الفصل السابع

في عيد مولدها الثامن عشر أُقيمت مأدبة للأميرة الأولى، وذلك رغم كل محاولاتها لمنع ذلك. سدَّدت جالانا نظراتها وكأنها سهامٌ مسمومة ولازمت جنب تور بشكلٍ لافت للنظر بالنسبة إلى كونها زوجةَ رجلٍ آخر منذ مدةٍ ليست بالطويلة. أبدى بيرليث ملاحظاتٍ خفيفة الظلِّ في حق إيرين بأسلوبه الخفيف الناعم الذي دائمًا ما كان يبدو وديًّا، بغض النظر عما يقول. أما والدها الملك فاقترح نَخبًا على شرفها، وتألَّقت وجوه الحاضرين حول الطاولات في القاعة بالبسمات؛ إلَّا أن إيرين نظرت إليهم في حزنٍ ولم ترَ إلا أسنانًا بادية.

أخذ تور يُراقبها: كانت ترتدي سترةً قصيرة ذهبية على تنُّورة طويلة حمراء اللون، وعلى السترة أزهار مطرَّزة تلتفُّ على حافتها، وتتدفَّق على الكُمَّين بَتلاتٌ بألوان عدة؛ كما لبِست الخاتمَين نفسيهما اللذين ارتدتهما في زفاف جالانا. وكان شعرها ذو اللون الناري معقوفًا حول رأسها، ومثبَّتًا عليه حلقةٌ ذهبية صغيرة، وعلى جبهتها ثلاثة طيور ذهبية تمسك بفصوص خضراء في مناقيرها. رآها تور تُنحِّي بصرَها عن ابتسامات المُتودِّدين، ونفض يدَ جالانا عن ذراعه في تبرُّم، وحينها لم تَعُد جالانا حتى تتظاهر بالابتسام.

لم تلاحظ إيرين هذا، وذلك لأنها لم تكن تنظر إلى جالانا مُطلقًا إن كان بإمكانها ألا تفعل، ولم تكن تنظر لتور أيضًا إن كانت جالانا بالقُرب من تور. لكن أرلبيث لاحظ ذلك. كان أرلبيث يعرف ما رأى، خيرًا كان أو شرًّا، ولم تكن كثيرة هي الأحيان التي لم يكن يعرف فيها أفضل تصرُّف بشأنِ ما رآه؛ لكن في هذه الحال، لم يكن يعرف. وآلَمَ فؤادَه ما رآه في وجه تور؛ لأنَّ أعزَّ أمانيه كان أن يتزوَّج هذان الاثنان، لكنه كان يعرف أن شعبه لم يُحب قَط ابنةَ زوجته الثانية، وخشِيَ سوءَ ظنِّهم، وكانت لدَيه أسبابٌ لخشيته. أحسَّت إيرين بذراع والدها حول كتفَيها، فالتفتت لترفع ناظريها وتبتسم له.

بعد المأدبة ذهبت تجلس في مقعد النافذة خاصتها، تُحدِّق في الساحة القاتمة؛ وقد خلَّفت المصابيح الموجودة حول مُحيطها بُقعًا كبيرة من الظلمة بالقُرب من جدران القلعة. وكانت حجرة نومِها مُظلمة كذلك، ولم تكن تيكا قد وصلت بعدُ لتتأكد من أنها علَّقت ملابسها كما ينبغي لها أن تفعل عوضًا عن تركها على الأرض حيث ستدعسها. سمِعت صوت طرقٍ خفيف على الباب. فالتفتت وقالت بدهشة: «ادخل»؛ لو كانت فكَّرت في الأمر لصمتت وتركت زائرها يرحل من دون أن يجدها. أرادت أن تكون وحدَها بعد أن كانت في القاعة التي تعجُّ بالطعام والحديث والبسمات المتألقة.

كان القادم هو تور. استطاعت رؤية مظهره في الضوء المُنبعث من القاعة، وكانت قد ظلَّت جالسةً في الظلمة فترةً طويلة لأن ترى بوضوح. لكنه أخذ يرمش بعينَيه وينظر فيما حوله، ذلك أن جسدها بدا وكأنه مجرَّد جزءٍ من الستائر الثقيلة المُعلَّقة حول الكوة العميقة للنافذة. تحرَّكت فرأى اختلاج تنورتها الحمراء.

«لماذا تجلسين في الظلمة؟»

«كانت الأضواء في القاعة أكثرَ مما ينبغي الليلة.»

صمت تور. وبعد لحظة، تنهَّدت إيرين ومدَّت يدَها نحو شمعةٍ وقدَّاح. بدا لتور أن الظلال التي أسقطها لهب الشمعة على وجهها جعلها عجوزًا للحظة: امرأة لها أحفاد، رغم شعرها البرَّاق. ثم وضعت إيرين الشمعة على طاولةٍ صغيرة وابتسمت له، فعادت بنت الثامنة عشرة.

لاحظت إيرين أنه يحمل شيئًا في يده: شيئًا طويلًا ورفيعًا، ملفوفًا في قماش داكن. «أحضرتُ لكِ هدية عيد ميلادك … سرًّا، حسبما ارتأيتُ أنكِ ستُفضِّلين.» وقال في نفسه، وهكذا لن أُضطَرَّ إلى تقديم أي تفسيرات.

عرفت إيرين على الفور ماهيةَ الهدية: إنها سيف. راقبت إيرين بإحساسٍ مُتزايد بالحماسة والإثارة ما بُسِط من الأغلفة، ومن بينها خرج السيف، سيفها الخاص بها وحدَها، وهو يصدِر بريقًا. مدَّت إيرين يدَها إليه في لهفة، واستلَّته من قِرابه. كان السيف أملسَ عدا بعض الأشغال على مقبضه لتجعل مسكته ثابتة؛ غير أنها شعرت به خفيفًا ومضبوطًا ومثاليًّا في يدها، وقد ارتعشت يدها فخرًا به.

وقالت له: «شكرًا لك»، وعيناها لا تزالان مُثبَّتتَين على السيف، ومن ثمَّ لم ترَ نظرةَ الأمل والشفقة على مُحيَّا تور وهو يُراقبها.

قال تور: «ستُجربينَه عند الفجر»، وأخرجتها نبرةُ صوته من حالة الاستغراق الحالمة، فرفعت عينَيها إلى عينَيه. وأكمل يقول: «سألقاكِ في مكاننا المُعتاد» وحاول أن يتحدَّث إليها وكأن هذا تدريبٌ كأيِّ تدريبٍ آخر؛ وأخفق في ذلك، ومع ذلك لم تخمِّن إيرين سببَ إخفاقه.

قالت إيرين مازحة: «هذا أفضل بكثير جدًّا من أن أحصل على ثوب آخر»، وسرَّها أن رأته يبتسم.

«كان ثوبكِ غاية في الجمال.»

«لو كان أقلَّ جمالًا، لَما كرهتُه بهذا القدْر. كنتَ سيئًا بقدْر تيكا، تحاول أن تُبقيني في الفراش، أو أمشي في أرجاء غُرفتي أرتدي ثوبًا إلى الأبد.»

«وقد نفعنا ذلك كثيرًا، رغم حقيقة أنكِ لم تستطيعي الوقوف على قدمَيكِ من دون السقوط أو التعرُّض للإغماء.»

فقالت إيرين، وهي تلوِّح بهدية عيد مولدها برقةٍ أمام وجهه: «كان تركيزي على دروسي معك هو ما أخرج منِّي في نهاية المطاف آخِرَ تأثير للسوركا.»

أجابها تور في حزن: «أكاد أصدِّقكِ.»

هكذا كانا واقفَين، يتبادلان النظرات، والنصل المسلول مرفوع بينهما، حين دلفت تيكا من الباب المفتوح خلفهما. قالت: «لتحفظنا جولوتات»، وأغلقت الباب خلفها.

وقالت إيرين: «أليست هدية عيد مولدي جميلة؟» وأدارت النصل يَمنة ويَسرة بسرعة فأخذ يُومِض في وجهِ مُربيتها العجوز وهي واقفة عند الباب. نظرت تيكا إلى وجهها ثم إلى وجه تور، ثم عاودت النظر إلى إيرين ولم تقُل شيئًا.

فقال تور: «سأتمنَّى لكما ليلةً سعيدة»، ولأن تيكا كانت موجودة تجرَّأ على أن يمدَّ يدَيه نحو إيرين، فوضعهما على كتفَيها وهي تضع السيف في قِرابه ثم قبَّل وجنتها كما يُقبِّل القريب قريبته؛ وما كان له أن يجرؤ على إتيان ذلك لو كانا بمفردهما. وانحنى مُحييًا تيكا وتركهما.

•••

ربما كان السبب هو حصولها على سيفها الخاص بها. ربما كان السبب أنها بلغت الثامنة عشرة، أو أن ثمانية عشر عامًا من ممارسة العناد كانت تؤتي ثمارها أخيرًا. مع أنها كانت لا تزال تتعثَّر في حواف البُسُط أو تصطدم بالأبواب وهي تفكِّر في أشياءَ أخرى، فلم تَعُد تكترث بالنظر حولها في قلقٍ لتعرف إن كان أحد قد رآها: فإما أن أحدًا رآها وإما أن أحدًا لم يرَها، وكانت لديها أشياءُ أخرى تشغل بالها؛ وكانت تنعم بتلك الأشياء الأخرى وتتمتَّع بها. كانت تلك الأشياء تعني أنها لم تتورَّد خجلًا بصورةٍ تلقائية حين تقع عينها على بيرليث، وهي تعرف أنه كان سيُفكِّر في شيءٍ يقوله لها منذ آخِر مرة أخفقت فيها في أن تتجنَّبه، وأن بسمتَه الخفيفة الماكرة وجفنَيه المُرتخيَين سيزيدان من سوء أي شيء يقوله. وسارت إيرين خلال قاعات القلعة وشوارع المدينة من أقصرِ الطرق وليس في الدروب التي كانت ستلقى فيها أقل عددٍ من الناس؛ وتفادت نبتة السوركا في الحديقة الملكية، ولكن فقط كي لا تجعلَها مريضةً ثانيةً. ولم تنكمش خَوْفًا من فكرة وجودها، أو من خِزي أنَّ عليها أن تتفاداها في المقام الأول؛ ولم تَعُد كذلك تشعر بأن تنشُّق هواء الحديقة كان مرادفًا لتنشُّق خبث جالانا.

وكانت قد اكتشفت كيف تصنع الدهان المُضاد لنيران التنانين.

كانت تعرف أن العناد وحدَه هو ما أبقاها مُستمرةً على ذلك، أكثر من عامَين من إجراء تغييراتٍ ضئيلة في الخلطات التي تُعِدُّها، وتعلُّم كيفية إيجاد كلِّ مكونات الخلطات وإعدادها، وذلك لأنها لم تستطِع الاستمرار في الإغارة على مخزون هورنمار وتيكا؛ فكانت تبحث عن متاجر العطارة الصغيرة في المدينة والتي تبيع المكونات النادرة، وتخرج على صهوة كيشا النافرة لتحصل على الأعشاب التي تنمو بالجوار.

في البداية تساءلت إن كان أحدٌ سيُحاول أن يمنعها، وقد تسبَّبت لها أولى زياراتها إلى أصحاب المتاجر وكذلك أول خروج لها خارج أسوار المدينة في آلام في مَعِدتها من الرهبة. لكن أصحاب المتاجر تعاملوا معها باحترام بل وكانوا مُتعاونين معها، ورويدًا رويدًا لم تَعُد زياراتها تبدو مُخيفة. لم يكن ثمَّة منطقٌ في محاولة أن تتخفَّى؛ إذ كانت هي الوحيدة في المدينة التي لها شعرٌ برتقالي اللون، وأي فردٍ من أهل دامار لم يرَها من قبلُ في الواقع كان سيعرف من فوره مَن تكون. حاولت أن تضع وشاحًا على شعرها الفاضح لها، لكن بمجرد أن تنظر في المرآة كانت تُدرك أن هذا لن يُجدي نفعًا: فمن الواضح أن الغرض من الوشاح كان أن يُخفي شعرها، وكان حاجباها كذلك بلونٍ برتقالي. وكان ثمَّة أشياء تستخدمها جالانا لتُسَوِّد بها رموشها البُنِّية، لكن لم يكن لدى إيرين أدنى فكرة عن كيفية الحصول عليها، وبدا لها أنَّ تيكا على الرغم من أنها كانت تبدو على استعدادٍ لأن تسمح لها بروحاتها الغريبة وحدَها في الوقت الراهن، فإنها كانت على الأرجح ستغضب كثيرًا وتفسد كل شيءٍ لو أمسكت بعُهدتها الملكية تتسلَّل في الأرجاء وشعرُها مَخفيٌّ وحاجباها مُدهَّمان. وإذ لم يمنعها أحد، تنامت ثِقتُها، فكانت تدلف إلى المتاجر التي كانت تتردَّد عليها برأس شامخٍ، كما ينبغي لأميرة أُولى، وتشتري لوازمها وتخرج ثانية.

شعرت إيرين بأنها مهيبة ورفيعة المقام جدًّا، لكن وجدَها أصحاب المتاجر من الرجال والنساء بسيطةً ومتواضعةً بصورة ساحرة، حيث كانوا مُعتادين على أمثال بيرليث وجالانا الذين كانوا لا ينظرون إلى أحدٍ في عينه وهم يُحدِّثونه ولا يرضَون أبدًا (كان ثمة اعتقاد سائد بأن المرأة التي تُمِدُّ جالانا بمُسوِّد حاجبَيها قد ربحت أكثر من السعر الخيالي الذي طلبته)، ولديهم دومًا خدَم يتولَّون أمرَ المال والمشتريات بأنفسهم، فيما يُداعب أولئك جواهرهم وينظرون إلى الأفق. وكان أرلبيث سيُسرُّ بسماع الشائعة الجديدة الصغيرة التي بدأت تنتشر في المدينة عن ابنة الساحرة، وكيف أن الابنة (مثل أمِّها، كما تذكر قلَّةٌ الآن) كانت تبتسم للجميع؛ وكاد مظهر ابنة الملك ذاك يُهدِّئ الخوف منها الذي بدأ مع الشائعة التي كانت تقول إنها تلقي تعويذة سحرية على ولي العهد. وقد قرَّر قلة من أنصارها أن تور — باعتباره وليَّ العهد والملك المستقبلي — كان بطبيعة الحال يُريد حياةً أسرية هادئة؛ وأن ابنة الملك من بين كل سيدات البلاط تبدو الأرجح لأن تُقدِّم له هذه الحياة.

ومن بين الأشخاص الأكبر سنًّا بصفةٍ خاصة، كان هناك مَن هزُّوا رءوسهم وقالوا إنهم لا ينبغي لهم أن يتركوا الأميرةَ الأولى الشابَّة حبيسةَ تلك القلعة بهذه الطريقة؛ وأنه سيكون من الأفضل لو أنها خرجت واختلطت بشعبها. ولو أن إيرين سمِعت بذلك لضحكت.

كانت الأشياء التي تشتريها غير مؤذية، حتى ولو كان بعضها غريبًا، ورغم أنها بمرور الشهور اشترت منها كمياتٍ كبيرة. لم يكن يُوجَد أيُّ شيءٍ يمكن أن يُسبب أيَّ … ضرر. وقد ذكر هورنمار بسريةٍ تامَّة لأحد أصدقائه المُقربين أو بعضهم علاجَ الأميرة الأولى المعجِز لتالات العجوز؛ وبطريقةٍ ما انتشرت الحكاية أيضًا، وفيما كان الناس يتذكَّرون الابتسامةَ البسيطة للساحرة، بدأ بعض الناس أيضًا يتذكَّرون مسلَكها مع الحيوانات.

وقبل بضعة أشهر قليلة من عيد مولدها التاسع عشر وضعت شيئًا من دهانٍ أصفر على قطعة خشب جافة وأمسكتها بكماشةٍ حديدية وزجَّت بها في لهب الشمعة الصغير عند زاوية الطاولة التي تعمل عليها، ولم يحدُث شيء. كانت ما برحت تفعل هذه المجموعة المُحدَّدة من الأفعال — القياس والتدوين والخلط واستخدام الدهان ومشاهدة الخشب يحترق — فترةً طويلة جدًّا حتى إن حركتها أصبحت دقيقةً ومتقنة بفعل الممارسة الطويلة فيما نزع ذهنها لأن يشرد من تلقاء نفسه ويُفكِّر في لقائها التالي بالسيوف مع تور، أو في التذمُّر الذي من المؤكد أن تيكا ستشرع فيه في غضون اليوم أو اليومَين التاليَين وهي ترتق جواربَها، حيث إن بها جميعًا ثقوبًا، ومؤخَّرًا كان يتحتَّم عليها اضطرارًا أن ترتديَ دائمًا أحذيةً طويلة الرقبة حين تحضُر جلسات البلاط الملكي في القاعة الكبرى حتى لا تظهر الثقوب. كانت ترى أن الجوارب الخضراء على الأرجح بها أقلُّ عدد من الثقوب، وكان يتعيَّن عليها أن تتناول العشاء في القاعة الليلة. فمنذ أن أتمَّت الثامنة عشرة من عمرها كان يُنتظر منها أن تشارك في الرقص بين الحين والآخر، ومن المؤكَّد أنه سيكون هناك رقص الليلة حيث إن العشاء على شرف ثوربيد وابنه، وهما من الجنوب؛ وكانت إحدى بنات ثوربيد من صديقات جالانا. وكان من الصعب الرقصُ بالحذاء الطويل الرقبة فكانت إيرين في حاجةٍ لكل مساعدة تستطيع الحصول عليها. هنا أدركت إيرين أن ذراعها بدأ يُصيبها التعب؛ وأن قطعة الخشب ذات الدهان الأصفر آمنة من النار التي تتقِد من حولها، وأن الكماشة الحديدية كانت تزداد سخونةً في يدها.

هبَّت إيرين وأوقعت الشمعدان وأسقطت الكماشة الساخنة، وانزلقت قطعةُ الخشب المدهونة على الأرضية المتربة المتناثرة عليها نشارةُ الخشب، فاجتمعت عليها رقاقات وقشارات الخشب حتى بدت كأنها نوع جديد آخَر من الدهان. وكانت إيرين قد أنشأت ورشةً في سقيفة حجرية مهجورة بالقُرب من مرعى تالات، وكانت السقيفة فيما مضى تحوي خشبًا وأشياءَ كمقابض فئوس قديمة وعصيٍّ خشبية يُمكن استخدامُها مقابضَ جديدةً للفئوس، ولم تسنح لها الفرصة قطُّ لأن تكنُس الأرضيةَ، وهو الأمر الذي كانت تنوي أن تفعله منذ وقتٍ طويل. وكانت يداها ترتعشان بشدةٍ حتى إنها أسقطت الشمعة ثانيةً حين حاولت التقاطها من فوق الأرض، وأخطأت حين عمدت إلى إطفاء خيط الدُّخان الذي تصاعد من الأرض حيث سقطت الشمعة.

جلست إيرين على كومةٍ من مقابض الفئوس وتنفَّست بضعة أنفاس عميقة، وركَّزت تفكيرها على الجوارب الخضراء. ثم وقفت، وأشعلت الشمعة ثانيةً ووضعتْها في هدوءٍ في حامِلها. في الشهور الطويلة المنصرمة كانت إيرين قد تعلَّمت ألا تُبدِّد وقتَها وبضاعة العطارة بإعدادِ مقدارٍ ضئيلٍ من كل خليطٍ للتجربة، أما الوعاء الرخامي الذي كانت تضع فيه المعجون والخليط النهائي قبل التجريب على لهَب الشمعة فلم يكن أكبرَ من كأس البيضة. وكان في قاعِه ما يكفي لدهان أنملة أصبع واحدة. اختارت إيرين السبابة اليسرى، وهي الإصبع التي احترقت نتيجةَ أولى محاولاتها لصناعة دهان مضاد للنار، فيما بدا أنه كان منذ أمدٍ بعيد. ثبَّتت إيرين أنملةَ إصبعها في اللهب، وراحت تُراقبها؛ انشقَّ اللهب المدبَّب ذو اللونين الأزرق والأصفر بسلاسة حول إصبعها وعاد يلتحِم فوقها لينخس الظلالَ على السقف الحجري. ولم تشعُر بشيء. فسحبت إصبعها وأخذت تُحدِّق فيها في ارتياع، ثم لمستها بإصبعٍ أخرى. لم تَعُد للجلد حرارة؛ وفيما بدا الدهان لزجًا على سطح قطعة الخشب، لم يكن دهنيًّا على إصبعها. يا للهول. إنه حقيقي.

تحقَّقت إيرين من ملاحظاتها لتتأكد أن باستطاعتها قراءةَ ما كتبته عن مقاديرِ هذه التجربة بالتحديد؛ ثم أطفأت الشمعة وانصرفت مذهولةً لترتقَ جواربها.

سألتها تيكا مرتين بنبرةٍ حادة عما بها من خطْب، فيما حاولت أن تساعدها في ارتداء ثيابها استعدادًا لعشاء البلاط الملكي. كانت رتوق إيرين أسوأ من المعتاد، الأمر الذي كان يشي بالكثير، وقد تذمَّرت تيكا أكثرَ من المعتاد حين رأتها، وكان ذلك نابعًا من قلقِها مما بأميرتها من غموض غير عادي، وكذلك سخطًا منها لإتمامها لمهمةٍ منزلية بسيطة أخرى بطريقةٍ سيئة. عادةً ما كانت مآدب عشاء البلاط الملكي الكبيرة تجعل إيرين مُرتبكة وواعية للغاية باللحظة الراهنة. أخيرًا ربطت تيكا شرائطَ حول كِلا كاحلَي إيرين لتُخفي نتوءات الرتق المُزرية، وكانت أكثرَ هلعًا حين لم تُعارض إيرين ذلك. كانت شرائط الكاحلَين من أحدث صيحات الموضة بين صاحبات النَّسَب الرفيع في هذا العام؛ وحين اتضح ذلك واجهت تيكا صعوبةً في إقناع إيرين بألَّا تُطيل تنانيرها كلها ثماني بوصات، حتى لا تنجرَّ على الأرض فتُخفي زينةَ الكاحل؛ وكانت تيكا واثقةً جدًّا من أن السبب الوحيد في ربحِها الجدال هو أن إيرين لم تستطِع تحمُّل ما سينطوي عليه أمرٌ كهذا من حياكة كثيرة.

علَّقت تيكا شُرَّابَةً في مقدمة أحد الكاحلين، لتتدلَّى بأناقة على التقوُّس الشديد لقدم إيرين الطويلة (لا يعني هذا أن الشُّرَّابَةَ ستظلُّ في مكانها؛ إذ كانت جالانا وصديقاتها قد ابتكرنَ مَيلًا وتبَختُرًا في مِشيتهن، ليحملنَ الشُّرَّابَة على السقوط نحو الأمام كما ينبغي لها)، وثبَّتت دبوسًا مزخرفًا صغيرًا من الفضة يحمل الشعار الملكي على الكاحل الآخر، ولم تُبدِ إيرين حتى تَملمُلًا. كانت تُحدِّق في الفراغ حالمة؛ حتى إنها كانت تبتسِم ابتسامةً صغيرة. فهل يُمكن أن تكون قد أُغرِمَت بأحدهم؟ هكذا تساءلت تيكا في نفسها. مَن هو؟ ابن ثوربيد، ماذا كان اسمه؟ كلَّا بالتأكيد. فقد كان أقصرَ منها بمقدارٍ ليس بالضئيل، وكان ضعيف البنية.

تنهَّدت تيكا وانتصبت. وقالت: «إيرين … هل أنتِ واثقة من أنكِ لستِ مريضة؟»

عادت إيرين إلى وعيِها واهتزَّت اهتزازةً واضحة وقالت: «أنا بخير يا عزيزتي تيكا. حقًّا أنا بخير.» ثم أطرقت عابسةً وهزهزت كاحليها. وقالت مشمئزة: «أُفٍّ.»

فقالت تيكا بنبرةٍ حادة: «إنها تُخبِّئ مواضعَ الرتق لديكِ، إن كان يصحُّ أن يُسمَّى هذا رتقًا.»

فقالت إيرين: «ثمَّة»، ثم ابتسمت ثانية، وفكَّرت تيكا في نفسها، ما بالُ تلك الفتاة؟ سأتفقَّد تور الليلة؛ حتمًا سيُنبئني وجهُهُ بشيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤