الفصل الحادي والعشرون

قفلوا عائدين نحو الجبال قبل أن ترتفع الشمس أكثرَ في السماء. كانت إيرين قد دفنت رماد النار، بحكم العادة؛ إذ لم يكن هناك مِن حولها شيء يمكن أن تُصيبه النار فيحترق؛ ولفَّت بتوقيرٍ إكليلَ السوركا والحجر الذي فيه وكذلك التاج، ووضعتهم في أحد الخُرْجَين على ظهر تالات. لم يكن ثمة شيء آخر قد بقِي لتفعله.

ورافقتها حاشيتها من خلفها، فكانت القطط في جناح والكلاب في آخرَ. ولم تنظر إيرين خلفها إلا مرةً واحدة، وذلك حين كانوا قد عبروا الأرض المُنبسطة وكانت الشمس قد بدأت تتَّجِه نحو المغيب. وكانت الطريق من الجبل الخبيث مُنحدرةً، وكانت إيرين واثقةً من أن هذا قد تغيَّر، حتى ولو كانت هناك غابة مُختفية في المنتصف. لكنها فكَّرت أنه إن كان هذا هو أسوأ ما بقي، فإنهم كانوا ينزلون عن المنحدر بخفةٍ شديدة.

كانت أنقاض الصرح الأسود صغيرةً وهي تلُوح من بعيد، وبدا أن تلك الأنقاض تنظر إليها شزرًا، لكنها كانت نظرةَ شزرٍ ضئيلةً وبغيضة وعقيمة، كنظرات طاغية يقف على منصة الإعدام وحبل المشنقة يُوضَع حول عنقه. لن يكون هذا السهل مكانًا مُزدهرًا أو جذابًا سنواتٍ طويلة قادمة، ولن يكون خَطِرًا كذلك. ومضت إيرين بسعادة أكبر.

كانت متلهفةً لأن تصِل إلى حافة تلال دامار المُحبَّبةِ إليها بحلول الليل، وذلك حتى تُخيِّم في ظلالها وتشرب من مائها النظيف، ولهذا ظلَّت تمضي حتى أدركها أول الغسق. وأرادت أن تُغنِّي حين أحسَّت بأول نسمةٍ من نسائم الليل من الأشجار الطيبة؛ لكن صوتها لم يتكيَّف مُطلقًا لأن يُنَغِّم فلم تفعل. وبدا جيشها بأكمله سعيدًا أنه عاد ثانيةً إلى مكانٍ مألوف له، فأخذت الكلاب تهزُّ أذيالها وتنهش بعضها في مُداعبةٍ ومرح، وأخذت القطط يَلكُم بعضها بعضًا بقوائمه من دون مخالبها وتتدحرج على الأرض. وأخذ تالات يتبختر. وهكذا وصلوا جميعًا وهم سعداء مرِحين إلى منعطفٍ في طريقهم، ولم يُولُوا أيَّ شيءٍ اهتمامًا عدا ابتهاجهم وسرورهم؛ حينها أحسَّت إيرين بنفخةٍ مفاجئة من دخانٍ وكأن مصدرها نار صغيرة، ثم اشتمَّت رائحة طعامٍ يُطهى. فتثاقلت في جِلستها على ظهر تالات، إلا أنه نفض أُذنَيه بحركةٍ سريعة إلى الوراء وكأنه يقول: «ماذا تقصدين بأن أتوقَّف؟» ثم أكمل مَسيره. وكان ثمة نار تخييم صغيرة في طية الطريق؛ حيث كان هناك مُنفرج صغير وجدول ماء ينحني حول الجانب الآخر منه.

قال لوث: «طاب يومكِ.»

صهَل تالات مُحيِّيًا، وانزلقت إيرين من فوق صهوته فتقدَّم تالات وحدَه ليمسَّ يدَي لوث بأنفه ويُداعب بها شعره. ردَّت إيرين: «ظننتُ أنك لا تُغادر قاعتك ولا بُحيرتك مطلقًا.»

فأجاب لوث: «نادرًا ما أفعل. بل هو أمر نادر للغاية. لكن يُمكن أن تدفعني ظروف استثنائية.»

فابتسمت إيرين ابتسامة خافتة. «كان لديك الكثير من تلك الظروف الاستثنائية لتختار من بينها مؤخرًا.»

«أجل.»

«هل لي أن أسأل أيُّ تلك الظروف كانت استثنائية بما يكفي في هذه الحالة؟»

قال لوث: «إيرين …» ثم سكت، وبعدها اكتسى صوتُه بنبرته المازحة ثانيةً. وأردف: «ظننتُ أنكِ قد تُحبِّذين أن تنجرِّي إلى الحاضر، حتى يُمكنكِ أن تَصِلي في الوقت المناسب لتُعطي تور تاجَه وتُنهي الحصار؛ وبالطبع سيكون هذا الآن وليس بعد بضع مئات من السنين؛ ولهذا ليس هناك غابة ستُضطَرِّين إلى أن تَشُقِّي طريقك عبرها بصعوبةٍ بالغة. ليس لديَّ شك في مقدرتك على فِعل ذلك، لكن كان من شأن ذلك أن يجعلكِ في مزاجٍ كريه، وكنتِ ستُصبحين في مزاجٍ أسوأ بحلول الوقت الذي ستصِلين فيه إلى بحيرة الأحلام، بافتراض أنك كنتِ ستتمتَّعين بالمنطق لتعودي إلى هناك، وليس هذا بشيءٍ يمكن أن يُعوِّل عليه المرء في حالتكِ. كنتِ ستحتاجين مساعدتي لتستعيدي حاضرك — فإن كان إشعال نار صغيرة جعلك ترين الأشياءَ مزدوجة، فإن المُضي عبر الزمن من دون مساعدة كان من شأنه أن يُصيبك بالعمى إلى الأبد — وكلما طال مكوثك خارج نطاق الزمن، ازدادت صعوبة إعادتكِ إليه. لذا أتيت للُقياكِ.»

حدَّقت إيرين في النار؛ لأنها لم تستطِع أن تُفكِّر متى نظرت إلى لوث. وقالت: «أمضيتُ وقتًا طويلًا حقًّا في صعود الدَّرَج.»

فأجاب لوث: «أجل.» «وقتًا طويلًا للغاية.»

«ووقتًا طويلًا للغاية أخذت أسقط.»

«ووقتًا طويلًا للغاية أخذتِ تسقطين.»

ولم تزِد إيرين على قولها ذلك شيئًا، بينما نزعت سَرج تالات عنه وأسقطتْهُ بالقرب من النار وفركَت ظهرَه لتُجفِّفه وفحصت قوائمه بحثًا عن حصًى صغير. ثم قالت: «أظنُّ أن عليَّ أن أسامِحكَ إذن، لأنك جعلتني بخلاف البشَر الفانين.»

«قد تُسامحيني. سأكون مُمتنًّا إن فعلتِ.» ثم أطلق تنهيدة. واستطرد: «سيكون من اللطيف لو زعمتُ أنني كنتُ أعرف أن هذا سيحدث من البداية، أنني عرفتُ أن فرصتكِ الوحيدة لتحقيق النجاح في استعادة تاجكِ هو أن تفعلي كما فعلتُ. لكنني لم أكن أعرف. يؤسِفني أن أقول إن ذلك كان محض حظ.»

وأعطاها كوبًا من مشروب مالاك، ساخنًا للغاية، فشربته إيرين في شراهة؛ ثم قدَّم إليها حَساءً على طبقٍ معدني رقيق، فتناولته بسرعةٍ كبيرة حتى إنه لم يكن هناك وقت ليلسع الطبق أصابعها، ثم تناولت بعده ثانيًا وثالثًا. وحين فرغت في النهاية، أعطى لوث ما بقي من الحَساء إلى قائد قطيع القطط وقائدة قطيع الكلاب، بعد أن قسَّمه بحرص إلى نصفين مُتساويين تمامًا، ووضع كلَّ نصف في طبق منفصل. سمِعت إيرين وقْع خطواته من خلفها وهو عائد من وضع الأطباق إلى الحيوانات، فقالت: «شكرًا لك.»

توقَّفت الخطوات خلفها تمامًا، وشعرت به ينحني عليها ثم استقرَّت يداها على كتفَيها. فرفعت إيرين يدَيها وسحبت يدَيه نحو الأسفل حتى صار راكعًا خلفها، ثم أحنى رأسه ليضغط بوجنته على وجهها. والتفتت وهي بين ذراعَيه وطوَّقت رقبتَه بذراعَيها ورفعت وجهها وقبَّلته.

وظلَّا إلى جوار النار حتى ساعة متأخرة من الليل، فكانا يُغذيان النار بالفروع الصغيرة حتى تظلَّ مشتعلة؛ وكانت الحيوانات قد غطَّت في النوم منذ وقتٍ طويل، وحتى تالات كان مُسترخيًا بما يكفي لأن يستلقيَ ويغفو. واستلقى لوث على ظهره ورأسه في حِجر إيرين، وأخذَت تُداعب شَعره بين أصابعها وتشاهد تموُّجات شَعره وهي تنثني حول أصابعها وتنفرد إلى أقصى طولِها وترتدُّ عائدة إلى وضعها. قال لوث: «أهذا مُسلٍّ إلى هذه الدرجة؟»

فقالت إيرين: «نعم. وإن كنتُ سأحبُّه أيضًا لو كان مفرودًا وأخضر اللون، أو لو كان رأسك أصلعَ كالبيضة ودهنتَه بلونٍ فضي.»

لم تكن إيرين قد أخبرتْهُ بالكثير عن لقائها بخالها، ولم تطرح عليه أي سؤال بشأنه؛ لكنها لم تستطِع أن تعرف مقدارَ ما خمَّنه لوث — أو عرَفه، بالطريقة نفسِها التي عرف بها بشأن إضرامها للنار — وأنصتت إليه في لهفةٍ حين بدأ يتحدَّث عن أجسديد وعن أيام دراستهما معًا. وقد هدأت عنها قشعريرة كراهيتها لشخصٍ وجهُه يُشبه وجهها بينما هي تستمع، وهدأت أكثر وهي ترى لوث يبتسِم لها وهو يتحدَّث إليها؛ وأخيرًا قالت له بتردُّد بعضَ ما دار بينها وبين خالها.

وبدا لوث مُتجهمًا وصمت هنيهة، ثم سمِعا صوت أنين رخيم لكلبٍ يتمطَّى قريرًا وهو نائم. وقال أخيرًا: «لم يكن أجسديد مُخطئًا تمامًا بشأني. كنتُ عنيدًا، وبصراحة لم أكن أحد أنبغ تلاميذ جوريولو أو أوعدهم. لكن ذلك العناد نجَّاني ومكثتُ مع مُعلِّمي طويلًا بما يكفي لأن أتعلَّم منه أكثرَ مما تعلَّم مَن كانوا يتمتَّعون بقدراتٍ أفضل منِّي في البداية ثم ذهبوا فكانوا سببًا في هلاكِ أنفسهم، أو أنهم صاروا رعاةَ غنَم؛ لأن حياةَ المشعوِذ حياةٌ نكِدة عديمة الفائدة.»

«كما أني كنتُ دائمًا في أسوأ حالاتي حين يكون أجسديد موجودًا؛ لأنه كان أحد أولئك المتألِّقين الذين تُرى كلُّ إيماءةٍ منهم معجزةً، وكلُّ كلمةٍ ينطقون بها فلسفة جديدة. أنتِ نفسكِ تتمتَّعين ببعض هذا، بينما تُحاولين ببسالة أن تُخفيه.

«لكني لا أعرف إن كنَّا، أنا وهو، غير مُتكافئين جدًّا في نهاية المطاف أم لا؛ ذلك أنني إذا كنتُ قد أخطأتُ عن جهلٍ مني أو تعنُّت، فإنه أخطأ عن كِبرٍ منه …»

قالت له إيرين، بعد أن سكت: «لم تَسلْني كيف … انهزم هو وفزت أنا.»

«لستُ أنوي أن أسألكِ. يُمكنكِ أن تُخبريني أو ألَّا تخبريني حسب رغبتكِ، الآن أو لاحقًا.»

«هناك شيء واحد على الأقل أريد أن أسألك بشأنه.»

«سليني.»

«سيتطلَّب ذلك أن تتحرَّك؛ يَلزمُني أن آتيَ بشيءٍ من خُرْجي.»

بدا لوث مُنزعجًا. «أيستحقُّ الأمر ذلك؟»

لم تشأ إيرين أن تضحك، لكنها فعلت على أي حال، وابتسم لوث في خمولٍ وتراخٍ، لكنه اعتدل في جِلسته وأفلتها. قالت إيرين: «إليك هذا»، وأعطته الإكليل المُحترق بحجره الأحمر.

فقال لوث: «بحق الآلهة»، وغابت أمارات النُّعاس عنه. «كان حريًّا بي أن أُفكِّر أن بإمكانكِ الحصولَ على هذا. أنا أكثر مُعلِّمي الأرض استهتارًا، وكان جوريولو ليقطع رأسي لو كان موجودًا.» وأزال لوث العروق الجافة وأسقط الحجر الأحمر إلى يدِه. تلألأ الحجر في ضوء النار؛ وأخذ لوث يُقلِّبه برَويَّة من يدٍ إلى أخرى. «هذا الحجر يجعل تاج البطل الخاص بِكُم يبدو وكأنه إرثٌ عائلي تافِه.»

سألته إيرين بانفعال: «ما هذا؟»

فأجابها لوث: «إنه حجرُ دم ماور. آخرُ قطرة من دم قلبه — القطرة المُهلِكة. كل التنانين التي تموت بإراقة دمائها تُهرِق قطرةً من هذه في النهاية؛ لكنكِ ستحتاجين إلى عينٍ كعين الصقر لتجِدي آخِرَ تلك القطرات المُتخثِّرة في التنانين الصغيرة.»

ارتجفت إيرين. وقالت: «إذن أبقِ عليه معك. أنا مُمتنة لخصائصه في هزيمة السَّحرة، وإن كنتُ سيئة الحظ للغاية لدرجة الحاجة إلى هزيمة ساحِرٍ آخر، فسأستعيره منك. لكني لا أريده أن يبقى معي.»

نظر إليها لوث وهو يفكِّر، مُمسكًا بالحجر في يده. ثم قال: «لو وضعتِه في تاج دامار، فسيجعل مَن يرتدِيه لا يُقهَر.»

هزَّت إيرين رأسها نفيًا بشدة. ثم أجابته: «وتُلازمني ذكرى ماور إلى الأبد؟ يمكن لدامار أن تصمد من دونه.»

«أنتِ لا تفقهين ما تقولين. حجر دم التنين لا يحمِل الخير أو الشر؛ إنما هو قائم بذاته. وهو يحمل قوةً عظيمة؛ لأنه الموت الذي حصد التنين — على عكس جمجمته، التي تعامل معها قومكِ وكأنها تُحفة غير مؤذية. حجر الدم هو الغنيمة الحقيقية، المكافأة التي تستحقُّ تحقيق النصر؛ التي تستحقُّ تحقيق أي نصر. أنت تسمحين لخبراتكِ بأن تصبغ إجابتكِ.»

«أجل، أنا أسمح لخبراتي أن تصبغ إجابتي بالفعل، وهذا هو المغزى من الخبرات. قد لا يحمل حجرُ قلب التنين الخيرَ أو الشر من وجهة نظرك، لكنِّي ولدتُ مخلوقةً فانيةً بسيطةً قبل مدة ليست بالطويلة وأنا أتذكَّر عن وجهة نظر الفانين البسطاء أكثرَ مما عرفتَ أنت يومًا. إنَّ حجر الدم ليس بالرمز الآمن ليتداوله أيٌّ منا — أي منهم — حتى ولو كان أولئك هم العائلة الملكية في دامار.» وتجهَّمت إيرين حيث كانت تفكِّر بشأن بيرليث. وأكملت: «أو حتى ملوك دامار وحدَهم. فحتى لو استُخدِم الحجر بحكمة، لا يمكن حمايته حمايةً كافية وتامة؛ حيث سيكون دائمًا هناك آخرون، آخرون مثلك يعرفون ماهيتَه — آخرون لهم حدود وقيود مُدمِّرة هي أقلُّ من تلك التي لدى ملوك دامار. انظر إلى حجم الأذى الذي سبَّبه أجسديد بالتاج وحدَه.»

وسكتت إيرين هنيهة، ثم أضافت بتأنٍّ: «لست واثقة حتى أنني أُصدِّق ما تقول بشأن كونه قوة لا هي بخيرٍ ولا بِشرٍّ. تقول قصصُنا إن التنانين أتت أولَّ ما أتت من الشمال. تقريبًا كل شرٍّ أصاب أرضنا كان من هناك، ولم يحدُث أن أتى من الشمال شيءٌ لم يكن شرًّا. أنتَ قلتَ ذات مرة إن العائلة الملكية في دامار — أي مَن يحملون منَّا هِبة الكيلار — يشتركون في أحد الأسلاف مع الشماليين. فلماذا أصبحوا هم وأرضهم على ما أصبحوا عليه وأصبحنا نحن على ما نحن عليه؟»

«لا. لن أُبقي على هذا الشيء معي. أبقِ عليهِ معك، وإلا فسأدفنه هنا قبل أن نغادر.»

رمش لوث بعينِه عدة مرات. «لقد اعتدتُ أن أكون مُحقًّا … في معظم الأحيان. وكنت محقًّا طوال الوقت في جدالي مع أولئك الذين وُلِدوا فانين بسطاء قبل مدةٍ ليست بالطويلة. وأظن أنك … ربما … تكونين مُحِقَّةً في هذه الحالة. ويا له من أمرٍ غير مُتوقَّع.» وابتسم في حَيرة وارتباك. ثم قال: «حسنًا. سأحتفظ به. تعرفين أين تجدِينَه إذا ما احتجتِ إليه يومًا.»

أجابت إيرين: «سأعرف. لكن لتحفظني الآلهة من الحاجة إلى تلك المعرفة ثانيةً أبدًا.»

نظر إليها لوث وقد اعتلاه تجهُّم صغير. وقال: «ليس هذا بنذْرٍ جيد لتقطعيه، ليس جهرًا على الأقل، حيث يمكن للأشياء أن تكون منصتة.»

تنهَّدت إيرين. وقالت: «أنت بالفعل مُعلِّم غافِل بشدة. فأنت لم تُحذِّرني أيضًا بشأن قطْع النذور.» غاب العبوس عن وجهِ لوث وضحِك، وانقلب ضحِكُه إلى ما يُشبه التثاؤب.

فقال: «يا إيرين. أنا مُنهَك للغاية من إعادتكِ من عقبيكِ عبر قرون الزمن، ولا بد أن أنام، لكن سيزيد من طمأنينتي أن أُطوِّقكِ بذراعيَّ وأعلم أنني نجحت.»

فقالت إيرين: «أجل. لم يكن الوقت الذي قضيتُه وأنا أُجَرُّ وقتًا مريحًا، وسيسرُّني أن أعلم أني لن أقضيَ هذه الليلة وحيدةً كما قضيتُ ليلة أمس.»

•••

في الصباح قالت إيرين على نحوٍ مفاجئ وهي تُعدِّل سَرج تالات في مكانه: «يا هذا … كيف تتنقل وأنت مسافر؟ أتسبح في الهواء كالغيم وتنطلِق مع الريح؟»

«يُفترض إذن أن أطلب الآن لنفسي ريحًا لتحمِلَني في الاتجاه المطلوب. لا يا عزيزتي، إنما أسير. وهذا فعَّال بصورة مدهشة.»

«أقطعتَ المسافةَ من جَبلِك إلى هنا سيرًا؟»

فقال وهو يحمل متاعه على كتفِه: «نعم بالفعل. وسأسير عائدًا الآن. لكنَّني سأحبُّ كثيرًا أن تُرافقيني حتى سفح جبلي. فطريقُنا واحد حتى تلك البقعة.»

حدقت فيه إيرين مذهولة.

فقال متأثِّرًا: «يُمكنني أن أسير بنفس سرعة هذا الحيوان المُسن الذي تُفضِّلينه مطيةً لكِ. أولًا، ساقاي أطول، وإن كانتا أقلَّ من سُوقه، وثانيًا أنا أحمل أمتعةً أقل من تلك بكثير. توقَّفي عن التحديق إليَّ بهذا الشكل.»

ردَّت إيرين: «حسن»، ثم امتطَت تالات.

بيد أن لوث كان مُحقًّا؛ إذ قطعت ساقاه المسافة نفسَها التي قطعتها إيرين وتالات وجيشهما — وإن كان يمكن القول إنهم لم يرتحلوا متجاورين. إذ سار لوث أبطأ بعض الشيء من خبب تالات، لكنه في سيره كان أسرعَ بكثيرٍ من تالات في سيره، فكانا يلعبان لعبةَ التواثب طوال رحلتهما، يُحدِّد لوث الوجهةَ نحو الطريق الأسرع والأكثر سلاسةً كلما قضت الحاجة فيما يسبقه تالات، ويستمع تالات بانتباهٍ إلى توجيهات لوث وينخر حين يندفع لوث متجاوزًا إيَّاه.

ولم يرَ أيٌّ منهم قطط الفولستزا وكلاب اليريج كثيرًا ذلك اليوم، لكن في المساء حين نصبوا مُخيمهم، عاد جيش إيرين من ذوات الأربع ليأخذ مكانه حولهم. وقالت إيرين لصفوف الأعين المُتلألئة: «يا أصدقائي، سأتَّجِه جنوبًا — إلى أقصى الجنوب بعيدًا جدًّا عن أوطانكم وأراضيكم. قد ترغبون في التفكير بشأن هذا أيامًا كثيرة أخرى قبل أن ترتحلوا معي.»

انتصب قليلًا ذيلُ قائدة قطيع الكلاب ذات العين الواحدة؛ أما القائد الأسود فتجاهل كلماتها تمامًا.

قال لوث وهو مُنشغل بالقدْر الذي على النار: «لا يضرُّ أبدًا أن يكون لكِ المزيد من الأصدقاء لمساندتكِ ودعمكِ.»

فقالت إيرين، التي كانت قد سئمت كثيرًا طعامَ دامار المُعتاد في السفر وهي في طريقها إلى الشمال: «إنما يمكثون لأجل ما تطبخ وحسب».

نظر إليها لوث من عينَين شِبه مُغمضتَين. وقال بلطف: «سأستغلُّ الفرصة أينما سنحت.»

طوَّقته إيرين بذراعَيها، فتسللت ذراعُه التي لم تكن تحمل الملعقة حول خَصرها. وقالت له: «يمكنك أن تترك أمر الطبخ في الحال، وتبقى بقُربي.»

فأجابها: «همم. حبيبتي، أجد أن من الأجدر أن أُحذِّركِ أني أشعر الليلة بالانتباه والنشاط، وإن اخترتِ النوم معي مجددًا، فلن تحصلي على أي قسطٍ من النوم.»

قالت له إيرين موافقة: «أتطلع إذن لليلة بلا نوم»، وضحِك لوث وترك ملعقته.

•••

مرَّت الأيام التالية سريعة للغاية؛ فتعيَّن على إيرين أن تُذكِّر نفسها أنها قضت أسبوعَين هي وتالات في طريقهما من بحيرة الأحلام إلى سهل أجسديد الأجرد؛ وذلك لأن طريقها إلى الوطن بدا أقصرَ بكثير. في الليلة الخامسة استلَّت إيرين جونتوران وأرت لوث حدَّه المكسور؛ وقد آلمَها منظر ذلك بقدْرِ ما آلمها يومًا منظر تالات الأعرج وهو يقف في إرهاق وفتور في مرعاه.

ولا بدَّ أن ذلك بدا على وجهها؛ فقد قال لها لوث: «لا تجزعي. يُمكنني أن أصلح هذا؛ وأيضًا لستِ بحاجة للقلق بشأن عمره الافتراضي.» ابتسمت إيرين ابتسامةً خافتة، ولمس لوث وجنتها بأصابعه. وساعدتْه هي كما طلب منها، وفي الصباح التالي استلَّت إيرين نصلًا لامعًا سليمًا؛ لكنها ولوث غطَّا في نومٍ عميق وطويل في الليلتَين التاليتَين.

وكان الربيع قد حلَّ على كل الأراضي التي ارتحلا منها؛ فكان العشب أخضرَ ووافرًا في كل مكان، وكانت فاكهة الصيف قد بدأت تشقُّ طريقَها خلال آخِر بتلات الأشجار والشجيرات؛ ووجدت إيرين وكذلك لوث في كلِّ شيءٍ من حولهما أصدقاءَ لهما، وكانت قطط الفولستزا وكلاب اليريج مهذبةً مع لوث كما كانت مع إيرين.

لكن عرف لوث وإيرين من دون أن يحدِّث أيٌّ منهما الآخر بذلك أن ليلتهما الأخيرة معًا قد حلَّت، وكانت إيرين مُمتنةً أنها كانت ليلة مظلمة بلا قمر، حتى يتسنَّى لها أن تبكي ولا يراها لوث. في آخر المطاف استسلم لوث للنوم منطويًا إلى جانبها، فكانت ذراعُها مدسوسة تحت رأسه وتُطوِّق أضلاعه، ويدُها على صدره ويُمسكها هو بكلتا يدَيه. ظلت إيرين مستيقظة، تستمع إلى لوث وهو يتنفَّس وإلى صوت الجو من حولها؛ وحين تنهَّد لوث قرب الفجر وتقلَّب، سحبت يدَها بلُطف من بين يدَيه وتسلَّلت من تحت الغطاء. وأخذت تذرع الأرض جَيئةً وذهابًا بضع دقائق، ثم وقفت إلى جوار رماد نار التخييم لتنظُر إلى لوث في ظل الضوء الآخِذ في التزايد.

كان الغطاء قد انزلق عنه؛ فبرز صدرُه عاريًا حتى خَصره تقريبًا، وكانت إحدى يدَيه الطويلَتَين ممدودة خارج الغطاء. وكانت بشرته في الموضع الذي لم تمسسْهُ الشمس قَط بيضاء كالحليب، تكاد تكون زرقاء كحليب مقشود، وإن كان وجهه قد تورَّد وخشُنَ بفعل الشمس والطقس. ونظرت إلى ذراعَيها ويدَيها؛ فكان لون إيرين مقارَنةً بلوث ورديًّا وذهبيًّا، مع أنها بدت شاحبةً كالشمع مقارنةً بأهل دامار الأصليين. وتساءلت إيرين عن جذور لوث؛ وعمَّا إن كانت ستعرف ذلك يومًا أم لا؛ وعمَّا سيقوله لها إن سألته. وعرفت أنها لن تسأله في هذا الصباح، هذا الصباح الأخير لهما معًا؛ فهي لم تسأله في الأيام القليلة الماضية حين تسنَّت لها الفرصة لأنها لم تُفكِّر في ذلك. وأدَّى هذا إلى وعيها بأول صدمة بالفراق.

كانت تعرف أيضًا أن سنوات طويلة سوف تمرُّ قبل أن يلتقِيا ثانيةً، ولهذا أخذت تتفرَّس فيه، تحفظ ملامحه حتى يتسنَّى لها أن تسترجعها ثانيةً في ذهنها في أي وقتٍ خلال تلك السنوات؛ ثم تذكَّرت برعشةٍ طفيفة أنها لم تَعد فانية، ولم تكن تلك الرعشة نابعة من معرفتها بذلك بل من سرورها به، وهي المرة الأولى التي يسرُّها فيها هذا؛ لأن بإمكانها أن تتطلَّع إلى رؤية لوث ثانيةً في يومٍ من الأيام. وقد أصابها سرورها هذا بالخوف؛ لأنها ابنة ملك دامار، ولأنها ستعود بتاج البطل إلى الوطن، إلى الملك وولي عهده، الذي سيُصبح ملكًا فيما بعد، والذي ستتزوَّجه.

تساءلت إن لم تكن حقًّا قد عرفت من قبل أن تور يُحبها، وإن كان الأمر فقط أنها كانت دائمًا تخشى أن تُبادله الحُب. لم تَعد خائفة، وتكمُن المفارقة في أن لوث هو من علَّمها ألا تخاف، وأن حُبها للوث هو ما جعلها تُدرك حُبها لتور. كانت قد قتلت التنين الأسود، وتحمل سيفًا مسحورًا، والآن ستُعيد تاج البطل إلى الأرض التي فقدتْه، بعد أن فازت به في قتالٍ عادلٍ وغنمته من الرجل الذي استخدمه ضدها وضد دامار. يُمكنها الآن أن تعلن أنها لن تخاف بعد الآن — من إرثها ومن مكانتها في العائلة الملكية لدامار، من شعب والدها؛ ومن ثمَّ يمكنها أيضًا الآن أن تتزوج تور؛ لأن هذا هو واجبها تجاه وطنها، سواء استحسن شعبُها هذه الفكرة، أم لا. وسيُسرُّ تور برؤيتها تعود؛ كانت قد كتبت إليه خطابًا تلك الليلة في حال لاقت حتفها؛ ومن حينها تشوَّش كل شيءٍ تقريبًا وأصبح ذكرى، لكنها كانت قد تذكَّرت تور، وتذكَّرت أن تترك له رسالةً بأنها ستعود إليه.

كانت قد قطعت وعدًا للوث ذات مرة بأنها ستعود إليه أيضًا. جلست إيرين قريبًا من مرقده وهو ساكن وحدَّقت في بشرته الشديدة البياض وجِذعه المائل إلى الزُّرقة. وقالت في نفسها: «يقال إن الجميع حين ينامون يعودون أطفالًا كما كانوا فيما مضى. أما لوث فيبدو كما هو وحسب وهو نائم»؛ واغرورقت عيناها بالدموع. ورمشت بعينَيها، وحين عادت ترى بوضوح، كانت عينا لوث مفتوحتين، فمدَّ إليها يدَه ليجذبها إليه ليُقبِّلها، ورأت إيرين حين أبعدت رأسها بعد القُبلة بلحظةٍ أن دمعتَين قد تحدَّرتا على صدغَيه من زاويتَي عينَيه حين عاد يُغلقهما، وقد تلألأت هاتان الدمعتان في ضوء شمس الصباح.

هذا الصباح كانا حذِرين؛ فتلك هي المرة الأولى التي ينبغي لكلٍّ منهما أن يحزم فيها متاعه الخاص به وحدَه، وذلك منذ أن التقَيا عند حافة سهل أجسديد. ولم يتحدَّثا إلَّا قليلًا. حتى تالات كان هادئًا، وكان ينظر في قلقٍ خلفَه إلى إيرين وهي تربط سيور سَرجه في مكانه، ولم يفعل ما اعتاد أن يفعله صباحًا وهو تصنُّع أنه جواد حرب يتشمَّم رائحةَ أعدائه الذين يقفون على التل المقابل.

لم تركب إيرين صهوة تالات في الحال بل التفتت إلى لوث، ومدَّ هو ذراعَيه، فهُرعت إليهما. تنهَّد لوث، وأخذت أنفاسها تتلاحَق وهي على صدره. «لقد وضعتكِ على صهوة حصان — هذ الحصان نفسه — ورأيتكِ ترحَلين عنِّي من قبل. وظننتُ في المرة الأولى أني لن أتخطَّى هذا ما حييت. أظن أني تبعتكِ لأجل ذلك؛ وليس لأي غايةٍ نبيلة أخرى كمساعدتكِ في إنقاذ دامار؛ إنما لأجمع ما بقِيَ من أشلائكِ بعد لقائكِ بأجسديد. وأعرف هذه المرة أني لن أتخطَّى هذا أبدًا. وإن فعلتِها، يومًا ما، مرةً ثالثةً، فعلى الأرجح سيُودي هذا بحياتي.» حاولت إيرين أن تبتسِم، لكن لوث أوقفها بقُبلة. «اذهبي الآن. أعتقد أن الميتة السريعة هي الأفضل.»

فقالت إيرين، وكادت تنجح في أن تُبقي نبرتها مسموعة: «لا يُمكنك أن تخفيني. لقد أخبرتني قبل وقتٍ طويل أنك لست فانيًا.»

فأجابها لوث: «لكني لم أقُل قَطُّ إنني لا يمكن أن ألقى حتفي. لو أردتِ أن تُبارزيني بالمنطق يا حبيبتي، فلا بد أن تتأكَّدي من مُقدِّماتكِ.»

«سأتدرَّب على ذلك … بينما … سأتدرب، لكي أُبهرك حين نلتقي في المرة القادمة.»

ساد صمت قصير، وقال لوث: «لستُ في حاجةٍ لأن تُحاولي أن تُبهريني.»

وقالت إيرين في يأس: «لا بد أن أذهب»، وألقت بنفسها على تالات تمامًا كما فعلت فيما مضى. «سأراك مجددًا.»

فأومأ إليها لوث.

وكاد صوتها يذوب وهي تقول: «لكن سيمرُّ وقتٌ طويل قبل ذلك — وقت طويل للغاية.»

فأومأ إليها لوث مُجددًا.

«لكننا سنلتقي.»

فأومأ لوث مرةً ثالثةً.

فصاحت به: «بحق الآلهة، قُل شيئًا»، وفزِع تالات من تحتها.

قال لها لوث: «أُحبكِ. سأظلُّ أحبكِ حتى تنهار النجوم، وهذا ليس وعدًا أجوفَ مما هو معتاد أن يقوله المتحابُّون عند الفراق. هيا اذهبي سريعًا؛ لأنني لا أُطيق هذا حقًّا.»

ضمَّت إيرين ساقَيها بعُنف حول تالات المضطرب، فانطلق يعدو مسرعًا. وبعد فترة طويلة من غياب إيرين عن الأنظار، تمدَّد لوث على الأرض ووضع أُذنَه عليها وأخذ يستمع لوقع حوافر تالات وهو يحمل إيرين أبعدَ وأبعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤