الفصل الرابع والعشرون

استيقظت إيرين بعد يومَين في فراشها في قلعة والدها، التي أصبحت الآن قلعة تور. كان تقلُّبها في الفراش هو ما أيقظها؛ كانت عضلاتها مُتصلِّبة وتؤلِمها بشدة، حتى إن ما بها من إنهاك كان في نهاية المطاف أقلَّ مما بها من أوجاع وآلام، وبينما كانت تتقلَّب على كتفِها اليُمنى استيقظت وهي تتأوَّه.

على الفور سُمِعت خشخشةٌ من مكانٍ ما خلف ستائر الفراش تمامًا، ثم انفتحت الستائر وتدفَّق ضوء النهار. لم تستطِع إيرين أن تُدرك أين هي الآن؛ وكان أول ما جال في فكرها أن المكان الذي هي فيه، أيًّا كان، هو مكان خطِر ولا شك، فأخذت تتحسَّس حولها بحثًا عن مقبض جونتوران؛ لكن بدلًا من أن تجِده، غاصت أصابعها في طوقٍ مُخملي كثيف، ولعق لسانٌ طويلٌ يدَها. حاولت أن تعتدل جالسةً، فجاء صوت مُختنق يعود لصاحبة اليدَين اللتين فتحتا ستائر الفراش وهو يقول: «آه يا سيدتي.» تعرَّفت إيرين إلى تيكا أولًا، ثم بعدها أدركت مكانها، وعندئذٍ انحنت تيكا فوقها ودفنت وجهها في أغطية الفراش وبكت بحرقة.

فنادتها إيرين، وقد ارتاعت لدموعها: «تيكا.»

غمغمت تيكا من دون أن ترفع وجهها: «سيدتي، ظننتُ أني لن أراكِ ثانيةً»، لكن حين ربَّتت إيرين بتردُّدٍ على كتفها ومسحت على شعرها الأملس ذي اللونَين الأسود والرمادي جلست تيكا إلى الخلف على عقِبَيها وتنشَّقت وقالت: «لكن ها أنا أراكِ، وكنتُ أراكِ طَوال يومَين ونصف اليوم، وأنا آسفة للغاية أني كنتُ بهذه الحماقة. أنتِ في حاجة إلى طعامٍ وإلى التحمُّم.»

كرَّرت إيرين تقول: «يومَين ونصف اليوم؟»

«يومين ونصف اليوم. ولم يستيقظ الأمير تور بعدُ.»

فابتسمت إيرين. ثم قالت: «وبالطبع كنتِ تجلسين في هذا الكرسي طَوال الوقت»، وأشارت برأسها إلى كرسيٍّ خشبيٍّ عالي الظهر عليه وسادة تدعم ظهر الجالس ورقبته، ومسند قدمَين مُبطَّن، وطاولة صغيرة مُرتبة عليها أدوات خياطة ترتيبًا دقيقًا.

فتحت تيكا عينَيها على اتساعهما بالطريقة القديمة التي كانت فيما مضى تُرعب إيرين الصغيرة حين كان يُقبَض عليها وهي تُسيء التصرُّف. وأجابتها: «بكل تأكيد. هل ستتحمَّمين أولًا أم تتناولين الطعام؟»

أخذت إيرين تُفكِّر. كانت عضلاتها تؤلِمها حتى تلك التي تجعل لسانها يتحرَّك وفكَّها يُفتح ويُغلَق لتتحدَّث وتبتسم شفتاها. فقالت: «مالاك، ساخن جدًّا، ثم حمَّام ساخن جدًّا، وبعد ذلك الطعام.» جاء من خلفها صوت تخبُّط ونكزَها وجهٌ طويل مُدبَّب في كتِفها. «وطعامًا لهذه أيضًا. لكنها لن تتحمَّم. أين بقيَّتُهم؟»

عبست تيكا. وقالت: «أينما راقَ لهم أن يستلقوا. تمكَّنتُ مِن جمعهم في حجرتكِ يا سيدتي، وفي القاعة الخلفية؛ إنهم يبثُّون الرعبَ في الخدَم ومعظم أفراد البلاط الملكي. لكنهم لا يرحلون — وفي واقع الأمر، أنا أقرُّ أننا نَدين لهم بدَين، والولاء من الصفات المُحبَّبة للغاية حتى في الوحوش العجماء»، ثم بنبرةٍ تنِم عن الغضب المكبوت أكملت: «لكنني لا أوافق على أن تُشارككِ الحيوانات فراشكِ أيتها الأميرة.» فغرَت قائدة الكلاب فمَها وهي تتثاءب، ثم نهض ظلٌّ أسود طويل من عند آخر السرير الذي كانت الستائر لا تزال تُغطِّيه، ومدَّد جسده ونزل من فوق السرير إلى الأرض. واستند إلى الجانب الخلفي من ساقي تيكا وبدأ يُخرخر، وأبهج إيرين وأسعدها أنها رأت تورُّدًا يتسلَّل ببطءٍ إلى حلق تيكا ووجهها.

فقالت إيرين: «يسرُّني أنَّ أصدقائي لا يُخيفون كلَّ مَن في قلعة أبي.»

فقالت تيكا بصوتٍ خفيض: «ليس الجميع، يا سيدتي.» فنكز قائد القطط خصر تيكا برأسه ليبتسِم باعتزاز بالنفس لإيرين، التي قالت: «تعرفون أيُّها الأصدقاء البريُّون، إن كنتم تُخطِّطون للعيش معي على الدَّوام فسيكون لكم أسماء. إن كنتم تعيشون في منزل، فأنتم مُروَّضون، وبهذا لا بدَّ لكم من أسماء.» فلعق كلب اليريج الذي يجلس خلفها أذنها.

بدأت إيرين عملية الخروج الطويلة المُضنية من السرير؛ كانت تشعر أنها لن تتحرك ثانيةً بسهولةٍ أبدًا. قالت لها تيكا، بينما لامست قدما إيرين الأرضَ وتأفَّفت لا إراديًّا: «سأُساعدكِ يا سيدتي.» كانت تيكا أنحفَ مما كانت عليه حين رأتها إيرين آخرَ مرة، وحين مدَّت تيكا يدَها لتساعدها رأت إيرين ضمادةً طويلة ملفوفة حول ساعدها من تحت كمِّها. فأشاحت بعينَيها وتطلَّعت إلى وجه تيكا ثانيةً. وقالت مشاكِسةً: «أيتحتَّم عليكِ أن تُناديني بسيدتي؟ أنتِ لم تفعلي هذا قَط.»

نظرت إليها تيكا في استغراب. وقالت: «أعرف هذا تمام المعرفة. سأذهب وأتحقَّق من حوض الاستحمام إن كنتِ قد نهضتِ.»

ساعدت المياه الساخنة في تخفيف الآلام العميقة، إلا أنها جعلت البثور تؤلِمها بشدة. وضعت إيرين مِنشَفتَين أو ثلاثًا بطانةً لظهر حوض الاستحمام حتى يتسنَّى لها على الأقل أن تستلقي برفق؛ وبعد أن تناولت ثلاثة أكواب من مشروب المالاك القوي جدًّا تجرَّأت على الخروج من حوض الاستحمام. جعلتها تيكا تستلقي على مقعدٍ مُبطَّن وفركَت جسدها قليلًا لتساعد في تخفيف شيءٍ من الألم، وذلك بمساعدة محلول قابض (رائحته بالطبع عشبية قوية جدًّا) كان أثره على البثور أسوأ من أثر الماء الساخن؛ حتى إن إيرين صرخت من الألم.

قالت لها تيكا بقسوة: «صمتًا.» وأنهت عملَها بأن ملَّست بدهانٍ باهت وناعم، قالت لها إيرين إنه سَكَّن ألمَ المحلول القابض. قالت لها تيكا بحدة: «لمْ تجعلكِ مغامراتكِ أكثرَ كياسة، أيتها الأميرة إيرين.»

أجابتها إيرين، وهي ترتدي قميصًا تحتيًّا، كانت تيكا قد أعدَّته لها: «من غير المعقول أن تكوني قد عقدتِ آمالًا عريضةً على ذلك».

وأقرَّت تيكا، قائلةً: «كلَّا، لم أفعل»، وزَمَّت زاويتَي فمها، وهو ما كان يعني أنها كانت تكبح ابتسامتها.

ثم التفتت إيرين لتُمسك بالسترة. وتساءلت قائلة: «لماذا أرتدي الثياب وأتأنق من أجل تناول الفطور؟» كانت السترة جديدة عليها، زرقاء وثقيلة الوزن، ومخيطة بخيوط ذهبية كثيرة.

أجابتها تيكا بنبرة رادعة: «الآن وقت العصر. وقد طلب الأمير سولا شرفَ حضوركِ لتناول غداء مُبكِّر.»

امتعضت إيرين، ثم ارتدَت السترة — ثم امتعضت ثانيةً. «إذن فقد استيقظ.»

«هذا ما يبدو. لا شيء يمكن أن يُفعَل بشعركِ.»

تجهَّمت إيرين وهزَّت رأسها بحيث تمايلت على وجنتَيها أطرافُ شعرها التي لا تكاد تصل إلى كتفَيها. وقالت: «لا شيء على الإطلاق. يبدو أنه لا يرغب في أن ينمو.»

•••

بدا تور مُنهكًا لكنه كان في طَور النقاهة، وشعرت إيرين أنها على الأرجح تبدو كذلك هي الأخرى. كانت قد تقلَّدت سيفَها جونتوران إقرارًا برسمية الحدث، إلا أن حزام السيف ذكَّرها بصورةٍ حادة ببعض بثورها، وسَرَّها أنها خلعته وعلَّقته على الظهر الطويل لكُرسيها. وفي الحال أتى تور نحوها وطوَّقها بذراعَيه، ووقفا، يميل أحدهما على الآخر، مدةً طويلة.

ابتعد تور عنها ذراعًا واحدة ونظر إليها. وبدأ يقول: «أنا …» ثم أنزل ذراعَيه عنها وذرع أرجاءَ الحجرة مرةً أخرى. ثم التفت إليها كرجلٍ يُشجِّع نفسه على إتيان فعلٍ باسل، وقال: «سيُنصبونني ملِكًا غدًا. يبدو أنهم يظنونني ملكًا عليهم بالفعل، لكن ثمة مراسم …» ثم خمد صوته.

أجابَتْه إيرين بنبرةٍ لطيفة: «أجل، أعرف. أنت ملِك بالطبع. هذا ما أراده … ما أراده أرلبيث. كِلانا يعرف هذا.» ثم قالت بصعوبةٍ أكبر قليلًا: «وهذا ما يُريده الناس أيضًا.»

حدَّق فيها تور بنظراتٍ قوية. «لا بد أن تكوني ملِكة. كِلانا يعرف هذا. لقد أعدتِ التاج؛ وبذا فُزتِ بحقِّ ارتدائه. لا يمكن أن تكوني محلَّ شكٍّ لديهم الآن. كان أرلبيث سيوافق على هذا. كما أنكِ ربحتِ الحرب لأجلهم.»

هزَّت إيرين رأسها نفيًا.

«لتمنحني الآلهة الصبر. بل فعلتِ. توقفي عن عنادكِ.»

«اهدأ يا تور. أجل، أعرف أنني ساعدتُ في إبعاد الشماليين عن أبوابنا. لكن هذا لا يُهم حقًّا. وفي الواقع، أُفَضِّل أن تكون أنت الملِك.»

هزَّ تور رأسه.

وابتسمت إيرين ابتسامةً حزينة. «هذا صحيح.»

«يجب عليه ألا يكون كذلك.»

هزَّت إيرين كتفَيها. وقالت: «ظننتُ أنك دعوتني لتُطعمني. أنا جائعة للغاية ولا أريد أن أقف هنا وأتجادل معك.»

فقال لها تور: «تزوَّجيني. حينها ستُصبحين ملكة.»

تطلَّعت إليه إيرين مذهولةً من المفاجأة.

«أقصد أنني سأتزوَّجك وتُصبحين ملِكة، لا أقصد شيئًا من هراء الزوجة التقليدية. أرجوكِ. أنا … أنا في حاجة إليكِ.» كان ينظر إليها وهو يعضُّ على شفته. ثم أكمل يقول: «لا أظنكِ ترمين إلى عدم معرفتك أني سأطلب منكِ هذا. لقد عرفتُ أنا ذلك طَوال سنوات. وكذلك عرف أرلبيث. كان يأمُل ذلك.»

ثم قال والأمل والألَم يملآن عينيه: «أعرف أن هذا هو المخرج السهل. لكني كنتُ سأطلب منكِ الزواج منِّي حتى لو لم تُعيدي التاج — صدِّقيني. حتى ولو لم تقتلي تنينًا قَط، حتى ولو كسرتِ كل أطباق القلعة. حتى ولو كنتِ ابنة مزارع. إنني أحبكِ — أحبكِ وأنتِ تعرفين ذلك، منذ عيد مولدكِ الثامن عشر، لكني أعتقد أني أحببتكِ طوال حياتي. ولن أتزوَّج بغيركِ لو لم تقبلي بي.»

ابتلعت إيرين ريقَها بصعوبة. ثم قالت: «أجل بالطبع»، ووجدت أنها لا تستطيع أن تقول أيَّ شيءٍ آخر. لم يكن مصيرها ولا واجبها هما ما أعاداها إلى المدينة وإلى تور؛ فقد أحبَّت دامار وأحبَّت ملِكها الجديد، وكان جزءٌ منها لا ينتمي إلى أي شيءٍ ولا إلى أي أحدٍ آخر ينتمي إليه هو. قبل عدة أيام وهي مُتجهة صوب المدينة لتضع التاج بين يدي الملك، كانت إيرين قد أخطأت فهْم قَدْرها الحقيقي؛ لم يكن الأمر أنها تركت ما أحبَّت من أجل أن تذهب إلى حيث يتحتَّم عليها أن تذهب، بل كان مصيرها مزدوجًا، مثل حُبها وإرثها. من ثمَّ كان القرار أخيرًا سهلًا، فَتور لم يكن يُطيق الانتظار، كما أن الجزء الآخر من نفسها — الجزء الخالد بقدْرٍ كبير، الذي لا يَدين بالولاء لأرض أبيها — يُمكنه الآن أن يهنأ بنومٍ طويل يمتدُّ سنواتٍ عديدة. ابتسمت إيرين.

فسألها تور في كربٍ ومعاناة: ««أجل بالطبع» ماذا؟»

قالت إيرين: «أجل بالطبع سأتزوَّجك»، وحين طوَّقها بذارعَيه ليُقَبِّلها لم تنتبه إلى الألم الحاد الذي نتج عن انفجار بثورها.

بعد ذلك قصَّت عليه إيرين قصةً طويلة، ومع ذلك كانت قد أغفلت جزءًا كبيرًا منها؛ ومع ذلك خطر لها أن تور خمَّن على الأرجح بعض الأحداث المريرة جدًّا؛ إذ طرح عليها أسئلة كثيرة، لكن لم يكن أيٌّ منها مما لم تكن تستطيع أن تُجيب عنه، من قبيل كيف كان شكل وجه أجسديد، أو كيف كان رحيلها الثاني عن لوث.

أكَلا طويلًا وكثيرًا، ولم يكن هناك ما يُقاطع خصوصيتهما إلا وقْع الأقدام الخفيف والعارض للخادم وهو يحمل أطباق طعامٍ طازج؛ لكن عند انتهائهما من وجبتهما كانت الظلال على الأرض، خاصةً تلك التي كانت بالقرب من كرسي إيرين، قد أصبحت كثيفةً بطريقةٍ غير مُعتادة، وكان لبعضها آذان وذيل.

نظر تور إلى قائدة اليريج طويلًا يتأمَّلها، وبادلته قائدة القطيع النظرات وتأمَّلتْه. «يجدُر أن نفعل شيئًا من أجل … أو بشأن جيشكِ يا إيرين.»

قالت إيرين في حَرَج: «أعرف ذلك. لقد كانت تيكا تُطعمهم الخبز والحليب فحسب طَوال اليومَين الماضيين، وذلك لأنها تقول إنها ترفض أن تكون رائحة الحجرة كرائحة محل جِزارة، ولحُسن الحظ هناك تلك السلالم الخلفية التي لا يستخدمها أحد — الطريق الذي كنت أستخدمه لأتسلل وأذهب لرؤية تالات. لكني لم أعرف قط لِمَ رافقوني في المقام الأول؛ ولذا لا أعرف إلى متى ينوون المكوث أو … كيفية التخلُّص منهم.» ثم ارتشفت رشفةً من شراب، ووجدت نفسها تنظر إلى عينَين صفراوين هادئتَين؛ ثم اهتز ذيل قائد قطط الفولستزا. «وفي الواقع لا أريد التخلُّص منهم، وإن كنتُ أعرف أنه ليس مُرحَّبًا بهم كثيرًا هنا. سأصبح وحيدة من دونهم.» وتذكَّرت إيرين كيف احتشدوا حولها في الليلة التالية لليلة التي تركت فيها لوث، فتوقَّفت عن حديثها فجأة؛ رمشت العينان الصفراوان ببطءٍ، وانشغل تور كثيرًا بإعادة ملء قدحيهما. أمسكت إيرين قدحَها ونظرت فيه، فلم ترَ لوث، بل رأت السنوات الطويلة التي قضتها في منزل والدها والتي خلالها لم يكن وجودها مُرحَّبًا به كثيرًا؛ وفكَّرت أنها ربما سيروقُها أن تملأ القلعة بضيوفٍ غير مرحَّب بهم، ضيوفٍ كُثر حضورُهم أكثرُ إثارةً للرعب من أن يتجاهلهم أحد.

قال تور: «سيمكثون هنا بقدْر ما يرغبون. إن دامار تَدين لكِ بأي ثمن تطلُبين»، ثم أضاف بنبرة جافة: «لا أظن أن أحدًا سيتأذى من أن يجدكِ وجيشكِ مُثيرين للخوف قليلًا.»

فابتسمت له إيرين.

بعد ذلك أخبرها تور بما حلَّ بهم أثناء غيابها؛ وكانت تعرف أكثرَ ما قال أو خمَّنته بالفعل. كان نيرلول قد ثار مرةً نهائية بُعَيد أن ركبت صوب جبال لوث؛ وسرعان ما كان النبلاء المحليون وسكان القرى المجاورة له ينضمُّون إليه أو يُدَمرون. ووقعت كتيبة الجيش التي تركها أرلبيث لدى نيرلول لتساعده في حماية الحدود في فخٍّ أعدَّه الشماليون؛ فلم ينجُ منهم إلا أقل من نصفها وعاد هؤلاء لينضمُّوا إلى ملِكهم. وانطلق أرلبيث على عجَلٍ إلى هناك ليلقى نيرلول، تاركًا تور في المدينة ليستعدَّ لِما كانا يعرفان أنه قادم لا محالة؛ وقد جاء بالفعل. كان قد أتاهم بالفعل؛ ذلك أن أرلبيث حين التقى نيرلول في المعركة، كان وجه الرجل جامدًا من الخوف، لكنه كان خوفًا مما كان آتيًا من خلفه، وليس مما كان يُواجهه؛ وحين قتلَه أرلبيث، زال عنه الخوف في آخِر لحظات حياته، وعلَت وجهه سَكينةٌ يشوبها الإنهاك ثم أغلق عينَيه إلى الأبد.

قال تور: «ومع ذلك لم يكن أرلبيث مندهشًا. كنا نعرف أننا نخوض حربًا خاسرة منذ استيقظ ماور.»

فقالت إيرين: «لم أكن أعرف ذلك.»

أجابها تور: «لم يرَ أرلبيث سببًا يستلزم أن تعرفي. كنا … كنا نعرف أنكِ كنتِ تُحتضَرين.» ازدرد لُعابه، وطرق على الطاولة بأصابعه. «ظننتُ أنه من المُستبعَد أن تعيشي حتى تشهدي سقوطنا، فلماذا كنا سنثقل عليكِ لِما تبقى من حياتكِ؟»

«وحين غادرتِ، كانت تلك أولَ مرة أشعر فيها بالأمل. تلك الرسالة التي تركتِها لي — لم تكن الكلمات هي السبب، بل كان إحساسي بقطعة الورق في يديَّ. كنت كثيرًا ما أخرجها، فقط لألمسها ودائمًا ما كنتُ أشعر بذلك الأمل ثانية.» ثم ابتسم ابتسامةً خفيفة. «وقد نقلتُ إلى أرلبيث وتيكا عدوى أملي.» توقَّف عن الحديث، وتنهَّد، ثم تابع حديثه. «بلغ بي الأمر أنني مضغتُ ورقة سوركا ودعوتُ أن أحلُم بكِ؛ ورأيتكِ على ضفاف بحيرةٍ فضية عظيمة، ورجلٌ أشقرُ طويلٌ إلى جواركِ، وكنتِ تبتسِمين عبر الماء، وبدوتِ بصحةٍ وعافية.» رفع ناظريه إليها. وقال: «كان الأمر يستحقُّ أن أدفع أيَّ ثمنٍ لقاءَ أن أحظى بكِ مجددًا، وقد برأتِ من ذلك الشيء الذي كان سيقتُلك قبل وقتٍ طويل. أيَّ ثمن مهما كان. لم يكن أرلبيث ولا تيكا واثقَين من عودتكِ، كما كنتُ أنا. كنتُ أعرف أنكِ ستعودين.»

فقالت إيرين: «آمُل على الأقل أنَّ التاج كان مفاجأة.»

فضحِك تور. وقال: «كان التاج مفاجأة بالفعل.»

•••

كان زوال تأثير ماور الخبيث عن المدينة المحاصرة مصدرَ ارتياح له بنفس أهمية تحقيق النصر النهائي غير المتوقَّع في الحرب؛ لكن كان لا يزال هناك قدْر كبير من المعالجة التي يتعيَّن القيام بها والقليل من الوقت للمرح واللهو. دُفِن أرلبيث في سلام، ووقف تور وإيرين معًا في جنازته، كما كانا معًا على الدوام تقريبًا منذ قطعت إيرين ساحةَ المعركة لتُعطي تور التاج؛ كما لم يظهرا معًا على الملأ هكذا من قبل. لكن بدا أن الناس الآن كانوا يتقبَّلون الأمر، وببساطة أبدَوا لإيرين الاحترامَ نفسه الهادئ المُتحفظ الذي كانت تتلقَّاه منذ المعركة؛ كان الأمر وكأن الناس لم يُفرِّقوا بينهما في إبداء احترامهم لهما.

مع ذلك كان الجميع يشعرون بما هو أكثر من مجرد حزنٍ عابر، وفي أعقاب غزو الشماليين ربما بدا أن وجودَ ابنةِ ساحرةٍ اعتادوا على رؤيتها تكبُر فيما بينهم طَوال الأعوام العشرين المنصرمة أمرٌ هين لا يستحقُّ القلق بشأنه؛ وفي نهاية المطاف كانت هذه الفتاة أيضًا ابنةَ أرلبيث ملِكهم، وقد أفجعهم حقًّا موت أرلبيث، وتبينوا في وجهها أيضًا فجيعتها فيه. وقفت إيرين إلى جوار تور، بينما استعرت نيرانُ آخرِ محرقةٍ أُحرِقَ فيها جثمان أرلبيث فيما أُلقي عليه البخور والطيب، والدموع تنهمر على وجهها؛ وقد حسَّنت تلك الدموع صورتها في وجهِ قومها أكثرَ مما فعل التاج؛ ذلك أن قلةً منهم فقط كانت هي مَن تفهم قيمة التاج وأهميته. لكنها لم تكن تبكي لأجل أرلبيث وحسب، بل كانت تبكي من أجلها هي نفسها ومن أجل تور، ومن أجل جهلهما الكارثي؛ لم يكن الجُرح الذي قتل الملِك جُرحًا خطِرًا، وما كان ليقتُله لو كان ما زال يتمتع بأي قوةٍ حين أُصيب به. كان العبء الثقيل الذي ألقاه ماور على ملك البلاد، التي طغى فيها ماور، بالِغًا، وكان الملك مُسنًّا.

حين نُصِّب تور ملِكًا في الاحتفال الطويل الذي أقامته دامار لتمنحه السلطة رسميًّا، كانت هذه هي المرة الأولى منذ سنواتٍ كثيرة التي يضع فيها ملكٌ لدامار تاج البطل؛ إذ كان قد صار تقليدًا أن يسير الملك حاسرَ الرأس إحياءً لذكرى التاج الذي كان منبع قوة دامار ووحدتها والذي كان مفقودًا. وبعد الاحتفال أُعيد التاج بعناية إلى قاعة الكنوز.

وحين ذهب تور ومعه إيرين ليتفقَّداه بعد ثلاثة أيام من اليوم الذي قذفوا فيه بجمجمة ماور خارج المدينة، وجدا التاج موضوعًا على القاعدة الفسيحة المُنخفضة التي كان الرأس موضوعًا عليها قبلئذٍ. نظرا إليه ثم تبادلا النظرات وتركاه في موضعه. كان التاج غرضًا صغيرًا مُسطحًا أكمدَ اللون، ولم يكن هناك سبب يدعو إلى تركه على تلك المنصة المنخفضة، التي لم تكن تعلو عن مستوى الركبة، والفسيحة بحيث يُمكن لعدة جيادٍ أن تقف عليها؛ لكنهما تركاه. وحين حاول حارس الكنوز، وهو رجلٌ من رجال البلاط الملكي يتمتَّع بتقديرٍ كبير جدًّا لنزاهته الفنية، أن يفتح موضوعَ حفظ التاج في مكان ملائم أكثر، عارضت إيرين قبل أن يكمل الرجل حديثه، على الرغم من أنه كان يوجِّه حديثه إلى تور وليس إليها.

وما كان من تور إلا أن منع أن يُنقَل التاج من موضعه، وكان هذا هو ما انتهى إليه الأمر؛ وانحنى حارس الكنوز لكلٍّ منهما تباعًا، شاعرًا بالإساءة، وانصرف. ربما لم يكن الرجل يودُّ أن يكون بهذا التهذيب الشديد مع ابنة الساحرة؛ لأن رجال البلاط كانوا يميلون إلى اتخاذ وجهة نظرٍ أكثرَ تشدُّدًا وصرامة في هذه الأمور من بقية أهل دامار. لكن أي افتقار للياقة كان لا يزال موجودًا، بعد معرفة نبلاء دامار بأن الأميرة إيرين قاتلت بشراسةٍ في المعركة الأخيرة في مواجهة الشماليين (على الرغم من أنها كانت بالطبع تتمتَّع بقوة أكبر لأنها لم تشارك إلا في اليوم الأخير)، إلى جانب الحقيقة الثابتة والمؤكدة بأن ملِكهم الجديد كان ينوي أن يتزوَّجها، كان ينحو إلى أن يتراجع أمام أتباعها من ذوي الأربع والأعين الضارية. لم يكن هؤلاء الأتباع يفعلون شيئًا أكثرَ من التحديق بضراوة. لكن زيارة حارس الكنوز كانت تُراقبها باهتمامٍ تسعة حيوانات كبيرة ذات فراء موزَّعة حول قدمَي إيرين وفي زوايا مُختلفة من قاعة المقابلات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤