كانت تستخدِمها وسادةً لها، وهيأت نفسها للنوم عند ساق الشجرة التي تقع على الطرَف القصيِّ من النار، بحيث كان مقبض جونتوران في متناول يدِها. رقدَت إيرين مُولِّيةً ظهرها للنار، وأخذت تُحدِّق بعينَين مفتوحتَين على اتساعهما إلى جذر الشجرة المُتمعِّج أمامها.

ولم يحدُث شيء.

لم يكسِر الصمت سوى صوت فرقعات النار الضئيل، وحتى هذه الفرقعات تلاشت في آخرِ الأمر وحلَّ ظلام تام. قالت في نفسها إنها ينبغي أن تُبقي على النار مشتعلة؛ فمن يدري ما الذي يترصَّد في الأرجاء؟ مَن يدري … لكن الكوابيس استحوذت عليها وغلبَها النوم؛ ومن جديدٍ كانت عالقةً في اللامكان، إلا أن ذلك اللامكان كان مُضاءً بضوء أحمرَ داخن، وكان ثمة صوت يُنادي باسمها؛ أو ظنَّت أنه يُنادي باسمها، لكن ربما كانت الكلمة هي كلمة «خال».

استيقظت عند الفجر وهي تشعُر بتشنُّجٍ في جنبها؛ لأن رأسًا ثقيلًا ذا فراءٍ أسودَ كان يستلقي على التجويف بين آخرِ أضلاعها وحوضها. وبينما تقلَّبت إيرين بدأ المخلوق يُخرخر. ومع ذلك جلست إيرين وتفرَّسته. وقالت: «أنت مُريع»، فابتسم لها المخلوق الابتسامةَ الناعسة نفسها التي كان قد ابتسمَها لها حين حاول أن يَستوليَ على فِراشها.

كان تالات يغفو بصعوبة، وهو لا يزال مُستندًا إلى الشجرة، وكان على وشْك أن يغضب حين ذهبت إيرين تضع عليه السَّرج؛ لكن ربما كان سبب ذلك هو ظلها ذا الأرجل الأربع الرمادية الذي أحضرته معها. انطلقت إيرين فوق صهوة تالات دون أن تنظر خلفها؛ لكنها شعرت، وإن لم تسمع، بحركةٍ رشيقة تتبعُها؛ إذ كان القط الأسود يعدو إلى جوارهما بقدْرِ ما يستطيع، وكان في أثناء ذلك يتقافز على الصخور فوقهما حين يضيق الطريق. وقد قفز مرةً فوقهما من فوق صخرة مُسطَّحة في أحد الجوانب إلى عروة على الجانب الآخر، فأمطرهما بإبرٍ صغيرة حادة وأغلفة بذور؛ وحين عاود الانضمام إليهما انعطف تالات فجأةً وحاول عضَّه، لكنه لم يفعل سوى أن ابتعد عن الطريق. وكان يبتسِم ثانيةً. غمغمت إيرين: «لا تسمح له بأن يُثير حفيظتك.» ظلَّت أُذن تالات متجهةً إلى الخلف طوال اليوم، وكانت ساقُه الضعيفة قاصرة بعض الشيء، لأنه لم يستطِع أن يسترخيَ.

في اليوم التالي لحِقت بهم مخلوقات اليريج، وهي كلابٌ برية شعثاء لها أطواقٌ عظيمة حول رقبتِها وسيقان حريرية خفيفة وأذيال طويلة مُنثنية. كانت تلك الكلاب أقلَّ إفزاعًا قليلًا من الفولستزا، والسبب الوحيد لذلك أن إيرين كانت مُعتادة على كلاب الصيد الملكية، التي لم يكن حجمها يزيد عن نصف حجم اليريج. أما قطط الحظائر الملكية التي كانت تصطاد الفئران التي تحاول اجتياح صناديق الحبوب فكانت بالكاد عُشر حجم قطط الفولستزا.

كانت قائدة قطيع اليريج ذات عينٍ واحدة وأذن مُمزقة. وقد مسَّت ركبةَ إيرين برفقٍ بأنفها، ثم رفعت رأسها لتُحدِّق بشراسةٍ في وجه إيرين. قالت لها إيرين: «أرحِّب بكِ»؛ وافترشت الكلاب المرافقة لها أحدَ جانبَي نار المُخيَّم، أما القطط، التي تظاهرت بأن الكلاب لم تكن موجودة، فقد وجدت جميعًا نفسها بطريقةٍ ما تتَّخِذ الجانبَ الآخر من النار؛ وفي تلك الليلة نامت إيرين في دفءٍ كبير؛ فقد كانت هناك قطة عند أحد جانبَيها وكلب على الجانب الآخر.

ظلُّوا يرتحلون جهةَ الشمال والشرق، وظلَّت الشمس تشرق أمامهم وتغرُب من خلفهم، لكن بدا لإيرين، وهي تقود جيشها الصامت، أنَّ الشمس كانت تُشرق بوتيرةٍ أبطأ وتغرُب أبكرَ كل يومٍ عن اليوم السابق؛ وبينما كانت الأشجار لا تزال تكتسي بأوراقٍ يافعة من أجلها، كان عددُها الآن أقلَّ، وظلَّ الصوت الوحيد الذي هو صوت حوافر تالات ذات الحدوة يخفُت أكثرَ فأكثر. وكانت إيرين بين الحينِ والآخر تُفكِّر بحزنٍ في بحيرة الأحلام، وفي قاعةٍ رمادية تنتصِب على مقربةٍ منها؛ لكنها كانت تُبعد هذه الأفكار عن ذهنها بمجرد أن تعيَها.

ثم أتى يومٌ كان فيه الفجر لا يعدو أن يكون تخفيفًا من الظلمة، وكانت الغيوم متدنِّية كثيرًا حتى إن الأمر تطلَّب إرادةً كبيرة لتقف إيرين خلالها مُنتصبةً ولا تنحني تحت وطأتها. وقالت لمن كانوا يتبعونها: «عمَّا قريب»، وسرعان ما ارتدَّ صدى صوتها إليها كدمدمة حناجر كثيرة.

سار تالات ذلك الصباح وكأن كلَّ مفصلٍ في جسده كان يؤلِمه، وكانت إيرين تمتلك من الرغبة ما يكفي لأن تتقدَّم ببطءٍ؛ إذ كانت تسمع ثرثرةً ضئيلة وزمجرة وتُعوِّل على أطراف ذهنها، وبدا أن ضبابًا أحمرَ يغشى عينَيها، وكأنَّ العدم الذي لم يُفارق لياليها استطاع أن يجدها في النهار؛ فتمتمت بكلمةٍ كان لوث قد علَّمها إيَّاها، فتوقفت الأصوات وانقشع الضباب. لكن لم يُتَح لها الاستمتاع بهذا النصر الصغير طويلًا؛ لأن صوتًا واحدًا الآن كان يتمتم لها، وكانت تمتمتُه تُذكِّرها بأصلها الشمالي الشيطاني … صاحت إيرين: «لا!» وانكفأت إلى الأمام لتدُسَّ وجهها في عُرف تالات، ثم شعرت بضغط قائمة ثقيلةٍ على كتفِها، وبشاربٍ يُداعب وجنتها، ففتحت عينَيها ورأت عينَين صفراوين في وجهٍ أسودَ لم يكن يبتسم؛ ووقف تالات في سكونٍ تامٍّ ورأسه مَحنيٌّ، حيث كانت القائمة الأخرى للقطِّ الأسود تضغط على عُرفه.

اعتدلت إيرين في جِلستها ثانيةً ونزل القط على الأرض والتفت تالات لينظر إليه، ثم أدار القط رأسَه لينظر خلفه. ارتخت أُذنا تالات بعض الارتخاء مُلازمةً جانبَ رأسه، ثم تحوَّلت إحداهما في تردُّد نحو الأمام وصُوِّبت إلى القط، فسار القط إليه ورفع أنفه. تحوَّلت أذن تالات الأخرى نحو الأمام وانتصبت وأخفض أنفه، وأخذ الكائنان يتنفَّسان في هدوءٍ أحدهما في وجه الآخر. ثم تابعا المضيَّ في طريقهما.

فجأةً انفرجت الجبال عن سهلٍ شنيع غير مُستوٍ؛ كانت أرضه سيئةً ومليئة بالصدوع الصغيرة المَخفيَّة، ولم يكن به أيُّ شجرٍ على الإطلاق. خرج أفراد جيش إيرين وانسلُّوا وتقدَّموا من ظلال الصخور وآخر أوراق الأشجار يُجرجرون خطواتهم وتتابعوا حولها حتى أصبحت هي وتالات محورَ القيادة؛ وأخذوا جميعًا ينظرون حولهم. قالت إيرين في هدوء: «لم نَعُد في دامار»، وتنهَّد تالات تنهيدةً عميقة. نزعت إيرين جونتوران من سَرجها، وحملت النَّصل في يدها، ومن أجل أن تشعر بالارتياح وحسب؛ إذ لم يكن هناك ما يُمكن للسيف أن يفعله في تلك المساحة الشاسعة الجرداء الباعثة على الكآبة؛ حيث لا يمكن لربيعٍ أن يأتيَ.

هاجمها الصمت باستمرار، وعادت تسمع تمتمةً ضئيلة، لكنها كانت متهاودة هذه المرة، وكأنها تسمعها من خلف بابٍ مُوصَد لا شكَّ لدَيها في قوَّته. فقالت: «هيا بنا إذن»، وتقدَّم تالات، وكانت مخلوقات اليريج والفولستزا تُفسِح لهما الطريق ثم تعود وتسير إلى جانبهما. ولم يكن يُوجَد ما يمكن رؤيته سوى السماء الرمادية الملبَّدة وصفحة الأرض الرمادية الجرداء. لا بد أن تكون الجبال مُجددًا على الجانب القصيِّ من هذا الحيِّز الكئيب؛ لكن السُّحُب كانت تُغلِّفها، ولم يكن ثمَّة أفق. تبِعَتْها وحوشُها لأنها كانت تقودها، لكن الوحوش لم تكن ترى ما تقودها إليه.

ولم يكن بمقدورها هي كذلك أن ترى، لو كان من ذلك فائدة؛ لكن بدا أن الأصوات الضئيلة البغيضة في ذهنها تضغط على أحد جانبَي جمجمتها أكثرَ من الآخر؛ ومن ثمَّ سلكت ذلك الاتجاه.

وظهر أمامهم فجأةً جبلٌ أسود، أو كان جُرفًا صخريًّا، أو صرحًا مرتفعًا، أو الثلاثة مجتمعِين؛ إذ كان بحجم الجبل، لكن كان له شكل الجرف المُستعصي على التسلُّق والذي سينهار كانهيارٍ ثلجي عندما تضربه العاصفة الهوجاء التالية؛ ورغم ذلك كان له أيضًا شكلٌ معلوم، وإن كان غير معهود، وكأن إنسانًا هو الذي بناه — من المؤكَّد أن ثمة بريقَ نوافذ عند قمَّتِه، أليس كذلك؟ — لكن لا بد أنه كان مجنونًا. وحوله التفَّت كرْمةٌ ضخمة من نبات السوركا، فانقلبت مَعِدة إيرين وكأن بها حجرًا، وكان بإمكانها سماع تمتمةٍ ضئيلة وضحكٍ.

نزلت إيرين من فوق صهوة تالات وتقدَّمت ببطء. ورفعت جونتوران، فتوهَّج السيف بضوء أزرق، وفجأة توقَّد الصرح الأسود بلونٍ أحمر ناري وارتفعت قمَّته ودارت نحوها، وكان بريق النوافذ عينَي تنينٍ حمراوين، وأصبح الظلُّ الداكن الذي انحنى نحوها رأسَ تنين أسودَ، وفتح التنين فمَه لينفُث النار نحوها. شُلَّت ذراعُها اليُسرى فجأةً، ثم أخذ ألم الحروق القديمة فيها يُمزِّقها، فكان كأنه قد تجدَّد؛ واستطاعت أن تشمَّ رائحةَ لحمها وهو يحترق. فصرخت قائلةً: «كلَّا!» وأسقطت جونتوران من يدِها، ورفعت ذراعها اليُمنى في مواجهة لهيب النار، وكانت ذراعها اليُسرى تتدلَّى رخوةً إلى جانبها. واستدارت لتهرُب، لكن شيئًا ما كان في طريقها؛ تعثَّرت إيرين في شيءٍ أملسَ وأسود، فسقطت نحو خاصرة تالات، وراق ذهنها ولم تَعُد تشمُّ رائحةَ لحمٍ مُحترق. استدارت إيرين في رهبة، فقد كانت ذراعها اليسرى لا تزال تخفق من ذكرى الألم، لكن لم يكن ثمة نار ولا تنين؛ لم يكن هناك سوى الصرح الأسود الشنيع تلتفُّ حوله الأوراق.

انحنت إيرين والتقطت سيفها؛ لكنَّ وهجَه الأزرق كان قد انطفأ، وكان نَصله معتِمًا كالسهل الرمادي المُحيط بهم. ونظرت ثانيةً نحو البريق الذي يبدو كبريق النوافذ؛ إذ عرفت حينئذٍ أنها وصلت إلى المكان الذي كانت تبحث عنه، وعرفت أن أجسديد موجود فيه. وعرفت أيضًا أنه لم يكن ثمَّة طريق للدخول؛ فقد فقدت الطريق الذي ربما كان جونتوران سيدُلها عليه.

أخذت إيرين تدور ببطءٍ حول الصرح المهيب، لكن لم يكن ثمة أبواب، والآن كان الصرح يبدو كجبلٍ أو كشيء ليس له باب، وكان من الحماقة أن تظنَّ خلاف ذلك؛ وخاب مسعاها، فلو لم يكن أجسديد هنا، لما عرفت أين يكون. زحفت إيرين على الحجارة تحت نبات السوركا الذي التفَّ حول الصرح الأسود؛ ذلك أنها ما كانت ستمسُّ نباتات السوركا إن كان باستطاعتها ذلك، تلك السوركا التي لا بد أن عين أجسديد قد وقعت عليها وأنفاسه قد حرَّكتها؛ لكنها ذهبت وحدَها، فقد وقف تالات واليريج والفولستزا ينتظرونها في المكان الذي واجهت فيه الصرحَ بوهجِ جونتوران ثم فقدَتْه.

أتمَّت إيرين دورةً كاملةً وعرفت أنها قد انهزمت، فذهبت نحو تالات ولفَّت ذراعها حول رقبتِه ودسَّت وجهها في عُرفه، كما كانت تفعل من قبلُ كثيرًا حين تُصاب بالقليل من الألم والجزع؛ والآن وفي ظلِّ هذا الألم الشديد لم يكن لدَيها ملاذٌ آخر. ضغط تالات بذقنه على ذراعها، لكنها لم تجِد في ذلك سلوى، فابتعدت عنه ثانيةً، واندفع هو نحو الأمام، وشَبَّ على قائمتَيه الخلفيتَين، وصهل، كجواد حرب ذاهب إلى معركة. حدَّقت فيه إيرين فاغرةً فاها، وكان مقبض السيف الخامد يهمزها في مرفقها.

اندفع تالات على الحجارة التي أمامهما وصهل ثانية؛ ثم اندفع إلى داخل نبات السوركا المجدول، فأبطأه ذلك بعض الشيء. شعرت إيرين وهي تُراقب وكأن الأوراق تجذبه وتعوق مروره بأفضلِ ما يمكنها؛ لكنه اندفع خلالها ولم يعبأ. وصهل مجددًا حين وصل إلى أسفل جدران الصرح المصقولة؛ كان الآن فوق كرْمات السوركا، واستطاعت إيرين أن ترى خطوط نُسغها عليه. هزَّ تالات رأسه وشبَّ ثانيةً، وضرب الجدران بقائمتَيه الأماميتَين؛ فتطاير الشرر، وظهرت رائحةُ أشياء تحترق، لكنها كانت رائحة احتراق أشياءٍ قذرة. نزل تالات على قوائمه الأربع، ثم شبَّ وضرب الجدران ثانيةً؛ وبعدئذٍ تدفَّقت مخلوقات اليريج والفولستزا على الحجارة وعبْرَ نباتات السوركا المُتلبِّدة لتنضمَّ إليه، واندفعت قائدة قطيع اليريج إلى نتوءٍ صخري بارز ومُرتفع وأخذت تنبش فيه.

همست إيرين: «لن يجدي ذلك نفعًا»، وشبَّ تالات وضرب مجددًا، وكانت رائحة الاحتراق أقوى.

كانت مخلوقات الفولستزا تنبش فتائلَ الكرْمة الكبيرة من قاعدة الصرح وتقذف بها، وبدا الصرح وكأنه يرتجِف من مرآها. وفجأةً، انهار الحجر الذي كانت قائدة قطيع اليريج متعلقةً به فسقط عند قدمَي تالات؛ لكن في مكانه ظهر صدْع في الجدار الأسود؛ وحين ضرب تالات ذلك الصدع تناثر غبارٌ صخري دقيق.

كانت الكرْمات المُمزَّقة تتحرَّك بعنف حين تمسُّ الأرض الرملية الرمادية. مدَّت إيرين يدَها لتلمس واحدةً من تلك الأوراق الخبيثة فتحوَّلت إلى ثعبانٍ صغير مُخطَّط بشرائط وله عينان شريرتان؛ لكنها التقطت الورقة على أي حال، فلم تكن سوى ورقة. وقفت إيرين تُحدِّق فيما أخذ جيشها يتعامل على نحوٍ أفضل مع السطح الحجري للصرح الأسود؛ ومن بعيدٍ سمِعت طقطقةَ رقائق الحجر، فالتقطت ورقةً أخرى ونسجتها عبْر ساق الأولى؛ ثم جاءت بأخرى وكرَّرت صنيعها، ثم بأخرى، وحين حدَث انهيارٌ مفاجئ وهدير ورفعت نظرها، كانت تُمسك في يدِها إكليلًا أخضرَ وكثيفًا من نبات السوركا؛ وكانت يدُها لزجةً من عصارتِه.

سقط جانب كبير من الصرح، وفي داخلِهِ رأت إيرين سلالم تلتفُّ صاعدةً بداخل الجبل الأسود، وكانت حمراء بفعل إضاءة المشاعل؛ وحوَّل جيش إيرين نظرَه نحوها، وكان يلهث، فكانت أفواه حيواناتٍ كثيرة منه تقطُر رغوةً ورديةَ اللون وأقدام كثيرين منهم مُمزَّقة وتنزِف دمًا. وكان لون تالات قد أصبح رماديًّا من شدة العَرق. وبوجود الإكليل في يدِها وجونتوران يدقُّ على جانبها في همود، تقدَّمت إيرين بحذَر عبْر الرُّكام، وعبْر صفوف جيشها، الذي أخذ كثيرون من أفراده يلمسونها بأنوفهم وهي تمرُّ بهم، ووضعت قدمها على أول درجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤