الفصل الخامس

كان سيتحتَّم على إيرين أن تشارك في زفاف جالانا في نهاية المطاف. كان تأثير نبتة السوركا يتلاشى من دون شك؛ «لقد امتدَّ تأثيرها طوال كل هذه المدة، فلماذا لم يستمر فترةً أطولَ قليلًا؟» هكذا قالت إيرين لتور في انزعاج.

وكان ردُّه: «لقد حاولَتْ، أنا واثق من هذا. الأمر فقط أنها لم تكن تتوقَّع جالانا.»

كانت جالانا قد تدبَّرت أن تؤجِّل الحدثَ الكبير نصف عام إضافي، لأنها أرادت، حسبما قالت في حياءٍ وخجل، أن يكون كل شيءٍ على أكمل وجه، ولم يكن مُمكنًا في غضون الوقت المتبقي أن يفيَ الكثير من الأشياء بهذا المعيار. في تلك الأثناء كانت إيرين قد بدأت على مضضٍ الاضطلاعَ بمكانتها القديمة في بلاط والدها؛ لم يكن حضورها ضروريًّا جدًّا، لكن جرى التنويه على غيابها المستمر، كما أن نبتة السوركا لم تكن قد قتلتها في نهاية المطاف. «أتساءل إن كان بإمكاني على الأقل أن أُقنعها بأنني أكثر وهنًا من أن أحمل صولجانًا ووشاحًا أو أن ألقيَ بالزهور وأغنِّي. ربما يُمكنني أن أفلت بمجرد الوقوف إلى جوار أبي وأن أبدوَ شاحبة ومعتلَّة. ربما. فلا يُعقَل أنها ترغب في وجودي أكثرَ مما أرغب أنا في أن أكون موجودة.»

«كان ينبغي بها أن تفكِّر بانتقائية أكثرَ بشأن التوقيت حين حثَّتك على تناول نبتة السوركا في المقام الأول.»

ضحِكت إيرين.

وقال تور في أسًى: «أكاد أتمنَّى لو أني كنتُ قد استبقت الأمر بأن آكل شجرة منها.» كان بيرليث قد طلب من تور أن يقف خلفه في المراسم. كان من المُفترَض أن يحمل الإشبين شارةَ الطبقة الاجتماعية الخاصة بالأمراء في زفافه؛ لكن في هذه الحال بعينها كانت هناك بعض الحساسيات المُثيرة للاهتمام. كانت التقاليد تقضي بأن يطلُب بيرليث من الملك وولي العهد أن يقفا إلى جواره في المراسم، وتقضي أيضًا بأن يقبل الملك وولي العهد الدعوة. وكان موضع الإشبين، كما تقضي الترتيبات، هو الموضع الأهم، لكنه أيضًا كان المَوضع الأكثر تطلبًا للانتباه؛ وكانت اللفظة الدارجة المرادفة لموضع الإشبين لفظة فظَّة، وتشير إلى موقع الرفيق بالقرب من ظهر أميره. وكان الطلب من تور أن يقفَ في موضع الإشبين رمزًا على تقديره المنقطعَ النظير لولي العهد، حيث ينبغي بموضع الإشبين أن يكون من نصيب أعزِّ صديق لبيرليث. وستكون تلك أيضًا هي فرصة بيرليث الوحيدة لكي يجعل وليَّ العهد يخدمه.

قالت إيرين: «ينبغي لك أن تلقيَ بالشارة في جلبة، تمامًا حين تصل الأنشودة إلى الجزء المتعلق بالولاء للأسرة والغبطة اللامتناهية لأن تكون فردًا في أسرة. آآآه.»

فردَّ تور يقول: «لا تحاولي إغرائي على أن أفعل.»

لحُسن الحظ لم تكن جالانا تتمتَّع بحس الفكاهة الذي يتمتَّع به زوجها المستقبلي، وكانت مسرورة أن تُعفيَ إيرين من المشاركة على أساسِ انعدام الثقة المستمر في صحةِ ولية العهد. وكانت جالانا عاجزةً عن التخطيط والتدبير لأيِّ شيءٍ مدةَ عام مقدَّمًا، ولم يكن لحادث السوركا علاقةٌ بالاقتراب المُنتظَر ليوم زفافها. بل كان لذلك علاقة بفقدانها لأهدابها حين عرفَتْ أن بيرليث قد قرَّر أن يتقدَّم للزواج بها — العرض الذي كان يتحتم حينها تأجيلُه حتى تعود أهدابها طويلةً بما يكفي لترفع ناظريها إليه من خلالهما. (كانت في واقع الحال ضعيفة بما يكفي لتتساءل إن كانت إيرين «موهوبة» في نهاية المطاف؛ إذ كان توقيتها في هذا شيطانيًّا جدًّا.) لكن كان قد خطر لها في الآونة الأخيرة أنه سيكون خيرًا لو وجدت طريقةً تُبقي بها إيرين بعيدةً عن الحفل نفسه، من دون أن ترتكب بذلك إساءةً عامة ظاهرة (وحيث إنَّ السوركا لم تقتُلها، فإن جالانا لم تحاول أن تفعل، وهو فضلٌ لم تكن تستحقُّه على أي حال). فهمت جالانا كما فهِم بيرليث لماذا طُلب من تور أن يكون الإشبين، ولماذا سينفِّذ ذلك؛ لكن تور كان أهلًا للثقة، مع كل تعاطُفه المثير للاشمئزاز مع قريبته الأصغر. كان يؤمنُ بمكانته وليًّا للعهد في حينِ لم يكن لدى إيرين أيُّ سبب يجعلها تؤمِن بمكانتها كوليَّةٍ للعهد؛ ولو أن إيرين أُجبِرَت على تأدية دَورٍ شكليٍّ، فإنها ستُفسِد كل شيء بقصدٍ أو بغير قصد منها. ولم يكن أيُّ شيءٍ سيفسد يوم زفاف جالانا. وقد فهِمت، هي وإيرين، كلٌّ منهما الأخرى جيدًا جدًّا حين قدَّمت لها إيرين بطريقةٍ رسمية وباسمة اعتذاراتها وأسفها، وقبِلت جالانا ذلك منها بالطريقةِ نفسِها.

وقد كان زفاف جالانا وبيرليث هو أول حدَثٍ رسمي كبير منذ الاحتفال ببلوغ تور، ومن ثمَّ تَوَلِّيه مسئولية مكانته كاملةً، معاونًا وناصحًا لعمِّه، بعد أقل من عامَين من وفاة والده. وكانت إيرين جزءًا من تلك المراسم، وقد عزمت على تأدية دَورها في جلالٍ ودقة، حتى لا يشعر تور بالحرج أمام كلِّ مَن أخبروه ألا يطلب منها أن تشارك في المراسم. وكانت النتيجة أنها تذكَّرت القليل جدًّا من الطقوس التي استغرقت يومًا كاملًا. تذكَّرت أنها كانت تُكرِّر استجاباتها في ذهنها بطريقةٍ محمومة (وقد حفظت تلك الاستجابات بصرامة شديدة حتى إنها ظلَّت تتذكرها طَوال حياتها). حين ينتهي الكهنة من تلاوة أسماء الملوك قبل أرلبيث والذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ملك وعشرة (لم يكن ذلك يعني أن جميعهم حكموا البلدَ نفسه، لكن التلاوة الرنانة لأسماء كل الملوك المُتعاقِبين كان لها وقْعٌ مُثير للإعجاب)، كان يتعيَّن عليها أن تُعِيدَ تلاوة أسماء آخر سبعة منهم، كون الرقم سبعة هو الرقم الكامل وذلك بسبب عدد الآلهة الكاملة السبعة، كما كان يتعيَّن عليها تلاوة أسماء زوجاتهم أو ملكاتهم المُبجِّلات (كان قد مرَّ زمن طويل منذ أن كانت ثمَّة ملكة حاكمة) وأي أشقاء أو شقيقات لهم. وكانت خاتمة التلاوة: ثم يأتي من بعده تور، ابن ثومار، شقيق أرلبيث؛ كان تور هو التالي. وكان يتعيَّن ألا تكون نبرتُها عالية، وذلك لثلاث مراتٍ يوميًّا، ذلك أنهم كانوا يُؤدُّون كلَّ تلك المراسم مرةً عند الفجر، ومرةً عند الظهيرة ومرةً عند الغروب. كما كان يتعيَّن عليها أيضًا أن تُمسك بنجاد سيفه، وبحلول المساء كانت تُصاب بالبثور في كلتا راحتي يدَيها من شدة الضغط عليهما. لكنها أدَّت كل شيءٍ بصورةٍ صائبة.

منذ ذلك الحين أصبح تور أكثرَ انشغالًا، فكثيرًا ما كان خارج المدينة، يظهر بنفسه لأهل التلال الذين كان مَجيئهم للمدينة نادرًا أو منقطعًا، وذلك حتى يعرفوا جميعًا شكلَ الرجل الذي سيُصبح ملِكَهم يومًا ما ويسمعوا صوته؛ كما أن تناول إيرين لنبتة السوركا كان بعد فترةٍ وجيزة من بلوغ تور. ومع أن ذلك كان ثقيلًا عليها لم تكن تتطلَّع لأن تراه كثيرًا حتى حين يكون في المدينة، على الرغم من أنه كان قد أتى في أحيانٍ كثيرة ليجلس إلى جوارها حين كانت مريضةً جدًّا بحيث لا تستطيع الاعتراض، حتى — ومن دون أن تعرف هي ذلك — إنه أجَّل رحلةً أو اثنتَين حتى يتسنَّى له أن يظلَّ بالقرب منها. لكن وبينما تحسَّنت حالتها لتكون واثقةً من أنها ليست على ما يرام، وبينما أخذ غيابُه الناجم عن الضرورة يتزايد، بدأ ينمو بينهما حاجز، ولم تَعُد بينهما علاقة الصداقة التي كانت بينهما فيما مضى. كانت تفتقده، ذلك أنها اعتادت الحديث معه كلَّ يوم تقريبًا، لكنها لم تقُل قَط إنها افتقدته، وقالت لنفسها إنَّ وليَّ العهد لن يلوِّث نفسه بالبقاء بصُحبتها كثيرًا، حيث أثبتت نبتة السوركا صِدْق معظم ما ساقته جالانا في حقِّها. وحين كانت تراه، كانت تبذل جهدًا جهيدًا لتبدوَ متألقةً وفظَّة.

بعد بضعة أيام من هرولةِ تالات لنصف المسافة حول مَرعاه وإيرين على صهوته، سألت هورنمار عما حلَّ بتسريجة تالات. كانت تعرف أنَّ كلَّ جواد من جياد البلاط له تسريجتُهُ الخاصة، وما كان كيثتاذ ليُهان أبدًا بارتدائه أجزاءً من تسريجةِ سلَفه؛ لكنها كانت تخشى أن يكون قد تُخلِّص من تسريجة تالات حين انتهى أمرُه جرَّاء إصابته في ساقه. أما هورنمار الذي كان قد رأى تالات يجري حول حقلِه وإيرين تمتطي ظهرَه في تحوُّط ومراعاة، فقد أحضر سَرْجًا وطوقًا ولِجامًا؛ ذلك أنه لم يملك الجرأة ليتخلَّص منها على الرغم من أنه ظنَّ أنها لن تُستخدَم ثانية أبدًا. ومع أن إيرين لاحظت أن التسريجة يبدو أنها نُظِّفت وزُيِّتت حديثًا، لم تقُل شيئًا سوى «شكرًا لك.» وفي نفس اليوم الذي حملت فيه تسريجةَ تالات إلى حُجرتها وخبَّأتها في خزينة ملابسها (حيث اكتشفتها تيكا لاحقًا بعد أن وجدت أنها خلَّفت بُقَع زيت على أفضل فساتين إيرين التي ترتديها في البلاط الملكي)، رأت من نافذة حجرتها تور يعود على صهوة جواده من أحد جولات زياراته السياسية؛ فقرَّرت أن الوقت قد حان لتتربَّص له.

قال تور في سرورٍ وقد احتضنها: «إيرين. لم أرَكِ منذ أسابيع. هل انتهيتِ بعدُ من فستانك لزفاف القرن؟ مَن منكما فازت، أنتِ أم تيكا؟»

لوت إيرين قسماتِ وجهها. «لقد فازت تيكا أكثرَ مما فزتُ أنا، لكني أرفض بتاتًا أن أرتديَ فستانًا باللون الأصفر، وهكذا على الأقل سيكون بدرجةٍ من درجات الأخضر الداكن، وسيكون أقل زخرفة. لكنه لا يزال فظيعًا إلى حدٍّ كبير.»

بدا تور مُستمتعًا. وحين بدا مستمتعًا كادت تنسى أنها كانت قد فضَّلت ألا يعودا صديقَين مُقرَّبين. قال تور: «تناولي معي وجبة المساء. ينبغي لي أن أتناول العشاء في القاعة — أظن أنكِ ما زلتِ تزعُمين اعتلالَ الصحة وتتناولين الطعامَ في سلام مع تيكا؛ لكنني سأتناول وجبةَ المساء المتأخرة في غرفتي. فهلا أتيتِ؟»

قالت إيرين: «بالفعل أدَّعي اعتلالَ الصحة. أتريدني حقًّا أن أصاب بالدُّوار لحظة وأسكب كأسًا ممتلئةً بالنبيذ في حِجر الضيف المُوقَّر عن يميني، أو عن يساري؟ احتمال أن أتسبَّب في حربٍ أهلية أقل إن تخلَّفتُ عن الحضور.»

«هذا عذرٌ مُلائم جدًّا. أحيانًا يُخيَّل إليَّ أنني لو اضطُررتُ إلى النظر إلى جالانا وهي تغمغم في عجرفةٍ تعليقًا على آخرِ تفاصيل الحدث المُنتظر، فسأُلقي عليها برميلًا كاملًا من الشراب. ومن الطريقة التي تستطرد بها السرد حول أهميةِ ما حدث، مرتَين، من إزالة ترتيبات جلوس أقارب البارونات من الدرجة الثالثة، قد تَظنُّين أنَّنا كنَّا نعلن استقلالًا ملطَّخًا بالدم عن طاغية يرتكب الإبادةَ الجماعية. أعرفتِ أن كاتاه لا تريد المجيء على الإطلاق؟ يقول زوجها إنه قد يُضطَرُّ إلى وضعِ حقيبة على رأسها ويربطها إلى حصانها. وتقول كاتاه إنها تعرف جالانا ولا يعرفها هو. هلا تأتين لتناول وجبة المساء؟»

«بالطبع، إن سَكَتَّ بما يكفي لأن أُعلن قبولي.» ثم ابتسمت له.

نظر تور إليها وهو يشعر باختلاجٍ من المفاجأة؛ رأى في ابتسامتها للمرة الأولى ما سيقُضُّ مضجعَه عما قريب؛ رأى شيئًا لا يُشبه كثيرًا الصداقةَ التي نَعِما بها طوال حياتهما وحتى ذلك الحين؛ شيئًا سيزيد ارتفاعَ الحاجز بينهما أسرعَ مما يُمكن لأي شيءٍ آخر أن يفعل؛ الحاجز الذي رأت إيرين وحدَها حتى هذه اللحظة أنه يرتفع.

سألته قائلة: «ما الخطْب؟» كان شيءٌ من المودة والألفة القديمة لا يزال يؤدي الغرض، ورأت الطَّيف يمرُّ بملامحه، وإن لم تملك أدنى فكرة عما سبَّبه.

«لا شيء. سأراكِ الليلة إذن.»

ضحِكت حين رأت أدوات المائدة لوجبتهما: أدوات ذهبية. كانت الأقداح الذهبية أسماكًا تقف على ذَيلها، وأفواهها المفتوحة تنتظر النبيذ كي يُصبَّ؛ ويُحيط بالأطباق أيلٌ ذهبي واثب، رأس كلٍّ منها مَحنيٌّ على وسط التي تسبقها، وقد شكَّلت أذيالها المعلَّقة حافةً مروحية الشكل؛ وكانت المَلاعِق والسكاكين طيورًا ذهبية، تشكِّل أذيالها الطويلة مقابضها. قالت: «غير قابلة للكسر بدرجةٍ كبيرة. لا يزال بإمكاني أن أريق النبيذ.»

«سيتعيَّن علينا أن نتدبَّر أمرنا.»

«من أين حصلتَ على هذه في دامار؟»

تسلل إلى وجهه شيءٌ أشبه بتوهُّج. «أربع أدوات من هذه كانت ضمن هدايا بلوغي؛ إنها من بلدة جهة الغرب تشتهر بمشغولاتها المعدنية. إنما أحضرتها في رحلتي الأخيرة وحسب.» كان زعيم البلدة قد أخبره أنها أُعطِيَت له لأجل عروسه.

نظرت إليه إيرين، وهي تُحاول أن تقرِّر أمرَ التوهُّج؛ كان في البداية بُنِّيًّا، وكان كذلك بلون النحاس من لفح الشمس، وكان من الصعب أن تُقرِّر. «حتمًا كان احتفالًا طويلًا ومبهرجًا، وألبسوك حلَّة من المجد الذي لا تشعر أنك استحقَقْتَه.»

ابتسم تور. وقال: «تقريبًا.»

لم يَرُق إيرين شيء في تلك الأمسية، وطفِقت هي وتور يتذكَّران قدْر استطاعتهما أكثرَ لحظات الطفولة إحراجًا، وأخذا يضحكان. ولم يَذكُرا زفاف جالانا وبيرليث ولو مرةً واحدة.

قالت إيرين: «أتذكُرُ حين كنتُ صغيرة جدًّا، كنتُ لا أزال رضيعةً تقريبًا، وكنتَ أنت تتعلَّم لأول مرةٍ كيف تتعامَلُ مع السيف، تذكُر كيف اعتدتَ أن تُريني ما تعلَّمتَه …»

فقال مبتسمًا: «أذكُر أنكِ تَبِعتني في الأرجاء وأخذتِ تتملَّقينَني وتَنتحبين حتى لم أجد بدًّا من إخباركِ.»

فقالت هي: «تملقتُك، أجل. انتحبتُ، مُحال. وقد بدأتَ «أنت» الأمر؛ فأنا لم أسألك أن أُوضَع في جرابٍ للأطفال فيما تقفز أنت بجوادك فوق الحواجز.»

«هذا خطئي أنا، أقرُّ بذلك.» تذكَّر أيضًا كيف بدأت صداقتهما وإن لم يقل شيئًا عن ذلك. كان قد شعر بالأسف على قريبتِه الصغيرة، وكان سبب بحثِهِ عنها في البداية هو كرهه لأولئك الذين أرادوا نبذها، خاصةً جالانا، لكن سرعان ما تحوَّل الأمر لأجلها هي ذاتها: ذلك لأنها كانت ظريفةً ومرحةً حتى وهي بالكاد تتحدَّث، وكان أكثر ما كانت تُحِب هو أن تجد أشياءَ تشعر بالحماسة تجاهها؛ كما أنها لم تكن تُذكِّره بأنه سيكبُر ليصير ملكًا. ولم يتعلَّم قطُّ أن يصدِّق أنها دائمًا ما تكون خجولةً بين الناس، ولا أن الخجل هو أفضل محاولاتها لنيل اعترافٍ لَبِقٍ بمكانتها المتزعزعة في بلاط أبيها؛ ولا أن استعصاءها الدفاعي كان ضروريًّا إلى حدٍّ كبير.

لقد أراد أن يراها تلتهِب حماسةً حتى إنه صنع لها سيفًا خشبيًّا صغيرًا، وبيَّن لها كيف تُمسكه؛ ولاحقًا علَّمها ركوب الخيل، وسمح لها بأن تركب فرسَه الطويلة حين جعلها أول خيولها القزمة الجميلة والمُدلَّلة، تتمنَّى لو تُقلِع عن الركوب تمامًا. وكان قد بيَّن لها كيف تُمسك بقوسٍ وكيف تُطلِق سهمًا أو رمحًا إلى حيث تُريد له أن يذهب؛ وكيف تسلخ أرنبًا أو طريدة، وأفضل سُبل الصيد في المجاري المائية والبِرك الساكنة. فكَّر الآن أنه كان لها بمثابة أخٍ أكبر بشكلٍ كامل، وللمرة الأولى كان في تفكيره هذا شيءٌ من المرارة.

قالت هي: «لا يزال بإمكاني صيدُ الطرائد والسمك وركوب الخيل. لكنِّي أفتقد المبارزة بالسيف. أعرف أنك لا تحظى بالكثير من وقت الفراغ في هذه الآونة …» ثم تردَّدت في حديثها، تُقَدِّر أيَّ أسلوبٍ سيكون هو المُرجَّح أكثر أن يُثير الردَّ الذي تبتغيه. «وأعرف أنه ليس ثمَّة سبب لذلك، لكني … لكني كبيرة الآن بما يكفي لأن أستطيع حَمل أحد سيوف التدريب التي يَحملها الفتية. فهلَّا …»

سألها قائلًا: «دربتكِ؟» كان يخشى معرفته بمَرامِيها، مع أنه حاول أن يُخبِر نفسَه أن ذلك ليس بأسوأ من تعليمها صيدَ السمك. كان يعرف أنَّ هذا لن يُجدِيَها نفعًا حتى ولو وافق على ذلك؛ فلم يكن مُهمًّا أنها كانت فارسة ماهرة بالفعل، ولا أنها كانت، أيًّا كانت الأسباب الفطرية أو الظرفية، أقلَّ تفاهةً من أيٍّ من نساء البلاط الملكي الأُخريات؛ لم يكن مُهمًّا أنه كان يعرف، من تعليمها أشياءَ أخرى، أن بإمكانه على الأرجح تعليمها أن تكون مبارِزةً بارعة. كان يعرف أن عليه ألَّا يُشجِّعها على ذلك الآن لأجل مصلحتها.

قال تور في نفسه: فلتَمنعْها الآلهة من أن تطلُب منِّي شيئًا لا ينبغي لي أن أُقدِّمه لها، وبصوتٍ مرتفع، قال: «حسنٌ إذن.»

والتقت أعيُنهما، وأشاحت إيرين بعينَيها أولًا.

•••

تحتَّم أن تكون الدروس على فتراتٍ مُتقطِّعة بسبب جولات الواجبات المتزايدة باستمرار باعتبار تور وليًّا للعهد؛ لكن إيرين ظلَّت تحظى بدروسها كما أرادت، وبعد عدة أشهُرٍ من التدريب تمكَّنت من أن تجعل مُعلِّمها يلهث ويتصبَّب عرقًا فيما يَثِبُ كلٌّ منهما حول الآخر. وكانت دروسها هي دروس جندي مُشاة فقط؛ فلم تجرِ الإشارة إلى الخيول، وكانت حصيفةً بما يكفي ألا تعترِض على ذلك، فقد اكتسبت الكثير.

وكانت إيرين تعتزُّ جدًّا، بما تعلَّمتْه من تور؛ لم يكن في حاجة لأن يعرف بشأن الساعات الطويلة التي استغلَّتها في التدريب والتعلم، فكانت تضرب أوراق الأشجار وذرات الغبار حين لم يكن موجودًا. وقد أبدت، ما عدَّته هي، احتجاجاتٍ إجبارية بشأن فترات التوقف المنتظمة التي تتخلل ما تُحرزه من تقدُّم حين كان تور يُبعَث إلى مكانٍ ما، لكن في الحقيقة كانت مسرورة بتلك الفترات؛ لأنها حينها كانت تحظى بالوقت لتضع إضافتها، فكانت تفرض الدروس على عضلاتها البطيئة البليدة «العديمة الهبة». لكنها كانت دومًا مُتلهفةً إلى لقائها التالي مع ولي العهد، ولم يُناقش هو معها ما ظنَّه متعلقًا بجلسات تدريبها الخاصة، أكثرَ مِن نقاشهما لحقيقةِ أنه لم يُقاتل من دون حصانٍ منذُ كان صبيًّا صغيرًا يتعلَّم أولَ دروسه في المبارزة بالسيف. فالأمراء دائمًا ما يقودون سلاح الفرسان. وعرفت إيرين جيدًا حين حان الوقتُ أنها لو كانت في تدريبٍ حقيقيٍّ لوُضِعَت على صهوة حصان؛ لكن مرَّت تلك اللحظة أيضًا في صمت.

لكنَّ شيئًا جيدًّا مرَّ في صمتٍ أيضًا؛ لأن كبرياء إيرين كانت تمنعها من أن تُذكِّره، وذلك لأسباب مختلفة: أخيرًا فإنَّ التحكُّم العضلي والتناسُق لاستخدام السيف ببراعةٍ، أخرَجَا منها آخِرَ ما كان من تأثيرٍ لِنبتة السوركا في جسمها. كان قد مرَّ عامان منذُ لقائها مع جالانا في الحديقة الملكية.

لقاءات تور وإيرين عند أقصى ميادين التدريب الأقل استخدامًا أعطتْهُما كذلك مُبررًا لأن يكونا معًا، كما كانا معًا على الدَّوام، دون أن يكونا في حاجةٍ لأن يُقرَّا بالتحفُّظ المستجَد بينهما، ودون اكتشاف أن الحديث بينهما كان يزداد ارتباكًا.

وكانت إيرين تعرف أن تور كان حريصًا على ألا يَستخدِم قوَّته الحقيقية حين يدفعها إلى التراجُع؛ لكن على الأقل، وكما عرفت، كان عليه أن يكون سريعًا ليصدَّها عنه، وكانت تأمُل في أنَّ القوة ستأتي لاحقًا. كانت إيرين تنمو مثل عشبة؛ إذ كان قد حلَّ عيد ميلادها السابع عشر ووَلَّى، بالأبَّهة المُزعجة والضرورية لابنة ملك، والمجاملات المُتَكلَّفة المستلهَمة من ابنة الملك غير المقبولة، وكانت أكبر سنًّا بكثيرٍ من أن تزداد طولًا فجأة. لم تكن تُمانع في أن تفوق جالانا طولًا؛ إذ إن ملامح جالانا المثالية حين تُرى من الأعلى كانت تبدو ناتئة قليلًا عند الحاجبين وضَيِّقة قليلًا حول العينين. وكانت إيرين تأمُل أيضًا أن تفوق كيشا المتمرَّدة طولًا وتُمنَح جوادًا حقيقيًّا.

جواد حقيقي. تعيَّن عليها أن تُطبِق فمَها بقوةٍ أكبر حول عزمها ألا تذكرَ أمرَ الجياد لتور. إذ إن قوة الفارس — أو الفارسة — كانت تكمن في الجواد. لكنها إن طلبت من تور أن يعلِّمها كيف تقاتل من فوق صهوةِ جوادٍ فسيتعيَّن عليه أن يقرَّ بمعرفته بمدى ما يعنيه لها الأمر، أن ما تفعله لم يكن مجرد لعبةٍ مسلية خاصة كانت تلعبها؛ وعرفت إيرين أنَّه كان مُنزعجًا بشأنِ ما كانا يفعلانه بالفعل. كان سكوته الغريب حول سبب تلهُّفها للتعلُّم هو ما أنبأها بذلك؛ وكان لا يزال بمقدور تور قراءة أفكارها بقدْرِ ما يُمكنها هي قراءة أفكاره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤